|
على متن السفينة (2)
وليد مهدي
الحوار المتمدن-العدد: 4450 - 2014 / 5 / 11 - 13:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما بعد السعادة ..
مهما قرأت عن البحار ، ومهما يقال لك عنها .. فلن تعرف البحر حتى تخوضه ، البحر لا يعرفهُ إلا السَفن ( جمعُ سفان ).. كذلك هي السعادة ، لا يعرفها إلا الذين خبروها وجربوا طعمها ونكهتها في مستويات شتى .. السعادة تُجربْ بالأحاسيس و لا تعرف من متون الكتب ، والاحاسيس جملة المفاعيل تلك بين المحيط وتكوين " الجسد " ..
فالجسد في النهاية ، هو الذي يختبر السعادة بواسطة الدماغ ، وهذه الادمغة هي " انا " التي تشعر بالارتياح والفرح والمرح والمتعة ، تلك المشاعر التي تعبر عن معان جزئية للسعادة .. ولعلها من كثير اخطاءٍ شائعة ان تقرن السعادة بالمعرفة ، وكثيراً ما سألت نفسي :
من هذا الذي ادعى في التاريخ اولاً بان المعرفة " سعادة " ..؟
( ربما كان احد مهووسي المعرفة الاغريق ..)
كم هو ساذجٌ ذلك الذي يتصور ان ركام المعرفة يقود الى السعادة ؟
الحقيقة ، كلما تعلمنا اكثر .. فهمنا انفسنا والعالم المحيط اكثر .. واصبحنا اكثر قابلية على اخضاع الكون وتطويعه لما نريد ونرغب ، لكن بالمقابل ، نفقد إحساسنا العميق الفطري بهذا العالم بما يناسب تزايد المعرفة ..!! فالإحساس العميق الفطري بالسعادة لا يخلو من دهشة وعجب ، وكثيرُ المعرفة يُذهِبْ الاندهاش والعجب ، معرفة السبب لا تذهب بالعجب فحسب ... بل قد تطفئ اهم شرارة تلهب المتعة ، لتهدم اهم ركن من اركان السعادة . السعادة احساس في الدماغ ، بينما المعرفة " وعي " في هذا الدماغ ...
هما مثل الماء والهواء في قنينة زجاجية ، فكلما ملئت بالماء يخرج منها الهواء ، وكلما حاولت ملئها بالهواء كان عليك ان تخرج منها الماء ... لا يمكن ان تحصل على السعادة والمعرفة معاً وبنفس المقدار ...
السعادة هي رائحة الطين .. وطعم النبيذ ... والارتباط بالجذور ، والمعرفة هي النار والنور والتحليق عالياً بعيداً عن المنبت والتراب .. من يبغي السعادة بلا اسراف ، عليه ان يتعلم قيلاً عن فنون الحياة ، ومن ارادها حد الثمالة وجب ان يعود صبياً .. باي طريقة ..
لكن من ولهته المعرفة ، وشغفته العلوم ، وهو من اخاطبه تحديداً اليوم ، عليه ان يستفيق من حلم " السعادة " الى يقظة " السيطرة " ... فنهاية الشغف بالمعرفة تصل الى الامساك بزمام القوة في هذا العالم .. حينها تكون السعادة تسربت بشكل كامل من دماغك الذي تصفر فيه ريح العلم ... كل محاولات البحث عن السعادة واركانها يا شغوفي المعرفة ستبوء بالفشل ...
فالسعادة .. دماغ ٌ نظيف ، وماكنة سيارة تشتعل لأول مرة كما في الطفولة لتشعر بعمق وتتنفس بصدق برودة نسيم الجمال في العالم ، اما ادمغتكم انتم فاستهلكت في طريق المعرفة وتعقدت تشابكات الخلايا العصبية بكثرة الاسئلة وتعدد الاحتمالات في تفسير اي شيء ...
ادمغتكم باتت موجهه للسيطرة ... و الهيمنة ... وتحقيق رضا النفس الداخلي عبر التوازن والانسجام مع المحيط و خلق النظام .. لم تعد ادمغتكم هي تلك الاسفنجات البدائية الرطبة المبللة بماء البهجة والمرح ..
وهذه ليست باعتلالات او نكوصات نفس جسمية ... هي تطور طبيعي جدا.. ونضج مبكر في " النفس " ..
نعم ، انتم لا تزالون تمرحون ... لا تزالون قادرين على " خلق " البهجة .. لكنها بهجة مصطنعة تخلقونها .. ولا تأتي إليكم ، هي سعادة من " الدرجة الثانية " ليست كتلك الاولى ، هي تضيع الوقت والكثير منها لستم بحاجة اليه .. ما انتم بحاجته فعلاً هو ما بعد السعادة .. ما بعد السعادة ، إعادة خلق عالمكم ، وبداية اهم مرحلة من مراحل حيواتكم ... إعادة خلق السعادة نفسها ... لكن لغيركم ...لمن تحبون ومن انجبتم .. ما بعد السعادة ... ان تقوموا بما يقوم به " الله " نفسه ... خلقها ثم منحها للآخرين ..!!
ما بعد الحقيقة
ترى ، هل كان عالمنا ليمتلئ بكل هذه المظالم و الشرور ، هل كان ليغرق بكل هذه الآلام و الفظائع .. في حين كل امة وكل فرد يدعي امتلاك الحقيقة ؟؟ من امتلأ قلبه بالمعرفة ليس بالضرورة ان يكون امتلأ بالحكمة ، كثيرٌ ممن شغفوا بالمعرفة وامتلكوها تصوروا انهم آلهة الحق والحقيقة ... المعرفة تراكم ، والحكمة استثمار لهذا التراكم ووضعه في سلوك معرفي جميل وملائم .. واغلب المثقفين واصحاب التخصص والشهادات " تراكميين " وليسوا حكماء ... فالمعارف .. حقائق .. او تكاد ان تكون ، والحكمة هي " كل " الحقيقة وما بعدها .. اغلب هؤلاء المتعلمين يؤمنون بالخير كغاية ، لكنهم يؤمنون ايضاً بان الشر في مسار تقدمهم ولابد ان يمروا عليه ، لا بد ان يهادنوه ، يعتقدون بأن هذا سلوكاً واقعياً Pragmatic behave ، الواقعية هي اهم ضغط يفعله التراكم على ميولهم كحالة توفيق وصلح بين الخير والشر .. الابيض والاسود لدى هؤلاء " النخبة " .. لكن ، هل بالواقعية نكون بشراً ونحقق انسانيتنا ؟ هل الواقعية هي طريق الحكمة الفعلي ..؟؟ هل الواقعية هي " الحقيقة " و " ما بعد الحقيقة " ..؟؟ ما دامت الحقيقة أسيرة ضمن مفهوم " الواقعية " ستستمر البشرية في طريقها ، تخلق الجنة في جانب من الكوكب بمقابل خلقها للجحيم في الجانب الآخر .. الحضارة الغربية مثالية مع شعوبها وتوفر لهم الرفاه والحياة الفردوسية الرغيدة ، بمقابل هي تحتاج الى استعباد شعوب أخرى في مكان آخر من العالم لدرجة ان هذه الشعوب ، وعبر لسان مثقفيها يعتبرون علو الغرب ورفعته استحقاقاً ... وسقوط الشرق الاوسط وانحطاطه استحقاقاً لشعوبه ايضاً .. هذه هي " واقعية " المثقف الليبرالي العربي على سبيل المثال ، والذي يطالب ليل نهار عبر كتاباته من " الامة " ان تستفيق وتتعلم النظام .. وتأخذ العبرة من " الغرب " ..!! هو لا يدري .. ان " الامة " اذا ما ارادت ان تأخذ العبرة من الحضارة الغربية فعليها ان تفعل ما فعلته الحضارة الغربية في بناء امجادها ورقيها قبل اربعمئة سنة ... بان تحطم كل الامم حولها وتبيد شعوباً بأكملها .. وتغير خريطة الجغرافيا كما فعلت في العالم الجديد وافريقيا والهند قبل ان تأتي للخليج والشرق الاوسط وتزرع دولة " اسرائيل " وتهيمن على خيراته ومقدراته .. هذا سر نهوض وديمومة الغرب ، دون ان ننكر وجود تحولات ثقافية وفكرية وتحرر من الفكر الديني الماضوي ... لكن ... من اكتشفوا اميركا وطريق راس الرجاء الصالح كان فيهم العديد من المبشرين بالمسيحية .. الاقتداء بالغرب يعني التحول الى منهجه الاستعماري اولاً قبل اقتباس نموذجه الثقافي المعرفي ، وإلا ، فلا يمكن فقط اقتباس النموذج الثقافي دون ارضية " سياسية " داعمة لهذا الاقتباس .. نموذج المثقف الليبرالي العربي العام ( عدا استثناءات محدودة جدا ) للأسف " اعور " ... يراكم المعارف بعين واحدة للبصيرة ، ولا يوحدها في صورة كلية بالعين الاخرى ... مثقف تخلو بصيرته من الحكمة .. يمتلك معرفة يحسبها امتيازاً على الآخرين ، ويعتبر الحضارة الغربية قدر جميل فيه السلبيات والايجابيات ، والايجابيات اكثر من السلبيات " بحسبانه " ، هذه هي الواقعية ، هذه هي حالة الاصطلاح بين الخير والشر في ضمير " المثقف " العربي العصري .. من الممكن ان تنقلب الصورة ، ان يصبح الشرق مستعبداً للغرب ، ان تكون الجنة هنا والنار هناك ، وستحسب في ذلك الزمان برجماتية – واقعية ، لكنها ستبقى ظلماً وجوراً يملأ التاريخ وليست من الحق والحقيقة في شيء ... مشاكل الجنس البشري لا يمكن حلها عبر التفكير بمنطق الليبرالية " الاعور " ، ولا بمنطق القرن السابع ، منطق خير امة اخرجت للناس .. وباقي الامم نسناس ..!! مشاكل الانسان تخطط بصورة كلية شاملة لكل بني البشر وليس لدولة من الدول او امة من الامم ..
و مفاهيم الحداثة ... والدولة الحديثة ... والسلم العالمي .. والمصالح القومية ... والعلاقات الدبلوماسية كلها " اصباغ " اصطلاحية تحاول عبثاً اخفاء وجه الهيمنة الاستعمارية والغطرسة التي تمارسها الحضارة الغربية والتي انبطح تحتها مثقفونا باسم ... الواقعية Pragmatism .
ما بعد الحقيقة ، هو التخطيط " الكوكبي " الكلي الشامل لحل مشاكل الانسانية .. ما بعد الحقيقة وما بعد السعادة هو اعادة خلق العالم لكل البشر ... وهذه هي " الانسانية " الحقة والادعاء بان هذا خيال و " غير واقعي " مجرد تفكير بالهزيمة امام واقع الظلم المتفشي في عموم الكوكب .. من على مسافة بعيدة من خريطة الكوكب فقط يمكننا الحديث عن الحق والحقيقة ..
من يركب السفينة ؟
#وليد_مهدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على متن السفينة (1)
-
الثقافة .. و الحضارة .. و التأريخ ، المسيرة الانسانية نحو ال
...
-
الثقافة الانتاجية : الطريق الى الدولة المدنية ، دولة الإنسان
-
السياسة الخارجية الاميركية و آل سعود ، إلى اين ؟
-
سقوط الحتمية
-
كارما التأريخ
-
بارادايم العقل البشري ، مقدمة في علم الحتمية
-
إشكالات في النظرية الماركسية 2-2
-
إشكالات في النظرية الماركسية 1-2
-
مراجعات في الماركسية (2)
-
مراجعات في الماركسية (1)
-
الإمام المهدي والحرب العقائدية الامبريالية !!
-
الوعي السياسي العربي بين قبول التسلط الاسرائيلي ورفض السلطة
...
-
الوعي السياسي العربي بين قبول التسلط الاسرائيلي ورفض السلطة
...
-
الكعبة , الرمز والدلالة
-
شيء عن الحب
-
شرقاً عبر المحيط ..
-
نحن والهوية : مقارنة في سيمولوجيا البناء الثقافي بين العرب و
...
-
التقمص و الذاكرة The Reincarnation and Memory
-
ذاتَ مساءٍ في تشرينْ
المزيد.....
-
الملكة رانيا والأمير الحسين يهنئان ملك الأردن بعيد ميلاده
-
بعد سجنه في -معسكر بوكا-.. ماذا نعلم عن أحمد الشرع الذي أصبح
...
-
الجولة الثالثة.. بدء إطلاق سراح الرهائن في غزة و110 أسرى فلس
...
-
من هي أغام بيرغر الرهينة التي أطلقت سراحها حماس الخميس؟
-
هواية رونالدو وشركائه.. هذه مضار الاستحمام في الماء المثلج
-
سقطتا في النهر.. قتلى في اصطدام طائرة ركاب بمروحية عسكرية قر
...
-
مراسم تسليم الرهينة الإسرائيلية آغام بيرغر للصليب الأحمر في
...
-
-كلاب و100 ضابط من أوروبا على حدود مصر-.. الإعلام العبري يكش
...
-
أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يصل إلى دمشق في أول
...
-
دقائق قبل الكارثة.. رجل يكشف آخر رسالة من زوجته قبل حادثة مط
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|