|
ما يفعله البهاضمة.. يتكرر ج 4
حسين الرواني
الحوار المتمدن-العدد: 4451 - 2014 / 5 / 12 - 10:55
المحور:
الادب والفن
في الليالي التي تختلف، التي تحمل شيئا مغايرا، مهما كان، لا أعرف ما الذي يجمع كل ما يختبئ تحت طيات مخي المتجعد، من خلايا قادرة على التذكر، ليأمرها بالاصطفاف، بهيئة تشبه وقفة الجنود الالمان في عمليات فالكيري، ليعرض عليها صور سلامة صورة صورة، ليعيد تشغيل صوت كلماتها المفردة، وجملها المسترسلة، في ذاكرتي الصوتية، ارشيف ذاكرتي ممتلئ بأشرطة كاسيت لضحكاتها المترعة بمرح طفولي يجبر قلبي على تقليد كل رقصات الافارقة والهنود، فرحا وغبطة. هذه الليلة منها، هل يمكنني ان اتذكر سلامة، دون ان تلتزج في حشايا خاطري دموع الافتقاد، او ان تنغرز أكثر فأكثر، كل خناجر الصحراء التي اوغلها البهاضمة، في خاصرتي التي تخر منها باستمرار، احشاء ميت متيبسة منذ اربع سنوات، هل سأتمكن يوما ما، من استحضار طيف سلامة، مبتهجا به، ومبتهجا هو بنوره القدسي الاشقر، تستلقي وسطه ضحكتها الواسعة، التي تبين منها بياضات تتجسد فيها بياضات الحضرة التي تكتسي فيها ارواح الانبياء طهارتها، هل سأتمكن يوما ما من الاحتفاء بطيف وجهها، حاظيا بلحظة من لحظات حبوره التي تختصر أعياد بني البشر، دون ان تمطر علينا السماء التي لا يحكمها البهاضمة، لكنهم يحكمون ما تحتها، ظلاما سائلا يتكاثر سوادا كلما ازداد كرهنا له في دواخلنا، او حاولنا التغلب عليه بسليط ذبالة من أمل، أو تفاؤل مسروق خلسة من صرار خازن جحيم الواقع، ظلاما يبني من جلده فوق رأسينا سرادقات من كآبات اليأس المبارك بكف بهاضمتنا؟
في هذه الليلة كما في ليال كثيرة، يضغط على خاطري ثقل افتقاد سلامة، وثقل التشوق الى بسمتها، لكن هذا التشوق يفنى ويصير هباء، وهو في منتصف طريق تخيلي، حين يصدمني ككتلة كونكريتية، تصورها وهي جالسة في ذلك المكان الذي جلست فيه يوما، حيث تربعت على الارض ذات ليلة، لا أتذكر الان بالضبط هل كانت من ليالي اقامتي عندهم أيام الحرب، او بالأصح لجوئي اليهم، أم من ليالي زياراتي الاعتيادية اليهم بعد ذلك، جلست متربعا، اكاد اتذكر بشكل شبه جازم اني لم أضع لحظتها تحت إليتي شيئا مما يفرش، كانت الوقت قد تجاوز العاشرة مساء، لم يكن الوقت عندي مناسبا للبحث عن أحد بسط بيتها، لافترشه، والأكثر وضوحا ومباشرة، هو أنني لم اكن لحظتها مضطرا لتحاشي أعين اهلها ان وقعت عليّ جالسا على الارض دون فراش، كنت آمنا من عتابهم الذي لم أكن آبه له كثيرا على ما اسميه بساطة واعتيادية، وعلى ما لا اعرف حتى الان ما يسمونه، لكن الذي اعرفه انهم كانوا يزدرونه، بل السبب الذي انا متيقن منه انهم تعودوا الا يسكتوا على شيء قد يفتح عليهم السنة الناس بالعتب وأحاديث ما خلف جدران بيوت الجيران، او خلف الابواب. جلست متعبا من كثرة تمشييّ طولا وعرضا على الممر او الممشى، كان ممرا عرضة قطعتان من الشتايگر الكبير يقسم قطعة دار اهل سلامة الى قسمين، وكان اعلى مما حوله بما لا يقل عن عشرة سنتمترات، على هذا الممر، اعتدت ان اتمشى بمجرد ان ينتهي اذان المغرب، كانت روحي لحظتها تصل الى ما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من تكوٍّ مستمر لا انقطاع له على نار من العذاب كانت تبدو طيلة النهار نارا هادئة، او هكذا كنت احال مبلغ جهدي ان تظهر للاخرين، ولم يكن هذا التظاهر بالبرود يكلفني الكثير من العناء، فمهما يكن، فإن النهار نسّاء، كنت اوزع نهاراتي بين تطواف على المساحات الخضراء المزروعة حول شوارع بيوت الخضراء، وبالتحديد حول مجموعة من الشوارع كان بيت سلامة واقعا في أحدها، كانت الساعات التي اقضيها متنزها دون فرح او غبطة كما هو المعتاد، في المزارع والبساتين، وصولا الى السدة من جانب النهروان، تضعني في أجواء تشبه تلك التي كنت أعيشها مع سيد جعفر حين كنا نتجول في البساتين والمزارع على الجانب الآخر من نهر ديالى، وحين أكلّ من المشي، وغالبا ما كان ذلك يوافق وقت الغداء، اقفل إلى البيت كما عدت، قبرا يمشي ويحسن المجاملة.
أسندت ظهري الى جدار غرفة العائلة، كانت الارض التي تحتي ارضا ترابية دون تبليط بكاشي او فرشي او شتايگر، وكان أمامي قفص طيور حسن، وأمامه خربة لأغنام فالح، جدارها الامامي السياج الخارجي للدار، جلست كأن بي تعب الايام والليالي التي خلت كلها، لم تدفعني الى تلك الجلسة رغبة في الراحة، لكنني احسست لحظتها ان استمراري في التفكير بشكل صحيح، كان يتطلب ذلك، او لنقل ان فسح المجال لمزيد من الالم ليكوي ذما روحي كان يستلزم ذلك. يتهيأ لي الان كأنني أتذكر ان سلامة كلمتني لحظتها، او لم تكلمني، ما عدت أتذكر، وآلمني الان انني لا اتذكر هذا بالضبط، لكن الذي اتذكره جيدا، ان سلامة في ليلة بعد هذه الليلة بقليل من الليالي، جلست في المكان ذاته، كنت مستلقيا على فراش في غرفة العائلة، وكنت لحظتها اسند ظهري الى جدارها، وتحديدا في الجهة المقابلة لجلوسي قبل بضع ليال، كنت مثبتا عيني ظاهرا على شاشة تلفازهم، لكن بصري وبصيرتي كانا حينها شاخصين الى المقبل من الايام التي كنت اتقرى جهد ظنوني، بحيث كان حزن الدنيا بأجمعه، حزن البشر كلهم لا يقرب الى شيء مما في خاطري، حزن ممزوج برعب، احرق ما يكون الحزن حين يكون هكذا. دخلت غنية، من باب الغرفة التي كانت ستارة من ستائر الشبابيك، ظلت هذه الستارة بابا للغرفة حتى بعد حادثة الدفن الثاني، ممسكة بكفها البقعاء، بذراع سلامة، فهمت من زجرات غنية أن سلامة كانت جالسة في مكاني، كانت تسند ظهرها الى ظهري حيث كنت جالسا من داخل الغرفة، أي اننا لحظتها تقاسمنا جهتي جدار الغرفة، لم تكن تفكر بشيء سواي، أجزم بهذا، كما كانت تجزم هي انني لم أكن أفكر لحظتها بشيء سواها، دون معرفة كل منا بجلسة الاخر، ولا بما كان يجول في خاطره لحظتها، والأمرّ ان حادثة الدفن الثاني وقعت، ومرت سنوات، وحتى الان لا يعرف كلانا بأمر الاخر في تلك الساعة، من تلك الليلة الثقيلة، شأنها شأنها الليالي الاخر، التي قررت قوانين الفيزياء ان تنسحب عنها وتترك التحكم بمسير الوقت لدواخل النفوس. توبيخ غنية لسلامة، أجبرني ان أتدخل بنبرة لا أعرف الان لم كانت خشنة : هية متعشية ؟ لم تجبني غنية، لكنني لم أسكت، تدخلت مرة اخرى بصيغة أمر وقد فهمت الآن أنها لم تتعش.
#حسين_الرواني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما يفعله البهاضمة يتكرر ج 3
-
ما يفعله البهاضمة يتكرر ج 2
-
ما يفعله البهاضمة.. يتكرر
-
من وحي ليلة أمس
-
قصيدة - في مفترق عامين-
-
ثائر ضد الإسفلت
-
منير بشير ليس عربيا
-
حنين الى الريف
-
رمتني بالطائفية وانسلت
-
شيعة العراق.. طائفيون بلا فائدة
-
الفرد والدولة العراقيان .. لمحات في التاريخين.. قبل 2003 وبع
...
-
النقاء الصوتي النغمي في موسيقى منير بشير
-
عبدت العقل .. فتأنسنت
-
دراسة الموسيقى الاوروبية.. عقدة نقص أم سعي للعلم؟
-
الزمن الموسيقي وكيفية تطبيق التمارين عليه
-
بياني الشخصي الى الامة الاسلامية العظيمة
-
براءتي من الطائفتين العظيمتين
-
أزمة التنظير في بعدها البروليتاري
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|