|
جماليات الفوضي في الرواية المعاصرة..-نبيذ أحمر- نموذجا
أماني فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 4434 - 2014 / 4 / 25 - 13:31
المحور:
الادب والفن
بسم الله الرحمن الرحيم ******** جماليات الفوضي فى الرواية المعاصرة " نبيذ أحمر " (1) نموذجاً للدكتورة /أماني فؤاد ------------- إن التمرد على استراتيجيات التشكيل التقليدية ، ومحاولة تحطيم المواضعات الثابتة في صياغة الرواية المصرية ضرورة اقتضت التعبير عن تناقضات الواقع وفوضاه ، وتداخلاته المتشابكة ، كما اقتضاها أن يحاول المبدعون البحث عن أشكال متحررة ، غير متكلّسة، في طور التشكيل المستمر ، والخروج إلي تشكيلات جديدة تعبر عن اللايقين والتخبط والملل، بل الكفر بجدوى المنجز التشكيلي المتداول . ذلك المنجز التقليدي الذي كان يتغَيَّا صياغة واقع معقد بداخل أُطر لا تحوي تعقده ، مما أوجد انفصالاً بين الموقف والتشكيل . من شأن هذا الشكل الروائي التقليدي أن يخلق حالة من الوضوح الوهمي الذي يجعل القارئ راضيا عما قُدم إليه فيتكلّس وعيه ، ولا تستنفر قواه لمشاركة الكاتب في نتاج الدلالة ، فتضمر قدراته في التلقي وفي الفعل . في هذه الحياة ، ويغدو الثبات هو الكهف الخانق لهذا الوطن. وبرغم الاعتراف بتراتبية المنجز الفني ، والتراكم النصى الذي يسلم كل منهما إلى الآخر بإضافة ملمح أو سمة متجددة مغايرة ، إلاَّ أن الواقع الروائي أصبح مكتنزاً بإضافات كيفية ذات حضور مكثف ، وواضح التأثير بالمغايرة الملفتة للنظر النقدي ، وهذه الإضافات الكيفية تشكل صعوبة بالغة في تلقي الرواية الحديثة ،والتفاعل معها، والإحاطة بنوع الجماليات التي تشكَّل على نحوها ، تلك الإضافات الكيفية التي تتداخل فيها عناصر تكوينية راسخة في بنية الثقافة المصرية مع إنجازات الرواية الغربية ، ومذاهبها الفنية ، والنقدية والفلسفية ، مع ملاحظة أن الأخذ عن الرواية الغربية جاوز النقل إلى تملُّك الإنجازات نفسها، ووضعها في سياق مغاير لأصولها وتكيُّفها مع معطيات سياق يختلف في تطوره التاريخي عن سياق المجتمع الغربي الرأسمالي المتقدم. ويظهر تعدد الأشكال الروائية الحداثية باعتمادها على تشابك طرق السرد والقص ، وهلامية الهيكلة الفنية للرواية، وغموضها ، بانفتاحها على أشكال الحكى التراثي المتمثل في السمر الريفي ، أو الصياغات الفولكلورية ، أو المعارضة التناصية لأحداث وشخوص التاريخ ، أوصهر التقنيات الفنية الغربية في فن الرواية ،أو إبداع النص الذي يدمرالأصول المرجعية ، ويجعل الأشخاص والأماكن في قناع أسطوري ، مع إزالة الحدود بين الحقيقي والمتخيل. وتفيد الرواية المعاصرة من آليات عمل الفن السينمائي والفنون التشكيلية باستعارة تقنياتها ، كما تتداخل مستويات لغة الرواية ، وتتراوح بين الإغراق في استخدام الإمكانات الشعرية والرمزية والطقوسية إلى اللغة اليومية المتداولة والمبتذلة ، إن لم نقل المقززة ، إلى اللغة المحايدة العارية. هنا، يتعقد المجاز التصويري ، ويصبح مركَّبا إلى الحد الذي نطلق عليه مصطلح " الغموض " ، أو يستخدم المبدع لغة الحقيقة التي تشبه اللغة التقريرية أو الوثائقية، ، و عادة ما يتداخل عدد من التقنيات في الرواية الواحدة. لقد توالى ظهور هذه التقنيات مع مبدعى جيل الستينيات ، وهي في حالة من الحراك التجريبي المستمر الذي يتماشى مع الحراك في التكوين المصري الحديث ، ولذا تظهر معه التشكيلات التقنية المتداخلة في الرواية الحديثة نتيجة وعي بتعقد وفوضى وتداخل الواقع، وليس كما يظن بعضهم أنها هروب إلى الشكلية المترفة ، وبُعد عن الواقع، وولع بالتجريب لذات التجريب ، فهي إدراك للضمور والقصور اللذيْن عششا في الأشكال التقليدية ، فعجزت عن مواكبة التكوين المصري المعاصر، إنها محاولة تنمية نص صراعي يبلور عدم استقرار الواقع في عمل فني روائي ، مع احتفاء بالشكل بوصفه الجوهر الاجتماعي الحقيقي للأدب ، كما يؤكد لوكاش (2). لقد تحول الوعى بالظاهرة الأدبية من وعي بسيط إلى وعي معقد ، ذي طبيعة جدلية، عماده مجموعة من العناصر المتشابكة أهمها : أن الرواية مؤلفة في واقع تاريخي بمواد أيديولوجية . والأيديولوجية هنا بمعنى: جُمَّاع من المفاهيم والأفكار والتصورات التي تتكون إزاء واقع معين ، بهدف تفسيره وتبريره، وهي ذات علاقة جدلية مع الواقع ، الذي نحاول أسره، و تأليف رواية من مواد أيديولوجية يقتضي وجود معرفة بطبيعة الرواية كما تحددها معايير غير أيديولوجية أي علمية. ويتميز العمل الفني ، بأن الفنان يبذل جهداً في الصياغة ، وبالتحديد في صياغة شكل ما . وإذا كان العلم هو الذي يدحض الأيديولوجية ويعريها بالذهاب معها إلى أقصى حدودها ، فإن الأدب يعيد نتاجها ويعبر عن تناقضات موضوعية من خلال إخضاع القول الأيديولوجي غير البرهاني للتشكيل. ويسعى المبدع إلى أن يكشف عن هذا الواقع ، وعما فيه من تناقض يُعميها القول الأيديولوجي ويعمل على إخفائها ، الأدب يستخدم الأيديولوجيا فيكشفها محاولاً أن يخرج من نطاقها ، وهو مالا يتحقق له ، إلاَّ إذا أضفى شكلاً على شيء لا شكل له . والعمل الفني تعبير عن ظروف متناقضة ، وهو في الوقت ذاته حامل للصراع ، ومن ثمَّ فالتناقض يهاجمه من كل صوب (3). إنَّ الإلمام النقدي بعلم التشكيلات الاجتماعية يتلمَّس اللاشعور الذي يحتوي عليه النص بتفجير تناقضاته ، والنفاذ من شقوقه متنقلاً من النص إلى الأيديولوجيا إلى التاريخ معتمداً على شكل النص الذي يكشف عن التناقضات الناتجة عن تناقضات وضع تاريخي محدد .(4). أما الشكل فينظر إليه بوصفه مجلىً لجهد الفنان ومعاناته ، فهو تنظيم واعٍ مقصود إليه ، يختار فيه المبدع منحىً محدداً ، ومن ثمَّ فهو دال في حد ذاته ، أي دال من خلال طبيعته الفيزيقية اللغوية ، ومن ثمَّ تتحدد قيمته باندراجه في سياقين ، أولهما : سياق الجنس الأدبي ، وتاريخ النصوص ، والآخر : سياق التكوين الاجتماعي الذي نتج فيه. التكوين المصرى الحديث لا ينفصل عن نتائج العولمة الثقافية التي تبدو في حالة من السيولة والفوضى ، وغياب المعايير ، فالعالم كما يقول "برجنسكي" يغلب عليه الشمول والتفتت معاً، مما أدى إلى نشأة العديد من الجيتو بداخل إطار البلد الواحد ، فقد أحدثت الثورة في التكنولوجيا الألكترونية أزمة توتر بين الإنسان الداخلي والإنسان الخارجي ، كما أن تدفق المعلومات ، أو انفجار المعرفة يؤذن بخطر التشظى الفكري ، بإزدياد حالة عدم اليقين، كلما ازداد التوسع المتاح للمعرفة . وربما تسمح الخشية من عجز الإنسان على التكيف مع التعايش بين المجتمعات أو الثقافات المتفاوتة ، ربما تسمح بتعويض ما كان يعد من قبل جوهراً إنسانيا واحداً لا يمكن المساس به. (5). وتقترح الدراسة مصطلح " جماليات الفوضى " مدركةً أن الفوضى ليست ظاهرة جمالية في حد ذاتها ، بل ظاهرة فنية لخضوعها إلى فلسفة تعبر عن موقف الإنسان المعاصر من الوجود ومن الآخر، ومن نفسه ، ومن العمل الإبداعي في حالة من اللاتناغم ، من التشظي ، ومن ثمَّ لا يدرس المنتج الأدبي من منظور وَحْدته الوهمية، والزائفة ، بل من منظور تفاوته . وعلى الإنسان ألاَّ يبحث عن التأثيرات الموحدة، بل عن علاقات التناقض التي يحددها التاريخ الذي أنتجها، والتي تبدو صراعاتٍ غير محلولة في النص.والفوضى هي الخروج عن النسق التقليدي من أجل توليد جمالية منتجة من جراء التداخل والاندياح. تتخلق " جماليات الفوضى" من تحطيم المنطق السببي ، منطق العلة والمعلول، ليحل محله منطق آخر مغاير . فلسنا مع بداية تمهد لنهاية ، ولا مع مقدمة تؤدي إلى نتائج ، فالمنطق المسيطر على العمل الفني نابع من اللاوعي المتشابك المعقد . هذا النص التشكيلي يستهدف إسقاط الجُدُر بين الداخل والخارج ، والانفلات من الواقع الفيزيقي الصّلب بتحويل المتعيَّن إلى رمز ، والواقعي إلى مجاوز للشروط . منطق يستطيع أن يشحن عباراته بالإلغاء المتبادل بين أطرفها ، ويأنف من انتقاء حدث يتطور خطيا نحو ذروة. هناك فوضى فنية لها منطقها ، وتشكيلها الذي يعبر عن دلالة مقصودة ، وواعية من قِبَل الفنان ، فالعلاقات ليست علاقات ترابط بقدر ما هي علاقات نفي وانفصال، لا تخضع سوى لمبدأ التجانس الكوني الذي يعتمد على تأسيس الروابط بين الأفعال التى لا رابط بينها ، لكنها تتجاور في هذا الواقع الذي نحياه - إن علاقة الفنان بأشياء العالم تحت هذا النوع الجمالي علاقة عبث مقصود ، عبث يلتذ باللغة ويلهو معها، كما يلهو العالم به ، فهو يعاين العالم الفوضوي من خلال منطق مجازي، لا تحكمه سوى رؤية الأشياء من قانونه الداخلي، من خلال انعكاسها على الذات . هذه الذات الما بعد حداثية ذات حوارية، تمثل أصواتاً متعددة بداخلها ، ويظهر مفهوم الذوات الممكنة ،وهي التي تعبر عن تمثُّل أفكار الذات عن نفسها في الماضي ، وفي المستقبل ، وتختلف عن ذوات اللحظة الراهنة ، والفرد حُرٌّ في تنوع الذوات الممكنة ، ولكن الحَوْضَ الذي تتجمع فيه يتألف من المقدرات التي يجعلها الفرد مهمةً رفيعة الشأن عن طريق السياق الاجتماعي الثقافي التاريخي الخاص بالفرد ، وبواسطة النماذج والصور والرموز التي تنتجها لك وسائل الإعلام "(6). جماليات الفوضى هي التي تعبر عن ذاكرة جديدة تنهار فيها النمطية ، تتكئ على عالم اللاشعور ، والاعتماد على الأحلام ، وفتح هذا المجال أمام الهلوسات الإبداعية، ففي الحُلْم يتسارع الزمن أو يتراجع ، ينضغط المكان أو يتسع ، وفي الحُلْم كذلك نجد في بعض الصور تفككا، وانخطافات سحيقة بسبب ما فيه من انجذابات رؤيوية. إن انتهاك النظام وتفريغ اللغة من المعنى باستخدامها في أجزاء غير مسبوكة نتجت عن اضطراب المرئيات في مخيلة المبدع ، وعن تحرر فعل الإبداع من رقابة الحس السليم . كل هذه آليات نادت بها مذاهب أدبية فيما بعد الحداثة ، كالدادية والسيريالية وغيرها(7). هذه الفوضى التي أعنيها في هذا الطرح موظفة من أجل بنية عميقة ، فعلى المستوى السطحي قد يفقد العمل الروائي العلائق الدلالية، نظراً للتداخل والتشتت الذي يكوّنان العمل، أما على المستوى العميق للنص فهو ذو طبيعة دلالية ، إنها الفوضى التي تؤول إلى نظام فوضوي ، يعبر عن فوضى العالم في ذاته،إنها الفوضى التي تنطلق من رؤية،والرؤية في نهاية الأمر نظام. حين ينفرط عقد الكون، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية يصبح المركزي هامشيا،ً والهامش مركزياً ، وتصبح العلة معلولاً، والمعلول عِلَّةً ، كما يصبح الأصل أثراً ، والمدلول دالاً، ويقول " دريدا" باللعب الحر، بعد أن رفض دعاوي الفلسفة المثالية ، بوجود ثوابت ضرورية ، ونهائية لاتتغير، وقابلة للتكرار ، مثل الحقيقة والخير والجمال ، التي هي ثوابت ضرورية لتفسير القيم والمعايير الأخرى ، التي تحكم نظام الكون وتراتبه ، ومكان هذه الثوابت العقل ، وهي قابلة للتكرار في الماضي والحاضر والمستقبل ونصل إلى إدراكها عن طريق اللغة . لقد رفض" دريدا" سلطة العقل ، وتمرد عليها، نص ما بعد الحداثة عند "دريدا" ، نص لايعرف الحدود ولا يعترف بها ، نص هلامي ،ليس أكثر من آثار اختلاف تشير إلى آثار اختلاف أخرى. تلك هذه العلاقات الجمالية القائمة على الفوضى من جرِّاء التناقض مع تجاور علاقات أو أحداث ، أو ظواهر، أو أشخاص لا علاقة ظاهرية بينهم ، قد تجاوزت كونها علاقات وصفية لأنها في ذاتها علاقات إبداعية ، لا تصور واقعاً بقدر ما تخلقه ، هي علاقات صادمة ليست ساكنة أو مريحة ، هذه العلاقات يجب أن تكون متنامية بنائية، وليست متتالية تراكمية ، لإيجاد نوع من التواصل يبين العمل الفني ومتلقية ، ذلك المتلقى الذي سيتخلى حتماً عن مقعده الوثير، متحلياً بنوع من المثابرة ، وهو ليس بحاجة إلى إعمال قدرته على الفهم المنطقي بقدر حاجته إلى الحس والوعي الجمالي الذي يتلقى العمل الفني تلقياً متكاملاً. ومن الضروري أن نشير إلى أن هذا النوع الجمالي القائم على الفوضى المقصودة لا تفتقد الدلالة ، بل هي ذات دلالة مقصودة ،متعددة التأويل ، عميقة البنية. إن تشكيل الفوضى التي تحقق جمالاً ليس سهلاً ، ولكنه التحدي الذي يواجه الفنان المعاصر أن يجعل من الشكل جوهراً اجتماعياً حقيقياً للعمل الأدبي. في ظل هذه المفاهيم وواقع العالمية الكونية ، على التحليل الاجتماعي أن ينأى بنفسه عن الخوض في دراسة العناصر الداخلية للتكوين الاجتماعي ، وعلاقاته ، منفصلة عن سياق هذه المنظومة ، وآلياتها ، وتغير علاقات القوى فيها ، إلى الجدل الذي لا يتوقف بين الداخل والخارج ، فأي تكوين اجتماعي حديث جزء عضوي من بنية أكبر وأوسع وأعقد وأشد تناقضاً، وهي بنية المنظومة الرأسمالية الدولية وسوقها ، وليس الأمر محض ولع بالطرافة ، أو السعي وراء المغايرة من أجل ذاتها، وإنما يتعلق بالطموح إلى تبني مقولات منهجية قادرة على احتواء المعطيات المتكثرة ، وإضاءة الظواهر المركبة بفعل الرأسمالية الدولية، وآليات تقسيم العمل الدولي ، وفاعلية أيديولوجية الرأسماليات الأم في هدم البنى التقليدية الذاتية للمجتمعات المتخلفة وتشويهها ، ونهب مقدراتها وسوقها الوطنية. أما الواقع المصري الحديث بوصفه جزءاً من واقع أرحب ، فهو العالم المتخلف التابع ، وسمته تعقد العلاقات وتشابكها ، بحيث يبدو وكأنه محكوم فحسب بضرب من الفوضى لا خلاص لها.إنه أمر يرتد إلى فقدان هذا الواقع لانغلاقه، ووجود عامل مؤثر فيه من خارجه ، هو الوجود المغاير لبنيته التقليدية ، كما تمـــــثَّل في أوربا بالاستعمار ومن بعد الامبريالية . هذا الوجود الذي باغته من الخارج ، وحاكمه تبعاً لمنطق غريب عنه،فألجأه إلى منطقة الدفاع عن الذات ، وتبريرها ، وقد أسهم هذا الآخر بدفع تطوره من منظور مصالحه ، فتبدَّى تطوراً غير مساوٍ في مجمله ، ومن ثمَّ فهو تطور ينوء بالهُجنة والتشوُّه ، وكان هذا التطور المأزوم يقتضي ذهناً ملائماً له مزوداً بإنجازات الفكر البشري الحديث، كما يقتضي جهازا قومياً وإجرائياً مغايراً لما سبقه ومتضاداً معه ، بحيث يمكن فهم حاجات هذا الواقع المتغير ، والقبض على آليات تنامية. إن تعمق وعي شباب الروائيين بمتناقضات الحياة اليومية في مصر، والفوضى والتداخل والصراع الذي ميز الخمسة عقود الأخيرة لتاريخ هذا الوطن ، عصفت بثوابتهم وهم يعايشون صنوف الهوان والعنف والتهميش ، عصفت بوجودهم ، إنهم لا يثقون بهذا الواقع الذي عانى كل أنواع التخبط والانهيارات السياسية والاقتصادية،واستحكام الأزمة الشخصية والقومية تحت رزح واقع مرير لاينتج عنه سوى وجود إنساني معطوب. وترتبط الكتابة المعاصرة ما بعد الحداثية بالمجتمع بطرق لم تكن مألوفة ، عبر مغامرة أستطيع أن أصفها بأنها مغامرة فوضوية تجريبية ، أو هي كما أسميها " جماليات الفوضى المقصودة". فالكاتب اختار عن عمد أو عن غير عمد تلك الجماليات التي تشكل عمله الذي هو صورة من فوضى عامة تشمل الكون فيما حوله ، كونه الصغير أو كونه الكبير. هذا الطرح الذي أقترحه لاينتج يقيناً قاطعاً جديداً ، ولا يملك سوى إطار يشمل كيفية تناول العمل الروائي الجديد ، ويفترض أن هناك سمات وأدوات عامة من خلالها نستطيع أن نتعامل مع العمل الروائي ما بعد الحداثي، لكنه يترك لكل عمل روائي ، أو لكل فوضى جديدة تأخذ عنوان رواية بين دفتي كتاب أن تفرض وتشكَّل واقعها النقدي الجمالي. وسأتناول في هذه الدراسة رواية متميزة للروائية أمينة زيدان " نبيذ أحمر" ومن خلالها سأرصد المتغيرات الجمالية التي سميتها " بجماليات الفوضى" التي تشمل في ثناياها الحوار والتناقض. ولقد اخترت رواية " نبيذ أحمر" لأمينة زيدان" نموذجاً يمثل فهماً للكتابة يعول فيما يعول على جهد الروائية لصنع توافق بين مادتها الروائية وتشكيلها احتفالاً بديالكتيك العلاقة بين التشكيل والدلالة ، فالكاتبة تنهض في عمليها الروائيين " هكذا يعبثون 2003م، ونبيذ أحمر2007م" تنهض بعبء ترتيب الواقع الفوضوي على نحو فني فوضوي مماثل ، واضعة الأشياء في سياقات جديدة تتسم بقناعة لديها – على ما أعتقد – بأن المدلول الفكري يستدعي شكله الفني ، كما أن تجربة أمينة زيدان الإبداعية برغم وجود روايتين مستقلتين – لم تخرج من عالمها الذي عانته حياتياً وفكرياً ، والروايتان برغم اختلاف الشكل البنائي لكلتيهما ، " هكذايعبثون " رواية" تعدد أصوات " و" نبيذ أحمر" تعتمد على تقنية السارد الوحيد ، إلا أن التقنيات الفنية بداخل الروايتين قائمة على جماليات الفوضى التي أقترحها ، وكأنها تملك قدرة بث رؤاها لمفردات التقنيات الفنية الروائية في أية هيكلة بنائية روائية " عامة" لسيطرة فكرة أساسية وتجربة أعمق في حياتها حتى هذه اللحظة التي انتهت فيها من "نبيذ أحمر". ورواية " نبيذ أحمر تعالج لحظة اختيار هي المحك في حياة " سوزي" بطلة الرواية ، لحظة أن يتخلى الإنسان عن تصور شامل بأنه ضحية، مفعول به ، ليأخذ دور الفاعل ، ليعيش اختياره وليس ما يفرض عليه ، وتستعرض " سوزي " في سردها أربعين عاماً حافلة في حياة عاشتها مرتبطة بمكان حيوي ودرامي ، وهو مدينة "السويس" بما مرعليها من حروب متوالية وحصار ومقاومة وتهجير ودمار ودماء ومأسٍ مروعة ، وأسرة مفككة كل منهم يعاني صراعاً أو عجزاً الأب الذي بترت ساقه، والأم المريضة نفسياً، والأخ المصاب بالتوحد، ثم قصة حب تنتهي نهاية درامية حين يغادر " أندريا" مصر بعد أن تكسرت عظامه ونزف دمه .....إلى آخره ، وعلاقة ملتبسة بين " سوزي " و" أسعد " الصديق الحبيب ، ثم انتقال جزئي للقاهرة للدراسة ، وتعرف " سوزي " على " عصام " الرفيق اليساري وقصة حب أخرى تنتهي باعتقاله على يد خالها " عاطف سليم " ثم زواج يتكشف عن فشلٍ ذريع لهذه العلاقة العقيمة التي لم تثمر تحققاً في عمل أو أولاد، ثم بحث الشخصية الرئيسية " سوزي " عن تحقق فعلى لحياتها حين قررت الانفصال والرحيل والدراسة الجادة ، لتفاجأ بعالم لا يتحدد له ملامح بموت " أسعد " واعترافه لها أن ما فعله "بأندريا" ، كان اقتراح " اندريا" ذاته ،وتنتهي الرواية بضبابيه العلاقة بينها وبين "شريف" ، بأوضاع أسرية مفككة وهى لاتثق بشيء . ماذا تريد بالفعل؟ وهل هي قادرة أن تحقق ماتريد ؟. وتعد رواية نبيذ أحمر " نصاً غير مبذول ، يحتاج جهداً من الراغب في امتلاكه، وينطوي على علاقات جدلية أوجدها واقع ومعقد متشابك من ناحية مع التمرد على المواضعات الثابتة في فن الرواية والتعامل مع أدوات حداثية وما بعد حداثية ، لنقل الشكل البنائي المناسب لهذا الواقع الإشكالى. وسأحاول بلورة تصور عن تلك التقنيات الفنية ما بعد الحداثية من خلال هذه الرواية وأول هذه التقنيات.
(1) -السرد تستهل الكاتبة رواية " نبيذ أحمر" بقولها " الأفعال العظيمة لا تستلزم أوقاتاً طويلة" وفيها تشير إلى " نقطة توتر فاصلة" تبدأ بها هذه الرواية. إنه الحجر الذي يلقى في البحيرة فيصنع دوائر متعددة متباينة الأشكال والأحجام. الرواية تبدأ بلحظة اختيار قاطعة يجب أن تحددها البطلة " سوزي"- الشخصية المحورية في هذا العمل،- ومادمنا مع لحظة فاصلة فللسرد بؤرة محددة ، تتفرع منها اللحظات كلها، ما قبلها وما بعدها يدور في فلكها. القرار الذي أخذته " سوزي محمد جلال " بالانفصال عن زوجها "عصام " والبدء من جديد هو اللحظة الحاسمة التي قذفتنا بها الكاتبة في هذا النص قذفاً ، ومن ثمَّ فلسنا مع خط للأحداث يتطور لاحقه من سابقه ، وإنما مع موقف يستدعى موقفاً آخر وثالثا، فالكاتبة في سردها تتكئ على إيجاد منطق مغاير للمنطق التطوري. الراوية " سوزي " تعتمد في السرد على تقنية " الفلاش باك" "لأنا" الساردة، وبالرغم من أن هناك تراتباً زمنياً مقسماً ومنصوصاُ عليه ، حين تذكر الصفر الأول والصفر الثاني والثالث وهكذا ..، إلا أن عرض الأحداث ذاتها بداخل هذه الأصفار ليس عرضاً تراتباً ، بل متداخلاً ومشوشاً ترجع فوضاه إلى أنها في سردها داخل كل " صفر" نجد ظلالاً وأشباحاً من باقي أصفار عمرها ، فالأصفار في طريقة السرد متداخلة لغرض فني، وفلسفي لا ينفصلان وهي تصف حالتها في أحد المشاهد ، بقولها " كل المشاهد تعبرني بغير زعيق ، خمول تام يؤطر هذا الشريط المتدفق من الذكريات (ص133). وتنطلق زاوية الرؤية في هذا العمل من الراوية " سوزي" وهي ليست راوية تقليدية بل تقوم بأدوار متعددة ، تقوم بالرصد في بعض الأحيان ، ذلك مثل أن تتحدث عن أهوال الحرب والقتال والدم والخراب في مدينة السويس ، وترصد عمليات الفدائيين واستشهادهم ودفنهم، بقولها : " بكائية وعد مقهور ونحن نتجول في المقابر بعد دفن قتلى الغارة الليلية في القبور الترابية الفقيرة ، في قنينات الأدوية والخمور الفارغة بالقدم ، ندس أسماء الضحايا ، زجاجات معمورة بالهويات تتدحرج فيما بعد ويفقد الموتى أسماءهم" (ص36) وفي مزج مباشر بين العام والخاص تستكمل الكاتبة العبارة السابقة قائلة " ماأخافني كان فكرة فقد أبي بين زجاجة وقبر ، لأظل محاصرة برفقة أمي ، تمارس حياتها الثانية من خلالي" (ص36) ،ثم يتوالى حوار يتضح أنه قول أمها ( أنا باحلملك باللى ماحلمتهوش حتى لنفسي.أمنحك مالم أكنه ، تكوني أجمل وأفضل ، لازم نهرب، الأعمار بتتقصف ليل ونهار، وأنا مش عايزة أموت قبل ما أطمن عليك فاهمة ؟) (ص36). فالراوية هنا لا ترصد فقط بوصفها شاهد عيان ، بل بوصفها مشاركاً منغمساً في هذا الحدث تعانيه وتعاني ويلاته النفسية من قلق وخوف ورعب من اللحظة القادمة ومن خلال الحركة بين الحقيقتين الموضوعية والذاتية تقفز بنا إلى مستوى آخر حين تقحم قول " أنا باحلم لك باللي..." وهوجزء من حوار مقطوع من أحد حواراتها معها لتصنع مقارنة نفسية شديدة التعقيد بين إحساسها تجاه أمها وأبيها، وتدخل في كهفها النفسي الداخلي، وتصنع الكاتبة من خلال هذه التقنية السردية فوضى انتقالات من خارج الذات إلى داخلها ومن داخلها إلى الخارج مرة أخرى، موظفة- ليس للسرد الوصفي فقط بل- لأقوال وحوارات ، نافذة في عنصري المكان والزمان بحرية مطلقة فهي كعصفور ينتقل بطيرانه بين البنى الصغرى والكبرى للرواية ؛ لعناصرها السردية ، الزمانية ، المكانية ، الأشخاص ، الأفكار في حالة من الفوضى المقصودة. كما أنها تنفذ إلى الآخرين في الرواية من خلال السرد وتجعلهم يتحدثون : أمها ، أبيها ، خالها ، عصام ، أسعد ، أندريا ..،دون استباقات تمهد لهذا النفاذ فنفاجأ بوجهة نظر هذا الآخر ورؤيته فيبدو العرض السردي كالذبذبات غير المنتظمة . كما يبدو النص بين عينيك وكأنه مريض يعاني اضطراباً في ضربات القلب ، ولا يستطيع القارئ أن يتوقع على الإطلاق التالي في العبارة القادمة ، في كل لحظة ترتفع أنفاسه وتهبط في فوضى مماثلة لما يقرؤه. على مستوى آخر تتصدى الراوية بالتحليل النفسي لشخوصها واستنتاج فلسفتهم في الحياة، فهى تقول على لسان أبيها " أمك الآن تتجاهل عجزي وتدعي عدم القدرة على رؤيتي هكذا عاجزاً حتى لوكانت بنت الملك ، الأولى بها أن تكون إلى جواري " إلى هذا الحد أحبها وربما أكبر من نكرانها ورفضها فقد كانت تعرفه فقط بما تسبغه عليه من تصورات عن رجل يخص خيالها ، يعنيها أكثر منه وليس كما هو عليه، هذا هو الشيء المفقود بينهما ، كيف لم أفهم هذا من قبل ، امرأة حالمة مقابل شخص نموذجي "(ص57). - الكاتبة وأداتها السرد تنتقل بين عدة حالات نفسية متباينة دونما عناء ، وهي قادرة بفضل تنويعها للسرد من خلال الضمائر أن تنتقل من " أنا" الراوية إلى ضمير الغائب أو الغائبة أو إلى مخاطبة القارئ ذاته في بعض المواضع بتساؤل تطرحه على قارئها وهي تطرحه على نفسها فهي تقول " كهدايا يشترونها قبل أن يحملهم القطار عائدين إلى دورهم لماذا لا تؤنس الذكريات بقدر ما تشير الوحشة والغصات في حلق طفلة في الثالثة عشرة فتتحول إلى خرافة ينتجها أبي الذي ينسج وعيها بماكينة الحرب"( ص61) فهي تدفع بالمتلقي ليدخل دائرة إبداعها مشاركا لها في الإبداع . وتعطي ،الروائية حكما عاما ثم تبدأ في شرح ملابساته وكأنها عنوانات رئيسية لموقف في الرواية هو قص داخل القص فهي تقول " لا مكان في بيتنا لكائن معوق اسمه الحب اكتفيت من الدخان والركام...ومن القصف ...حنهاجر يعني حنهاجر" (ص24.23) كان هذا قول على لسان أمها ثم تتبعه بـ " هكذا قالت وهي تنتقل بين الطابقين الممتدين طولا بسبب صغر قطعة الأرض التي كانت لأبي حين وزع جدي الأنصبة بشكل غير عادل .." ( ص24) استطراد طويل تجمع لأبيها فيه بين التاريخ الأسري ورد فعله تجاه ثورة أمها المستمرة ، لتصور لنا هذا العالم بمورثاته الممتدة إلى حاضره مستطردة في أماكن كثيرة من الرواية لتدعم لدى المتلقي الشعور بواقعية الأحداث وامتدادها في الزمن. وهي حين تلجأ لمزج السرد بجملة حوارية واحدة تستقطر وتكثف في سردها ومشاهدها لتبدو الرواية دون تطويل، وتدفع فيها الحيوية من خلال الجمل الحوارية، التي تبعث بها حياة من خلال أقوال أشخاصها. والكاتبة في سردها لبعض الأحداث تنتقل انتقاله مباغتة لموضوع سردي آخر فتبدو حركة السرد وكأنها قد قطعت عن سياقها وأن هناك خللاً ما ، ولكن النظر العميق المتأني سيجد علائق على المستوى العميق.فهي تحكي عن جدها لأمها وكيف أنه كان عاشق غلمان ثم عن فضيحته واختفائه الغريب، وقبول جدتها في هذا الوقت الغريب أن تزوج ابنتها بابن الخياط البلدي ثم تعود مباشرة لتقول " الأردية السوداء رتقت الطرقات، البيوت منكّسة في صمت الطقوس السرية للحزن الذي لا يقاوم ..." (ص37) وتحكي عن الحرب والجثث والموت إن هذا القطع يبدونتوءاً غير مبرر، لكن النظر المتأمل يلمح إشارة الكاتبة للانكسارات المتوالية على أصعدة مختلفة من حياة الأبطال انكسار في الحرب مع العالم الخارجي ، انكسار في الحياة في العالم الداخلى. وتعتمد الكاتبة في سردها على منطق الاستدعاءات ، وهو بقدر ما يرهق القارئ ويتطلب قراءة واعية ، إلا أنه يصنع مواجهات فلسفية وفنية مبدعة، ويخلق بالنص ثراءً من جراء وضع المشاهد المختلفة في حالة من البوح الداخلي غير المباشر، وهو ما يخلق فجوات بالنص ، يمتلكها القارئ ليخط بها ما شاء خياله أن يتصور، فالكاتبة في عرض وصفها لحياة الجرذان " عصام وأصدقائه وجلساتهم في بيتها " وهي بينهم تتعاطى الطعام من الأطباق المصفوفة على الأرض بلا تنسيق ، تستدعي فجأة المقابل لهذه السوقية التي تعيشها فتقول متحسرة على ما أصبحته " كما كانت أمي تحاول أن تعلمني ، أو كما كنت أراها على مائدة أندريا ، حيث كل شيء يتسم بالإناقة والإدهاش..."( ص165). ثم تنطق صوت أندريا من خلال جملة حوارية بقوله :" ....لو رأيت رسوم الفراعنة على الجدران ، لعرفت أن ما يعجبك هو منك ليس من الخارج " (ص165) ثم تستدعي موقفاً آخر وهي التي تضيق بما آلت إليه حياتها فتحكي عن عودة من مشاهدة الألعاب النارية لها مع أسعد وأندريا وهي في حالة انتشاء وعشق ، بصحبة شابين مختلفين تماماً ، ثم ما يفعله أندريا حين " يفتح قدميه ويفرد ذراعيه ، بعد أن يطلق ذكره من سرواله ، يرفع وجهه للسماء لينطلق وشيشاً طيباً ...." (ص165) . وتلوِّح الكاتبة هنا بأننا نجيز الممكن والجائز والحرام ونعطي حكماً على الأشياء بقدر تقبلنا وطبيعة نفوسنا المتغيرة تجاه الأشياء ، وإلى أن الحب والتقبل يلون الأحداث المختلفة بالرضا والتمرير ، إنها الإنسان المركبة والمعقدة والمحيرة، ثم تعود من رحلة إستدعاءاتها للواقع الذي تشعر بتشوهه لتقول " انقل الأطباق الممسوحة من تل الطعام ..." (ص166). - تميز سرد الكاتبة في وصفها لبعض الأحداث بالكثافة النصية ، اقتصاد في الألفاظ وولع بدمج الأحداث المتجددة مع مواقف أخرى سابقة عليها في نفس الدوال فهي تقول " ويدخل عصام في صف أندريا وأسعد بانتظام مذهل، يدخل في صفحاتي بنفس المفردات الهادئة والمعتادة ، ساطرا رسائل صغيرة ، تهيمن على أفكاري ومشاعري ولكن بلهجة شديدة القسوة"، (ص94). وأتصور أنها لجأت لهذا التلخيص في سردها لقصتها مع عصام، لأنه هذه الشخصية الانتهازية الحقيرة التي تريد الراوية أن يصاب كل ما يتعلق بها بالضمور، حتى الألفاظ ذاتها، لأنها في مواقف أخرى تسهب في سردها وتنطلق كلماتها كأجنحة الطير لايسعها سماء ،وتشف لغتها وتصير أعذب من وريقات الورد الروزي الناعم خاصة حين تتحدث عن " أندريا" حبيبها الحلم تقول " يخرج بي أندريا إلى الشرفة المسيجة باللبلاب ، تحت الضوء المنهمر بما تيسر من القمر ، نفس القمر الذي أطل من قبل موجوعاً يحيل الآن كياني إلى بقع من النور الناعم والظل المبسوط على أرض الغرفة الخشبية ، يصب على وجهي والشق الداكن بين كتفي وعنقي ابتهالات عاشق ، يسدد الوهج الأسطوري لأنفاسه في حواسي ..." (ص75).لنا أن نلاحظ هذا الجانب الرومانسي العذب الذي يظلل بالوجه الأخر ، بالنقيض المؤلم . الكاتبة من خلال شخصية سوزي الراوية تشير في أماكن متعددة إلى علاقة الإنسان باللغة ، وكيف أنها علاقة متأرجحة فهي تارة تشير إلى عجزها فهي تقول " نفقد التوازن المنطقي لما نقوله ونعبر عنه خلال فاصل عبثي ومروع من المجازات والتقديرات الشخصية للجحيم الاستثنائي،آن الوقت بشدة لمقاومة الصمت والخروج باللغة لاستعادة القدرة على مواجهة الآخر والكف عن الغضب من التجاوزات التاريخية" (ص21) ، أو حين تقول على لسان أندريا " بحق الله ياسوزي أين تذهب الكلمات وأنا أتحدث عنك ، أنت مشهد لا يوصف ولكن يصور كما هو " (ص115) ،وتارة تدرك أن اللغة هي التي تحمل العالم حين تقول : " وبأن اللغة تحمل العالم كله فوق أسنه قوانينها وشذوذاتها وأحياناً شططها في المعنى " (ص90) وأحيانا تتوحد بها فهي تقول " وهكذا إلى مالانهاية وأنا المفعول به والفاعل والفعل في كل الأحوال " (ص90). ويظهر هنا مناقشة أو طرح فعل الإبداع داخل الإبداع ذاته – روائي أو شعري – في المنتج الحداثي وما بعد الحداثي ، وهي من التقنيات التشكيلية المعاصرة ، لذا انتهزت الروائية تخصص سوزي شخصية العمل وعمدت إلى هذه الإشارات لعدد من المرات كأن تقول على سبيل المثال " إن القاعدة النحوية خطها الوحدة فأي خلل ، يربك القاعدة ، أما متطلبات اللغة فهي تتبع الحاجة " (ص77) والكاتبة تناقش أيضاً علاقة اللغة بالعالم من حولنا وهي تثير نظرات " سوزي " للغة . تتعامل الكاتبة مع مادتها " الأسلوب السردي " كقطعة ذهبية نفيسة فترصعها بالأحجار الملونة لتغنيها وتجعلها كرنفال للمتعة وتتماشى مع أذواق ومشاعر مختلفة، أوحالات متباينة تعتري الفرد الواحد فهي تضفر السرد بالشعر والأغنية والمثل والاقتباس الفلسفي والفني والديني والسياسي وأسماء الكتب والفلاسفة والمبدعين والمغنين، أنه توظيف وتناص مع الفنون الحية كافة، التي تكمن بداخل النفس البشرية ،وهو أيضاً دمج لنصها الروائي وإدخاله بالنسيج النابض في نفس كل متلق ، فهي تصهره مع موروثنا ، حاضرنا ، ما يشكل وعينا وثقافتنا، فهي توظف شعر كافافيس (ص114). وتقول " مازال أندريا يشارك تشيخوف وتولستوي وعبد الرحمن الشرقاوي تنمية فكري دونما صراع مع سلطة دموية ، أفكار تبدو بدائية ولكن جوهرها براح من العدل والمساواة " ( ص116)،وتمزج الكاتبة بين ثقافتنا الخاصة وفنوننا بأعلامها المختلفة ، وبين الثقافة العالمية في حس إنساني أشمل وأرحب . - واستخدمت الكاتبة في سردها تقنية الأحلام والكوابيس وهي من التقنيات الحديثة في فن ما بعد الحداثة ، هذه التقنية تتيح للروائية درجة من التحرر في التكوينات المشهدية ، فهي من خلالها – معتمدة على اللاوعي – تلعب بالزمن فتكثفه أو تمدده ، تلعب بالأماكن فتشيع الفوضى أو الاتساق فيها ، تصنع شواهدها كما يحلو لها من تكوينات دالة على أبعاد نفسية مختلفة . وضغطت الكاتبة هذه الأحلام في أول الرواية وكأنها تصنع صورة مجملة لكل شخوصها، لتعطي تصوراً كلياً ، ستعنى بتوضيحه على مر فصول الرواية من خلال تفتيت ما أعطته في صورة مركبة وهو ما يخلق جواً من التشويق بهذا النص. - تستخدم الروائية في بنيتها التشكيلية تقنية الانتقالات غير المتوقعة ، فهي بدون استباقات تصنع ترابطات أو تجاورات غير مبررة ، تقفز أولاً إلى حوار مثلاً ليس بينه وبين السابق أدنى صلة ، ولا نعرف مع من هذا الحوار سوى بعد نهايته ، فهي تترك فرصة لتوقعات القارئ وتقحمه في النص اقحاماً متعمداً ، وتصنع هيكلة فوضوية تعنيها فهي في صفحة (ص246) تنهي الفقرة بقولها " ومثلت بين يدي الكاهن الأعظم ، أبوح بانكساراتي وتبدأ الصفحة التالية (ص247) بفقرة حوارية تقول فيها: - ألم يعلموكِ هناك نقد الذات بالاعتراف بالخطأ، لا بإلقائه كتهمة على أول عابر . - أهذه محاكمة؟ - ................... ويستمر الحوار لنعرف أنه مع " شريف " الرجل الذي بدأ قلب " سوزي" يشعر بالحب له، وتعقب الروائية بفاصل لغوي وصفي لركوبها المترو مع " شريف" ومشاعرهما تجاه بعضهما البعض. يلي هذا المقطع بداية لفقرة أخرى تبدأ بـ " وقد كان لغضب أبي الشديد ...،ويتداعى لذهنها في هذه الفقرة خالها وشريف وأندريا وحوارلها مع أخيها ، ثم تعقيب منها ووصف لحياة " سليم " لتنتهي هذه الفقرة بقول أبيها " - أنا عملت إيه علشان تعملي فيّ كده ؟ كنت فاكر هارمي حملي عليكي ، أول مرة أحس ان رجلي إللى بادوس بيها مقطوعة ، خمرة يا سوزي ؟ وداخلة البيت قبل الفجر زي الغوازي ؟ طب كنت استني للصبح ، الناس تقول علىّ إيه ؟ (ص249) ويتضح بعد هذا العرض أن أباها هو هذا الكاهن الأعظم، وعرض غضبه منها جاء في السرد بعد هذه المداخلات من قبل الساردة ، يبدو هذا المستوى التلويني في السرد للأصوات ؛ دافعاً لإنبعاث مسالك متفاوته للشعور ، وتقافزاً بين الأشخاص والأحداث والمشاعر ، وهو ما يدفع لفوضى تشكيلية مقصودة تعبر عن العالم الذي نحياه. - وفي انتقالات سردية أخرى بعد حوار بين سوزي وشريف ينتهي بقوله :" – أسف ، بس أنتي مش واضحة ، فيه حاجه مش مظبوطة. - فعلاً فيه ، بس مش فيّ وهكذا دواليك ، إتهام ، دفاع ، اعتذار ، كله شغل جنان ، غير طبيعي أن ينتهي الحب كدة" (ص251) يعقب هذا مباشرة - ماحنا قلنا أنها خيبة ثقيلة ، يابنتي شوفي مصلحتك ، سافري واعملي الدكتوراه ، شوفي أندريا بتاعك ده......."(ص252). ويستمر الحوار الذي لانعلم الطرف الأخر فيه إلا في نهايته لنكتشف أنها " سهام" صديقة " سوزي" ، بعد هذا الحوار تنتهي هذه الفقر لتبدأ فقرة جديدة تستهلها الكاتبة بقولها " المرج الأخضر المنبسط من الشرفة الانيقة المحلاة بالتماثيل المنقولة من مخازن التاريخ حديثاً،على حدوده يقف حبيبان....بينما مضيفة مكتب الطيران تمد يدها بالتذكرة ..." (ص252). تبدو هذه الانتقالات السردية المباغتة والتوليف بين الحوار والتعليق ثم حوار آخر مع طرف آخر ، ثم موقف مختلف ، ومكان مختلف ، وإناس أخرون تصفهم الكاتبة ، لتواجه بالتذكرة ومضيفة تعطيها إشارة للسفر ، تبدو كل هذه الأشياء متداخلة غير مترابطة لكنها كما ذكرت سابقاً الفوضى الفلسفية التي لا تضع شيئاً في دائرة واحدة مغلقة ، بل تصنع دوائر متعددة متداخلة تتعلق الواحدة بالأخرى وأخرى...، وهكذا إلى ما لانهاية وهي ليست علامة ارتباك أو إهمال أو قصد الفوضى لذاتها بل هي علامة اتساع رؤية وتشابكها ومعرفة عميقة بأن كل شيء يفتح مسارباً على الآخر ، الذي قد يبدو في السطح لا علاقة بينه وبين هذا الشيء ، هذه الرؤية مرهقة ، وأن يحقق المبدع تشكيل يتناسب معها أكثر أرهاقاً، وأن يجعله جميلاً وعميقاً فهذا ما يتطلب أن نبحث نحن عن توسيع دائرة التذوق وتدريب ذوق المتلقي وتبصيرة بنوع هذه الجماليات العميقة والمستعصية في الوقت ذاته.
(2)- اللغة: قارئ رواية " نبيذ أحمر" سيجد صعوبة في التآلف مع لغة الرواية ، حتى أنه قد يُجْبر بعد فقرات معينة أن يرتد لعدة سطور ليقرأ مرة ثانية ، ويتساءل أهناك تمزق وانفصال في الاتساق الذي عضدته لغة الفقرة الأولى مع لغة الفقرة الثانية لها ؟، وإذا تحلى المتلقى بالمثابرة فسيحاول إيجاد علاقة ما بين مستويات اللغة التي تتشكل منها الرواية ، وسيدرب نفسه على اعتياد هذه الفقرات ، وتلك المستويات ، والتمايزات التي نواجه بها في الواقع اللغوي لمجتمعنا ، والتي تنتقل إلى الخطاب الروائي ، وهي مع المبدع الحقيقي لن تهدده بالتمزق والتشرذم . ولكن ستمنحه فوضى صراعية مشكلة يمكن تلمسها في تحليل هذا الخطاب ، كما أنها صعوبة ينقشع ضبابها حين يربط المتلقي بين التشكيل البنائي والتواصل الفكري في الرواية . تقول الكاتبة : - لو جلت حاجة لحد أقطعك بالمطوة دي. - سيبها .....أوع تعمل حاجة. - وليه يعني - خالها عاطف باشا يابهيم. - بس دي أحلام البت خيرية - تيجى بكرة وتاخدى ريال ثم تقول : يدفعني بقوة فأركض ، وأمسح ذاكرتي بالتعثر والسقوط ، أسِفّ التراب المندّى الذي كانت خيرية تحب مذاقه المثير – حفلة التعدي انتهت – لم يظهر بطل يريح الأعصاب المشدودة على المشهد حين يعود بالضحية إلى فراشها ويسبل عينيها بقبلة نبيلة " (ص48و49). هذا الربط بين الحدث الواقعي بلغته العامية وبين استجابتها لمرأى الحدث ، واللغة المركبة التي تناولته بها، ثم تعقيبها بربط المشهد ببطل سينمائي نبيل – طريقة هذا التوليف ذاته ، وربط الواقع القاسي بعالم الصور الخيالي دليل على المغايرة في التلقي للحدث ، والانفعال به ، وطريقة التعبير عنه من قِبَل الروائية . وتقول على لسان أبيها : " فين بنتي اللى باستناها وأتنفس فيها حرية الموج " " كنت في محارة كبيرة تفر من الجميع بالأعماق الكثيفة ، متهمة بلا ذنب ، غير أن رملها يحمل ظلال الآخرين بعتمة الغدر – بهذا الكيف ترى سوزي المسكونة بأعماق البحر الكل يركض من الكل الذين يرمونهم بالحصى الكبير ، مقابلين تعاستهم بسعادة كسر قامات هزيلة " (ص107). تبدو هنا الصور المجازية المركبة التى تتولد إحداها من الأخرى ، وتتفتق عن دلالات متفجرة من جزئيات العالم وعلاقات عناصره ، ودائماً ما تشحن اللغة بالمجازات عندما تتحدث سوزي عن نفسها، كأنها ترى مالايرون ، وتشى لغتها بسماتها الثقافية والأيديولوجية الخاصة. وتقول الكاتبة على لسان عصام :" أحاول إمساك نفسي من الضحك من مقامات خالك عاطف بيه المدلوقة من فم كأهزوجة ، ويقلّد عصام أداء خالى بجمود " (ص152) ،ويقول: " أنا فقط أقوم بعمل وظيفتي الأولى ، وأنا أعلم أنني لم أغير شيئاً لصالح أي طرف ، العنف بالعنف وكلنا في نفس النار..، الكل يخرج منها خاسر ، اليوم إخوان ، وبالأمس كان الشيوعيون ، وغيرهم في أوقات الفراغ أسماك مقسمة في حوض ضحل ، أميزها بالألوان، والتقط منها حسب الطلب ، لغويات وإشارات محملة بالأيديولوجية ، وكأننا الوحيدون الذين نفهم هذا العالم ، أنا أعرفك جيداً ، وأدرك رسائلك التي تلخبط الكيان ، وحكاياتك التى تدوخنى في فضائك المترع بالشجن ، ها، مارأيك بهذه اللغة..؟ كنت أعرف أن خالك هو رئيس حرس الجامعة الذي سبَّنى في أمى ، وهو يسألنى إن كانت ترتدي سروالاً تحت جلبابها أم توفره للأعياد والمشاوير.... ، أغلق الباب من ورائي على عصام وعائشة ، ذلك الوعد المخطوط على جوانب الدولاب..،سوف نصنع عالماً جديداً ، جملة تتشظىَّ خلف الأبخرة والدخان المتصاعدة من تفاصيل الجهل المدوام لأحدنا بالآخر ، ونحن نكرر خلسة ، كل شيء سيكون بخير..، فهل يمكن لسحب غطاء المائدة الاَّيسقط الكئوس المصفوفة فوقه؟ دون أن يمتد نهر الألم و الكراهية في مساقط الروح والمشاعر التي كممتها القسوة" (ص153.152) إنه بوح يعبر عن الاعتداء والدم، إنه الخوف ودغدغة المشاعر والأفكار موظفاً للصور السينمائية الخادعة، أنها خيبة الأمل والغربة والفرار من الذنوب التي لم نرتكبها ،ثم هناك الضياع وحسبان أن الإنسان مجرد أداة. بداخل صراعات قذرة لا تعتمد سوى المصالح الشخصية ، ولا تهتم بمصلحة هذا الوطن وأفراده سواء على مستوى الجماعات أو الأفراد، إنها الأحقاد والانتهاكات الإنسانية لكل شيء مقدس ،إنها القسوة وجلد هذا العالم. ولنتساءل ماملامح اللغة التي ستعبر عن هذا العالم الفوضوي المتساقط المتناقض؟ إنها لغة تتراوح بين مستويات . لغة الشخصية السارده سوزي ، وتراوحت هي الأخرى إلى مستويات، فهي غالباً لغة شعرية تتخلق من اللواذ بتكثيف لغوي واضح ،لتتحول في مناطق كثيرة من الرواية إلى قصائد نثر وهي عادة ما تشكل مونولوجاً خاصاً لسوزي مع ذواتها ورموزها وتحليلها لمواقف حياتها مع الآخرين، ومع العالم ،تقول " الغريب أننى شعرت كمسيح مقيد بصليبه العائم في خليج الظلم لا أعرف جريرة عقوباتى التى تتجمع الآن بثقوب روحي، أرفع وشاحا أسود فوق رأسي وأهرم في كل يوم مئة عام ولا آكل من حفر قبر، أزينه بالخدر والكسل المرصع بالمرارة وأرمى فيه بذكرياتي" (ص8) وهي أيضاً لغة تصويرية نسيجها قائم على المجاز لانفتاحها على الآخر الثقافي والفكري والجنسي تقول : " كنت في حضن إغريقي أذوب امتزاجاً بسحب قمة الاوليمب الاسطوري، شاركت أندريا كأسين من النبيذ الأحمر اللاذع تخففت على أثرهما حتى صرت كغبار يظلل واحة حرب تدحض رعبا غازيا بمواقع خيالية تنطلق بغير خشونة أو تشاحن " (ص75) و سوزي الشخصية المركبة المثقفة التي تؤمن بهذا العالم الواحد المنفتح حين تتحدث عن الأفكار والأشياء تهبهاهذا التشكيل الاستعاري الذي يضم المتباعدات على مستوى الواقع وتبدو معانيها قد تضاءلت كمعطى واقعٍ، فيصير وجودا آخر شحبت علاقته نصيًا بمرجعه وأضفت عليه اللغة وجوداً خاصاً بالنص ، بتكوينه المميز ،وطقسه التي تم صنعها من قِبل الروائية ، وهي تلجأ للاستعارة التي تحاصر المشبه بالمشبه به وتدرجه في سياق من المتتاليات المناوئة لوقائعيته ، وكأن الاستعارة لاتجسد ، أو تشرح أو تحدد ، كما تعود القارئ ، إنما تغرق الشيء في زخمها ، وتشوش على وجوده وتحاصره، تقول الكاتبة : "شبح أمي لا يكف عن مراقبتي رغم اغترابي عنها في أبي ليصبح العداء اللون الرسمى لكل الأطراف حتى أنا ، بينما أقرر أن أصل متأخرة خير من لا أصل على الإطلاق ، زجاجة عطر ثمينة محطمة مسالة على الأرضية الباردة هي أنا بلا نفاذية" (ص16). كما أن للغة سوزي – الشخصية المحورية في الرواية – سمة تداخل الأزمنة والاستدعاءات السحيقة من الذاكرة ، ومن السنين ، والانتقالات المفاجئة بين الأماكن والأحداث السويس ، المدينة الريفية ، القاهرة ، وغيرها " (ص16و165). وتنطوي حوارتها مع الآخرين على إلغاء متبادل لطرف من ثنائي الحوار ، لذا يتحطم وَهْم المشهد في الكثير من أحداث الرواية ، وفي مشاهد أخرى من الرواية تلجأ إلى مَسْرَحة المَشاهِد ، وتوضيح علاقات الأشياء بالأشياء التي تجاورها مع توظيف عدد من ظواهر التشكيل والبناء ، خاصة في مشاهد الحرب والقتال والتهجير في المدينة المحاصرة " السويس" لأنها ذات التجربة الأفدح ، والتأثير الأعمق في هذه الشخصية النسائية ، فهي تقول :" حصد الأرواح بغير ترصد وبإصرار ، شحن الأجساد فوق عربات الكارو التي يجرها حمار بهز جسده دون أن يقدر على طرد الذباب المتكوّم بتقرحاته ، أو بالجثث المضرجة بالدماء والمرقطة بألوية الخراب ، المنكسّة بوداعة العنف وقسوة قصف الدور العتيقة بالقذائف المعجونة بالدخان المفاجئ يلف الأحياء بحرارة شديدة تصيب الروح بالعداء ، وفقد الرغبة في التواصل – الله أكبر الله أكبر ..لا إله إلاَّ الله " (ص23). والكاتبة تجيد وضع لمسات تشكيلية وسمعية لإتقان رسم مشاهدها كأن تصنع للحدث الأهم في حياة البطلة، صياغة تراجيدية فهي تعلم بتورط أسعد- الصديق الحبيب – في حادثة أندريا في موقف خاص ، في إحدي الأفراح على لسان حميدة أخت أسعد تقول " يصبح كل شيء ملتبسا ، تسيح سبائك الحقائق بتوهماتي ، فلا أعرف كيف ينبغي تجنب الزيف الذي يصبح مدية حقيقية تقود ولائي لذاتي وأنا أكن لأسعد نفس المودة حتى بعد أن جذبتني أخته حميدة لأرقص معها... - .....وسلط العيال المتدينين يضربوا أندريا عشان ما تسافريش معاه ،.... الطبول تدق من قلبي وكل أوردتي ترجف بالرقص الجامد لحميدة ، تمنيت بشدة أن أطلق عظامي بالقرع المتشكل من طبقات الوجود .." (ص89) . فالكاتبة تستعير من تقنيات فنون السينما ما يغذي مشاهدها ويجعلها في حالة من الثراء التخيلي البصري ، كأن تضيف بعض الرتوش كالموسيقى التصويرية " دق الطبول "، أو سمات الجسد " وكل أوردتي ترجف بالرقص .." وهذه التقنيات أيضاً من سمات ما بعد الحداثة ، واندماج الفنون بعضها في الأخر. و هناك مستوى لغوي آخر لكائنات أو شخصيات الفعل العفوي المنبثق عن وعي قار عميق ، ولا تملك أدواتها الثقافية المصقولة ، فيهيمن على الإبداع النمط اللغوي التقريري، كتابات فقدت مجازيتها الانفعالية ،مثل الحوار الدائر بين سهام وزوجها أمين، يقول أمين: - حبيبتي أنتِ بتذاكري ... برافو عليكي ... أعمل لك شاي - شكراً شربت كتير - هتعملي لنا غدا إيه النهاردة ؟ أنا بدأت أجوع - فيه بواقي في الثلاجة (ص22) وتقول سهام " أنا كنت بحلم أكون زي ماجدة الصبَّاحى في فيلم " الحقيقة العارية " أشتغل وأدرس وأتجوز شخص متحضر يتحمل مغامرة الاقتران برفيقة لكن والله العظيم وبفضل السيد أمين بقيت مجنونة ، ابن كلب بهدلني وخلاني أوالس عليه وهو بيوقع بنات الناس" (ص203). و حين تنقل الكاتبة وجهة نظر خيرية- بائعة الليمون- في هذه الصفقة التي تمت بينها وبين البهوات، تقول ويعني أنا كنت ها اعمل إيه ؟ وايه الفرق بينهم وبين كوع محمد الديب ؟ ياللاخلينا نشوف الدنيا؛ استحمى ذي يسرا وألبس حرير عريان ،دا مستورد كمان ياسلام عليكي يادنيا، لايق تمام" (235) ، و قد اجتازت الروائية عقبة تلوين اللغة طبقا للشخصيات كلٌ حسب ثقافته وبيئته وتاريخه ويعد هذا تطوراً ونضجاً فنيا بعد روايتها الأولى " هكذا يعبثون" فهي حين تتحدث بلغة عصام زوجها الرفيق اليساري في أحد الحوارات تقول " تعرفي معنى اعتقال سياسي ؟ أسرة كاملة تتعرض للاضطهاد والإذلال ، خالك شتت روحي التي كانت راضية بلاشيء ، نقلني للسجن واستأنف حياته بغير شُكْر أو اعتذار لدافع ترقيته المتجلط بالزنزانة الفردية، تزروني ركلة حذائه اللامع في البرودة اللاذعة ذابت كرامتي، لم أعد أعرفني ،كل ذلك فعله خالك وعشان إيه لأجل جنابك ، ليبعدني عنك لأننى نكرة ، حثالة نقتات على ...الفقر والكلام " (ص48) . والكاتبة حين تتحدث عن خيرية، البنت الفقيرة المهجرة تستخدم لغة المفردات اليومية للحياة التي تنشغل بها هذه الفتاة في مدينتها الأصلية السويس ،تقول :" تستعيد معي شوارع مدينتنا المرصوفة ونشم رائحة عيش الحمص المخلوطة برائحة السمك المشوي في فرن " شوشة" الذي يحمص العيش ويشوي السمك في آن واحد نتذكر نط الحبل ولعب الحجلة في جنينة الفرنساوي التي تطل على الخليج الذائب في القناة" (ص50). حين تتحدث الكاتبة على لسان أندريا الإغريقي تشعر أن المتحدث نصف إلة، مفتون بالجسد والتشكيل والتصوير والشعر فهو يقول :" من أي زاوية تهيمنين بالتماع عينيك الذي لا يقاوم، واستدارة كتفيك ، اتساع محيط صدرك، شموخاً أذوب لألمسه ، وأغوص في حضنه للأبد ، لا يوجد شيء يشبهك ". " في غرفة ضئيلة خاوية. ليس بها سوى جدران أربعة مغطاه بكوة زاهية خضراء توجد ثريا رائعة تسطع بالنور وتتوهج بالأضواء كل لسان لهب من مشاعلها يتأجج بالرغبة العارمة وينطق بالاشتهاء" (ص115و116). - تستخدم الكاتبة تقنية الفلاش باك متقافزة بين أحداث وأماكن ومشاعر أربعة عقود من عمر البطلة " سوزي" التي تعد رسالة دكتوراه في اللغة العربية ، تحكي عن أربعين عاماً مضت من عمرها، لذا فهي حين تحكي عن العاشرة من عمرها أوماتلاها من سنين، تظل اللغة لغة فصحى محكمة ناضجة مركبة عمادها المجاز التصويري المتراكب ، ولذا لم يكن هناك تفاوت في مستوى اللغة قياسا على مراحل عمرها ، لكنها في كل المراحل تعمدت المزج بين هذه الفصحى المركبة المجازية والتراكيب العامية المتداولة بل المقززة في بعض المواضع وهي توظف الأمثال العامية " حاجة كدة زي العجل في بطن أمه "(ص10) ، والسباب والألفاظ النابية وغيرها، وأتصور أنها تتعمد هذا التشكيل المتواصل الفوضوي، مشاكلة للواقع الثقافي اللغوي، الذي هو أيضاً على نفس هذه الشاكلة فهي أزمة ثقافة عامة كما أشار إلى ذلك د.عبد المنعم تليمة عند وصفه للتداخل اللغوي في الرواية(8). وتبدو البطلة كأنها شبح يمر فوق فوضى الأحداث ، والعلاقات بين البشر تقول " عشرون عاما وأنا أبحث عن نماذج وهمية ، تحيل العدل إلى قيمة غير موجودة على الإطلاق في حياة لا أنتمي إليها رغم ارتمائي بحضنها، وكأنني أعيشها بجد حتى يغزوني الموت كفكرة مفاجئة أصابت من قبل الذين كانوا ولم يعودوا ، تنزل الستائر السوداء على الملهمين الكبار ويعرض عليها أندريا مواعيد احتياطية ، لا يلتزم بها غيري ، بينما هو مسافر عني ومتجاوز لي ، يساعدنى أسعد برعاية جارحة تفجرمن شرايين الظلمة، نفس الغضب الذي يواجه به أبي صورة أمي وهي تقف بجواره في ثوب عرسها القصير ..، وهو يضع ساقاً فوق ساق، لم يعد يتذكر متى فقدها ولم يعد بقادر على إخفاء عدم غفرانه لتركها له بغير وداع في صحبة ولد معاق انسانيا وبنت تعبئ حقائبها وتفرغها لآلاف المرات ....(ص17). في كل مرة أحاول أن أقتطع من النص مقتطفا ليكون شاهدا على سمة أتحدث عنها أجد صعوبة بالغة، ذلك لأن النص مترابط بشكل غريب، مكثف إلى حد كبير فكل كلمة توضع إضافة تخدم النص بشكلِ أو بآخر، فلا يمكن اختصار مقتطف، فالنص مسبوك على نحو فوضوي متماسك إلى أبعد الحدود. ما أريد أن أوضحه أن تراكيب الكاتبة اللغوية أحياناً ما تبدو وكأنها استعراض لغوي ، استعراض لمهارة المؤلفة في اللغة، وتشكيلها في صور متعددة ،وكأنها صياغة بلاغية مقصودة لذاتها، لتدلل على تمكن الروائية من اللغة أداتها الخام ، وأتصور أن الكاتبة تدرك ذلك فهي تصنع باللغة صوراً تشكيليةً وتعرف وتدرك أنها تلهو معها تشكلها بصور مختلفة، لتدلل عل أفكارها ومشاعرها بصور متغايرة لنفس الشعور أو الحدث ، كما أنها تبدو بداخل العمل وكأنها كاتبة تصنع عملاً أوهو ما يستحضر في ذهن القارئ أن هناك عملاً يبدع على نحو معاصر لقراءته له، أعني أن الكاتبة لا تخدر القارئ بعمل بوهمه مواز للواقع بل هي تقصد أن تجعله في حالة مركبة، وهو عمل موازٍ للواقع لكنه أيضاً عمل فني يتخلق بصورة مستمرة، وصور تخلقه تقصد أن يدركها قارئها بصورة ما، حتى أننا في بعض المواضع نشعر أن هناك خطاباً للقارئ فهي تناقشة وتبين له سبب اختيارها لهذا التكنيك، فهي في لحظات إبداعها وكتاباتها تقف لبرهة مع قارئها وتقول له : انتبه أنا هنا سأصنع كذا، أو لماذا أصنعه، وما سببه ، فهي حين تحكي عن تجاوزها عامها الأربعين ودخولها لمرحلة جديدة، وتصف التغيرات التي طرأت على هيئتها، وجسدها وشعرها تقول " هل هذه المقدمات كافية، على أية حال فالمقدمة ضرورية حتى وإن كانت مكرورة ومتداولة كوجه مسرحي بائس مرضوض بحبات البرتقال الصفراء لتي تراشقت بيد جمهور العرض الأخير فيما يصر ِهو على أداء الدور خلف الستارة المسدلة، على ذوبان روحه وبكاء أعضاء فرقته التطوعية" (ص19). وبالإضافة إلى توجهها في لحظات الكتابة بالحوار إلى قارئها فالأسلوب ذاته يتسم بحالة بينية بين وجود حقيقي، ووجود شبيه بوجود الأشباح أو الوجود المنطبع على شرائط فيلم سينمائي ، يحدث ولا يحدث ، نشاهده ونحن نعلم أنه صناعتنا، وجود ملتبس وعميق تقول:" اجروا ياغنم دوسوا بعضكم بعض ، متصورين تلاقوا الجنة هناك ، ابقو قابلوني هناك ، دا لوفيه ، الآن يوجد هنا، مكان للوقوف بالعربة الأخيرة المحترقة في محطات الملوك أو متاح للبعض أن يمتطي سلالم تصلبه كربوتات ، ولن تلمحوا امرأة مهووسة بالبحث عمن يشبه رجلاً صغيراً اسمه أندريا، تسجل خواطرها على زجاج المحال المغلقة" (ص171) وتقول :" يهده التعب وينام ، أجمع كسرات قلبي المنثوره ،أرتقها في ظلمة وحدتي المعتاده نظرات قهر وابتسامه رخوة تسكن جروحاً ميتة، أنا هنا ياعالم أعاني أشياء غير منطقية ولا يعني بها فرويد أو غيره من جراحى النفسية والعصبية، الجنون وشيك كأمطار الشتاء المؤجلة لنهايته " (ص170) تتعامل الكاتبة مع المجاز والتصوير بحنكة ودربة من يمتلك أداته بثقة، خيالا ولغة، ليس هذا فقط بل تتخطى ذلك بمرحلة تالية فهي تمتلك ثم تجرب وتلهو بل هي تجرب وتلهو لتدلل على تشكيل معين ينطبق على واقع معين تعيشه. هي تصنع ذلك بوعي داخلي لاتدركه إلاَّ على مستوى ذاتها اللاواعية ويبدو أن اللاوعي يظل معلناً عن نفسه حتى يتحول إلى وعي فعلي ، ففي أحد أحاديثنا سألتها أوتدركين ما تصنعينه؟ أتصنعين شكلك الروائي وتضعينه وفق منهج وتصور محدد في ذهنك قبل كتابة العمل الروائي، أجابت ببساطه شديدة : لا ، أنا لا أضع خطة محددة للتشكيل والأفكار أو المواقف ،فأنا حين أراجع ما كتبته أتعجب كيف كتبت ذلك البارحة مثلا ،كيف تداخلت الشخوص هكذا، و الأحداث والمشاعر، كيف تداخلت اللغة في تلك التراكيب ومن شكَّلها؟. لكنها على هذا النحو ترضيني وأشعر أني أحقق ما أريد ، تقول الكاتبة على لسان" سوزي" كلما تقدمت سنوات عمري مؤكدة انتقالي البطئ وغير المكتمل من مرحلة إلى التالية ، أقع في غواية البدايات التي تلعق شفتيها استعداداً للتحلية بنهاية مخيفة يمس جسدي موت ما أثناء نومي، فأستيقظ لأجده جسداً آخر ،محملاً بالخدر الذي يمهد لرخاوة مذلة لطموح ينطفئ بسرعة مذنَّب هاو" (19.18). " أقع في غواية البدايات التي تلعق شفتيها استعداداً للتحلية بنهاية مخيفة " هذا التصوير المتراكب الاستعاري، البدايات التي تجسَّد وتشخَّص، وتنتابها الرغبات فتلعق شفتيها استعداداً للتحلية، لكن بقطيعة مع المرجعية اللغوية أو التصويرية، فهي تلعق شفتيها للتحليه بنهاية مخيفة ،هناك تضاد واضح ومتعمد بين لعق الشفتين والتحلية وبين النهاية المخيفة. فكل جزئيات و تقنيات تشكل النص عند "أمينة زيدان " تحدث قطيعة واضحة مع المتداول والمعروف لدى القارئ من أنماط الإبداع السابقة . - لم تستحدث "أمينة زيدان " ذلك فهو قائم بالفعل في التقنيات الروائية منذ مراحل إبداعات نجيب محفوظ الأخيرة، وإدوار الخراط وإبراهيم أصلان، وصنع الله إبراهيم، وغيرهم ، لكنها تجيد استخدام هذه التقنيات الفنية ما بعد الحداثية حتى أننا في بعض التركيبات التصورية نشعر أن الكاتبة يستهويها التكوين اللغوي أكثر من فاعلية القص والروايه ذاتها.أو كأننا مع ضرب من التفكير الاستعاري الميثولوجي، تعاين فيه الكاتبة العالم من خلال منطق لا يستمر معها كثيرا ،فهي تداخل معه منطق آخر وآخر ،في ضرب من التشابك ،يشى أن هناك تعايشاً دون اندماج أو تآلف ، التعايش مجرد جوار بين الأشياء المتناقضة لتدلل على فوضى هذه الحياة تلك الفوضى الشكلية والفكرية. فالمجاز ليس ذائباً في النص ، ولا يشكله كله ، كأنها تعني أن تقول إن العالم يتشكل هكذا، هذه الفقرة أو التركيب اللغوي على هذه الشاكلة ، والأخر على نحو آخر ، ويتجاوران ويتعايشان على نحو ما يتجاور الأضداد بهذا العالم . أما عن التراكيب اللغوية ، فسنجد سوزي تتحدث عن أبيها وهو في لحظة مقاومة لهذا القصف والخراب ، في لحظة رفض لرغبة أمرأته أن تهاجر إلى بيت أبيها وتأخذ ابنتها وتتركه لهذه الحرب وحيداً تقول : " بينما هو يقاوم بالصمت والعتمة الجبرية مثل بيتنا ، يحدق في فراغ الفوضى الذي يطن عبر النافذة ، يقبض على الأشياء بعنف ساحقاً روحها ، يهز مقابض السرير ويوصد أضلف الدولاب ويفتحها بدون داع ، كأن شيئاً يسد حلقه ، ويعذبه ، لأن احتقان وجهه وجحوظ عينيه لم يكونا مألوفين " (ص24). إن هذه اللقطات النفسية الجسدية هي ما تميز أسلوب الكاتبة التعبيري الي يصنع أمشاجاً بين الداخل والخارج في حركة هارمونية شديدة التكثيف والواقعية والدلالة ، كما أنها تصنع ما نسميه شخصنة الأشياء ، فهي تقول " يقبض على الأشياء بعنف ساحقاً روحها" وهو ما يدفع ببث الحياة في العوالم المتممة للحياة البشرية ويجعل بين الإنسان وما حوله علاقات حميمة ، غير مرئية مجردة ، من أجل ضخ الحياة فيما لا حياة فيه ، والتعامل مع الأشياء بحس صوفي هو ما يميز شخصنه الأشياء. - تنسج الكاتبة لغتها في لحظات التوتر والحيرة والترقب متوافقة مع تلك اللحظات فتأتي اللغة وكأنها تحت تأثير المخدر ، لها وقع بطىء تخرج من لسان ثقيل ممدود ، بين تراكيبها مسافات غير متواترة ، ويعد هذا تنويعاً من الكاتبة يتوافق بين المضمون وأداة تكوينه وتوصيله إلى المتلقي تقول الكاتبة : " تتوقف ليظهر وجهه من الباب ، سأدعي النوم، ليس حلاً ، فقد جذب انتباهي بصمته ، وغبت فيه ، حتى قال بعدم فهم ، تصبحين على خير ، لتعود جلبته في الخارج ، أقاوم فكرة النهوض لعمل كوب من الشاي، أو أي شيء يبرر تدخين السيجارتين ، وقد كنت قررت الإقلاع ..، لكن العطش لمذاق ما في هذه الحياة الثقيلة المترعة بالتوجس ، بوهم الحاجة لمأوى ..لرجل مختلف عن الآخرين ، ولكن أي أختلاف وأي آخرين" (ص195.194) الجمل قصيرة ، مقطعة ، فهو حوار داخلي مع ذات الساردة تطرح الفكرة ثم تعود لنفيها ، فاللغة تتمايل كأنها تحت تأثير اللايقين . - لا تأنف الكاتبة وهي تمتلك القدرة على صياغة لغة ذات مستوى رفيع حقيقة ومجازاً من أن تؤلف روايتها من مزيج لغوي يتراوح بين أعلى درجات الفصحى ورصد تحولات اللغة اليومية على ألسنة الناس ، اللغة ذات الصياغات المبتذلة والتي أخذت تصنع لذاتها مفردات خاصة مصنوعة في هذا الواقع المعاصر ، وهي تراعي تحولات اللغة وفقاً لتحولات شخوصها ومعتقداتهم واعتناقاتهم المتباينة. فالساردة تقول على لسان أسعد زميلها الفدائي القديم ، الذي كان يهيم بها حباً " وعشان ايه ؟بلاش أنت أرجوك ، عشان لوني المحروق بالدخان والا عشان في نظر زعامتك انهزامي ؟ والا عظمتك خايفة تحبيني ؟ عشان كسلان ما بيديش حيلة غير سيجارة الحشيش اللي باهديها لمزاجك في كل زيارة ، فوقي يا أستاذة فكي أفيونتك بكباية شاي وسيجارة ، لكن ما تلعبيش معايا ، الجيم ماسخ ومالوش مستوى تاني " (ص178)، ويقول لها في موضوع آخر " قصرت شعرك ولابسة جينز وشكلك مذهل ، دا أنت عايشة في ميه البطيخ " (ص123). وتمزج الكاتبة في الرواية بين الفصحى والعامية لتعبر عن حالة من الواقع اللغوي الي يتسم بالفوضى في الواقع الثقافي. واعترف في هذا المقام وبعيداً عن حياد البحث النقدي أنني ممن يفضلون اللغة الفصحى في الإبداع الأدبي ، وأنه لا يجوز للمبدع أن يمزج بين مستويات اللغة في عمله الواحد ، وأن اللغة في يد المبدع كأداة التشكيل التي يمكن تطويعها لتعبر ليس عن نطق الأفراد مختلفي المشارب والتوجيهات ، لكن عن منطقهم ، ومن طبيعة اللغة أن تصبح طيعة في يد المبدع المتمكن ، لتعطيه ما يريد ولا يشعر قارئه بالفجوة بين اللغة الفصحى واللغة العامية للشخصية التي ينطقها في العمل الأدبي. لكن مع هذا العمل الروائي ما بعد الحداثي واحتفالاً بديالكتيك العلاقة بين التشكيل والدلالة تأتي لغة الرواية على هذا النحو لتعبر عن هذا التداخل وعن تلك الفوضى التي تتناسب لغوياً وبنائياً مع تداخل وفوضى الواقع الاجتماعي والثقافي الذي يعاني منه الواقع المصري المعاصر ، والكاتبة على لسان " سوزي" تقول : " فمثلاً كنت أرى أن اللغة العربية العامية ، ينبغي أن تتواجد في خطابنا، لأنها اللغة الفعلية لكل الشعب ، أما الفصحى فهي معبأة بالقاعات ومنافذ الإعلام ، وأن لغة النص تكون أقوى في الدلالة إذا ما فصلناها عن لغة الشارع " (ص254). - وتراوح الكاتبة في تقنيات السرد اللغوية فتارة تتحدث بضمير المتكلم وتقص علينا استدعاءاتها المتناثرة وتارة تستخدم مع ذاتها ضمير الغائب ، أو المخاطب فهي تقول :" وكان أن تزوجت سوزي في سن الثلاثين من زميل يكبرها بشهور وهي تحبه رغم نفورها..."(ص124) . فهي تستعير أساليب الحكي التقليدية ، وأساليب ألف ليلة وليلة التراثية ، لتقدم لقارئها تنويعة فنية ، لتستثير ذائقته وذهنه باستمرار ، وتجعله في حالة من اليقظة معها. كما تمزج الكاتبة بين مستويات اللغة في النص الروائي . تقيم معرضاً بنصها لنماذج مختارة من النصوص الشعرية ، والأغنيات والأمثال والاقتباسات الفلسفية والفكرية والدينية والأدبية، وتعرض للمذاهب السياسية وأصولها الفكرية وكتبها وأعلامها ، وتعرض أيضاً للأديان ، وتصنع الكاتبة من هذا التكنيك ما يعرف بالكولاج وهو المزج بين المواد الكثيرة المختلفة الطبائع ، ويعد هذا بصورة ما من آليات التناص مع كل هذه النصوص والأشعار والمؤلفات والأغاني وأفلام السينيما التي تستدعي إلى الأذهان هذا الواقع بكل زخمه. وقد تبدو هذه الاستدعاءات المعرفية نوعاً من الاستعراض المعرفي للروائية إن لم يوظف جيداً ، والكاتبة في هذا العمل توظفه من أجل نقل الواقع المتعين بكل تداخلاته ومفرداته لداخل النص لإذابة كل الحدود بين النص والواقع ونشر حالة من الاندماج بين العمل الروائي وتشكيل الواقع ذاته. وتختار الكاتبة " لسوزي" الشخصية الرئيسية في هذه الرواية موضوع بحث لرسالة الدكتوراه بعنوان " يهوذا في الأدب المصري والأدب اليوناني- دراسة مقارنة" وتلح الكاتبة على التناص مع هذه الأسطورة الدينية لتماس هذه الشخصية مع شخصية سوزي ذاتها ، فهي لطالما شعرت أنها في موقف الدفاع عن نفسها وهي لم تكن سبباً في إلحاق الأذى بأياً من الرجال في حياتها تقول سوزي لأسعد :" مش يهوذا طلع برىء يا أسعد ؟ والمسيح ياعيني استخدمه ؟ الله يرحمك يا حبيب قلبي " (ص263) ، أو هو تناص آخر لقصة أسعد معها ، تكتشف سوزي أن أندريا هو من طلب منه استئجار العيال لضربه ليتمكن من السفر دون قيدها أو قيد العائلة . كثيراً ما شعرت سوزي بالذنب تجاه أبيها عندما فقد رجله وهو يفاديها بنفسه ، بالذنب تجاه أندريا حينما أعتقدت أنهم ضربوه لإسلامها ومسيحيته ، تجاه عصام عندما سجن ودخل المعتقل بسبب خالها ودفاعه عنها ، تجاه أسعد لأنها لم تستطع أن تحبه وتحياه، وتجاه شريف لإعتقاله بعد المظاهرات ، وعدت نفسها تميمة الشر لكل من يقترب منها . ويقر بنفس سوزي أنها ليست مسئولة عن هذه الأحداث وأنها ضحية فتقول على لسان أسعد: " نفس الدور اللي عشنا العمر دا كله نلعبه" ()271 لتشير إلى قصة يهوذا مع المسيح. وبرغم تملك " أمينة زيدان " للغتها إلا أن الرواية ملئ بالأخطاء اللغوية والنحوية فهناك على سبيل المثال لا الحصر (ص9) " بعد أن يدسها أخي تحت لسانه عنوة " " الدس" يكون خفية وهو ما يبدو متضارباً مع العنوة ، (ص16) تقول:" كوميديا يبتدعها رجال فاشلين " خطأ نحوي وتصويبه فاشلون . (ص18) تقول:" حيث أنني ومع الاعتراف بنوبة البدانة " الصواب " حيث إنني " وربما يكون خطأ طباعياً. في قولها (ص16) " زجاجة عطر ثمينة محطمة ومسالة " الصواب "مَسيلة" وقولها في استكمالها للعبارة " نفاذية" فهي تضيف ياء النسب إلى المصدر . تتعامل " أمينة زيدان " مع اللغة بجرأة شديدة ، جرأة من خبر اللغة واعتركها في أعمالٍ متعددة ، واللغة في نهاية الأمر خاضعة للمواضعات الاجتماعية العامة . كما أن هناك خطأ توثيقياً تاريخياً (ص64) فأسماء " ذات النطاقين" لم تكن زوجة للرسول. وقد يُدعو التكثيف اللغوي وسبك السرد على هذا النحو المركب ، يدعو القارئ المتعجل إلى ترك النص بكامله ، فهذا النص بحاجة إلى قارئ صبور واعٍ بالتقنيات الحديثة.
(3) –الشخصيات تضع الشخصية الرئيسية في هذه الرواية " سوزي محمد جلال " منذ اللحظة الأولى في الرواية حياتها موضع السؤال وهي سمة الأبطال التراجيدين تأخذ بنصيحة أمها، " لاتتكئ على أي جدار .... فقد تفاجئك الغارة وينهار" ، قررت محو شطر من عقود الغياب في حيوات زائفة انصهاراً في الآخرين . تبدأ الرواية بالانفصال عن زوجها، موت أمها ، رحيلها إلى فعل حقيقي أزاحته لمدة أربعين عاماً أرادت أن تفعل وأن تقول ما يحلو لها ،ما يحقق ذاتها فالحياة عبثية حمقاء لا تمنح غير التعاسة ، فهي تخرج من حب الجميع مرجومة بالكراهية (ص108). تؤمن " سوزي " أن الجحيم هو الآخرون وأن هناك جحيماً آخر أشد حرقاً " حين أقف على الجهة الآخرى لأنا أراقبها " (ص18) . وسوزي كشخصيات ما بعد الحداثة مجموعة ذوات ممكنة ، فهي تقول مستوعبة لذلك "كنت منقسمة على ذاتي أؤمن بالأمر العظيم وأحوله إلى تفاهة بين لحظتين وأنا أتمنى لو أسكب الجاز على كل الرفاق الذين يسخرون مني ويحولون نظرياتي إلى فسحة عملهم الشاق الذي أراه غير حكيم " (ص95) وهذا ما يدفع لتجسد كل هذه الفوضى التي تسري بين تصارع هذه الذوات فهي تقول " أنا هنا وحيدة تماماً فيما عدا نفوسى الساخطة لا أعرف تحديداً ما يتوجب فعله بصوتي الضائع في الجوقة من قبل كنت أخرى .." (ص154) وتقول: " أنا كيان مرموقة ...ولكن عليه أن يتحقق " (ص108) ، وتقول " أعاني طبولاً تدق برأسي تعلو وتهبط بي وهي تصعد أصواتها لتتفق ومؤثرات صوتية لملهاة أكون فيها كل الشخصيات، أقاوم محاولة التخلص من أطرها لأصنع بداية هادئة مستمدة من الدور الذي أعرف أن على تأديته " (ص7) . - صاغت المبدعة شخصية " سوزي" دون وعي مباشر ، فهي قد خلقت شخصية ورقية قامت الكتابة بتكوينها من مواد ونماذج متعددة ، " سوزي" لم تكن شخصية مقهورة في أصفارها الأربعة، فهي فتاة وشخصية حقيقية ارتبطت بمكان محدد ،وقعت فوق أرضه حروب كثيرة وأزمنة فوضوية ، لإيهامنا بواقعية الشخصية، لكنها في حقيقتها المجردة شخصية ذات وعي شقي عاجز، فهي تمتلك إرادة لكنها ساكنة المظهر وتعي ذلك"سوزي" فتقول:" اعاني في سبيل أن يُفهم أن لدى طاقة قديمة تنز بجيوب غضبي وبأسي وارتباكي، ما علىّ إلا أن أصوب نحو هدفي الذي يطاردني فانطلق أبعد من تصور أسعد الذي يعوَّل على انهياراتي " (ص125) وتقول:" أمارس تميزي في اللاوعي وأنا أسير واثقة وهادئة كالموميات، أحافظ على انبساط وجهي وداخلي يمور بالقسوة والاحتقار " (ص171) الصفات الحسية والجسدية لسوزي مسكوت عنها إلا القليل مثل أنها جميلة خمرية البشرة ، ذات أكتاف عريضة ، لكن الكاتبة لم تحدد ملامح أو تفاصيل يتعين فيها ملامح خارجية محددة وأتصور أن المؤلفة تقصد هذا اللاتشكل المحدد الخارجي . ولسوزي في الحياة مواقف تؤمن بها وتنادي من أجل تحقيقها فهي ضد الرجعية المتمثلة في الأصولية الدينية التي تعود بالمجتمع في حركة إلى الوراء، وهي ضد الفراغ والتخبط السياسي والخيانات التي تجيد صنع الفقاقيع المجوفة، في وطن مباع في مزدادات الخدر والطينين، المصاحب للأفكار سابقة التجهيز (ص125)، فهي حين تتحدث عن امتحان المعتقلين السياسين تقول عنهم :" وقد مارسوا صموداً مؤقتاً تحت العنف والتنكيل ، يتذوقون ملح أجسادهم المكومة وهم يحاولون حماية أعضائهم الرقيقة من ضربات العصي الغليظة ومقدمات الاحذية الثقيلة ،وهم يتفيأون الطاقة العظمى للولاء والبقاء على عهود أفقدتهم حريتهم وأصبحت مجرد معوقات يزيلونها بقليل من تعديل للصياغة" (ص119). وسوزي تؤمن بنبالة الإنسان فتقول: " حين كنا نركض أنا وأسعد وأندريا وكل الصحاب النبلاء خلف مدرعاتنا التي تشق شريطاً بين بيوت المدينة باتجاه الضفة الشرقية حشود مؤلفة كلهم عائلتي خرجوا من الركام كنيران لايطفئها غير الموت كل يعرف دوره في نصر المقاومة المحكمة" (ص14). وهي مع الثورة والحرية وضد الحرب فهي تقول على لسان أبيها:" سأنتظرك لتعودي لهذا البيت امرأة قوية تحمل سلاحها وترفع الرأس " (ص11) وتقول :" هل كانت الاشتراكية تتشكل في وعيه بروح لاتفقد العدل والمشاركة التي تجعل الكل يشعر بالآخر،وكأنه منه، ليسود عالم واحد بلا تقسيمات سرية ونصل إلى الشيوع المبهر لحضارات واعية " (ص203) وتقول محرضة على الثورة " لابد أن يجدوا من ينغص طزاجة وجنات ابنائهم المعدِّين للولاية بعد أن يفلتوا من عقوبة جرائم الدهس على أرصفة المشاة " (ص208). وهي مع العدل والرحمة ، مع الاعلاء مع أرادة الإنسان فهو تقول:" إن كل دين يدعو للشيء نفسه الذي لن يتحقق على الأرض " (ص117) وتقول في مونولوج داخلي مع ذواتها. - تذكري أن تقولي ...لا...لا....لا، لا التباس فيها وبخط أصفر كتبت :- - كوني حذرة. - لاتخشى شيئا وفي السطر الأخير - العدل والرحمة ، وليس الذكر كالأنثى هي آياتك". (ص8.7) وتؤمن " سوزي " بوحدة هذا الوجود وتناغمه فهي تقول " أيها المحترمون اياكم وإساءة الظن، إن لمحتم صدفة امرأة تخلع ملابسها وتعرض جسدها لضوء الليالي المقمرة فهي غالباً امرأة في الأربعين وحيدة وتهيب بالقمر أن يكشف لها من تكون " (ص7) وبرغم هذه المواقف التي تؤمن بها " سوزي" في الحياة إلا أنها تعيش حالة من العجز عن الفعل، حالة من الفوض، تقول واصفة حالها وأسرتها " نقترب من قمة التعاطف ولا ندركها أبداً جاذبية ما تسحبنى إلي الأسفل ، أقاوم باحثة عن ابتسامة غير مجهدة ، ونحن نقاتل الهوام كى لا تلتقي أعيننا بحثاً عن تيه مميز ، داخل أجواء ملوثة بافتقاد الرحمة ، فرسان خائرون في مهام عادية تحتاج إلى دعم .....الفهم والمساندة ضد آلاف من الكائنات الصغيرة التي تعوق سيرنا بالكسل والتراخي مرض مفصومون نسوح خلف كل من يعد بترتيب فوضانا وتسليتنا برحلة جديدة من الأضواء اللامعة القوية حتى تعاودنا الغيبوبة كملجأ أخير نركض إليه بعد هجمة ضارية" ص (139.138) وشخصية " سوزي من الشخصيات المتطورة التي أصابتها فوض هذا العالم ، وفوض المجتمع من حولها بعلاقات أفراده ، بأفكاره المتصارعة، بنظامه الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي ،فهي تقول عن ذاتها:" وقعت كالعادة في خط الدفاع وكأن إرادة ما تردني عن حقي في الهجوم ، لأصبح في النهاية خاسرة " (ص124) فهي لطالما يشعرها من حولها أنها متهمة في هذا العالم ، وعليها أن تفسر وجودها على أي شاكلة فى هذه الحياة. والشخصية الراوية تدرك مأساتها ، وتحاول أن تتغلب عليها بتغيب العقل والمخدرات والعيش على هامش الحياة تقول:" لكنني فعلياً مذعنة بخباء من فوضى ، يسحب دماغي للخدر الموجع، يهدئ صعود الدماء لعقلي ، الذي يستسلم مثقلاً بالخور ، للكوب المغلف بسوليفان علب السجائر " (ص160). وتمثل هذه المرحلة اليأسة في حياتها فترة السكون الذي أعقبه اتخاذ القرار بالمواجهة، فهي هذه المناضلة الصغيرة التي شبت بيد ابيها مع الفدائيين ، هي وأصدقاءها من قاموا بعمليات فدائية صغيرة ، وهي التي قاومت رغبة أمها لتبقى بهذا العالم الفدائي الذي رأت تأرجحها به فلم تدرك أين هي، أهي أنثى أم هذا الرجل الذي يريده أبيها ، هي من رفضت ترك أبيها ومغادرة السويس ، ثم أضطرارها للهجرة ثم تعود مرة أخرى إلى موطنها، و هي من صبرت على طغيان وسلطة خالها الغاشمة ، حين اضطرتها ظروف الجامعة للإقامة معه ، هي أيضاً من انضمت لصفوف الإشتراكيين وآمنت بأفكار عادلة خيرة ،ثم هي من أصابها اليأس بعد زيجة وحياة فاشلة ، بعد إحساس بضياع المجتمع والكيان المصري العام ، وهي من عادت مرة أخرى لتوقظ ذاتها وتواجهها باتخاذ موقف من هذه الحياة. و" سوزي" شخصية سلبية ، تدرك من وما حولها بصورة جيدة لكنها تدرك وعلى حد قولها: " ادركها وأشيح كعادتي " (ص13) ، فالقدرة على الفعل ضمرت في مجتمع ضمرت قواه ، وتقلصت ، وأصبح تابعاً للكيانات الكبرى التي تملك القوة بكافة أنواعها ، إن انتهاك المسئولية والتخلي عنها يشيع الفوضى في كل ما يحيط بنا تقول الراوية :" لم يكن هنا شيء يمكن أن أفعله غير نمذجة هذا البيت الذي ضمني لأبي وأخي في غيابهما الاختياري ، كلنا مغلقون على عوالم فردية ، ليس للآخر فيهاد دور ، إلا حين يشير أحدنا بصمت مؤكدا ، - أنت السبب" (ص15). وتصل الأربعون عاماً " بسوزي" لمحطة رئيسية بحياتها تجعلها تتسأل :" ماذا فعل بنا العقل ؟ حتى أننا أصبحنا خارج مؤسسات الأمان ، ثوار مطاردون كمجرمي حرب نناضل بيقين من يعرف مسبقاً ، أن خلايا الثورة مهزومة بالخيانات المتبادلة ، ونحن غير قادرين على إنهاء المعركة بالقتال حتى الموت لأننا متشاغلون بالبحث في الرمال عن ساق أو ذراع ضحينا بهم من قبل للاشيء ، فننسحب من مواقعنا ونصبح محدودين بالنظر تحت أقدامنا، نمرر كل الكوارث وكأنها الأنفاس الأخيرة للعالم ، وننتظر الرحمة من الآخر البعيد " (ص269.268). وتري " سوزي" العالم من حولها في لحظة انهيارات للكيانات الكبرى فهي تقول:" العالم يسير الآن بطريق مسدود ، بقوة لن تهدأ قبل خضوع الجميع لجراحات"NEW LOOK"وشفط كل تاريخ عرفوه ، ويلقي الأطباء المخضرمين بكل نضالات خضناها في حوض الأحماض ، لتذويب كل ما يعوق ردتنا إلى عصر الظلام ، بينما الثوريون شغوفون بفكرة التنظيم المحكم لتجميع القوى الصغيرة في اجتماعات سرية ،يلوكون فيها الأفكار والمصطلحات التي تفسح المجال للعداء والانقسام". (ص262.261). تشى وتؤكد كل هذه القناعات بصحة الأطروحة التي أعرضها وهي أن هناك اتساقاً بين مدلولات الرواية الفكرية وطرق صياغتها الفنية ، فهذا هو تصور " سوزي" عن العقل وتلك هي رؤيتها للعالم. وسوزي مع جدتها وأمها والمرآة ذوات متعددة تكوَّن ذات نسائية فوضوية واحدة ، فالكاتبة لم تبخل علينا بإشارات متعددة على مر الرواية ، لتصنع لنا فوض تلقى ، العلاقة بين أمها وجدتها ، وبينها وبين أمها علاقة متداخلة محيرة فكأننا أمام ذات نسائية واحدة ، تشكلت فيها مراحل وطن وأمة ، أو مراحل تاريخ وحاضر الأنثى بصفة عامة في هذا الوطن، ماضى معتم " الجدة" الذي مازال يسيطر بحضوره على حاضر الأنثى في الكيان المصري ، وحاضر يعاني انفصام حاد " الأم " الأنثى التي تصنع حياة مشوهة ، تعيش عالمين ، عالم الواقع الذي ترفضه ، وعالم الصور والأوهام والأحلام التي في المرآة – هذا الرمز الموحي والفوضوي في هذه الرواية - والأنثى المستقبل " سوزي" التي ترفض الواقع الضائع الذي تحياه ، لكنها أيضاً لا تعرف موطىء لقدميها في الغد ، يومها ترفضه وغدها لا تعلمه ، وكل من حولها ينكر حقها في حياة حقيقية تقول :" أنام متكومة مهما اتسعت الأسرة ، لا أجسر على التمدد أو إلقاء أطرافي في الفضاءات المتاحة خشية فقدها " (ص53) . الراوية تقول وهي تصف موت أمها :" لاتضيع للأبد امرأة قديمة ، خرجت من الحياة مجرجرة كل وجوهها ، التي لم يألف أيها أحد من الموشحين بهالات الحزن واللاحول هل كانت أمي حقيقة ؟"(ص11). وتقول في موضع أخر عندما تقرر البطلة بداية جديدة " من العادي ألاتنامي ، وأن تنجزي ما فاتك طوال الأربعين عاماً الماضية ومن قبلها عشرين " تخص أمي".... سوف أدرجها بكشوف تعويضاتي ." (ص17). وتمثل المرآة على ما أتصور المشترك الناظم لهذه العلاقات والشخصيات المنقسمة الانفصامية الجدة والأم وسوزي ثلاثتهن هي الأنثى في الكيان المصري الحديث ، ولنا أن نقارن هذا الكيان الضائع الفوضوي بإيزيس المصرية آلهة الخصب والحب لندرك هذا التحول المخيف، تقول الكاتبة على لسان سوزي " يارب لماذا جعلتني أري – هكذا – بهذه القوة التي أعرف أنه ستنهار في الظلمة ، مثلما أصاب العمي فجأة جدتي وهي راضية لأنها تعلم أن النهاية هكذا فكل الجدات أصابهن " العمى من قبل . - هذا ميراث العائلة مع المرآة ، هو الآن نصيبي وسيكون لأمك وسيكون لك وسيكون لبناتك، لكن تذكري المرايا تورث مبكرا ً ، قبل أن تفقد جزءا من دورها .." (ص107). الجميل في هذه الشخصيات وفي هذا الرمز " المرآة " أنها رموز تحتمل القراءات المتعددة فهي حقائق متعينة بالفعل فهناك بكل عائلة جدة وأم وابنة، وهناك بكل بيت " مرآة" لكنهن أيضاً رموز مركبة ملتبسة لمعانٍ أكثر تجريداً وعمقاً و لإوضاع اجتماعية جائرة وملتبسة وفوضوية ، ولذا كان التشكيل الرمزي والبنائي للشخصيات ورمز المرآة من أمتع ما أبدعته الروائية لأنها الحقيقة والتقنية التي استوعبت جوهرها وانطبقت عليها في ذات الوقت . فهي قد لجاءت للواقع والرمز معاً ، للحقيقة الواقعية والمجرد المتسع . والشخصيات في الرواية عدا سوزي مجردة من التعيين والكثافة إلا فيما يختص بعلاقاتهم بالشخصية المحورية ، وهم يؤدون دوراً محدداً ، تجسيد الفوضى العامة في هذا المجتمع بعلاقاته المتداخلة غير المنضبطة وفق رؤية حقيقية للأشياء والعالم والواقع الذي يعانونه، كما أن الفوضى تنسحب إلى التكوين الذاتي والنفس للشخص الواحد ، فمن أين سيأتي الاتساق في عالم تنداح فيه كل القيم والأفكار وتتهاوى. والشخصية في النص الروائي " نبيذ أحمر " تتحدد من خلال علاقتها بشخص سوزي أو بشخصيةأخرى من شخوص الرواية. - يميز رسم الشخصيات في " نبيذ أحمر" أنها بدون ملامح متعينة ، فالكاتبة لا تلجأ إلا نادراً للإشارة إلى ملمح خارجي ، خوفاً منها إن هي صنعت ذلك ، لأوجدت متشكل متوافق ثابت ، وهي لا تبني تشكيلها الروائي التقني وفقاً لذلك. لقد تعمدت أن ترسم الملامح الداخلية لشخوص روايتها ،وصنعت بانوراما لكل شخصية تتشكل درجة تلو الأخرى على مر الرواية ، الملامح الداخلية التي لا يحكمها حاكم سوى الفوضى والتناقض والجوار للمتباعدات ، الداخل الذي لا يقين أو هدف أو رؤية تقيم له اتساق كيان، وعلى المتلقي أن يلتقط هذه النتف التي تأتي موزعة تبعاً لاستدعاءات ذاكرة سوزي عن كل شخصية، ليقوم بتجميعها في صورة ترسم هذه الشخصية أو تلك ويكون شريك الكاتبة في رؤية هذه الاشتباكات وفي فعل الابداع التي يتحقق عبر الفوضى. - الذي يدعو إلى الالتفات أن رسم الشخصيات لدي " أمينة زيدان" به ابتكار والتقاط زوايا ذكية ومثيرة ودائماً ما تصنع بوابات صغيرة لكنها تنفتح على دلائل يقنية عميقة لكل شخصية، فهي تصف الحسيني المقاول الكبير وزوج حميدة أخت أسعد صديقتها تقول "وبالفعل أصبح الحسيني مقاولاً كبيراً مفضوحاً بصراخ الفتيات في سيارته الراكنة عادة بأطراف المدينة مساء، مكللا بصراخ الاتباع في تربيطات أكل العيش نهاراً كما أن حميدة المحبة للحياة والمتفهمة للجميع كانت تصرخ في وجه زوجها فقط بسبب الطريقة التي يدفع بها الطعام إلى فمه ويكوره وهو سكران حتى يكاد ينفجر من التخمة كأنما يأكل للمرة الأولى والأخيرة في آن واحد" (ص121). - الشخصية الوحيدة التي اتسمت بالهدنة والاتساق مع ذاتها أندريا جورجاني وهو الشخصية الوحيدة أيضاً التي لايشعر المتلقي أن لها وجود حقيقي في هذا العالم أو عالم سوزي ذاته.الشخصية الحلم التي لا نحدد لها وجوداً ملموساً سواء بالحياة أو الموت لكن الروائية ترسم له ملامح إنسانية وفكرية افلاطونية مثالية فهي تقول على لسانه " الحياة حق لأي شخص مهما اختلف ولاؤه، ولا شيء في العالم يهم أكثر من إنسان حر بطبعه ... يعاني ويغضب من القهر اللاذع ،الكل متماثل رغم الفروق، ولا يجوز لقرية قوية أن تعلن عبر المذياع عن الحرية كسلعة، لو أن الكل يمتلك الحرية لما ضاعت الحضارات في حروب؟ وما أصبح الإنسان عرضة سهلة لالآمه عند محاولة تذكر اسم صديق قديم هدمت فوقه بنايته أو مات بقهر القمع . إذا حدث خطب ولم يصل أحدنا للجهة الأخرى سأقول لك بأنني أحبك وأنا أخرج صارخاً في هذا العالم الذي لا يبق الأحباب قريباً لا أحتمل قضاء يوم آخر بدون عدل،.. ونحن ندفع فوق احتمالنا لتأمين ثراء القوة ، حين نخفي وجوهنا في الوحل، وهي تعبر بأساطيلها المحملة بأخطاءتاريخية ، كيف نبحر بعد الأن في البحار الميتة و نفتقد النعومة ؟ أو نغرق في الوعود التي لا تنطلي على الصغار ، رغم كونها محكمة الصياغة؟ ، الحياة تمر بسحر الشرق وثوراته التي تتدفق على السفارات كرشوة مقابل ما نحصل عليه من نيران أسلحة طائلة القيمة ، نصوبها على بعضنا البعض عوضا عن غطلها في هناجر ذوي الثقافات الطارئة وتـــاريخ التيك واي الطازج ، هؤلاء لا ينبغي لهم تولى أمورنا وإدارة شؤوننا ." (ص130.129). ويلفت النظر في رسم هذه الشخصية شغف أندريا بالسينيما ، ورغبته في احترافها وحياته المرتبطة بهذا الحلم ، وذكريات سوزي عنه المرتبطة بأفلام محددة ، هذا التكوين المعتمد على شريط سينمائي ينقلنا مباشرة لغزو الصورة والحلم لحياة الإنسان وفراره من واقع لا يرضيه إلى عالم مصنوع من صور.أندريا صورة ، والصورة حلم وخيال ، وهروب من واقع لا نرضى عنه. - وعلى النقيض من أندريا يتبدى عصام زميل الجامعة ، ورفيق الجماعة ، وزوج سوزي الذي تصفه في بداية لقاءهما تقول :" كان يضعني تحت مجهر غير عادل ، هذا المناضل النحيف الذى كان يطلق شعر رأسه ويظهر الفراغات الواسعة بين خصلاته المعتني بها ، ويظهر انفعاله بالطريقة التي يدخن بها سجائره المفروطة على مائدة الاجتماعات بجوار يده اليمنى ليظل يقلبها بأصابع يسراه حتى ينتخب واحدة ، يشمها ويشعلها بسرعة ، كما يدخنها فلا يفقد منها نفساً واحدا، وتظل جمرة حمراء متقدة بطرف شفتيه، يبدو كشيوعي نموذجي طبقاً لفقره الواضح في الحذاء الأكبر مقاساً ، الذي كان يبدله مع حذاء آخر ، يمارس جنوناً ارتيابيا طيلة الوقت معي ربما لعلاقتي بجهاز الأمن المتمثل في خالي ، الذي وبشكل ما كان يمثل الجانب الآخر لوجه عصام ، أشعر بأن مصيري سيرتبط به بشيء من الجنون ، وكأنه شخص مهم يساهم في صناعة تاريخ بدا وكأنه الخيار الأفضل بالنسبة لي"(ص95). وعلى أساس أن النص شاهد السياق التاريخي ، ترسم الكاتبة نموذج للمناضل الشيوعي أو الأشتراكي ، لكنه يبدو نموذجاً مزيفاً ، فهي تدرك أنه انفصامي زائف ومتعدد الأقنعة، فتقول رابطة بينه وبين خالها عاطف :" الذي وبشكل ما كان يمثل الجانب الآخر لوجه عصام " وبرغم ذلك فهي مساقه إلى حتفها معه " أشعر بأن مصيري سيرتبط به بشيء من الجنون " فالكاتبة من خلال تقنية الحكي تنقل الذات ، ذات الساردة إلى العلاقات مع أشخاص الرواية في نفس ملحمي بطولي ، تصنع ذلك برغم أنها لا تتوانى تتعامل مع المباشرة والتصريح بالحقيقة والمشاعر المتباينة التى تعتريها تجاه الأشخاص. - مثلّ نموذج " عصام " ذلك العقد الزماني في فترة السبعنيات بهذا التوجه غير الأصيل للإشتراكية ودعاوي الشيوعية، تروتسكي ، الكوميونة ، العالم الرأسمالي ، الجيش الأحمر الثورة ، تصدير الثورة ،..إلخ وتدرك سوزي هذا الزيف وتستمر في أداء دورها التمثيلي في هذا الواقع المجوف فهي تقول :" كنت أحاكم الرفاق بما يعلنون ، ولاأقلب فيما يضمرون خلف أدائهم التمثيلي المسبوك بالفصلات واللوازم المنطقية لما يقولونه " (ص96)." الماء شراب الحمير ، والبيرة شراب عصام لأنه ليس حماراً" (ص142). تزوجت سوزي بعصام " برغم نفورها من أصابعه التي يعقفها دوماً ، فتشبه مخالب تتحسس الفراءات وتخمشها " (ص142). ومن خلال التقاطات على مر صفحات الرواية كلها، لنا أن نستكمل رسمها لهذا النموذج ومهارتها في حبك نموذج ملتبس فكرياً ووجدانياً للتعبير عن سياق تاريخي ملتبس فهي تقول عنه في مواضع أخرى :" الأهم في المشهد الذهني الأن هو أن عصام كان مقرفصاً بجوار الفتاة، يديه تعبثان بحدودها ، يتأمل وجهها ليكشف رد فعلها ، وهي وإن كانت تبدو نائمة إلا أن تجاعيد الألم كانت واعية تماماً ،.. يتجول الهواء بيسر بيني وبين عصام النائم بجواري للتو، بعد أن أنهى اكتشافه لطابع بشري ما ، وكأن المسألة تستدعي كل هذا القهر الذي فجـــــــره بروحي ، وزرعه في وعي طفلة تحلم بشيء أقوى من الخدمة ببيت أسرة تدعي التقدمية " (ص150). يبدو عصام بلا أخلاق ، دنيئ النفس ، لايؤمن بشيء إيماناً حقيقياً فهو يقول لسوزي في إحدي حواراته معها:" – طبعا ياماما ...الزمن ده مافيش حد ثابت عليه ، علشان كده لازم نتغير" (ص51) ،و يقول:" – أنت غضبانة علشان طلبت منك نظهر زي بقيت الناس ونعيش زي ماأحنا عايزين " (ص151). ويبدو عصام مغيباً طيلة الوقت، تحت تأثير الكحول والحشيش والبانجو أو ممارساً للجنس مع نساء أخريات، يتقاسمهن مع أصدقائه في دعوات مفتوحة لممارسة كل أنواع الرذائل والخداع ، يترك بحثه ويعيش بصورة ميكانيكية ، يستولى على جدول محاضرات سوزي ، ويدمر قدرته على الفعل الحقيقي في حياة لاهية مزيفة، ينتهي الأمر بأن يطلق عصام سوزى ويتزوج بنت أحد أساتذته ليتسلق أكتافه ويكمل حياة وصوليه مزيفة. - تقول الراوية سوزي :" – العدل والرحمة وليس الذكر كالأنثى هي آياتك" (ص7). تتكشف جميع النماذج النسائية على مر السرد في الرواية عن نماذج مشوهة منتقصة تعبر عن أوضاع متردية للمرأة المصرية في المجتمع المعاصر ، تتراوح بين حالات القهر التي تفرض على المرأة من الخارج خارج ذاتها أعني، وتبدو دائماً في حالة المفعول به الراضخ، مثل حالة خيرية وعايشة ، أو حالة القدرة على الفعل ،والاحجام عنه وتعطيله خوفاً من المواجهة وعواقبها ، فالمجتمع يلقي بكل الطوائف في جحيمه العابث بموروثاته العفنة ، أو بحاضره المتخبط ، أو بمستقبله الذي لا يبدو له ملامح . وتمثل النساء في الرواية "سهام وسحر وسوزي" الطبقة البرجوازية الضعيفة ، لكنهن خريجات الجامعة ، المتفوقات ، الثوريات وبالرغم من ذلك فلكل واحدة ظرفها الاجتماعي والنفسي الذي يصيبهن بالشلل في القدرة على الفعل ، هذه النماذج من المفترض أنهن مناط أمل المجتمع الذي يعول عليهن في صناعة الحاضر والمستقبل ، لكننا نجدهن في الرواية بعثن في حيوات متخبطة ، زائفة، تقول الكاتبة :" رغم وعورة الحياة بالنسبة لهما ، سهام وسحر اللتين تنتميان لأب غائب ، حب عبيط ، زواج إجباري ، أصدقاء يغمدون مديات بين فقراتهم " (ص189). وتقول عن سحر " وحين يصبح يوسف هو الملجأ بالزواج ، يقضم قطع لحمها الأبيض بعنف يؤلم عظامها ، ويستمتع في الصبــــــاح بمشاهدة البقع الزرقاء المنتشرة على نحافتها المصقولة" (190). وتقول على لسان سهام :" إحنا جيل أتختم بالتعاسة ، مافيش مفر ياسوزي، حاولي تتكيفي، صدقيني ، مش حتقابلي غير الوحدة والأرق والخوف لو قاومتي ، وبرضه مافيش فايدة ، يمكن لوكان عندنا عيال ، كان حالنا بقى أحسن ، إيه اللي يخليني أعيش مع واحد زي أمين ، أكلم نفسي وأضحك على نكت مش مقصودة ، أرمي ذاكرتي كل صباح في الحمــام " (ص191). وتقول سوزي واصفة للحروب الخارجية وحروب النفس مع ذاتها :" لا أعرف شيئاً عن قلبي المدمي بوطيس الحرب ، حرب بلا مكاسب قدرية ، كلنا شهداء تحت الحصار ، شهداء جهل تاريخي ، كل بيت أصبح مشفى مطوقاً بالقذارة" (ص191) ، وأظنها تعني بالحصار كل أنواعه الداخلية والخارجية . هذه النماذج النسائية تنويعة لذات الأنثى العامة التي تحدثت عنها وأنا أشير للجدة والأم وسوزي ، وكلهن في حالة من الضياع والفوضى بصورة مختلفة. و يحسب للروائية أنها تستطيع أن تلمس العصب العاري لمشاعر البشر ، قادرة على التقاط أدق المشاعر والتفاصيل التي تنسج منها شخصياتها كما أنها ترصد بدقة لمشاعر البشر المتباينة والمتناقضة.، لتجعلهم في حالة من التعايش. فهي بقدر ما تملك تلك الحساسية المرهفة الرومانسية وهي تتحدث عن أندريا، وعلاقة الحب بينهما ، قادرة على وصف السخط والحنق والغضب والدموية في علاقات أخرى ، كما أن كتابتها كشأن فنون مابعد الحداثة تتعرض بالوصف لكل التفاصيل المزعجة والمقززة، فهي تبرر تأخرها في قرار الرحيل عن عصام بقولها : " ربما تأخر لرغبتي الدائمة في ملء صفائح القمامة لآخرها ، وكي أمر بالتجربة كاملة ، حتى تطفح بالديدان الصفراء المغثية" (ص143). وتقول وهي تصف رغبة أبيها في الموت :" حتسبيني ياسوزي ؟ تعبت يابنتي وعايز أموت ... لم يسعفه أحد بالمبولة قبل أن يضطر إلى استخدام طبق الشوربة بدلاً منها، حتى فاض البول على يديه وأكمام جلبابه " (138). تتوفر بالرواية مثل هذه الأوصاف الصادمة بكثرة ، فالكاتبة لاتتوانى أن تصدم قارئها بين الحين والأخر وهي تقدم له الحياة بكل صورها، الصادم المقزز والرومانسي المحلق، التناقضات المختلفة في كل فوضاها، في الفكر والتشكيل معاً. ترسم الكاتبة الشخصيات الثانوية في الرواية بحذق فني، متنوعة في طرق رسم ملامح الشخصية الداخلية . فهي حين تتحدث عن عم جبريل حارس مدرسة الأنباستير الإعدادية، تصفه وهو إشلاء تتقاسمها الفئران والغربان بقولها:" عم جبريل الذي تفترش الابتسامة سمرته الداكنة وخواء المدرسة وقفرها ومن كان يستوقف ولوج كل طالب يستقرؤه سطراً من عناوين الأخبار وموجزها .." (ص26) وتستكمل الكاتبة رسم الشخصية من خلال ثماني أقوال متتالية لعم جبريل ، وهو يصف صبية المدرسة بالعيال ويحدوه الأمل في هذا الشباب أن يصنع بلداً حقيقياً و أن ينهلوا من العلم ، ويحذرهم من الجهل ومن المزوغين " لأنها العينة التي ستخرب البلد ويتوعدهم بالعقاب وهو القلب الطيب الذي لا يعرف سوى الخير . الكاتبة وهي ترسم هذه الشخصية تستخدم لغة عامية تتوافق والتكوين الثقافي لعم جبريل ، ثم تنتقل لمستوى آخر حين تتحدث عن جهله ومعاناته الشخصية حين تقول :" أنا عاوزكو تتنوروا أوي أد كده . مدوراً كفيه المتوثبتين كرأس كبير فارغ ثم ينكسها أسفاً "(ص26) وهي تحتفظ بالحوار العامي التقليدي للإيحاء بوهم المشهد ومحاكاة الواقع وذلك في مواقف معينة مع زمن بالغ الامتداد في شريط لغوي قصير ومكثف. الكاتبة تضفر تقنياتها الفنية في جديلة واحدة، وتنتقل في المزج بين الوصف الخارجي السمرة الداكنة ، الابتسامة ، الكفين المتوثبتين ، والوصف الداخلي معاناة الجهل الطيبة، الرغبة في إصلاح البلد . وهي تمزج في فوضى جميلة ثريه بين تكرار مجموعة من أقواله بطريقة متوالية وبين ملامح من شخصيته وبين مشاهد موته وبين سؤال طفولي تراجيدي. - لماذا يقصفون المدرسة ويمزقون حارسها؟"(ص27). وعم جبريل من الشخصيات التي لا تتحدد إلا عبر المكان ويصبح المكان هو البداية والنهاية وهو الذي تتحدد به هويته.
(4) الحوار تكاد الكاتبة أن تلغي الحوار بين الشخصيات إلا نادراً ، وهي بهذه التقنية أحتفظت بكل شخصية حبيسة وعيها ومنطقها ، لا تستطيع أن تخرج منه ، ومن شأن هذا التكنيك أن يخلق جواً جحيمياً من ناحية ، وأن يصور انغلاق كل شخص في عالمه ، وهو بدون شك عالم وهمي من صنع الخيال . تقول " سوزي " وهو منولوج داخلي كشأن معظم فقرات الرواية : " أفكار شريرة ومشاعر تتسم بالقسوة ، ذلك ما أجده حين أخط سيرة أنثى كنتها ، أفتح عليها صفحة من وجهي تنعكس الأن على المرآة ، محملة بالذكريات وتلك الوجوه التي تحتفظ بابتسامة خبيثة لغرض إغاظتى والتلويح بفشلي حتى في الحزن لفقد أمي للأبد " (ص86). وينبئ تقوقع كل شخصية على عالمها الذاتي على تكلس أبنية الوعي ، النابع من عدم التواصل ومن ثم يشحب الوعي ويعجز عن تخلل الآخرين . - وهي في مناطق الحوار القليلة تنطوي على إلغاء متبادل من طرف منه لآخر فأغلب حوارها مع خالها " عاطف سليم" من طرفٍ واحد فقط ، هو من يتكلم ،و ينمحي صوتها ، فالساردة تقول نقلاً عنه: - اتحاد طلبة إيه ياشاطرة؟ - مجلات حائط إيه يا أنسة؟ - تنظيم طلابي يابنت الكلب ؟ وأنا إيه ؟ فرن عليكي ؟ مش هاتدخلي امتحان السنة دي..أضطر إلى دخول امتحان الفرقة الثانية على عكاز خشبي " (ص94). إن علاقة النص الروائي " نبيذ أحمر" بما في أذهاننا من التشكيلات الفنية الروائية المتعارف عليها يتم تدميرها في أكثر من صورة وهي حين تنطق صوت خالها فقط تشير إلى صوت السلطة،صوت القهر ، الذي ينخرس كل صوت إلى جواره ، تشير إلى أزمة جيل مهمش، عانى كل أنواع السلطة الجائرة الغاشمة ، لم ينعم بحق التعبير عن نفسه بحرية ، عومل بمنتهى القسوة والعنف ، ليس من حقه التفكير أو الاختيار ، حتى أنها تقول في النص على لسان خالها: " – بنتك بتأكل زي البهائم . حتى يصبح الأكل عادتي السرية على حائط فقري ، حاجتى للدعم تواجه بلكمة من خرافة العائلة القابضة على مصيري ، هل أسأل لماذا ؟ أم أترك كل شيء للنهايات ؟ يحاكمه عقلي بلغة فزعة بينما لساني مثقل بتجلطات قلبي المنحدر من أرستقراطية ضاربة في العفن" تدرك الراوية أنها تدخل ذاتها بمواجه هذا الرجل "عاطف" خالها، وبداخلها فقط تسأله وتقيم له محاكمة ، فهي تعيش حوارها وحريتها بداخل ذاتها . تقول " سوزي" :" ... كنا سنتزوج كما تنبأت خرفاتي " (ص117) وهذا منولوج آخر لسوزي مع ذاتها ، يعقبه مباشرة قول أسعد: " – لا تشعري بالذنب يـــاسوزي فشقاء أندريا سينتهي قبل أن تجف دموعك ، أنا أيضاً أحب أندريا ، ولا أحد في العالم يدرك حزنك مثلـي " (ص117). بعد قول أسعد لا نجد تواصلاً من الكلمات بين سوزي وأسعد فكل شخصية منكفئة على ذاتها.لقد أصبحت الشخصية المصرية صامتة ، غير قادرة على المواجهة ، حتى وأن أكتظت بالأصوات المتباينة بداخلها وهذا ما يشيع الفوضى التي أتحدث عنها. - في مواقف أخري من الرواية تظهر هناك جمل حوارية قصيرة بين " سوزي" و" عصام" وتلونها السخرية والحنق وتصفية الحسابات (ص153.152) على سبيل المثال وغيرها. - في مواقف أخرى يبدو السخط من أوضاع هذا العالم ومن أعتبارات أشخاصه فهي على لسان سهام صديقتها تقول:" أما أنت هبلة صحيح ، لا هو أنتي لسة فاكرة خالك حبس عصام أنتقاماً لعزتك ، يابنتي اعقلي بقى وسيبـــك من الأفلام الرومانسية ، ياماما ده زمن الدرما..." (ص233). - يبدو الحوار المتبادل مع شخصية شريف في نهاية الرواية، وهناك بالفعل تبادل في التلقي والرد بين الطرفين ، لكنه منتقص أيضاً أو يحوطه الشك وعدم الأمان ، عدم التوقع لشيء يهب أماناً وأملاً فهي تقول: " - ممكن تستني وتعملى المقارنة نفسها بين الشعر والقصة،... - فعلاً عندك حق لكن ده ح يحدد البحث دايماً في الشخصيات المؤثرة في الثقافة الشعبية، أنا عايزاها تكون مرجع عالمي. - ياااااه ،دا إحنا اتغيرنا خاص. - سنة والا اتنين وح ارجع - انتى عارفة بعد سنتين ح نبقى أزاي؟ - براحتك ، إنتِ في الآخر بتعملي إللي عاوزاه . " (ص265). يتم هذا الحوار بينها وبين الشخص الذي تصفه ب" ليصبح أهم شخص بالنسبة لي " (ص265) الشئءالذي أعنيه أنه لم يعد هناك يقين أو ثقة بشيء. - وتدمج الكاتبة بين الحوار والسرد، فهي تبدأالمشهد بسرد لتصف الواقع لقطات حية من مواقف مفجعة درامية ودامية من واقع مدينة تحت القذف وتصور أبعاد المشهد ، ثم تلتقط لقطة تتميز بأكتنازها الدلالي وتعبر عنها من خلال المزج بين السرد والحوار. - يتشكل الحوار في داخل خندق ولا نعرف هوية الاشخاص ، وهو باللهجة العامية الساخطة، لقسوة وفداحة الحياة للإيحاء بوهم المشهد وتصوير الواقع بنكهته الحقيقية ، تقول الكاتبة:" المزيد من الركام والجثث، ورحلة للبحث عن مسكن آخر مازال صامداً.. - لأ بجد الغارة دي جامدة. - خمستاشر صاروخ ف أقل من نص ساعة. - دا غير إسهال الرصاص إللي بيشخوه ولا الكلب. - الله يقرفك .." (ص34). نلاحظ أيضاً أن معظم حوارات " أمينة زيدان" في هذه الرواية وأيضاً " هكذا يعبثون " باللغة العامية،ويبدو أن ذلك التكنيك يعد موقفاً تؤمن به للغة الحوار.
(5) المكان ينقسم المكان الذي تدور فيه رواية " نبيذ أحمر" إلى مكانين رئيسيين :- 1- ذات " سوزي الحاوية لكل ذواتها ، فهي هذا العالم الفسيح والمضطرب الذي تتحرك فيه كل شخوص هذه الرواية وأحداثها وأفكارها، وهو مكان تجريدي لكنه يهدف إلى إسقاط الجدر بين الداخل والخارج ، عالم شواهده ومساحاته عالم اللاوعي المتشابك المعقد الذي يحتمل زلازل وهزات عنيفة ، تعبر عن تكوينات الواقع على نحو خاص. 2- الأماكن المتعينة بالفعل التي انقسمت إلي:- (أ) مدينة السويس : المدينة التي عانت الحروب والحصار والمقاومة . المدينة التي عرفت الدماء والقتل والفقد والعجز وعرفت أيضاً النبل والتضحية والشجاعة، المدينة التي يشكَّل البشر فيها خليطاً من المصريين والجاليات اليونانية والفرنسية والأنجليزية والهندية وقد أضافت لها القناة طبيعة خاصة ، فهي مكان ذو ثقافة مفتوحة على الآخرين،وفي ذات الوقت محط أطماع الكثيرين ، لذا استخدمت الكاتبة مع المكان تقنية الكادر السينمائي حيث تصلنا الحركة مرتبطة بتقديم المكان وطبيعته الصراعية مستهدفة تجسيد خصوصيته ، وطابعه الجغرافي والسياسي ، وأعني بالمكان هنا مسرح ذوات "سوزي" المتعايشة مع إخفاقاتها وصراعاتها ، والسويس المدينة ذات التاريخ الحافل بالصراعات . وتقدم الراوية أيضاً تحولات المكان من خلال عرضها لأيام الحرب والحصار والمقاومة ثم معاناة التهجير من أماكن تشكلت فيها وبها وجدان البشر ، تاريخهم ومستقبلهم لترصد الكاتبة التحول الذي حدث إبان عصر الانفتاح وتصنع مزجاً فنياً بين المكان وما أعتراه من تغير في شواهده ومعالمه ، وتغيرات الشخصيات ذاتها ولغتها وأفكارها ،و بتحول ملامح الأمكنة تتوارى الكثير من الذكريات والأفكار وتتحول شخصيه الإنسان ذاتها. فهي من خلال شخصية أسعد ترصد هذه التغيرات المكانية والاجتماعية والنفسية ، تصف الكاتبة ذلك تقول " لأسعد عينان كبيرتان مشربتان بحمرة تنتشر من بؤبوية كأشعة شمس ملتهبة، لم تكن من قبل كذلك ، وكان الآذان يناطح دقات الجرس ، تحولت الرموز لمراعى صراع دائم ... في قهوة أم كلثوم التي تتحول إلى غرزة قاتمة لا يبدو لها وجود ... القهوة هي ماكانته قبل الحرب . لم يقربها الترميم ، واحتفظت بنفس الشعارات المكتوبة بالدم على واجهتها ... كل ما علىّ أن أنظف أذني جيداً لأتقبل أن من يتحدث هو أسعد ...فأرى عينيه وقد فقدتا لونهما الأصلي ،افتــقد بهجة روحه المحــــــــبة للحياة والمعتقدة بالإنسانية " (ص123) . وتشير الكاتبة في حس واعٍ بأثر المكان في التكوين الشخصي والنفسي فالمكان هو حيز تجسد الحياة وخشونتها وتأججها ، وهو التورط اليومي في المعيش والمتحقق ولذا يبدو الأنتقال من السويس إلى المدينة الريفية التي انتقلت إليها سوزي وخيرية في عمليات التهجير تحولاً قهرياً لكلتيهما ، رضوخاً من سوزي للقهر والسلطة الأسرية الغاشمة التي يمثلها خالها ، وانتهاكاً للإنسانية وكرامة الجسد في شخص خيرية بالاعتداء عليها وممارستها الجنس مقابل المادة نتيجة للقهر والفقر. لقد وقعت الفتاتان تحت شعور مركب بالغربة وافتقاد طبيعة مدينتهم الخاصة ، والتعالي القارفي نفسيهما على المكان الجديد وأشخاصه و لغتهم وقيمهم ، تقول الكاتبة على لسان خيرية بعد انتقالهم للريف :" إنهم هناك لا يعرفون عنا أي شيء ، لا يشعرون كيف نشيب طوال الوقت لأنهم لم يشاهدوا ضحايا القتل ، ولم يشموا رائحة الأجساد المحترقة بالنبالم ... وأنا والله كنت باحبه أكثر من البسكوت أبو كمون اللي اتطرطش بدمه علىّ وأنا واقفة بعيد ، وف لحظة بقى جسمه ما فيش كوم لحمة حمراء مدخن على اسفلت الزيتية أدام قوات حفظ السلام أنهى سلام ؟ وأبويا أللي شلته الحسرة أتهد بيته وما بقاش ورانا إلا الموت في العراء ، لكن العراء هنا غير هناك ، هناك كان مننا لربنا أو لعدونا ، دلوقت إحنا وسط ناسنا وأهلينا ومذنبين طول الوقت ، حتى وإحنا بنحلم ، إحنا بالنسبة لهم حاجات وحشة ومش طبيعية....هم برضه غلابة ، الحياة بالنسبة لهم هي هي ، كله بيجي ويمشي وهو بعيد عنهم مش فاكرهم ، مش بتشوفي وأنت ماشيه جنب الغيطان كل الفلاحين زي بعض ؟ حتى لو قعد ولادهم الافندية جنبهم حيبقوا زيهم ، بيقلبو في الطين " ( ص66) . وتلتفت الكاتبة للأثر المكاني المتحرك " قناة السويس والسفن والبحارة والجاليات المختلفة" واختلافه عن المكان الثابت ورتابة أحداثه و أناسه " الريف المصري" وأثر كل منهما في التكوين النفسي لأفراده. - وفي انتقال آخر تصور الكاتبة شعور " سوزي" بالوحدة في نفس المدينة الريفية التي عاشت بها أيام التهجير ، لكنها في هذه المرة انتقلت إليها مع زوجها " عصام" تقول:" الشتاء يزرع السماء بالرعد ويبرق مودعاً ، انهمرت أمطاره سخية ، تملأ معاجن الطرقات بالطين اللزج طيب الرائحة ، الخصوبة ، أحاول ضرب رقم تقديري لخطواتي بهذه المدينة اللصيقة بي كرائحتي طوال سنين عددا " (ص154). ثم تصفها في تحولٍ اخر في حياتها بأنها " قرية تلتهم الأيام والأسابيع والسنوات " في الظلمة الدائمة بنهم وحشي ، وأنا أمارس أسرى الطوعى وانتقل بين الرؤى بحثاً عن حلم ملائم لذهن مسحول" (ص155). تمنت " سوزي" من هذا المكان أن تنتقل خصوبة أرضه إلى جسدها ، لتكتشف بمرور الوقت أنها ضائعة بحثاً عن حلم لن يتحقق ، وحين تحقق تخلصت بنفسها منه لأنها لم ترد أن يأتي في هذه الظروف، ولهذا الأب. وينمحي خصب المكان ويستبدل بالعقم الذي تصفه بقولها:" لم نصبح أصدقاء ولا حتى أزواج، ولم أحصل على طفلي ، لكن بالمناسبة هذه ظاهرة على معظم جيلي" (ص157). تحولت القرية المصرية مصدر الخصوبة في هذا التكوين المصري الحديث إلى أرض عقيم ، قدم تناقضه المباشر في حالة ضياع هذا الجيل المعاصر ، والعقم هنا لايشمل الجسد والأنجاب فقط، بل يشمل الروح والنفس والفكر والعمل والإبداع ،هي جوانب الإنسان المختلفة. وفي إشارات سريعة بنهاية الرواية تشير الكاتبة إلى القاهرة ، لتعطيها مذاق التاريخ والعراقة والثبات ، لتهبها في حس درامي الاحساس بالتجذر والعمق ، وفي ذات الوقت توالى الحضارات والامتداد ، والحركات سريعة الإيقاع ، وربطها بالأشخاص " عصام" ومحاولة التخلص من طيفه ذاته تقول " ذلك ما فكرت فيه وأنا أطرد طيفه الصالح تماماً كواسطة انتحار وسقوط مميت فوق السطح الموطئ لأربعة طوابق في بناية قديمة تحتل مثلثاً واسعاً على خارطة العالم بحدود النهر الخالد ، الذي يتجول بوهن عبر طبقات الوطن ، أجول بتلك العواميد الضحام الممتدة لعمق السماء الداكن ، كمعبد يتأكل برشح الضوء ، أبحث عن شخص ما ، تجرع ترياق الخلود من رحيق الحجارة ، وحفظ كل حقائق التحنيط بداخل رأسه الملفوف بوثائق تقيه تحولات الصخر ، وكأنني أبسط فرشتي ، لأنام في الليــــل تحت قدميه، وفي النهار أدق بشفرات سحرية ، وأنا حافية فوق الأرض البازلتية المسكونة بذكرى بعيدة لقياس قدميه ، تتحد قدمي بأثره، أكتم سراً مسحوباً عنــــــــوة من حصاري الصخري" (ص245). يبدو النهر في هذه المدينة العريقة نافضاً ومطهراً لعقود من الفشل ، وممثلاً لبعث أمل جديد، وحب حقيقي ، ورجل تتحد قدمها بأثره ، كأن هناك بقايا أمل في نفس هذه البطلة التراجيدية، لتواجه مباشرة بضياعه ، هل ننسى أننا بإزاء تشكيل روائي يتوافق مع واقع مضطرب فوضوى لا يهب أماناً لفترة تتسم بالثبات . " تسقط سوزي أحاسيسها في الأنفاق المظلمة " (ص251) في نفس المدينة التي لوحت لها بالأمل لتقنصه منها مباشرة تقول:" التحم به وهو يرقص ثائراً متوهجاً بأضواء ميدان التحرير، والجموع تتظاهر باسم شهداء الحدود ، صراخ ، صور زخمها الدم ، كل شيء يتشكل ويفور تحت النار ، بينما حدقتي المسلمتان بكل شيء وبلا شيء ، تتسعان لمعانقة سخطه وهوسه ، وأمنحه جوازاً مجانياً ليدخل بروحه إلى حجراتي المسرطنة بهياج هستيري، وهو لا يقطنني ، زيارة خاطفة ويهجر لأسباب أمنية ، فقد أصبحت بالنسبة له، وبعد فترة قصيرة – صفحة في ذاكرة مواعيده ، موثقة ببصمة الصوت على أشرطة تسجيلات أمن الدولة " (ص251). في بلد يحكمه العسكر " الكباتن الصغار في السن والتربية " (ص251) يضيع الحب ، ويضيع الأمن وتضيع الحريات ويضيع أرتباطنا بالآخرين ، ونعود نهرول لذواتنا ونتساقط في الفوضى. التناقض بين التاريخ والأصالة والقيم الغنية ، وبين الشمس المحاصرة خلف المآذن والنظارات السوداء التي تخفي بريق العيون وتخفي معها الأمل تقول الراوية :" التقيت بشريف ، أخبرته بخطتي البحثية الجديدة – يهوذا في الأدب المصري والأدب اليوناني – دراسة مقارنة،وقال بابتسامة لم أدرك مقدار تهكمها بسبب النظارات السوداء التي ارتديناها ، نحن نجول حى الحسين بالدور المعتقة التي تبخ برودة الخريف ،و الشمس محاصرة خلف المآذن تلمع أشعتها على الطرقات المفتوحة ككنز من الضوء يسمى " مصر عتيقة " مفتوح على درر ولآلىء محلقة" (ص264). تستنجد الكاتبة لشخص " سوزي" ، وأملها بحياة جديدة ، بكل حضارة مرت على هذا المكان العريق " القاهرة " كأنها تنتظر منها دعماً وأملاً ، لقد صنعت الكاتبة مزجاً موفقاً بين المكان والأشخاص ليتداخلا ويتحاورا، ويسهما في التشكيل المتبادل. شكل المكان إذن في هذه الرواية شواهد الهزيمة والانسحاب والاستشهاد والقتل ، مثلَّ أيضاً الإحساس بالغربة والفقد ، فقد النفس والآخر الذي يحقق التواصل ، ومثل الاخفاق والانكسار وضياع الأحلام والعقم ،مثَّل التاريخ والعراقة وبقاء الأمل في النفوس حتى وإن بدا الواقع قهرياً أمنياً مظلماً.
(6) الزمن ويمتد الزمن في رواية " نبيذ أحمر" لأكثر من أربعين عاماً ، ولذا ففيه طابع التشابك والامتلاء ، ذلك لأن الكاتبة صنعت ربطاً بين هذه الأعوام في حياة البطلة " سوزي" وما مر على الوطن من أحداث كبرى ، تمثلت في الحرب والمقاومة والحصار والتهجير ثم إعادة البناء، كما أن هذه الفترة في تاريخ مصر أتسمت بالاحتقان ، وتوالي الأحداث والمتغيرات المزلزلة للكيانات ، لقد توالت على مصر بعد الملكية، ثورة يوليو والتأميم والحروب ، والأفكار الاشتراكية والشيوعية ثم الرأسمالية وفترة الانفتاح وما تبعها من تغير في القيم ، مبادرة السلام ورفض التطبيع والمظاهرات والهزات المختلفة التي توالت على الكيان المصري الرأسمالي الهزيل . - وبالرغم من أن رؤية الزمن في " نبيذ أحمر" تبدو من منظور واحد ، منظور " سوزي" الراوية، إلا أنها تعد رصداً متغيراً متطوراً ممتداً في زمن محدد ، كما أنه نتاج تاريخ طويل، لذا يبدو العالم الذي تخلقه الرواية معقد ، متعدد السطوح لتعدد مراحل البطلة، وثراء الفترة الزمنية بالأحداث في هذه الأربعين سنة المنصرمة. - عرضت الكاتبة نصها معتمدة على تقنية العودة في الزمن والصعود به متنامياً حتى هذه اللحظة التي تقص فيها روايتها ، وهي برغم إيهامها لنا بذلك إلا أنها تحركت في الزمن متقافزة ، مستخدمة لمنطق الاستدعاءات التي تنادي أو تستحضر إحداها الأخرى ، ولذا فقد أتسمت الرواية بحرية التعامل في الزمن ، دون الاعتماد على تسلسل زمني محدد، وهو ما أشاع في الرواية منطق الفوضى المقصودة للدلالة على رؤية محددة لهذا العالم بقضاياه المشتبكة بالزمن ، والعالقة بالأيام.
(7) -الرمز يحتوي النص الروائي " نبيذ أحمر" على بنية رمزية متعددة المستويات ، فيتبدى النص تكوينا فنيا معقدا، دالاً بتعقده وفوضاه على استقبال محدد لهذه الحياة. ويتميز استخدام الكاتبة للرمز بوضعه في المنطقة الملتبسة، فلا يستطيع المتلقي أن يحدد معالم هذا الرمز ،بل تضعه الكاتبة في منطقة تأويل مستمر ، ويحتمل الرمز لديها أن يظل منطقة شائكة لا نستطيع أن نحدد لها معالم طيلة الرواية كالمرآة في النص، فهي تظل هاجسا لدى القارئ ، إلام ترمز هذه المرآة ؟ تسلك الكاتبة في رموزها طريقة تداعي الأشياء للأشياء فهي لا تشكل رموزها دفعة واحدة، بل تتشكل الصورالرمزية درجة تلو الأخرى مما يهب الرمز عمقاً وكثافة ،ووجوداً يقترب من أسطورية الأشياء،وتبدو في صورة من التحدد النسبي بعد انتهاء الرواية ذاتها ، بعد أن تتقارب العناصر وتتداخل، وتستخدم لصنع هذا لغةً تفقد الحدود الواضحة بين علاقتها، في ضرب من المجاز الذي يُجهد معه المتلقي ليصل إليه الإيحاء بتصور ما ، واستطيع أن أبدأ استعراضاً لبعض رموز هذه الرواية مستهلة ذلك بالعنوان " نبيذ أحمر". بدءاً من عتبات النص ، ورسوم الغلاف التي لا أؤمن بانتمائها إلى مبدع العمل الأدبي كليه لتحولها إلى رؤية الفنان التشكيلي ،الذي امتلك تفسيره الخاص للعمل، الذي ربما يبعد مسافة عما يراه صاحب العمل الأدبي ، أقول إن الغلاف بهذا التدرج اللوني للأحمر القرمزي والأحمر الفاتح ثم اللون الروزي ،هذه الدائرة المشبَّعة بالدماء التي تصنع دوائر حلوزنية تشبه حالة ولادة من رحم أنثى ، حالة ولادة حذرة مفتقدة للوعي، في بؤرة هذه الدائرة جنين قاتم اللون مغلق، لم تحدد له ملامح ،ولا يُعرف أهو على قيد الحياة أم فارقها ، وأتصور أن عنوان " نبيذ أحمر " يرتبط بهذا الغلاف فالرواية تبدأ كما ذكرت سابقاً من لحظة توتر فاصلة، وهي لحظة اختيار حياة قادمة ، والنأي عن أربعة عقود من حياة لم تحقق هدفاً ولا معنى لها،هذه اللحظة لحظة الاختيار تعد ولادة ، ولادة في حالة تشكل مستمر ،وهي لاتملك أسباب الحياة الواثقة في التحقق ،لما لها من تاريخ مخصب بأخطاء بشر ووطن وأفكار ومنهج وحياة، فهي ولادة حذرة لا تمتلك وعيها بالقدر الذي يضمن لها الحياة بعقل وكيان متزن . وأتصور أن هذا الغلاف وهذا العنوان المبهم المتأرجح يتناسب بقدر كبير مع التكوين المصري المعاصر، فالواقع المصري في حالة من المخاض الذي لا يكتمل لمعوقات كثيرة ، الناتج دائماً كائن ملتبس لا يمتلك أسباب الحياة ولا أسباب الموت ،حالة من التيه المطلق. - نبيذ أحمر أيضا دلالة على لون حياة محتقن متمايل ، لون حياة يحتمل الالتباس والفوضى قادر أن يحمل على ظهره السعادة والحزن ، الحرب و الأمان، الحياة والموت شيء نتجرعه ونحن منتصرون أو منهزمون ، قادر أن يحمل التناقضات وفوضى العلاقات في هذا العالم المتشابك. تقول الروائية :" فالدم والجمر يمتزجان ليصنعا ضريحاً مفتوحا للحضارة والناس " (ص37) " شاركت أندريا كأسين من النبيذ الأحمر اللاذع ، تخففت على أثرهما حتى صرت كغبار يظلل واحة حرب تدحض رعبا غازيا بمدافع خيالية تنطلق بغير خشونة أو تشاحن" (ص7). " زيارتي حركت كراهية مترددة وأضرمتها ، لتجعل المسافة الوهمية بيننا تتمدد وتتمدد كالدخان الصاعد من الغلاية التي تقلب في غليانها وردات الكركديه القرمزية" (ص124). " أندريا؟ مش فاكرة غير كلامه وخرايط دمه بلون نبيذ أحمر (ص227) الحياة المحتقنة بالدماء والحرب والحصار والتهجير وافتقاد الرؤى ، الحياة التي تتحقق من خلال علاقات مشوهه ، أولا تتحقق كما يرنولها الإنسان أبداً . مزج الألوان كلها بالرواية تعطي هذا اللون الأحمر بدرجاته المتنوعة، وهي إن لم تنص على النبيذ الأحمر فهي تستخدم دوال أخرى تعطي نفس الإحساس بالتوتر ،والحلم بالدفء في ذات الوقت. " بلاسقف لأي أفاق فقط الحوض الأبيض ، أتقيأ الدخان والنبيذ الأحمر والبقع البنفسجية تطرطش على الحوض بغير نظام، أجأر بالوجع أرغب أن يسمعني عصام، ربما لو سألني عما بي لاختلف قراري " (ص191) . " وتبقى زجاجة نبيذ أحمر سامقة بقوة على المنضدة الواطئة " (ص239) هذا العنوان الملتبس إشارة لعلاقات ملتبسة فوضوية متناقضة متجاوزة ، يتجاور في هذا العنوان كل دلالاته، فكما هو قرين الحب والرومانسية، قرين أنخاب الشفافية والتحليق قرين الضياع الناتج من الحرب والدم ، والقتل والحصار والغربة والتهميش، وافتقاد اليقين والهدف، والتأرجح في المواقف ،وهو في كلا النقيضين وجود لا يتحقق، وغير خاضع للعقل أو الثبات . النبيذ الأحمر الذي بلون النار المتأججة التي تصطلي فيها الأشياء وتنصهر في تحولات مستمرة وتتوالى الحياة ضبابية عابثة متأرجحة بين الوعي واللاوعي . تقسم الكاتبة الرواية إلى مجموعة من العنواين الداخلية مثل " مدخل " " أربعين عاماً من البطء " "كوزموبوليتان"،" امرأة في العاشرة "، فصل ثان" "ماركسسيزم "" من أول نظرة ، فصل ثالث شيزوفرينيا " " منطقية ومتوقعة"، فيميسنت" أربعون في واحدة "المختتم" وعادة ما يلجأ الروائي إلى هذه العنوانات الداخلية حين يتكئ على تقنية السارد المنفرد ، وتعد العنواين إشارات أيديولوجية ، أو إشارات محايدة للنص ،قد تشى بالمحاكاة الساخرة أو تأنس بالمصطلحات العلمية. ويتبدى التكوين العائلي لأسرة " سوزي" تكويناً منغمساً في الرمزية الموحية ، فنحن- على مسرح أحداث وتاريخ هذه العائلة – نجد شخوصها تتحرك وفق خطة يتداخل فيها الرمز بالحقيقة ولا أعلم مدى تحددها في ذهن الكاتبة ، فالجدة شخصية نمطية لكنها كفيفة كشأن معظم الجدات حسب ما تذكر الرواية ، وأرى أن الكاتبة قصدت ذلك لتشير إلى أن الموروث الذي يواجه المرأة في المجتمع المصري " الشرقي" موروث مظلم ، لا يرى النور أو يدفع بلانطلاق إلى الأمام ، فهي من خلال تقنيه الأحلام والكوابيس ، تلك التقنية التي تعطيها براح التشكَّل التجريدي الخيالي ، وتلوح في ذات الوقت بصورة منه صور الحقيقة تقول عن جدتها " جدتي تزورني وهي تدق جسدي بالعصا التي تتكئ عليها بعماها ، في تتابع دائري تدسه في الوحل القاني ، وأنا أحاول أن أبقى نظيفة ...." حاجة كدة زي العجل في بطن أمه" (ص5) ،وتقول عنها وهي تصف تجربة زواجها من عصام " كانت جدتي هي التي مهدت أرض ضعفي في فراش الحواديت بمفرده الانتظار الكئيب انتظار رجل يدرك شفرة الإسطورة، رجل يقيني بتعويذة مسروقه من حنك السبع لعنات الشر التي تعوق حياتي " (ص142)، يأتي الأب بساقه المبتورة ليرمز إلى وطن منتهك ، أو سند مبتور ، تحاول بطلة الرواية رأب صدعه وعجزه المستمر دون فائدة ، فتظل معلقة إلى الوراء، إلى تاريخ تصورت به أمناً فلا يتحقق . وعلاقة الأب " بسوزي" على مر مراحل الرواية علاقة تتبادل فيها الأدوار فهو الذي أقحمها في عالم الرجال ، وبث بها روح الفدائي الذي يجاهد في سبيل أرضه ووطنه ، هو الذي أراد لها التحقق وأن تصبح ذات أرادة قادرة على الفعل ، وأن تصبح أمتدادا حقيقياً له، تهبه سنداً بعد عجزه ورغبة في الإستمرار معه بعد أن تتركه زوجته وترحل بعيداً عن عالم الحرب، وهي التي تأتيه بالنبيذ والمشروبات التي تسكن وجوده العاجز في هذه الحياة، وتظل أمله في هذه الحياة إلى أن تقرر الرحيل ويستعطفها أن تظل معه. العلاقة بين " سوزي" وأبيها علاقة بين وطن وأفراده في أوضاع شائكة هم من يصنعونه وهو من يحميهم ، هم أمتداده وهو جذورهم. فهي تقول :" أبي وهو يركض بساقه المبتورة المتهدلة في سرواله باحثاً عن بلد جديد يرمي فيه بوطنيته ، وأنا أحاول اللحاق به للصق ساقه بفخذه، وهو يسرع في الرحيل وأنا أتعثر كالأعباء " (ص126) . ويظهر أبوها في الرواية أيضاً أب حقيقي فهو موظف صغير ، ترزي ، وفرد من عائلة ظلمته في توزيع الميراث ، ورجل محب لزوجته المتعالية عليه ،وأب حانٍ يعطيها قدراً كبيراً من الحرية " أنت حرة ، خوضي تجاربك ، لكن حافظي على نفسك " (ص268) ، فدائي مقاتل في سبيل وطنه ، الشخصية هنا رمز وحقيقة في آن واحد ، وهو ما يضفي على النص هذا الثراء التأويلي الملتبس والفوضوي الغنى . وتتخير الكاتبة صورة الأخ في هذا الرمز الملتبس، فهي تراه في كابوسها " أخي سليم طفل يحبو ...يتوقف ليقلب في خرائه الذي انطلق منه لا إرادياً ...يتذوقه ، ليصاب بنزلات معوية مزمنة ، تعاوده على فترات ، وتبقيه على هزاله وهذيانه طوال الوقت ،خوفاً من أن تفاجئه نوبة الإسهال فيقرر ألا يغادر البيت.. إلا ليعود سريعاً ، ويجتاز حجرته المغلقة عليه دائماً ، عابراً بنا فقط لدخول الحمام ، وأنا انتفض مدعية التقزز والضجر اللذين يبقياني بعيداً عنه لا أحاول مساعدته " (ص6). يعد سليم الرمز إمتداداً للأب الرمز – على ما أتصور – فهما مع أسعد الصديق والحبيب الجدران الخائرة العاجزة ، فسليم هو الأخ ، الذي ظل طفلاً طوال الرواية ، المتقلب بين التزمت الديني، وسماع أغاني الجاز والموسيقى الأوربية الصاخبة ، المنطوي على ذاته، التوحدي ، الذي مثل ضياعاً مستمراً ، ولا نعرف طوال الرواية حقيقة مرضه ، الأخ الذي رغم وجوده ظلت " سوزي " وحيدة لا تجد سنداً بهذا العالم فهي تقول عنه:" أخي سليم الذابل رغم عشب ذقنه وشاربه ، وغابة شعره المهمل ، وهو مبتل تماماً ومفرغاً طاقاته في الدبيب المرعب على البساط القديم بحجرته التي يغلقها عليه لساعات ، يستمع إلى الأغنيات ويرقص بعنف على زعيقها الصارخ " (138) ، وتحكي " سوزي " عن توسل سليم لها مانعاً لها من السفر لحاجته إليها ، تقول على لسانه:" ما تمشيش ياسوزي ، المرة دي محتاجك بجد لازم تساعديني " (ص266) ولم تجد سوزي من سليم سوى العنف حتى في لحظات الهزر بينهم حتى أنها تقول له :" الحنية ياسليم ، م ضربتكش عشان ما أقـــــــدرش أوجعك " (ص248). يجتمع سليم مع أبيها مع أسعد في رمز الوطن العاجز فهي تقول:" فيما يقف أسعد عاقداً ذراعيه وهو يدعي نصف إبتسامة ، متهكماً على قلة حيلتي في اللحاق بأبي ...أو بأي شيء، التفت للخلف مندهشة من وجوده المتكرر في كابوس أبي ....فأصبح من الذين ينظرون للخلف طيلة حياتهم ببلاهة " (ص6). أسعد هو الصديق الحبيب الذي انطبعت عليه تحولات الوطن المتعاقبة ، المناضل الفدائي ، المغيب بالمخدرات فترة الانفتاح ، المسيطر على عالم غريب ، امتلك الفندق والمسبحة وسيجارة المزاج ، ثم هو من يمتلك ترسانة كاملة من الأسلحة الخفيفة والدولارات والأفراد والمخدرات، سلطة خبيثة محكومة بالموت في كنف سلطة أعلى ، انتهى أمره قبل موته بكونه رسالة تهديد لمن يلوك السيرة القذرة لوزراء التقاوي الكيماوية (ص28) حَمّلته سوزي ذنب رحيل أندريا وهو منه براء وينتهي بموته على صدرها. ويرمز خالها " عاطف سليم " إلى الرأسمالية المصرية الخائرة التي لم تتحقق في صورة مكتملة أبداً ، فهو الوريث الأرستقراطي لأبيه سليم بيه " عاشق الغلمان " الذي اختفي بفضيحتة، وهو يمثل السلطة الغاشمة غير المتحققة ، ولقد طاله من قوانين الثورة التأميم وتقلصت أملاكه، وعلاقته بالوطن علاقة ملتبسه فهو ليس أكثر من أداة لتنفيذ تخبطات وتغيرات الحركات الفكرية في المجتمع ، الشيوعية والإخوان والإشتراكيين والطلبة في الجامعات وغيرهم يصاب بالإكتئاب ، ويتعاطى المخدرات ، ويعالج ليعود إنسان زائف لا يبدو حقيقياً إلا بعد أن يصيبه السكر بحالة من اللاوعي ، تقول الراوية عنه :" ثم خالي الذي..تقولش عامل ربنا ...عَمّال يوزع عذابه ، ويقول للناس حبوني وخافوني ، وأنا في الحقيقة أحبه ليس كحائط قوي...ولكن كفكرة مغايرة لا تتفاعل إلا حين يغيبه المخدر في زقاق نفسه..عندها يبدو حقيقياً ، لا أريد أن أخشاه ...كل ما أردته كان العدل ، الحرية ، المساواة قياساً على شعار الثورة الفرنسية ، وربما البلشفية " وكمان ياأخي الإنسانية" (ص6). - ويأتي أندريا رمزاً للحلم الذي لا يتحقق ويظل هو المزج المتسامح النقي بين الحضارة الإغريقية والغربية وبين حضارة الشرق المتمثلة في " سوزي" ذاتها ، فأندريا مافتئ طيلة الرواية يكرر أنها جزء منه ، وأنهما كيانان مكتملان أحدهما في الآخر ، أندريا الحالم بالحرية وبالإنسانية بمعناها الأشمل ، أندريا هو حلم المرأة أو الوطن في كائن لا يتحقق سوى في الأحلام . تقول على لسانه الراوية " ياحبيبتي ، سوزي سندريلا بحاجة إلى أحذية العدل ، ليغفو قلبها في الحنان ، لأن أمنك في العطاء الحياة حق لأي شخص مهما اختلف ولاوءه، ولا شيء في العالم يهم أكثر من إنسان حر بطبيعته " (ص129) . - وتأبى الرواية والروائية أن يبقى شخصاً أو شيئاً بهذا النص دون تحول أو تغير ، ترفض أن يظل النقاء والصدق حقيقة لا تشوبها شائبة ، فلكل مافي هذه الحياة يحمل بذرة فنائه ونقيضة لنكتشف في نهاية الرواية أن أندريا إعجاباً منه بالواقعية ، هو من صنع هذه النهاية الدرامية – واقعة ضربه وتكسيره على أيدي العيال المأجورين – ليسافر ليبحث عن مستقبله لأن " سوزي" حبيبته ستعوق مستقبله ، تقول الراوية على لسان أسعد : " هو اندمج ، كان عاوز يعمل بطل ويغلب العيال المأجورين ، ضربهم جامد ، وهم ماكانوش فاهمين ، لحد ما العركة قلبت جد ، إتلموا عليه وكسروه ، شربوا تراب الشارع دمه ، هو كان عايز كده ، الواقعية عشان يصدق إنه ضحية ، نفس الدور اللي عشنا العمر دا كله نلعبه" (ص271) كأن الروائية ضنت علينا بالثوب الأبيض الوحيد بالرواية ، فلطخته بالبقع السوداء.
هوامش البحث ************** 1- للروائية " أمينة زيدان " ، سلسلة روايات الهلال ، مارس 2007م، ط/ دار الهلال ، 2- محمد بدوي – الرواية الحديثة في مصر، ص184.91، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006م. 3- بييرو اشيري – لينين ناقداً لتولستوى ، ترجمة عبد الرشيد الصادق والمحمودي " الأدب الأيديولوجيا" الجزء الأول ، العدد الأول من المجلد الخامس ،1986م. 4- تيري اكلتون : الماركسية والنقد الأدبي، مجلة فصول ،" الأدب والأيدلوجيا، ترجمة جابر عصفور ، جـ1ع1مج5/1986م. 5- صلاح قنصوه – تمارين في النقد الثقافي ، ص8و9،ط/ ميريت ،2007م. 6- صلاح قنصوه – ماذا نقصد بالنقد الثقافي، ( مقال )، مجلة الهلال ص124، ط/ إبريل، 2003م. 7- انظر مجموعة مؤلفين ، الشعرية الأدبية وديكتاتورية الروح ، ترجمة ظبية خميس ، إنهاء كتّاب وأدباء الإمارات الشارقة ، ط/1993م. 8- مناقشة د. عبد المنعم تليمة لرواية " أمينة زيدان" " نبيذ أحمر" في مركز الهناجر ، يوم 15/5/2007م. 9- إشارة د. عبد المنعم تليمة لبعض هذه المواقف تخص " سوزي" في مناقشة للرواية في مركز الهناجر.
#أماني_فؤاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سرد الومضة في رواية -وصمة الفصام- للروائي حسين عبد الجواد
-
تشظي الحبكة الروائية في -سيرتها الأولى- للروائي محمود عبد ال
...
-
قراءة معاصرة لرواية -الحرب في بر مصر- للروائي -يوسف القعيد-
-
كقطة مدللة .. - قصة قصيرة -
-
حضور الكتاب .. غياب القارئ
-
الأمل .. كيان امرأة - رؤية نقدية لرواية -زينة- لنوال السعداو
...
-
لست بعورة ..
-
السرد النفسي الشاعري في -امرأة ما- رواية لهالة البدري
-
تداخلات السرد وفوضي العلاقات في رواية -هكذا يعبثون -
-
إله حداثي يقوض الغيبي ..ويعلي العقل في - كتاب النحات -
-
بحجم اللحظة .. بل أكثر .. - قصة قصيرة -
-
الإنسان ..ونخبوية الفن
-
أحلام - فرح - .. -قصة قصيرة-
-
غطرسة البُندقية .. ورحابة المسرحية
-
- هذا أنتَ .. - قصيدة نثر
-
المقيم والعابر ..في حياة المرأة والرجل
-
النَزَعات الانتقامية .. والعدالة الناجزة
-
- حلم بلاستيك - مقاربة نقدية لعرض مسرحي
-
اللغغة العربية .. وبعض الأنين
-
تشظي الحبكة في الرواية المعاصرة - سيرتها الأولي - نموذجا للر
...
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|