|
العقل الفقهي وتنصيص الواقع
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 4440 - 2014 / 5 / 1 - 16:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ليس صحيحاً أن العقل الفقهي عقلاً تنظيرياً تجريدياً. في الحقيقة هو موغل في المحسوسية الواقعية إلى درجة لا تصدق. ما يجعله يبدو ظاهرياً مشتغلاً بفقه وتفسير وتأويل النص النظري أكثر من استقراء وتحليل وإعادة بناء الواقع الوضعي هو إيمانه بالعجز المدقع إزاء الواقع. هذا الشعور اليقيني بعجز العقل البشري، ومنه العقل الفقهي بالتأكيد، هو بالضبط ما يجعل الأخير ينكص إلى عالم التنصيص، حيث يستطيع بسهولة أكبر استقراء وتحليل وإعادة بناء الواقع الوضعي باستعمال نصوص ومفاهيم ونظريات طيعة ولينة بمعزل عن حقائق الواقع المجهدة والصلبة. العقل الفقهي، في قول آخر، هو عقل قد انهزم في المواجهة مع الواقع الوضعي المحسوس لكنه مع ذلك لا زال يعتقد في قدرته على سحق هذا الواقع- ليس على أراضي الواقع لكن فوق متون النصوص.
لماذا يهرب العقل الفقهي من مجابهة حقائق الواقع ويفضل بدلاً أن يحتمي وراء كلمات النصوص؟
أولاً، ثمة فرق هائل بين التعامل مع الحقائق الواقعية المحسوسة وكلمات النصوص النظرية. هذا الفرق الشاسع يتضح، مثلاً، من مقارنة بسيطة بين الجهد اللازم لبناء بيت بالمسلح الحقيقي والمحسوس من غرفتين وصالة وتشطيبه وفرشه على أرض الواقع، والجهد اللازم لبناء قصر مشيد من لبنات كلامية فوق متون النصوص النظرية. فضلاً عن سهولة البناء المطلقة في العالم الافتراضي مقارنة بالآخر الواقعي، لا يواجه العقل الفقهي أيضاً صعوبة تذكر في تكييف وإعادة بناء أبنية عالمه النصي الافتراضي عبر شرح وتفسير وتأويل النص في ضوء إشكاليات واقعية مستحدثة لا مهرب منها.
ثانياً، العقل الفقهي لم ينهزم في المواجهة مع الواقع المادي فقط؛ لكنه، وهو الأخطر، قد سلم تسليماً تاماً دون شرط أو قيد بالهزيمة. هذا الإيمان الانهزامي تحديداً قد حول العقل الفقهي إلى عبد، لا ند أو سيد، للواقع المادي نفسه الذي قد سلم عقله وجسده له. من ناحية أخرى، هذا الواقع الذي قد انهزم العقل الفقهي أمامه وسلم بعبوديته التامة له ليس كأي واقع، أو هكذا على الأقل يحاول أن يصوره العقل الفقهي المنهزم لنفسه ولجمهوره. ففي نفس وقت الإقرار بالهزيمة والتسليم أمام واقع معين، والقبول بالطاعة والعبودية التامة لهذا الواقع، يعمل العقل الفقهي فوراً على إضفاء قداسة أو شرعية من نوع أو آخر على الواقع المنتصر كنوع من التعويض والتبرير اللاشعوري لمرارة الهزيمة والعبودية.
وحيث أن الكلمات والنصوص هي في النهاية رموز تمثيلية ومفهومية دقيقة أو محرفة لوقائع فعلية ومحسوسة محددة، عندما يشتغل العقل الفقهي بالكلمات والنصوص هو بالضرورة يضع صوب عينه واقعاً معيناً سواء في صورة صحيحة أو مشوهة- بالتحديد الواقع الذي قد انهزم وسلم له بالعبودية. لكنه الآن، عبر النصوص والكلمات، يحاول الثأر لهزيمته. تكون النتيجة نظرية مسخ غير قابلة للتطبيق لعالم مضى وانتهي ولم يبقى له وجود في الواقع. هكذا يصبح عمل الفقيه مثل ملاكمة في الهواء بعدما حسمت هزيمته وانصرف الخصم والحكم والجمهور وأطفأت الأنوار.
في مثال توضيحي، كان ثمة واقع حقيقي جديد ملموس قد بدأ يتأسس في عهد النبوة وصدر الإسلام، وكاد يخلو من أي نصوص أو تنصيص سوى ما ندر جداً لضمان الاتصال والوحدة بين مكوناته. في ذلك العالم الوضعي الحقيقي البكر، ما كان القرآن قد نصص في الكتاب الكريم وما كانت الأحاديث والسنن قد دونت في متون الصحاح الشريفة بعد. هذا التنصيص هو وظيفة الفقهاء، الذين سوف يشرعون في تأديتها بكل تفاني وإخلاص لكن بعد الإقرار بهزيمتهم والتسليم بعبوديتهم لهذا الواقع النبوي الفعلي الجديد، وتمويهيه بما يكفي من القداسة والشرعية لتعويض وتبرير هزيمتهم وعبوديتهم له. النبي محمد هو فقط مؤسس لواقع جديد، بينما الفقهاء المسلمين فيما بعد هم الذين قد أسسوا ’التنصيص‘ النظري الافتراضي لنفس هذا الواقع الفعلي المحسوس. في قول آخر مفجع، النبي محمد لم يؤسس سوى واقع سياسي/اجتماعي جديد على الأرض بينما العقل الفقهي الإسلامي هو الذي قد تكفل بتأسيس التراث النظري الافتراضي من القرآن والحديث والسنة والمذاهب الفقهية...الخ، في محاولة فاشلة لإعادة إنتاج نفس الواقع النبوي بعدما سلموا بقدسيته وعبوديتهم له.
في هذا السياق، لا يكون النبي محمد أكثر من رمز مجسد لواقع فعلي كان هو نفسه رائده وزعيمه المؤسس. وبما أنه كان يعيش ويؤسس واقعاً جديداً بالفعل في مواجهة شجاعة وخلاقة، فإنه لم يجد الوقت ولا الحاجة للتنظير أو البناء في العالم الافتراضي. هذا بالضبط هو ما قد تكفل به العقل الفقهي فيما بعد، بعد مئات السنين من وفاة النبي نفسه. في الحقيقة، دولة الإسلام الواقعية الأولى قد تأسست من غبار الغزوات والمعارك الطاحنة ولم تؤسس من أي كتب أو سنن، ولا حتى من القرآن ذاته. في الواقع، الدولة الإسلامية الأولى قد سبقت القرآن وسبقت الأحاديث النبوية وسبقت المذاهب الفقهية، وبمئات السنين أحياناً. لكن فيما بعد- بعد نشأة العقل الفقهي- سوف تصبح وسائل تنظيرية مثل القرآن والحديث والسنة ضرورية لإعادة بناء دولة إسلامية افتراضية من لبنات الكلمات والنصوص النظرية- داخل جمجمة الفقيه وليس على أرض الواقع.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقل الفقهي والسلطة
-
ابن رشد ضالع في الإرهاب
-
سحر الفقه
-
ابن رشد: فيلسوف أصيل أم فقيه مستنير؟
-
فيلسوف وفقيه وإرهابي (3)
-
فيلسوف وفقيه وإرهابي (2)
-
فيلسوف وفقيه وإرهابي (1)
-
العدل الأعمى في اليوتوبيا الإسلامية
-
الإسلام السياسي سكين مسموم في الجسم العربي
-
إسرائيل العدو، الند، إلى الحليف
-
المملكة والله والبترول
-
إصلاح مراوغ تحت عباءة الدين
-
تطور الدين مع الانسان
-
المملكة المحافظة في واقع متغير
-
لماذا انهزمت السعودية أمام إيران
-
هزيمة الجهاد المسلح في سورية
-
الأكثرية والأقلية في ديمقراطية الإسلام السياسي
-
الله الاجتماعي والله الفلسفي
-
حين يمسي اليسار يميناً
-
مقاربة الذيب في تفنيد الدين
المزيد.....
-
تطايرت القمامة على وجهه.. شاهد ما حدث لعامل خدمة نظافة بعد ت
...
-
شاهد كيف سلّمت كتائب القسام رهائن اسرائليين للصليب الأحمر في
...
-
ابتعد عن شراء ما يسوّقه لك المؤثرون، ربما ستدرك حينها أن ما
...
-
لا إعفاءات حتى الآن..البيت الأبيض يعلن تطبيق رسوم ترامب الجم
...
-
الجيش الإسرائيلي يؤكد وصول رهينتين إلى إسرائيل أفرجت عنهما ح
...
-
رسائل -حماس- الصريحة لتل أبيب والعالم لكسر جانب من هيبة الجي
...
-
-القسام- تسلّم الأسير الإسرائيلي الأمريكي الثالث للصليب الأح
...
-
كيف تُسقط دولة دون إطلاق رصاصة؟
-
أحدهما روائي.. أسيران مقدسيان في رابع دفعة من -طوفان الأحرار
...
-
13224 مهاجرا عربيا غير نظامي بأميركا يخشون الترحيل
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|