فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)
الحوار المتمدن-العدد: 4430 - 2014 / 4 / 21 - 22:31
المحور:
مقابلات و حوارات
" ذروة التمرد و الترهلات الفكرية في قصيدة لم تكتمل " حوار مع المفكر التونسي ، اليساري الأديب نور الدين الخبثاني في "بؤرة ضوء"- الحلقة العاشرة من " العقلنة والإنعتاق الإنساني "
من رواق الأدب والثقافة
20.أ. عند كتابة القصيدة هل تختبئ بين ثناياها لتجسد ذروة التمرد ؟
الجواب:
كتابه القصيدة هي في حدّ ذاتها فعل مكتمل , فعل قول خالص لذاته, speach- act , حسب "أوستين ", و هو بالتالي مطالبا لا بالإخبار أو التقرير أو التبرير . هو لا يجسّد " دورة التمرّد " أو جوهره و لا نقاء الفكرة و المثال, بل هو التحقق الاستعراضيّ للتّمرّد . فالقصيدة ليست قصدا ومقصدا و بل هي تجويف له و علّة تقسم ظهر سواءه , تخرّب اطمئنانه لهيبة المعنى في عديد الاتجاهات . إذ هي باشتغالها على اللغة و باللغة فإنّها تقطع جسور مرجعيّتها و تحطّم دعوى شفافيّتها/ مرآويتها القائلة بنقل العالم على ما هو عليه , و بالإشارة المرجعيّة إلى الذوات و الأعيان مستخدمة في ذلك - في عمليّة التخريب – معاول الانزياح : بالاستعارة و المجاز و التوقف و الحذف و التكرار , و استدعاء غريب اللفظ و الاختلاق و تحريف مجاري الصرف..., و بتشكيلها للصور . تمعن القصيدة في التلاعب بمألوف المدركات و بمستحكم القيم و المعتقدات. تعيد خلط أوراق النظم الرمزيّة, تتسكّع و تعربد في ساحات حقول الدلالة , تنزل المركزيّ منها من عليائه و ترفع الهامشيّ إلى ملكوت خلق مستجدّ الرموز و عجيب عوالم القصور المسحورة . و ما لم تكن القصيدة كذلك فهي لن تعدو أن تكون سوى تناصّ كسيح متهافت و نظم مكرور, او هي تكريس لتقليد الشعر بما هو نظام لسلطان القول المأثور , موقّعا و موزونا ؟
*
*
20. ب. وكمفكر سياسي هل ستنقل من خلالها مايحدث من ترهلات فكرية ومأسي إنسانية ؟
الجواب:
انطلاقا من مسلّمة كون أنّه لا فكر و لا وعي خارج اللغة , و بما أن القصيدة هي ذلك الاستخدام المخصوص للغة المسوم بالشعريّة , فهي لا تنكتب أو تتحقق إلاّ من خلال الدفع بالذاتيّ إلى أقصى الحدود لغويّا , إلى تلك الثغور و الأصقاع و المنافي , التي تجعل من الذاتيّ كونيّا . ليكون الشاعر ذلك الكائن الذي يقتات من الضباب ...ليغدق وطنا , لا بل كونا .
و قد كتب الشاعر محمود درويش في مجموعته الشعريّة " لا تعتذر عمّا فعلت " و في قصيدته : "لا تكتب التاريخ شعرا" ما يلي:
لا تكتب التاريخ شعرا هو
المؤرّخ لا يصاب برعشة
الحمّى إذا سمّى ضحاياه
و لا يصغي إلى صرخة الجيتار
(..............)
فلاسفة و فنانون مرّوا من هناك
و دوّن الشعراء يوميات أزهار البنفسج
ثمّ مرّوا من هناك ... و صدّق الفقراء
أخبارا عن الفردوس و انتظروا هناك.
يفيد هذا المقطع من شعر درويش بتفكّر العلاقة المستشكلة بين الشعر و التاريخ / الوعي السياسي و الاجتماعي و لعلّه من الأجدر بنا أن نشير إلى تدرّج درويش في النظر إلى تجربته الشعريّة من جهة القول بأنّ للوعي بمثل هذا الموقف من " السيّد التاريخ " لديه , لم يتبلور بالوضوح و النضج الكافيين إلاّ بعد خوضه مرحلة من العناء المعرفيّ و الإبداعي و من علامات تلك المعاناة ثلاث محطات فارقة و هي : قصيدة " الجداريّة " المطوّلة , و مجموعة " لماذا تركت الحصان وحيدا " , ثم مجموعة " لا تعتذر عمّا فعلت ", التي بها غادر محمود درويش منطقة الشعر الوطنيّ المحمّل بهموم التراب و الزيتون و الوطن و المقاومة , أي الشعر السياسي و الايديولوجيّ, ليتّجه نحو الشعريّة الخالصة , الى القصيدة التي تختار شكلها و نفسها الكونيّ . إذ لم يحتفظ درويش من خزانة رموزه الوطنيّة إلاّ ببعض الأدلّة و المواطن التي من أكثرها تواترا في شعره الجديد رمزيّة الطير المهاجر: الطائر الدوريّ...
و بهذه النقلة النوعيّة التي يصفها درويش نفسه بـ " القفز إلى الهاوية ", تكون العلاقة بين الشعر و السياسة قد شهدت تغييرا جذريّا , من استتباع السياسيّ للشعريّ إلى تنويع سياسة الشعر, بالكيفيّة التي يصبح معها الشعر هو أفق السياسة و ليس العكس. و هي لعمري العلاقة الطبيعيّة الأصيلة , على اعتبار أن السياسة هي الارتهان بالمتعيّن الظرفيّ , بينما يتعالق الشعر مع الوجوديّ و المطلق الأزليّ . السياسة نظام يقوم على التغيير بالكسر و الانتفاء و الشعر منظومة تعمل بجدل الهدم و البناء. و تتحرّك دلالة " الحريّة " في القصيدة برشاقة الفراشة و بتعدد الألوان الرمزيّة بين " عيون إلزا" عند إيلوار و "بحر أيلول الجديد " عند درويش و طريق "سمرقند " عند أدونيس , بينما تعقلها السياسة في مفهوم واحد أحد كأن يكون فرضا فلسطين أو الاشتراكيّة .
و بنظرة أبعد في الزمان و المكان , نرى أن شعر المتنبي على عظمته لا تستدعي منه الذاكرة الجماعيّة -بقطع النظر عن اهتمامات المختصّين و الأكاديميين - غير صور الحكمة ذات البعد الأزلي ّ , بينما تستبعد النواحي الخاصة بمعاركه السياسيّة و و في المقابل يحفظ التداول لابي نواس جزءا اهم من خمرياته نظرا لارتباطها بتفاصيل كونيّة لها صلة بمتعة الحياة , بالإضافة إلى غياب السياسي فيها أو ضآلته .
و خلاصة القول في هذا السياق , و دون فصل للمقال , يمكننا الادعاء بأن الايديولوجيا بما هي نظريّة أفكار , و بمعنى الاعتقاد و المبدئيّة , تظلّ مبثوثة بدرجات متفاوتة في النص الابداعيّ , نظرا لأنّ لكلّ فرد عاقل بما في ذلك المبدع , فلسفته الخاصة في الحياة , فريدة أحيانا , لكنها غالبا ما تكون مشتركة تدور حول السائد من القيم و الأفكار و مع فارق في درجة الوعي الحاد بها لذي المثقّفين . أمّا عن تفضيل حضور السياسيّ في الشعريّ من عدمه, فإنّ الموقف التقدّمية حسب رأيي يفترض القبول بالتعدّد , أي بتساكن الحساسيات و التيارات الشعريّة المختلفة : للشعر الملتزم و الشكلانيّ و الصوفيّ و العاطفيّ و غيرها . وأن التنوّع كان و سيظلّ موجودا في أغلب العصور, و إن طغى اتجاه ما على غيره في مرحلة محددة. كما أنّه علينا في المرحلة الراهنة أن نغادر منطقة إصدار الأحكام انطلاقا من ثنائيّة الخطأ و الصواب الوضعانيّة , خاصة فيما يتعلق بحقول الابداع. , لندخل عصر الفكر الاحتماليّ. أمّا سلوكيّا و إيتيقيّا فعلينا الاقرار بحق الاختلاف , و بأن لا نعالج صعوبات التحرّر إلاّ بالمزيد من الحريّة , ذلك هو الشرط الذي سيتحقق باكتساب القصيدة اقتدارها الذاتيّ من خلا تأثيرها الفعلي و الجماليّ , على خلخلة الركود ...بدون إسناد معنويّ أو ماديّ لسلطتها من خارجها.
*
*
21.كشاعر متى خانتك الكتابة، وتوقفت عند قصيدة لم تكتمل بعد ؟
الجواب:
ليست الكتابة في الأصل غير نوع من ألخيانة إنها الخيانة ذاتها, الخيانة بما هي " نسيان للوجود بالاستغراق في متاهة الموجود " على حد تعبير "مارتن هيدغر " في كتابه الوجود و الزمان . ذلك أن الكتابة كتقنية رسم للعلامة القوليّة , هي في واقع الأمر أثر لما عداها , بقايا لما أو كان هنا , هي تعبير عن غياب لحضور سابق يقتصر في وظيفته على المسك بخيط واه من طلب حضور / استحضار ما لكائن انسحب بتلك الكيفيّة التي أصبح معها مضطرّا لتسجيل حضوره بوسيط الكتابة .
فالكتابة إذن هي استعاضة بنظام اختزاليّ من الأدلّة ( الخطاب , النص ) عن الحضور الكامل و الممتلئ , عن سكنى اللغة بالكلام , بفعل القول الحيّ الذي عرف عهده الذهبيّ مع الأسطورة . هو ذات الكلام الذي جاءت به النصوص الكبرى المؤسسة من التعاليم و و رسائل القول المقدّس / الوحي و النبوءات و إشراقات العرّافين ...ليستبعد فجأة و يترك مكانه لخطاب اليقين المكتوب و ويركن إلى جهة الخطابة كتقنية و أداة وظّفت لخدمة السلطة ألسياسية بعد أن تمّ إخضاعها الى القولبة و التبسيط في قواعد و صيغ البلاغة المكررة , و في محسّنات البيان و زخرفه السطحيّ .
وحدها القصيدة ظلّت تحمل عبأ الكلمة البكر, متنكّرة بحيل الاستعارة و المجاز , من أجل أن تحافظ على أسرار الترابط العضويّ بين القول و الفعل , و سجينة في معتقل " المحاكاة " ـ محاكاة الحقيقة ـ بسبب ما حكم به النظر الفلسفي الأفلاطوني على الفنون كلّها و نقلها من منزلة إنتاج المعني Sémiosis إلى درك تقليد الواقع / المثال Mimosis . فكان على القصيدة أن تتجشّم عناء رحلة « عبور الصحراء " الطويلة , مزوّدة بماء الغموض و ذخيرة الاحتمال . فهل للقصيدة إمكان للخروج العظيم الجديد ؟ و هل لها أن تكتمل ؟
لعلّه بالإمكان القول أنّه ليس هناك من قصيدة مكتملة , و أنّه ليس على القصيدة أن تكتمل , إذ لو اكتملت لتوقّف الشعراء عن القول , و لختم المعنى , و لساد العالم صمت جليديّ رهيب , أو صرير بلاغيّ عدميّ لجعجعة اليقين ؟
لذلك فإنّ الشاعر لا يبدع في الحقيقة سوى قصيدة واحدة, تظلّ مفتوحة على التخلّق بالولادة و التجدد ما دام الشاعر متورّطا في الحياة, و منشغلا بصيانة أسباب البقاء.
و مثل القصيد مثل شجرة يغرسها الشاعر فتنمو بجذع هو شخصيته الفنيّة , أسلوبه و عنوان فرادته , و تتفرّع أشكالا متنوّعة بالصور البهيجة و المخلخلة . تبدو القصيدة ـ الشجرة شبيهة ببنات جنسها, لكنها مع ذلك تختلف عنها في الآن نفسه بمساحة فيئها و بكثافة نشرها و اكتناز ثمارها. كما يتحوّل الشاعر من زارع إلى بذرة تجدّد دورة الخصب , تعود إلى التربة بقانون " تفاحة نيوتن , أو برحلة طير مهاجر و انتجاع ضباء , لتعيد معجزة النبات بالانبعاث في دورة الخلق و الابداع .
فالقصيدة التي لم تكتب بالمعنى الحرفي و المرجعيّ للعبارة , ما هي إلاّ خلق في طور الكمون , هي استراحة شتويّة تنتظر نذر الدفء لتبرعم و تتفتّح و تزهر من جديد ...
انتظرونا والمفكر التونسي ، اليساري الأديب نور الدين الخبثاني عند رواق الأدب والثقافة وسؤالنا " 22.كناقد ماالذي يعتريك حين تجتذبك بعض النصوص ، فتشمر عن أدوات النقد ، لتمارس طقوس رؤاك في تشخيص العمق الجمالي والإبداعي أو مواطن الضعف فيها ؟ "- الحلقة الحادية عشر .
#فاطمة_الفلاحي (هاشتاغ)
Fatima_Alfalahi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟