أيمن مدنات
الحوار المتمدن-العدد: 4428 - 2014 / 4 / 18 - 13:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
صفحات من مسودة كتاب طيب الذكر المهندس امجد مدانات بخصوص هبة نيسان المجيدة
.. النقابات المهنية التي حافظت على دورها الوطني والاجتماعي كانت هي المنفذ لنشاطاتنا طيلة الفترة الممتدة منذ عودتنا الى البلاد عام 1975 وحتى عام 1989.. لقد وصل عدد المحجوز جوازات سفرهم والممنوعين من العمل عام 1986 الى اكثر من (70) الف وانا من ضمنهم , ورغم انهم اعادوا لي جواز سفري عام 1986 إلا انهم منعوني من السفر وأعادوني من المطار وكنت حينها ضمن وفد نقابة المهندسين مغادرا الى بغداد ..
من احداث تلك الفترة انني وتحت الالحاح الشديد من رئيس بلدية الكرك في ذلك الحين المرحوم حمدي الحباشنه واعضاء المجلس البلدي قد عملت في بلدية الكرك ، ولم اكن راغبا .. إلا ان الحماس للخدمة وكان عند الجميع قد شجعني على العمل .. لكن كانت الجهات الامنية دائما بالمرصاد , وقد بلغ عدد كتبها الرافظة للتعين اكثر من سبعة كتب بحجة اني خطر على الامن (لانوافق على تعيينه لاسباب امنية) .. من ذكريات عملي في بلدية الكرك انني واثناء تنفيذ حديقة عامة للاطفال بين عامي 1978 -1979 حصلت مفارقة .. قمت بعمل مُجسم لخارطة فلسطين لنكتب تحته (حتى لا ينسى اطفالنا) وكانت بالتزامن مع زيارة السادات المشؤومة الى القدس , هذا العمل البسيط والمعبر عن اوجاع امة , اثار حفيظة المحافظ الذي هددني أنا ورئيس البلدية بالسجن اذا لم نقم بازالته بحجة انه يمثل شعار الجبهة الشعبية , لم نستجب وقام هو بمرافقة شخص آخر بطمس المجسم بالاسمنت وآثارة لا زالت باقية حتى الآن .. كانت معركة صغيرة , وكانت كل المعارك بكل احجامها مهمة ..
عام 1989 شكل نقطة تحول .. كان الاحتقان في البلاد على اشدة وازداد مع الاجراءات الاقتصادية التي أحدثت صدمه .. كان الذهول واضح على وجوه الناس , وبدأ انفجار غامض من الاحتجاجات في مدينة معان ..
.. كانت بداية الاحداث في مدينة معان وكانت على شكل حركة احتجاجيه وردة فعل على الاجراءات الاقتصاديه التي اتخذتها حكومة زيد الرفاعي بتاريخ 15 نيسان 1989 في رفع اسعار المحروقات ورفع اسعار بعض السلع اضافة الى رفع رسوم الترخيص والتسجيل للمركبات ..
في الحقيقة ان انفجار الاحداث في معان قد وضعنا امام تساؤل : "خاصةً وأن ردة الفعل الشعبية على الاجراءات الاقتصادية كانت متوقعه من قبل الحكومة واجهزتها الامنية " فهل شجع البعض ان تكون بداية الاحداث في المناطق الاقل كثافة سكانية والاكثر ولاءا ليسهل قمعها والسيطرة عليها وتكون منفذا لتفريغ الاحتقان .. ؟!
لكن الحدث كان اكبر من فورة غضب يسهل قمعها .. استمرت الاحتجاجات في معان وأخذت تنتشر وخرجت عن الحسابات .. في ليلة 16 – 17 نيسان 1989 اجتمعنا عدداً من القوميين واليساريين "الممنوعين من السفر والعمل ومن الحقوق المدنية التي كفلها الدستور" كان العدد الاكبر من اليساريين
واجتمعنا في احد البيوت الساعة العاشرة مساءً لكي نجعل من الحدث في الكرك حدثاً نوعيا واعطائه مضمونه السياسي الحقيقي وجعله هبه غضب شعبية على سياسات الحكومات المتعاقبة في افقار الجماهير وتكميم افواهها وحرمانها من حقوقها التي كفلها الدستور .. وحتى لا يكون مجرد حدثا عابرا وفورة غضب وتخريب كما اراد له البعض وخطط له .
في نفس الليلة (ليلة 16-17) نيسان وافق المحافظ على ان ينعقد اجتماع في بلدية الكرك يحضره تجار المدينه ليقوموا برفع مطالبهم الى الحكومة من خلال الجهات المعنية , ولكنة اشترط ان لا يحضر هذا الاجتماع اياً من المشاغبين ( عبدالله الزريقات وضرغام هلسة وياسين الطراونة وأمجد مدانات وآخرين لم اعد اذكر اسمائهم ) .. إلا ان الحق يقال ويحفظ لاهله , فقد نكث رئيس بلدية الكرك د. عبدللة الضمور بوعده للمحافظ واتصل معنا ليخبرنا بالموقف وموعد الاجتماع .
في صباح اليوم التالي الاربعاء 17 نيسان كنت انا اول من قال صباح الخير لرئيس البلدية , وكنت قد احضرت معي ورقة مكتوب عليها المطالب التي تم الاتفاق عليها في الاجتماع المشار له آنفا , وهي مكونة من ستة مطالب وكما يلي :-
1- اقالة الحكومة والعودة عن الاجراءات الاقتصادية الاخيرة في رفع الاسعار
2- تشكيل حكومة وطنية
3- محاسبة المسؤولين عن الفساد ومحاكمتهم وإعادة الاموال المنهوبة الى الخزينة
4- اجراء انتخابات نيابية حرّة ونزيهه
5- رفض توصيات واجراءات صندوق النقد الدولي لمعالجة الازمة الاقتصادية
6- الغاء الاحكام العرفية واطلاق الحريات العامه
كــان الملك خارج البلاد , والاحداث تتصاعد كثيرا والغضبة الجماهيرية تتوسع وتمتد حتى شملت معظم المحافظات الاردنيه ولم يعد للنظام من امكانية للسيطرة عليها , الى درجة ان ولي العهد (الامير الحسن حينها) اعلن في مقابلة تلفزيونية امام الصحفيين انه لم يعد لديه الامكانية للسيطرة على الاحداث ..
على اثر تزايد عدد الحضور الى بلدية الكرك انتقل مكان الاجتماع الى قاعة غرفة التجارة .. كانت جموع المواطنين الغاضبه تملأ الشوارع في ظل حشد كثيف من القوى الامنية .. في ظل هذا المناخ جرت الحوارات داخل الاجتماع في قاعة غرفة التجارة .. الحوار كان صاخب في بعض الاحيان نتيجة التباين الحاد في اراء الحاضرين حول الاحداث .. كان الحضور متنوع .. بعضه اجهزه امن ومواليين وبعضه الآخر من رجالات الكرك الغيورين ومن الشباب الوطني والحزبي والنقابي .. كان الحوار متباين .. طرف يريد ان ياخذ الاجتماع الى شجب احداث معان او اية احداث مشابهه وارسال برقيات ولاء .., وطرفنا نحن الذي يدعم ويؤيد المواقف البطولية لابناء معان ويدعم حراكهم وهبتهم الشعبية .. احتدم النقاش داخل القاعة وبدأ اصحاب رأي شجب الاحداث بالضرب على الطولات بايديهم متسائلين : مسؤولية من "حرق وتدمير البلاد" على حد زعمهم ؟! .. أجبنا بأن الحرق والتدمير مسؤولية من اشاع الفساد واغرق البلاد بالمديونية .. المسؤولية تتحملها الحكومة التي تُحمل الشعب فشلها وفسادها .. واخذ الرأي العام وبفعل موقف الشباب اليساري يميل لصالحنا .. في هذة الاثناء وعند وصول الامور الى هذا الحد الذي سعينا له , واصبح المناخ ملائما , أخذت الميكرفون وبدأت في قراءة الورقة التي كانت في جيبي والتي
تمثل المطالب المتفق عليها في اجتماع ليلة الامس .. قوبلت المطالب بالتاييد وتشكلت لجنة لحملها وإصالها الى المحافظ لرفعها الى الجهات المسؤولة . تجدر الاشارة ان المحافظ كان يتصل بين الفينة والاخرى يستعجل انهاء الاجتماع غافلا ان انقلابا بالرأي قد حصل .. حيث كان يعتقد أن المجتمعين سيخرجوا بورقة تدين احداث معان وترسل برقيات التأييد , وقد قال في احد اتصالاته "اسرعوا .. ان الناس تحاصر المحافظة" بألطبع كان هناك شخص اعتقد انه رئيس الغرفة التجاريه هو من كان يتلقى الاتصالات ويبلغنا بها اولا باول في جو متوتر ..
بعض من حضروا الاجتماع فضّلوا الانسحاب قبل انتهاء الاجتماع ليشاركوا في حركة الاحتجاجات التي بدأت مع خروج الطلبة من مدارسهم ظهر نفس اليوم 17 نيسان .. وهكذا انفجرت الاحداث واستخدمت القنابل الدخانية والمُسّيلة للدموع واطلاق العيارات النارية ..وبدأت حلقة العنف .. لقد شاهدت رجال الشرطة يهربون ودمائهم تسيل , وجرت محاولات عديدة لتوجيه
الاحتجاجات الجماهيرية عن غايتها نحو التكسير والحرق والعبث في الممتلكات العامة والخاصة ، مجمع النقابات تلقى أكبر هجوم ثم المؤسسة المدنية وبريد المدينة وبعض مراكز الاتصالات وبعض السيارات .. لقد اختلط الحابل بالنابل وأخذت قوات مكافحة الشغب بتحويل الاحتجاج الى شغب وتخريب ممتلكات لم تكن في الحسبان .. وهذا لم يكن في حسابنا , لقد اوصلنا الرسالة وتناقلتها وكالات الانباء وفتحت احدى الصحفيات خطاً مع منزلي وعرّفتني على بنفسها .. كانت هذة الصحفية هي ( لميس اندوني) التي اخذت تتصل كل ساعة تقريبا لمتابعة الحدث , وكان تعليقها في ذلك الوقت : "لقد وقعت على غرفة العمليات" , كانت لميس قناتنا للاعلام وكنا ننقل من خلالها الانباء والاحداث ووجهات نظرنا السياسية .. أقول كنّا واقصد الجميع من القوى الاخرى الذين كانوا يتواجدون عندي في المنزل .
بدأت حملة الاعتقالات في اليوم التالي , حضرت الى منزلي سيارة تحمل ضابطاً وبعض الجنود , لم يكن في حسابي انه قرار بالاعتقال .. طلبت من الاصدقاء الذين كانوا عندي الاختفاء داخل الغرف الداخلية بالبيت , فقد يكون بعضهم مطلوب ايضا , ولا اريد ان يتم اعتقالهم من منزلي , استأذنت الضابط بأن ارافقهم بسيارتي , فلم يمانع وطلب ان يرافقني هو بالسيارة وكذلك جاء معنا أحد اخوتي , ولكن عندما وصلنا المحافظة قال لأخي : "تستطيع الآن اخذ السيارة , اما أمجد فسيبقى عندنا.."
في الطريق الى سجن الكرك قابلت المحافظ الذي صافحني مصافحة ذات معنى , ثم قابلني احد ضباط المخابرات الذي سألني " اهذة هي الديمقراطية التي تنادي بها ..؟ ! ويقصد ( اعمال الحرق والسلب والعنف) , اجبته وقلت له ان هذة من افعالكم وانت تعلم ذلك جيدا ونحن لنا مطالب مشروعة وليس لنا حاجة بالتخريب .. هذة محاولات تشويه لمطالب الناس .. فأمر الجنود بأخذي الى السجن بعد ان دون اسمي ومهنتي ..
عندما دخلت البوابة واجهني من سبقوني الى السجن بالتصفيق , ولم اكن بحاجه الى ذلك .. كانت معنويات الجميع ممتازه , جلسنا وبدأنا نتداول الحديث .. اجتهد احد المعتقلين (ضرغام هلسا)وقال
بأن المحافظ يمكن ان يأتي مع آخرين لكي يحاورونا ويطلبوا منا مساعدتهم على تهدئة الاوضاع .. وفي حال حصل ذلك علينا الرفظ وعدم قبول التفاوض من خلف القضبان , كذلك علينا ان نعد بعض المطالب لتحسين ضروف سجننا وبدأ بكتابة بعض المطالب , اذكر منها تحسين اوضاع السجن .. توزيع بطانيات , السماح بالخروج الى دورة المياه .. لكن ما جرى كان غير ذلك , فقد حضر من كان متوقع حضوره ومعه نائبه واخذ ينادي على اسمائنا .. حوالي عشرين شخصا اودعونا بغرفه اخرى ليخرجونا بعدها الى خارج سجن الكرك .. فوجئنا بأعداد غفيرة من الشرطة تحيط بنا من كل جانب وكأننا ظاهرة غريبة تحت مراقبة مشددة .. اركبونا باصا صغيرا من باصات الشرطة كان في مقدمته سيارة شرطة مسلحة وخلفنا مثلها وعرفنا اننا متجهون الى سجن سواقة .
لاحظت نوعاً من الإتزان بالإجرات ، وأدب عالي في سلوك السائق والشرطي المرافق الذي كان يجلس بجواري وكنا على معرفة سابقة ، أخذ الشباب يغنون الأغاني القديمه المعروفه من أيام الكفاح ضد المستعمر..." يا ظلام السجن خيِّم ..." واغاني واهازيج أخرى " عن كلوب والأوطان و التحرير.." كانو بشكل ما فرحين، بينما فتح سائق الباص بكل هدوء وأدب الراديو على أغنية كانت بالمصادفه اغنية "ليلة الوداع" ... لعبد الوهاب .
سار الباص في شوارع الكرك ثم قطعناها متجهين شرقا الى القطرانة .... وهناك صادفنا شاحنات تنقل معتقلين من معان ... وعندما دخلنا سجن سواقة كان يعج بلإنارة وحركة السيارات واعداد غفيرة من المعتقلين ويسود الهرج والمرج ، قبل الوصول الى السجن مال علي الشرطي المرافق .. وطلب مني ان أخبر الأخوه بأن هناك إجراءات تنظيمية في السجن لا بد من إطاعتها ولا فائده من مقاومتها ، فأبلغت الشباب فردوا : نحن جاهزين لأي شيء ما عدا المحرمات ، عندما توقف الباص أخيراً ، صعد رجل شرطة إلى الباص ، وبنوع من الإحساس بحجم الوجبه الكبير ونوعية من فيها، قال:"دعونا نبدأ بأجمل شعر.." وأشار عليَّ بالنزول...فنزلت ، وأجلسوني فوراً على مقعد وكان هناك حلاق السجن الذي أزال كل شعر رأسي و لم يبقي له أثر ...رغم أني لم أحلق (على الصفر) حتى عندما كنت طالباً في الإبتدائية.
أعطوني أفرهول أزرق و فتشوا جيوبي و وجدوا الورقة التي كان "ضرغام" مصرا على تقديمها للمحافظ عندما كنّا في سجن الكرك وفيها مطالبنا المذكورة سابقا , والتي كانت تنطلق من ان الادارة قد خضعت للمطالب الشعبية ..
في اليوم السابع لوجودنا داخل السجن , وبعد ان جمعونا في مجموعتين وفي مهجعين كبيرين متجاورين , وصل عدد المقيمين فيها الى حوالي المائة وعشرة من المعتقلين من مختلف الاحزاب والقوى والحركات السياسية المحضورة والممنوعة .. الشيوعي والبعث بشقيه وبعض اعضاء المنظمات ، جبهة شعبية وديمقراطية ومستقلين قريبين من الاحزاب وبعض التنظيمات الاخرى .. في حوالي الساعة العاشرة ليلا , حضر الى المهجع بعض رجال السجن ومعهم قائمة باسماء , اخذوا ينادوا على اصحابها .. كان الجميع من ابناء مدينة الكرك /المحافظة , ومن مختلف التنظيمات , وبرفقة اشخاص ليس لهم علاقة بالعمل السياسي من قريب او بعيد , بل هم من اولائك
المتهمين بالسلب والنهب , اذ كان هناك العديد منهم .. قسّمونا الى اربع مجموعات و وضعوا في كل مجموعة واحد او اثنين من السياسين "كانت حركة مقصودة وذات معنى قبل بدء التحقيق" .. بدأ التحقيق .. كانت هناك لجنتين للتحقيق , وكان الاستدعاء للتحقيق يتم عشوائيا من المجموعات التي قسموها .. كنت آخر واحد من المجموعات الاربعة عندما وصلني الدور , وكان قد لفت انتباهي قرب غرفة التحقيق من الكريدور حيث كنّا نصطف قبل التحقيق , كنّا نسمع ما يشبه الضرب للاشخاص الذين كانوا يدخلوا للتحقيق , بعضهم كان يخرج وهو يحمل حذائه بيده .. كان واضحا ان هناك اجراءات .
وبعد ان فرغ المحقق من الجميع ولم يتبقى إلا انا , غادر الغرفة وغاب ما يقرب النصف ساعة .ثم عاد ودخل الغرفة ونادى قائلا : تفضل يا "مدانات" تبعته ووصلت الى منتصف الغرفة ووقفت , كان يجلس وراء طاولة , لفت انتباهي ان الغرفة ليس بها سوى طاولة ومقعد مجاور لها غير ذلك المقعد الذي يجلس علية المحقق , سادت فترة صمت قصيرة ثم قال: أنت سمعت ما جرى للذين دخلوا قبلك و لكننا سنتعامل معك أنت بمستوى العلم الذي لديك ولن نلجأ إلى نفس الأسلوب إلا اذا أجبرتنا على ذلك ، لذا أرجو أن تكون متعاوناً ، واكمل قائلا : أريد أن أقول لك شيئاً : "نحن نعتبر أن الإحتجاج الشعبي حق دستوري......"، (كانت هذه مقدمة حسنة..). قلت:ليس لدي شيء أخفيه، كل ما عملناه كان علنياً ولم نفعل شيئاً سرياً. قال: أذن، تفضل واجلس .. جلست على المقعد المجاور للطاولة ، وكان هو يستعرض ملفاً موجوداً أمامه ..
سرحت في الخيال : كان الوقت منتصف الليل ، أرتدي أفرهول أزرق ، حليق الشعر، و أنتعل شاحوطة جديدة اشتريتها من داخل السجن .. قبل يومين أو ثلاثة كانوا قد سمحوا لزوجتي وأبنائي بزيارتي من وراء الشبك ، اشعرتهم أن الجميع بخير ورفعت من معنوياتهم "خصوصاً الأولاد"، وطلبت منهم ترتيب شؤونهم لأن المسأله قد تطول .. الاحتمالات كلها مفتوحة .. كنت أجهِّز نفسي لاقامة قد تطول ، لكني في نفس الوقت كنت على قناعة أن عقارب الساعة لن تقف عند هذا الحد , ناهيك عن عودتها الى الوراء .. لقد انتهى عهد الخوف... كنا نشعر بالحماس والراحه و الثقه بالنفس ، اضافة الى شعور بالفخر، صحيح أنني استدعيت على مدى السنوات السابقة أكثر من مرة لكن هذه المرة مختلفة ، احساسنا بالقوة ناجم عن شعورنا بان النظام بدأ يواجه ازمه عميقه بسبب سياساته التي طالما نبهنا الى نتائجها .. وها نحن نشهد انتفاضة شعبنا على عرفيته وغطرسته وسياساته المدمرة التي قضينا العمر نكافح ضدها ونحذر من خطورة نتائجها....
أعادني الضابط بأدب جم إلى الأجواء التحقيق...
سؤال: أعرف أنك بعثي، لكن لماذا كانت علاقتك قوية مع الشيوعيين؟
جواب: نحن ليس لدينا تنظيم حزبي .. الحزب الشيوعي حزب منظم له هيكله التنظيمي ونحن افراد كان لا بد لنا من التعاون معهم .. نشعر بسهولة التفاهم معهم، وهم أصدقاء لنا.. وهذه هي القصة.
سؤال:الإحتجاج الجماهيري حق دستوري ولا غبار عليه ، ولكن لماذا التخريب؟
وهنا استعملت إشارة أوضحتها بحركة من يداي الإثنتين لرسم علامات استفهام
وقلت: نحن لم نقم بأعمال التخريب ورغم أن الإحتجاج الجماهيري في ظروف مثل ظروفنا قد يرافقه بعض العبث إلا أنني أضع إشارات استفهام كبيره .. هناك من تعمد توجيه الإحتجاجات بإتجاه التخريب .. لقد لاحظت وجود أشخاص ملثمين وغرباء عن البلد وكانوا يتحركون بين الناس و يجهونهم بإتجاه تخريب المحلات.
سؤال:ماذا تقصد أن لديك شكوك وإشارات إستفهام كبيرة ؟
جواب:أساليب توجيه الشغب وهذه التجارب مررنا بمثلها ، ونعرف أن رجال "مكافحة الشغب" يستطيعون فعل ذلك.
سؤال: من كتب الورقة – الوثيقة التي تم تقديمها و تسليمها للمحافظ في الكرك؟
جواب: أنا كتبتها وبخط يدي ثم قاموا بطباعتها و تسليمها للمحافظ.
سؤال: هناك بند تطالبون فيه بمحاسبة المسؤولين عن الفساد ومحكماتهم وإعادة الأموال المنهوبة إلى الخزينة ، كيف يمكن إعادة أموال أصبحت في بنوك خارج الأردن،في سويسرا والنمسا؟
شعرت بنوع من الرضى والراحة لهذه الصراحة وهذا الاعتراف الضمني بأن ما طلبناه كان معترف به لدى الأجهزة ، كان في سؤاله جواب عليه , واستجابة ضمنية لطلباتنا ومع ذلك أجبته: إذا توفرت الإرادة السياسية فإن المسألة تصبح بسيطة جداً وقد جرى مثل ذلك في بلدان أخرى ، الفلبين، إيران مثلاً، ليعيدوا جزءاً مما أخذوا لصالح الخزينة.... ودارات أحاديث كثيرة وأسئلة من هذا النوع وكان هناك سؤال كما يلي : أعرف أنك مهندس وأوضاعك المادية مريحة ، فلماذا تشارك بإحتجاجات عامة الناس الذين يمكن فعلاً أن تكون أوضاعهم المعاشية غير مريحة ، أنت لديك أعمال ناجحة؟
لم أستغرب السؤال، بل إنه جزء أساسي من سياسة عدم الإعتراف بالحراك الشعبي وعدم ادراك مخاطر سياسات القمع والتنكيل بالنشطاء السياسيين وتغييب الجماهير ومحاربة العمل الحزبي وأثر الاحكام العرفية في النتائج التي وصلنا اليها ..
فقلت : القضية كما تعلم ليست شخصية وحجم الاحتجاجات يعبر عن حجم الضرر الذي وقع .. الناس عندما خرجت الى الشوارع خرجت من وجع اصابها بسبب سياسات ليست هي المسؤولة عنها , لكنها هي من تدفع الثمن .. ورغم ذلك أنا جزء من هذا الشعب والناس، أهلي ، إخوتي ، جيراني ..إذا لم يكونوا مرتاحين فلن أكون أنا ايضا مرتاح والمسألة سوء إدارة البلاد و المال العام... و هذا يعنيني.
اعتذر الضابط على أنه ليس من المقيمين في السجن و لا أعرف لماذا، و قال: إن لدينا مهمة
محددة وأنجزناها ، وسوف أعود إلى عمان.
سألته عن الوقت، فقال أن الساعة واحدة بعد منتصف الليل. قام وقمت تصافحنا و غادرت غرفة التحقيق و أنا أدير الفكر في هذه السلاسة والتي أعتبرتها مؤشراً على ما سيجري في الأيام القادمة، إن ما جرى ليس تحقيقاً يقصد منه المحقق البحث عن جرم ، فلماذا عندما طلب مني التوقيع على المحضر ، وقعته دون قراءته ، فقال: ألا تريد قرائته قبل التوقيع؟ فقلت له : إذا كتبت ما قلته لك،
وأحسب أنك كتبته فقط .. فأنا واثق من محتوياته.
في اليوم التالي سمحوا لزوجتي وأولادي بزيارتي من وراء الشبك ، وكان هذا مؤشر آخر على أن دُعات الضرب بيد من حديد على "أعمال الشغب" يقابلهم من يريد تهدئة الأمور ..
قبل مغادرتنا السجن بيومين ، جاء من يخبر د.رياض النوايسة أن هناك من سيتم تحويلهم إلى المحكمة وبشكل خاص "أنا و هو" وأن هناك احتمال أن يصل الحكم إلى عشر سنوات ، وقرر د. رياض البدء بالإضراب عن الطعام حتى يتم الإفراج عنه ، واقترحت عليه أن نُضرب عن الطعام معاً، فقال: لا، أضرب أنا وحدي. فجلسنا لنكتب رسالة لإيصالها إلى الخارج ، ونعلن بها البدء بإضراب عن الطعام ونطالب بالإفراج .... في اليوم التالي تم الإفراج عن د. رياض وعني ، وقد رافقنا مدير السجن عبد القادر العوران وكان شخصاً جديرا بالاحترام ، حتى أنه وأثناء مرافقتنا إلى البوابة الخارجية سألني : مهندس أمجد، كيف ترى السجن؟
قلت: و الله في الأيام الأخيره كان كويس ، طلعنا تشمسنا.
قال: لا، أقصد كم تعتقد أن مثل هذا البناء يكلف إنشاؤه؟
قلت: أذكرأنني أشرفت على تنفيذ أعمال تصل في حجمها الإنشائي إلى نصف حجم هذا المبنى، وكانت كلفتها حوالي مليون و نصف المليون دينار ، فلنفترض أن هذا السجن و بسبب الموقع كانت كلفته ضعف ذلك المشروع فستكون الكلفة لا تزيد عن ثلاثة ملايين و نصف المليون دينار.
قال: وإذا قلت لك أنه كلَّف تسعة ملايين؟
قلت: يعني ذلك أنهم لطشوا ستة ملايين ، أليس هذا هو المال المنهوب ..؟ ألسنا على حق في إحتجاجنا ؟
كان واضحاً أن هناك انفراج أو قُل تراجعاً عن الضرب بيد من حديد، و بدأ حديث رسمي عن فكرة إعادة البناء و وضع ميثاق وطني ..
و كان قد تم إقالة رئيس الوزراء زيد الرفاعي منذ وصوله مع الملك قادمين من أميركا،كان ما جرى حركة سياسية قابلة للإستثمار لولا انها جائت في مجتمع احتجَّ نصفه بينما ذهب نصفه الآخر لإعلان الولاء وإدانة الأحداث ، حيث استقبل الديوان الملكي الوفود من مختلف المحافظات تعلن
إدانتها وبرائتها من الموقف الشعبي .. وهذه مفارقة لا تقوم إلا في مجتمعاتنا القابلة للتمزُّق وعند أنظمة استفحل فسادها ولا تعنيها نتائج سياساتها ، مهما أثقلت وامعنت في افقار شعوبها وهدر كرامتها ..
إن كل ما جرى بعد ذلك من تشكيل لجنة الميثاق من قبل الجهات الرسمية وإحباط فكرة عقد مؤتمر وطني وإجراء أول انتخابات نيابية ورفع الأحكام العرفية وسن قانون الأحزاب الذي اشتق من قانون الجمعيات الخيرية والأندية .. لم يكن سوى مجرد تراجع من طرف النظام .. ولا يمكن اعتبار ذلك مكاسب تحققت ..
لقد بقي النظام على نهجه ولم يتغير , وبقي على عهده في ادارة دفة البلاد السياسة والاقتصاد .. ولم تنتج سياساته "برامج التصحيح الاقتصادية ووصفات المؤسسات النقدية" سوى مزيد من الازمات وتفريط في الثروات في اعمال فساد لصالح ذات القوى المتنفذة من قبل ولا زالت ..
وبغض النظر عن اولائك الذين تراكضوا لاعلان الولاء .. إلا ان حراك الجماهيرارتقى اثناء الهبة الى ادانة النهج السياسي والاقتصادي للحكومات المتعاقبة التي ادارة شؤون البلاد .. واجمعت كافة المطالبات في البيانات التي كتبت لاحقا ومن كافة المحافظات بعد بيان الكرك , على ادانة السياسات الحكومية ومحاسبة المسؤولين عن الفساد والازمة الاقتصادية والمطالبة بمؤتمر وطني لبحث الاجراءات الواجب اتخاذها لتصويب الاوضاع واقرار السياسات الواجب التقيد بها من مبدأ الشعب مصدر السلطات
لكن ما جرى لم يكن اكثر من مساعدة النظام على الخروج من أزمته مع شعبه رغم عمق ازمتة وبأقل ثمن ودون أدنى التزام بتغيير النهج .. ولم تكن أزمته بسيطة لكنه أصبح خبيراً في ادارة ازماته والخروج منها , وهذا ليس بذكائه وانما بسبب ضعف "قوى التغيير" .. القوى السياسية التي كانت تحت الارض اصبحت اكثر فائدة للنظام وهي فوق الارض واستطاع استدراجها وافراغها من محتواها وعزلها عن جماهيرها ...
#أيمن_مدنات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟