شعوب محمود علي
الحوار المتمدن-العدد: 4426 - 2014 / 4 / 16 - 16:45
المحور:
الادب والفن
رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟الجزءالخامس 4
في غرفة مغلقة بعيدة عن انظار الناس : كانت حلقة نحل قد التأمت .
يديرها الرفيق جمال وقدهبط من قمّة الهرم الى السفح , اي القاعدة لمهمّة تعميق الخط الذي ينتهجه الحزب والتأكيد على الدور الطليعي , وتعميق الوعي الثقافي,
وتتبع الموروث الماركسي الّلينيني وتطبيقه على ظروف
ومعطيات بلادنا كي لا احد يأخذه بشكل جامد . ما كان يصلح في الامس قد لا يصلح اليوم مقاساًعلى محيط وطننا العراق . كان الوقت مابعد الزوال وقد طاف بهم معمّماً برامج الحزب التي تندرج في التكتيك لخدمة الاستراتيج
, وتطلّعات الحزب القريبة والبعيدة المدى والتي تتساوق وتطوّر حركة النضال, وطموحات الحزب في ظروف بلادنا المتشابكة والتي تزيح ما يغرس من معوّقات امام المسيرة المضنية والتي لابد من قطع اشواطها , والتعامل معها بمرونة , وحكمة متبصّرة. قال جمال علينا ان نعمل مثل كاسحات الجليد . وفي نفس الوقت نأخذ بالحسبان وبمرونة لا تترك للخصم فرصة المراوحة : العمل على ازحة الرماد عن الجمر الذي هو جوهر الفكرالمتشعّب على القواسم المشتركة عبر والنظريّة والتطبيق, والخط الثقافي الذي تبلوره الافكار الاشتراكيّة حيث تتساوق وحركة التطوّر في العالم الراهن, ومن خلال موقعنا , وموقع الآخر. مع رفيف الفراشات الملوّنة والبهيّة وهي تزهو في الحدائق النضرة بازهارها الخلّابة الى جانب انطلاق الحناجر بالاناشيد الوطنيّة, والامميّة التي تبعث النار في الجليد , وتطلق الحجر في البحيرة الراكدة لتثير الامواج الصاخبة . كانت كلمات جمال مثل الشلّال تطلق الالوان لتكمل اللوحة النضاليّة داخل الاطار الحريري والشوكي في الوقت ذاته مع الرؤى والتجسيد الحي للنهج الكفاحي , والتناغم بين الفكر والتطبيق حيث يتجلّى كلّ شئ مثلما يتجلّى علم الجمال المستخلص من ديباجة الفلسفة الماركسيّة التي تضفي نضارتها على عالم موحّد حيث تستخلص في الفوارق الطبقيّة . فالثقافة هي المدخل الطبيعي والذي لابد منه الى جانب القنوات التي تشكّل اسلحة الحزب في معاركه النظريّة , والمصيريّة. صار جمال محط انظار رفاقه واعجابهم .
في تلك الظروف : كان الشارع مزحوماً, ومأزوماً بالتظاهرات التي
تجتاح المدينة بامواجها العاتية الى جانب الاضرابات بين صفوف العمّال , والطلّاب.
كان الحزب قد دخل حالة طوارئ , والمدينة في حالة صخب , وارتجاج الى جانب ارباك النظام , وخوف المسؤولين, لانقلابيّة الشارع المتموّج , والمطبوع بالغضب وهو يوعد بالنذير البركاني والامواج التي تصب بالنهر الكبير . كان اصحاب المقامات العليا يقفون امام الخط الزلزالي وهم بين المجابهة والتردّد حيث اعلان المواجهات المتوقّعة .احدهم يتربّص بالآخر,
وينتظرالخطوة , وما بعدها من خطوات : والمطبخ يجهّز : والوليمة قادمة لا محالة. لاشك انّها الملحمة تذر قرنيها , والعاصفة على الابواب. جمال يلح ويطرح ما بين السطوروهو يدخل من طرف خفي على معاهدة صدقي بيفن , وكيف رفضها الشعب المصري , والقى بها الى القمامة .
و(العم سام) يطوف بمركبة كوابيس احلام شعب مصر
ولا يجرؤ في ان يمس الارض حيث يستيقظ العملاق .
فالاحلام ليس لها حدود , وفي حيّزولا يمكن اختراق الستارة , ووضع اليد على الخارطة , والعبور على جسور حلقات الرقص عبر الارض الحرام والمرور من نفق النوم, والسبات , وليس خارج قواعد النوم . كان صاحب البيت قد تفاجأ بوجود جمال ورفاقه في بيته وقد تطيّر من هذا الاجتماع في بيته بدون سابق انذار ولم يعلمه من في البيت بهذا الاجتماع ومنهم ؟ ومن ايّ جهة؟
لو كان هذا اللقاء في مقهى, او مكان عام لما ارتاب منه. امّا ان يحصل في بيته, وفي غرفة مغلقة دون ان تكون مناسبة فرح او حزن فهذا اثارفيه الارتياب. ومن ثمّ فتح باب الغرفة لغرض يجهله المجتمعون , ثمّ اغلق الباب على وجه السرعة : فرأي ما استفزّ فيه المشاعر . كان جمال يتحدّث بطلاقة, وبكامل حرّيّته وهو يتناول وضع البلاد وما آلت اليه الاوضاع لسياسات الحكّام التابعين لاسيادهم وهم قبل ان يُكسر القيد, اويصيبه الصدأ . كانوا يعملون جاهدين لصنع قيود جديدة , و جمال يطرح الوضع , وكيف انّ العراق قد يقبل على هزّات جديدة اقوى مما نحن عليها الآن , وقد تقتلع الجذور المتعفّنة من تربة ارضنا . فالتصوّرات تتحوّل في افق جمال الى سخونة المد , وعنف الموج الكاسح في محيط بغداد المدوّرة , وقلق وهموم الشارع الملتهب .
حكيم يحب ولده علي لأنّه لم يرزق سواه . فهو امله الوحيد في الحياة , وعدّته في شيخوخته , وعمود خيمته عند عجزه : كان يخشى عليه
ولا يجرؤ ان يسأل عن طبيعة الاجتماع غير المسبوق به وهو يجهل تورّط ولده , الى جانب كونه يحب النظام , ورموزه, ويعتبر طاعة الحكّام هي طاعة لله .
حاول ان يتنصّت قرب باب الغرغة الموصدة فسمع كلاماً طار له لبّه, وطاش عقله , وافتقد توازنه وكُسر قوس الصبر عنده, واعتقد ان الارض ستبتلعه ان سُمع من في الجوار طرفاً من هذا الحديث. التصق قرب الباب ومن فتحة المفتاح راح ينظر الى من يتولّى ادارة الحديث. كان يروم الدخول الى الغرفة بعد تفكيرطويل واخيراً اهتدى الى لعبة القط والفأر. صار يحضّر لهم الشاي وتحت هذه اللعبة الشيطانيّة دخل ليقدم الشاي , فتعثّر, وكاد يسقط على الارض الّا ان جمال احتضنه واسنده فاستقرّ حكيم بوقفته . اخذوا يرتشفون الشاي وهم يشكرونه وهو يرمق جمال من طرف خفي . ويفتّش في مكتبة ذاكرته, ورصده الذي لا يقبل الشك وحكيم مثل صيّاد لا يمكن ان يخيب , او يفلت الصقر من فوهة بندقيّته.
كان يحدس, ويريد ان يتذكّر اين التقى هذا الشاب : اخيراً : القى بالفرشاة , والاصباغ بعد ان وجّه المصباح في ليل جمجمته المعتمة فتجسّدت اللوحة الفسفوريّة على شاشة الزمان والمكان , وهويستقرئ الرموز , والتقاطعات , والخطوط الحمر بغضب شديد . صار يتذكّر نبرات الصوت , وقوّة العصف. ملامح الوجه نفسها . لم يستطع حتى الزمن التمويه , او التغلّب على التغيير : انّه هو, هو وربّ الكعبة . بعد ان دار حكيم دورة سريعةحول العالم وهو يجهد , ويبحث , ويستقرئ , ويستجلي , ويزيح الصدأعن ذاكرته . احسّ بالتعب حد الانهاك . مسك رأس الخيط يوم سمع احد افراد التحقيقات الجنائيّة يتحدّث معه وهو رهن التوقيف بانتظار ان يقدّم الى المحكمة . كان يقف وراء القضبان الحديديّة وقد دار حديث بينه وبين رجل الامن وفي سياق الحديث المحتدم قال له رجل الامن انت رجل ملحد ,
وليس للدين عندك حرمة . اجابه وهو خلف القضبان كيف ,؟ وارسل ابتسامة اقول لك الم تقرأ القرآن الكريم (واطيعواالله والرسول واُولي الامر منكم) فمن هم اولي الامر غيرالملوك , والخلفاء , والامراء وهم ظل الله في الارض وانت لا تعرف معنى لذلك , ولا اهمّيّة وقد اجابه ضيفنا الخطير في صيغة التحدّي : ان من سمّيتهم بالملوك , والخلفاء , والامراء على ما اظن قد فقدوا قدسيّتهم بعد ان خرجوا من تحت تلك المظلّة التي تعصمهم كونهم فرّطوا بمصالح الشعب والوطن .
لاذ حكيم بالصمت خارج الغرفة, وترك السفينة تسير في محيط آمن.
كان حكيم في تلك الفترة قريباً من المتحاورين بحكم مهنته كونه يبيع الشاي
في المحكمة. وقد تيقن الآن ان الضيف هو هو ذلك المعتقل الصاعقة التي استهدفت بيتي , اجل ذلك هو الذي افحم رجل الامن بجسارته البالغة التصوّر, وبتحدّيه العنيف دون ان يلوح على ملامحه وجل , او خوف , او تردّد , كان يتحدّث بلا مبالات وقد هزّم رجل الامن امامي , . كان يتحدّث مع من يتجاوزونه جاهاً ومكانة في السلّم الاجتماعي . كلّما امتد الوقت : كان الوجيب اسرع , وجرس الانذار يدق بقوّة , وبشكل يقيني .
قال حكيم في نفسه من اجل الحفاظ على علي ساحطّم كل الالواح.. , والنصوص.., وسالغي الاعراف المحاطة بالصبر والحكمة, بل وحتى المثل الرفيعة التي تنمّي حسن الاخلاق , وتاكّد عالىم وارادة البذل , والتضحية.
فلا اريد لولدي علي ان يقف خلف القضبان, وتلفّه الاسوار العالية, وتغيّبه عنّي السراديب الرطبة . ظلّ يجول داخل البيت بعد خروجه من الغرفة بشكل ملفت للنظر, وهو يهلوس بصوت خافت , ولا يدرك ما اصابه من فقدان التوازن. حانت التفاتة من زوجته فلمحت على حكيم حركة غير طبيعيّة. كان وجهه يصطبغ بالزعفران مع تهيّج يعجز عن ان يخفيه عن الآخرين . نادته زوجته ولكنّه كان غارقاً في محيط تصوّرات لايدركها الا هو. عاودت الكرة, والحّت في طلبه بالاشارات, والرموز علّها تستطيع معرفة ما يعتمل في وجدانه والتعرّف على ما اصابه , وما طرأ عليه من وضع جعله موشوّشاً , وغير مستقر . كان ما يغيضه , ويكتمه وقد لاح علي وجهه كما تلوح الاشياء على المرايا الصافية والنقيّة .
حكيم في سرّه لم يكتشف الحقيقة وما ينتابه , ولا اعرف ما يدور في محورهذا الرجل المغلّف , والمحاط بالطلاسم والاسرار . انا اجهل ما الذي يغريه لوضع نفسه معلّقاً على صليب المساءلة الطفيليّة وهو في غنى عن الوقوع في مطبّات المتاعب التي لا تغني من جوع .
لاحت على وجه جمال مسحة من الحزن المشوب بالالم . قال للرفيق علي : والدك اثار فيّ الاسى , وصرت الوم نفسي واقسو عليها . لما تعرّض له , وكاد يسقط على الارض . لولا ان ستره الله . علىي وما ذنبك انت حتى تلوم نفسك .
جمال لولا وجودنا هنا لما حصل الذي حصل . علي والدي كبر وهو مرهق من العمل , وفي بعض الاحيان ينسى ويسأل عن حاجة وهي بين يديه . وليست هذه اوّل مرّة يعثر ويكاد يسقط ارضاً وذلك لعدم تركيزه لما يعترضه.
انّه القانون القاسي والساري على الجميع . والكل قد يمر بهذه المراحل من العمر وكذلك سنحتسي تلك الكأس المترعة قبلنا ام رفضنا , ووالدي الآن في الثلث الاخير من السلّم التصاعدي , وما انفكّ يخرج من حانوتها وهو في حالة سياحاته الهذيانيّة فلا يكترث لما يعترضه وهو يمشي . انّه الكبر ثمّ ابتسم وقال . ربّما الهوس , وما بعد الشيخوخة , والّلامبالات لما يدور من حوله وهوعلى العتبة الاخيرة , ومن ثمّ الهرم , او الرحيل وقد يكون في فترة ما قبل نهاية الشوط الاخيرمن حايته .
اعلن الرفيق جمال انتهاء الاجتماع بعد ان اسند لكل رفيق في الخليّة واجباً
لما يتطلّبه العمل , واقترح ان يخرج الرفاق على فترات متتالية
تحرّزاً , وصيانة لهم . واخيراً لم يبق في الغرفة الّا هو وعلي 0
تحرك جمال لكي يخرج والى جانبه علي ليرافقه في الطريق فأعترض حكيم ولده علي وقال انا سأخرج معه كوني لا الفت نظر الناس وذلك لكبر سني , ولكوني لا تحوم الشبهات حولي 0
وعند مرافقته لجمال قال ماذايعني اجتماعكم في بيتي ؟ 0
فأحمد الله الف مرة كون الاجتماع تم في بيتي , ولو لم يكن في بيتي ربما دهمكم الطوفان 0
كانت كلمات حكيم بمثابت الغاز بالنسبة لجمال . ثمّ التفت ليحدّق بوجه جمال واردف قائلاً دفع الله ما كان.. جمال انت تتحدّث بالالغاز , وبايجاز مبتسر . حكيم الا تعرفني . حدّق جمال بوجه حكيم , وغاص بنظراته الاستقرائّية دون ان يصل الى قعر الجب وهو يتحفّز , ويرسم طريقاً للخلاص والتنصّل . حاول و يحاول فك العقدة , والوصول الى الجسر الذي يربطه بهذا الرجل الذي يكتنفه الغموض وقد ظهر بشكل مفاجئ مثل ظهور الجن في الظلمات , وصار يرتاب منه , ويلعن الصدفة, واللقاء غير المتوقّع , وغير المرغوب فيه والمفروض بشكل قدري . تحدث جمال في نفسه مع اخذ الحذر الشديد من بركان لم تظهر حممه , ولم يظهر دخانه في الافق . ثمّ راح يقلّب اوراق دفتر الذكريات للاماسي المطويّة فلم يجد اثراً,
اوعلامة تشير لهذا الرجل , بل حتى الصورة في معرض اللوحات المختزنة في الذاكرة . ثمّ راح يعلّل , ويقلّب ولا شئ الّا السراب, والجعجعة لطاحونة فارغة . ثمّ انقلب لىحاضره وقال ربّما وقعت في دائرة المرمى,
قريباً من شباك صيدهم. قال للرجل . لاتصغير لمقامك , ولا اهمال او تجاهل لشخصك الكريم . ولكن لم يسعدني الحظ بمعرفتك .
حكيم انا اعرفك عن قرب , وهبط بصوته مثل صاعقة تنزل من السماء . نعم اعرفك قبل ان اراك في بيتي
وعند سماع صوتك وانت تزيح الرماد عن الجمر قرّرت مع نفسي ان اعبرالخطوط الحمر لامسك بك, ولاسلّمك الى البوليس ولكني في اللحظات الاخيرة عدلت عن قراري هذا وعليك ان تعرف ان ليس لي في الحياة سوى علي وها انت تريد ان تختطفه منّي لتلقي به الى المهالك وانااخشى عليه حتى من الهواء . جمال انا لم اتشرّف بمعرفتك؟ نعم بالتأكيد فانت تجهلني . امّا انا فاعرفك حقّ المعرفة , فقد ترسّبت بل ترسّخت في ذاكرتي , وصورتك حفرت في جمجمتي مثلما تحفر الصورعلى الجدران , ولحاء الاشجار المعمرة , ولن تمحى صورتك , وصوتك ما زالت نبراته تتردّد في القناة السمعيّة لديّ وانت بالنسبة لي بين بين . ماذا تعني بطلّسم بين بين؟ اعني بالنسبة لي
مثل برزخ بين الفردوس والجحيم . ابتسم جمال وبدل ان يلعن الاقدار , صار يشكر الصدفة , واللحظة السعيدة لالتقائه بنموذج من الرجال ليس له شبيه . حمدالله كون الرجل لم يكن قرشاً مفترساً, ولا حوتاً ازرق , جمال ما علينا قل بصراحة من اين .؟ ومنذ متى انت تعرفني ؟ حكيم الذي اريده منك هو ان تبتعد عن علي فليس لي في الدنيا غيره. اتراني ممن يريد ان يختطف منك ولدك ؟ اجل : انت تستدرجه بسحرك الاحمر , وحلاوة لسانك , وعذوبة صوتك , وقوّة حجّتك التي تدفع بها الاخرين وانت تشدّ من يسبحون في مدارك , وانا عندما اقتربت منك وكنت في ذروة غضبي
عليك في اول الامر, لا ادري ما اصابني, وماالذي غيّرني حيث نشب صراع في داخلي ارغمني على التقهقر, والعزوف عن موقفي الاحمق , وفلّ عزيمتي , وقد هزّم فيّ تيّارالشر , وكسر في وجداني شوكة الشيطان
فتحوّلت من مطارد الى مريد .. ومن قادح الى مادح , وكدت اتناول اللقاح لو لا ان تداركت نفسي , وانفلت من شبكت افكارك الآسرة, وبدل ان اسلّمك للبوليس سلّمت نفسي كخروف الى القصّاب , ولكن تحت رغبة غير عاجلة .
جمال كلّ هذا الدوران لا اعرف له معنى الّا في حدود ما تعتقد كوني استدرجت عليّاً وانا ليس لي في هذا الموضوع ما استحقّ عليه اللوم , والتوبيخ. واقول لك بصراحة ان الالتحاق بصفوف الحزب لا يخرج عن كونه اختياراً بالنسبة الى جميع الذين اصطفّوا في الطابور , وكذلك بالنسبة للّذين سيركبون القطار تحدوهم الرغبة لخدمة الطبقات المسحوقة , وفقراء الوطن المستلب حتى النخاع . كان اختياراً لمن انضمّوا وبرهنوا على صدق قناعاتهم وسيبقى الخيار لمن يأتون في قادمات الايّام
وهم يضعون اصابعهم على الجرح , ويجدون اماكنهم تحت الشمس.
ان التحاق ولدك علي هو الشيئ الطبيعي فلماذا تحمّلني ضريبة التحاق ابنك علي للحزب ؟. عليك ان تدرك ان انضمام علي هو المكان المناسب والطبيعي لانّه دخل من الباب , وليس من الشبّاك مثلي انا الضيف . حكيم لاافهم ما تقول , وما تعني بطرح مبرّراتك ,؟ وكيف اغويت ولدي علي ؟
ضحك جمال بصوت عال انا اغويته ام علي وامثاله من رفاق الحزب هم الذين حطّموا تماثيل اقداسي حيث نثروا البذار في قاع مزرعتي , وحقّقوا
الغواية لي , ولامثالي من الغرباء عنهم . اعود فاقول لك الانخراط في صفوف الحزب ليس غواية . امّا بالنسبة لي فهي هواية حقّقت لي
التحوّل.. , ومن ثمّ الرسوخ . اكاد انفجرواتحوّل الى شظايا لإنتحاري , ولقتلك انت بالذات, لقد حوّلتني ابكم , اصم لا افقه من الغازك قدر فتحة
(خيط لابرة), وسوف لن اتركك الّا اذا اريتني اين اقف؟
لقد دارت بي الدنيا وانا كحجر خارج محيطها وقد, غابت من امامي جميع الاشياء الّا ولدي علي . فهو مازال يتأرجح بيني وبينك , فاشرح لي ما انا فيه,؟ وما مصير علي .؟ ان ابنك علي قد التحق بصفوف حزب عمّالي, واستنار ببرامجه لحل مشكلته , ولحل المشكلات الكبرى .., والمتشابكة في النسيج البشري والتي هي : لعنة الارض , وقدرالانسان المعدم . وقد فكر احد ارقى فلاسفة العصورالسالفة في ان يجد حلّاً للصراع المنتظر, والكامن جمره تحت الرماد الذي يمس بالصميم قضايا المعدمين في الارض . وبعد معاناة امدها العشرات من السنين والذين خسروا فما خسروا سوى قيودهم . هكذ طرح قنبلته فحرّك الجذورالعمّاليّة والفلّاحيّة الغاطسة في التربة المالحة , لتنمو وتزدهر, الى جانب فقراء ومعدمي العالم , ووضع اصبعه على قرحة النظام الرأسمالي ودلّ فقراء الارض على المشرط لدخول اللعبة فأن خسروا فلن يخسروا سوى قيودهم . وان فتحوا ثغرة في الجدار الفولاذي سيقدّموا البديل (كبسولة الاشتراكيّة) في غابة العميان والتي تشفي نصف الداء عند اقتطاف ثمارها التي تحرّر الرقيق الابيض من سيّده ربّ الارض , ومالك آلة التصنيع بعد ان تحرَّرالعبد الاسود . وبموجب هذا الكشف تحدّد عمليّة الهدم , والبناء الواعي , والمتساوق الخالي من هوى حبّ الذات , ونرجسيّة الانسان الذي لا يرى الا نفسه في المرايا المكبّرة للصورة المموّهة .. وعندما تتحقّق هذه الامنيات , وتنتهي السرقات لجهود المعدمين في الارض . ومن الف باء الاشتراكيّة سترى وجودعلي في مكانه الطبيعي.امّا بالنسبة لي فاكرّرلك انّ
وجودي في الاصطفاف لا يعني الّا بمثابت الضيف, اوالظل. وذلك يعود لتكويني الطبقي الذي لاتربطه ايّة رابطة, او مصلحة مع المعدمين
ومع ذلك فانا متفضّل وهم يشمّون مني رائحة الغريب . لا اريد ان اطيل عليك : فاللوحة امامك, وعليك التدقيق فيها, واستقراء ما غاب عنك.
ابني انا اخشى على علي , ولا املك صبراً وانا اراه يلقي بنفسه في محيطكم المضطرب , والمرعب . فقداني لعلي يعني فقداني لكل شئ في حياتي , انا ما اخشى ما اخشى الطوفان , وقد رأيته فيك انت . كيف رأيت فيّ الطوفان : ؟ بل الهزّة الارضيّة .. , ..
نعم رأيتها وأراها فيك انت : ولكن خارج مقياس (رختر) وكلّما استحضر صورتك تأخذني رعشة رعب ما بعدها رعشة .عقّب جمال انت نذرت نفسك بكرم حاتمي لعليّ . فلم تبخل عليّ . معاذ الله ان ابخل عليك اذن ففك قيدي الذي ربطني بعلي , وبطبقته , ودع لي حريّة اللسان الذي هو العضو الاضعف, والاصغر من حجم الكف لادافع عن نفسي ..,.. قاطعه حكيم , وقال بل اسمعني انت . اجابه جمال قائلاً انا اسمعك .
في السابق كان كلّ شئ يسجّل , ويطبع في دفتر مشاهداتي : ما ارى واسمع . امّا الآن فكلّ شئ عندي يخضع للنسيان وانا الآن احمل اشيائ
بيدي, واراني افتّش عنها ولكن الاشياء التي تنام في قبر دارس ما تزال تتحرّك , وتلتصق بالصورة , والطعم , والرائحة , واللون . آثارها لم ولن
تتلاشى وهي شاخصة امامي, ومع ذلك فانا متفضّل وهم يشمّون مني رائحة الغريب .. , ولا اريد الاطالة : فاللوحة امامك وعليك التملّي فيها,
وكشف ماغاب عنك . ابني انا اخشى على علي , ولا املك صبراً وانا اراه يلقي بنفسه في محيطكم المضطرب. ان فقدت علي فسأفقد كلّ شئ , وكلّما ادّخرته في حياتي , انا اخشى الطوفان وقد رأيته فيك انت . كيف رأيت فيّ الطوفان؟ : سأريحك الآن لتحاط علماً بمخاوفي, ومصادر قلقي, ومشكلتي المستعصية على الحلول : انا بين العشق والبغض الذي لا يربت على كتف قناعاتي تحت مظلّة الخوف من الخوف . والخوف اصبح قانوني الازلي . بل عرّابي في يقظتي , ومنامي وانا كريشة في مهب الريح فادرك خوفي , وارحم شيخوختي , والّا ساضع القدر على ثالثة الاثافي ..,
وستقدّر ما انا عليه لانّي لا املك سوى علي الغصن الذي استظل به في سنوات الشمس المحرقة .
قبل خمس من السنوات على التحديد, وقد لا تخونني الذاكرة التقيتك في مسرح الحدث , وفي اللحظة التي هي من سنوات النار كما اسمّيها انا.
ربّما , كانت وهماً ولكنّي اتذكرك لا في النوم, بل في اليقظة .وربّما ستقول هذه اوهام , ولعلّ اللقاء كان من تخيّلات الكبر, او من طلائع الخرف الذي يتعرّض له الانسان. جمال استغفر الله وانا اتقبّل منك كلّما تقول مع حترامي البالغ لك , ولكلّ كبار السن, وقبل ان يكمل جمال ما يريد ان يقول . قاطعه حكيم . ابني لا تستبق الحقائق , وسآتيك بالدليل
القاطع وهو يمشي على ثلاثة اقدام ,وليس على قدمين فاستمع اليّ. ها انا مصغ اليك بكلّ جوارحي . في ايّامي العابرة كنت امتهن بيع الشاي في المحكمة التي اثقلتك بحكمها الجائر , وكانت سنوات عمرك الفضّية ثمناً لتلك الوقفة الشجاعة جمال اتعتبر لي مواقف شجاعة وانت تنفر منها , بل وتدير قفاك لها . نعم نعم لانّي اشعر بالعجز . فلا تناقشني بالواجب.. , او عدمه . فانا دفنت الواجب فيما وراء اللمس , والسمع , والنظر. اعود فاقول لك ان لم تخونّني الذاكرة عندما كان الحوار الذي يخترق سمعي, ويقحم عليّ وحدتي , ويجرف حزيرة امني هدير الموج يوم كنت تقف .
على فوهة البركان .عندما كنت تحدّث احد ضبّاط الشرطة حول الآية القرآنيّة الكريمة (واطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) . ردّك كان قاطعاً كما يقطع السيف العنق , وقد ذهبت في حوارك بعيداً لتسل الشعرة من العجين , ولتضع البرزخ بين الفرات العذب , والماء الاجاج.
كان مجمل ردّك ان ليس للظالم طاعة بيعة في اعناقنا, وكذلك سمعتك وانت
تهاجم ملوك , وخلفاء , واباطرة الارض . كنت تسفّه : مقولة كونهم ظل الله على الارض هل. تتذكّر ام ستقول لي هذا من اوهامك , ومن اساطيرك
المفبركة .؟ صعق جمال وراح بعيداً في تطوافيه , وانبهر .., واخذه العجب لقوّة ذاكرة حكيم , وعام في بحيرة تصوّراته وهو يوغل فيما
وراء الاحداث , وحيثيّات الايّام التي اثقلها التراكم المحزن الذي له طعم الملح في الجرح .
وها هما يقفان تحت شرفة بيت لتقيهم من المطر . ومع المطر, والبرق الذي كشف عن عيني حكيم , وكيف كانت تنهمرمنهما الدموع .
سحب جمال حسرة قويّة وقال قد تمر هذه المزنة التي اخافتك كما مرّت تلك المزنة السياسيّة. وقد تتكشّف , وتأتي بايّام هانئة , وليال صافية تتألّق فيها نجوم الحرّيّة. ومدّ يده ليصافح حكيم , وليودّعه على احسن مايرام, و واجمل لقاء تدخره الذاكرة في سجل الايّام المنحوتة على رخام التاريخ الذي خلّف وراءه رماد النار , وبرودة الصقيع . ومع انغلاق الليالي , وانفتاح النهارات, ومشاكسة , الاقدار, وترويضها كما تروّض حيوانات السرك : فجمال مرّ, ويمر في محن كان يتجاوزها بصبر ولا يهمل استقراء اجندته بين وقت وآخر .
ولا يتغافل , ولا يضرب ستاراً كثيفاً بينه وبين ذكرياته التي ما زالت لذيذة
وطريّة وهو على تماس بها . وكلّما انفرد وحيداً راودته, والحّت عليه.
وقد تتسع دائرة ذكرياته , او تضيق . هو لا ينقطع عن الدوران كجرم يدور في محوره . تعرّف جمال على الكثير من رفاق الطريق وهو يتطلّع عندما ينفض غبار الايّام ويعود ليقلّب اوراق دفتر ذكرياته الخضراء المخضلّة بماء الحياة, والحيويّة التي تتساوق وتنتشر كاوراق الربيع .
كان يتذكّرتلك الشخوص , وقد يمر ببعضها مرورا سريعاً وخاطفاً الّا الترف عباس ذلك النجم المشع في سماء الكرخ من بغداد المدوّرة : هذا الرفيق كان لا يبالي عند تعليبه , وحشره في زنزاناتهم الرطبة , والعفنة
والتي تزكم الانوف بروائحها الكريهة .وكم طورد , وعذّب , وقدّمت له المغريات لكي ينعطف بجواده صوب اليمين. كل محاولات الترهيب , والترغيب باءت بالفشل وذلك ليحوّل جبهته من اشراقة شمس عراق المعدمين الى غروبها ولكنّ الرجل غاص اكثر فاكثرفي عمق دوّامة الصراع وبقي على العهد لاينحني للعاصفة, ولا يبالي ان اكلت القيود والسلاسل من لحمه . كان سراجه لا ينطفئ عندما يكون في ظلام الوحدة منفرداً شامخاً مثل الجبل في عالم تعوم في بحيرته التماسيح .
كان عبّاس الترف العملة الصعبة, والمصنوعة من عروق الذهب الخالص, ومن الماس .
من خلال حواراته , وسلوكه الفذ : كان كحجر المغناطيس , او كحقل من الزهور يتقاطر على رحيقه النحل . جعل جميع معارفه توابع لا تدور الّا
بمحوره وتتأثّربكيفيّات طرح افكاره . كان بينهم كالشمس ساعة سطوعها
ليضعهم في مركز الحدث يقومون بغرس شتلات شجيرات زيتون
التكتيك على سفوح الاستراتيج , وعلى امتداد جبل المستقبل ذلك للوصول الى قمّة التحقيق الاشتراكي . كان عبّاس الترف مدرسة متنقلة تنمو وتمرع بالافكار , والتصوّرات التي تنزع لضرب الاستغلال وشل, براثن النمور في حضيرة لحضارة آتية بموكب القناديل المضيئة والتي تستخلص زيتها من روح , وقوى المعدمين في الارض . هذا الرجل وان كان يمشي على السفح قد استقى , واستلهم ما يقع على عاتق الجندي المنغمر في موكب
الامميّة . كانت الصور تلحّ لتلامس طواحين احزانه , وسعف نخيله
الذي تعصف به الرياح المنحازة , والحقودة . وفي دفترذكرياته لقطات لا تمحى وقد تتجاوز المكان , وتتساوق مع الزمان .
عن ذلك الرفيق عامل النجارة فاضل محمود يوم برز كعامل نقابي يتدفّق حيويّة ونشاطاً , وفي لهيب وثبة كانون المجيدة . وقبل اعدام الرفيق فهد
اخذ نصيبه عامين سجناً وبعدها اكمل عاماً آخر في منطقة شثاثة (والمسمّاة بعين التمر)
تحت المراقبة . كان النجّار فاضل محمود ضحيّة اعترافات , بعد انهيار هيكل التنظيم لعمارة الحزب روحاً ومبنى الى جانب خيانة وانهيار المسؤول الاوّل مالك سيف والذي كان شاهداً علىيه كونه عريف منطقة الكريمات حزبيّاً الى جانب نشاطه المحموم في الحركة النقابيّة . وبعد دفعه ذلك الثمن الباهض من سنواته المرّة بقي مطارداً من قبل الاجهزة الامنيّة , وفي انتفاضة تشرين المجيدة تمّ اعتقاله , واودع في معتقل معسكر الرشيد ولم يكن
فاضل محمود النجّار وحده بل تعرّض الى الاعتقال ابن اخيه طالب كاظم الحلّاق في منطقة الكريمات من كرخ بغداد , وقد ابتكر عمليّة ذكيّة حيث لم يشر الى عنوانه الحقيقي , فاعطى عنواناً لمنطقة كونه من سكنة الكاظميّة .وتحت اسم (فيصل غازي) وقد نجحت اللعبة على الدائرة الامنيّة : وبالمقابل كانت العوائل تبحث عن ابنائيها لاخراج المعتقل بكفالة لحين محاكمته ان كان حيّاً, واستلام جثّته ان كان شهيداً , استعصت مشكلته ولم يعثر والده عليه واعتبر من المفقودين . عانت والدته ووالده ومن يمسّهم بقرابة من اهله , وبعد استسلامهم للقدر تسلّل شخص من المتعاطفين مع حركة الشعب وجاء الى بيت طالب كاظم الحلّاق واخبر والده بانّ ولده موجود في الشعبة الخاصّة وهو قيد التوقيف باسم فيصل غازي مع عنوان سكنه كونه
في الكاظميّة وهو يحتاج الى من يكفله . كانت اللعبة قد انطلت على الدائرة الامنيّة واخيراً سوّيت قضيّته, والغي اسمه من مذكّرة الاعتقال مقابل مبلغ من المال لكي لا يكون اسمه منقوشاً.. , ويتم اعتقاله مع كلّ حركة , اواضطراب يتم اعتقال كونه من الناشطين في الحركة الوطنيّة . وفي انتفاضة تشرين وما بعدها كانت قد شملت قادةالاحزاب الديمقراطيّة وعلى رأسها قيادة الحزب الوطني الديمقراطي, ونجمها الّلامع المناضل, والكاتب , والمفكّر, وقبطان الحزب كامل الجادرجي مع الكثير من رفاقه , و غلق مقر الحزب لمنعه من ممارساته القانونيّة. وكذلك حزب الاستقلال ومطاردة قياداتهم وغلق جميع النقابات , ومصادرة اموالها وبيع جميع ما تملكه يوم شنّت الاجهزة الامنيّة حملة شعواء وجنونيّة ,
لتلقي القبض على مجموعة من الشباب الناشطين , ولتضعهم امام المساءلة القانونيّة , ووضعت على البعض منهم علامة استفهام وكان في مقدمتهم النقابي الناشط مهدي عباس الملقّب بمهدي عبد (الاسطة)عضو حزب الشعب الهارب من غضب الاجهزة الامنيّة , وحسّون عبد الله رأيس نقابة النجارة وهادي محسن العدّولة كان من الشيوعيّين الناشطين ,وحسن حبيب , وعزيز كريم
وحسان محسن العدّولة من العمّال النقابيّين الذين عملوا في اغلب فترات التغييرلقيادات الحركة النقابيّة, كل هؤلاء من عمال شركة الدخّان الاهليّة وقد تعرّضوا اما للفصل من العمل , وامّا سوقهم الى المحاكم وايداعهم السجون بتهم سياسيّة كالتحريض على الاضرابات او قيادتهم المظاهرت كابراهيم صالح رأيس نقابة السجاير : لقد طورد , وفصل من العمل , ثمّ عتقل وسجن , وكان له دوراً بارزاً في انتفاضة تشرين المجيدة .
امّا الكاتب كامل علّاوي الصحفي و المعروف بنشاطه في الاوساط الشعبيّة , ومقالاته في الصحافة, وتحرّكه في غرس الافكارالتقدميّة الى جانب قصائده الشعريّه الجميلة التي ذهبت مع الريح . وهذا يعود الى اهمال اهله , وجهلهم بقيمة المثقّف وهو موضع فخر لهم ولشعبهم . وكم وكم دثرت من كتابات فكريّة لكامل علّاوي . ولربّما كانت تعود لهواجس الخوف من غضب السلطة القمعيّة ونقمتها على المفكّرين , وممن كان لهم دوراً بارزاً في الحركة اليساريّة . كذلك
صاحب احمد المرزا الطالب في كلّيّة الطب والمناضل والشيوعي القوي الجسور ابن احمد المرزا الرجل الاقوى الذي كان يجابه السلطة بجسارة غير معهودة عند الآخرين, ويحمي الشيوعيّين في المحلّة بدفاعه عنهم بهيبته , وقوّة شخصيّته مع كونه بعيداً عن اليسار ولكنّه يمتلك درجة من الوعي الى جانب روابط صداقة له مع الكثيرين من وزراء ,واعضاء مجالس نيابيّة , وشخصيّات لها حضورها الاجتماعي وهو يصل بحدود الاقتراب منهم عبر صداقات تعود بالنفع على من حوله من المغلوبين على امرهم دون ايجاد قناطر نفعيّة تعود اليه , او ما شابه ذلك. فالرجل غير هيّاب , وهو اشبه بالجبل الذي لا يطاوله جبل .
امّا قاسم عبدالله المناضل الذي اثقل بعامين سجناّ فقد ارسل الى سجن بغداد المركزي
وقد اعتبرها فرصة من فرص عمره الذهبيّة وكان يحاول ان يسابق الزمن,
ويعوّض مافاته من محطّات ثقافيّة , وحرمانه من الدراسة وهو يواصل حضوره في الحلقات التنظيميّة , وليوسّع مداركه الفكريّة . والسجن اصبح مدرسته الحقيقيّة وهو يتابع تلك المحاضرات منها ما هو سياسي, او تاريخي , ومنها ماهو ادبي وقد القت الاقدار بالشاعر والكاتب حسين مردان وهومن الشعراء الوجوديّين وله قول مثيركان يردّده على مسامع رفاقه السجناء (مادامت الحكومة العراقية تخاف شعر وكتابات حسين مردان) فما عليها الّا ان تزج بكل الشعب العراقي الى السجون) . كانت قد ترسّخت هذه المزحة حين نقلها السجين قاسم عبد الله . عندما اصبح خارج السجن كان قليل المطالعة ولكن في السجن وجد فرصته للمطالعة . وقد كانت تصلهم كتابات ماركسيّة , وروايات من الادب السوفيتي , والفرنسي وخاصة اشعار ناظم حكمت شاعر تركيا
العظيم, وبعض كتابات اليسارالامريكي ك(العقب الحديديّة لجاك لندن) (ولمن تقرع الاجراس) للكاتب الامريكي همنكواي واحداثها تدور حول الحرب الاهليّة الاسبانيّة ضد الدكتاتور فرانكو
(وكتاب الام لمكسيم غوركي) وغيره من الكتابات التي ترفع من مستويات الفقر الثقافي داخل السجون السياسيّة في العراق.
والكتاب يسلّط الضوء على نشاطات الرفاق الروس من عمّال , وفلّاحين ومثقّفين , وعن كيفيّة اجتماعاتهم السرّيّة وكيف كان بعضهم يقطع اكثر من عشرة كيلو متراً مشياً على الجليد ليحضر الاجتماعات السرّية , وليتزوّد بتوجيهات الحزب وما يحيط به من مخاطر ,
وما يحيط بالشعب من ضيم وجوع , وملاحقات البوليس القيصري للمناضلين الروس وشعوب القوميّات الاخرى
ممن يقاومون سياسة الحكم القيصري شبه الاقطاعي المتخلّف . والمدهش
والاكثر غرابة : انّ كتاب الام كتب قبل حصول الثورة . والى جانب هذا كانت تصلهم كرّاسات عن الثورة الصينيّة , وعن المسيرة الكبرا , وكيف تمّ الانتصار للثورة بقيادة الحزب الشيوعي الصيني وعلى رأسه القائد الكبير ماوتسيتونك . كانت . دائرة السجن تضغط على السجناء وهي تفتعل الازمات وتثير لهم المتاعب وتشيع القلق مماجرّهم الى الاصطدام
وخوض معركة دمويّة , ومصيريّة هزّت العراق من اقصاه الى اقصاه, لا تقل شناعتها , وبشاعتها عن معركة سجن الكوت . كانت الوحكومة العراقيّة تقوم بمثل هذه الاعمال وهي منصاعة , وخانعة لارادة السفارة الانجليزيّة . كان هذا الوحي يصدر عن ادارة , ورغبة التاج البريطاني . وفي سجن بغداد كما في سجن الكوت كان الهجوم مبرمجاً ومدروساً لجرالسجناء الى المواجهة. وعلى اثر تلك الاشارات الخفيّة حصل الذي حصل للطلائع المدافعة عن مصالح الشعب : ولكي تتخلّص من العيون المفتوة , ولكي تسهّل لاسيادها تسويق النفط .., وما تضم الارض من كنوز العراق لتصب في جيوب لوردات العجوز التي لاتغيب عنها الشمس : كان العملاء ينفّذون طلبات , وسياسات ما يرغب السيّد لينفّذ العبد فحصل ماحصل من نهب للمال, ومصادرة للديمقراطيّة , واستباحة للدماء في الشوارع , والكلّيّات , والمعاهد والمعامل التي تضم حشوداً من العمّال وللقضاء على البوادر, والتطلّعات الوطنيّة وبشكل مركّز, وغاية في السرّيّة تمّ الهجوم على السجناء العزّل وذلك لتمرير اللعبة تحت حجة تمرّد السجناء على قانون السجون وقد تمّ نقلهم الى سجن بعقوبة وكان بينهم العامل النقابي قاسم عبدالله . وبعد تلك المرارات صدف ان اكمل مدّة سجنه في ظروف فيضان دجلة : ودائرة السجن لا تستطيع الاحتفاظ به , وعليها ان ترسله الى بغداد. ومن بغداد يتم اطلاق سراحه ان لم تكن عليه قضايا اُخرى . والطرق الموصلة الى بغداد كانت مغمورة بفيضان دجلة . تمّ نقله من سجن بعقوبة الى بغداد بواسطة احد القوارب العاديّة مع طغيان الموج , وانحدار الماء وقد اقلع بهم القارب من قبل طلوع
الشمس لمغيبها. وبعد وصولهم لضفة النهر الكاسح. وبالتحديد .خلف السدّة المقابلة لمنطقة الباب الشرقي, ومنها نقل الى دائرة التحقيقات الجنائيّة . ومن ثمّ اطلق سراحه كما سبقه ابراهيم صالح رأيس نقابة السجايرايضاً يوم اثقل بعامين سجناَ وقد اكمل ايّام حكمه قبل الفيضان.
كانت التهم تكال جزافاً الى العراقيّين بحجة
التحرّيض على الاضرابات وقيادة المظاهرات لاسقاط الوزارة الفلانيّة . وفي تلك الايّام المنهكة والعصيبة.
كانت دائرة معارف جمال واسعة مع هؤلاء الشباب الحزبيّين او مع المستقلّين الذين يتعاطفون مع الحزب . الى جانب حسين جواد القمر الذي ابتدأ اعتناقه للافكار القوميّة ثمّ تحوّل الى شعلة في جبهة اليسار وشيوعيياً من الطراز المميّز .
كان الحزب بمثابة الاصابع التي تتحكّم بتوجيه , وقيادة الجماهير, وتعميق وعيها . وفي فترة من فترات التطيّر , والتطاحن ما بين الاحزاب. وقد لعب جمال دوراً قياديّاً في حركة النضال السياسي بمهارة فائقة خاصّة ايّام التوجّس , والشك بالآخر . بذل جهداً مضنياً لكي يجتمع بالرفاق والاصدقاء , وبمن يتعاطفون مع الحزب خلال سنوات المحل تحت خيمة تصب كل انهارها في محيط يكوّن للمناضلين شط عرب جديد على صعيد اللقاء , والمباركة لاجتياز مرحلة الانكماش , والفرقة , والتنافر وصنميّة الانا في محاريب النرجسيّة الى جانب الهواجس, والتحسّب, واللقاءآت المبتسرة والوجوه الكالحة.., والمصافحة المتعثّرة والتي لا تعبّر عن الود والمصافحة الواعدة بايجاد موسماً ربيعيّاً تتخلّله البشرى بالثما ر الناضجة . بعد ان كان العراق يجتاحه المد العارم , وقيادته الحزبيّة في الملعب .. وان كانت خارج الملعب .., كان يتحرّك على ساحتي الطلبة والعمّال لملاحقة الاحداث , والوقوف بوجه الاساليب الضارّة, وشخوصها التي تتحرّك في الظلام لوضع الصورة بالمقلوب , وحالة الانتخابات للمجلس النيابي : او الدخول في مواثيق , واحلاف عسكريّة كحلف بغداد , الى جانب شن الهجمات لكم الافواه , والغاء الحرّيّات , وحل الاحزاب وخنق الديمقراطيّة خاصة بين فترتي وثبة كانون , وانتفاضة تشرين. جمال تعايش
مابين الفترتين, وحلّق بجناحين قوادمها عصيّةعلى الرياح العاصفة. وقد قال للرفيق المهندس رضا جليل هل من خسارة في الارواح؟ وخاصة في وهج الانتفاضة التشرينيّة . الرفيق المهندس رضا اجل لنا شهيد واحد من اعزّ شبابنا . جمال من هو(الشهيد محمد سلمان عيسى القوج) جمال كيف مات , الرفيق رضا كان مشاركاً في المظاهره التي تطالب باسقاط الوزارة وقد فتحت قوّات البوليس سيلاً من الرصاص فاصيب بعدّة طلقات ناريّة , وعلى اثرها تمّ نقل الجرحى الى المستشغى . وبقي هذا الشاب البطل يتحمّل آلام جراحه وهو يطلب زيارة بعض ابناء منطقته , وكان يرغب بزيارتهم له : ولكن رجال الامن والبوليس يترصّدون الزائرين للقبض عليهم فحال ذلك دون زيارته. في تلك الظروف الشاذة , والقاسية. توفي دون ان تتحقّق زيارة للشهيد البطل. ومع مضي الاعوام وصورته لا تغادرمن شاركوه علي المضي لتغييرذلك النظام العميل, وسيبقى حيّاً, وشامخاً وممجّداًمع بقيّة الشهداء كجعفر الجواهري وغيره. الرفيق جمال يومها قال للرفيق رضا جليل , ستلد الامّهات من سيواصلون المسيرة, وسيبقى اسمه على مر الاجيال , وسيكتب بحروف من الذهب وقد قال الشاعر محمد مهدي الجواهري
وهو يخاطب الشهيد ( وكعبك من خدّه اكرم) وبعد اجترار الذكريات , والمسار الطويل, ومضي الاعوام .قال الرفيق رضا انّ لدينا من النجوم الّلامعة في مثلّث الشوّاكة وهم باقرملّا قاسم , وصاحب الحميري واسعد الحميري مع كلّ حدث سياسي ترى مفارز الامن تأتي بهم الى مضيفها الكريم على مائدة
دسمة مع انواع الفواكه ؟إإ حيث ترحب بهم , وتعاملهم بكرم حاتمي, واقول لك ان اضعتهم فستجدهم في المضيف عند الشيخ (بهجت العطيّة) او عند السركال (محمود عبد الغني ) قال جمال ومع هذا فقد وضعنا بصمتنا على كلّ بقعة من مدن العراق البهي وقراه , وقصباته الغارقة بطوفان العملاء . واخيراّحتضن جمال الرفيق رضا جليل المهنس وقبّله ثمّ غادره على امل ان جادت الايّام وتكرّمت بلقاء آخر .
ثمّ اخذ سبيله مارّاً بسوق الشوّاكة وهو ينظر الى محلّات , والفواكه ,والقصّابين . كانت تلحّ عليه, وتجول في وجدانه صورة الصقر عبّاس الترف . عرّج على دكّان ولده طارق , وسلّم عليه وعلى فيّاض ورشيد وروسي, بعد السلام سأل عن الصقر المقصوص الجناح , والمغيّب خلف القضبان الحديديّة وكيف هو . قال فيّاض هو يقف وقفة تحدّ رغم حرمانه , وسلب حرّيّته , وثقل السلاسل , ومنع مواجهته. وهو ويقطع بقيّة شوط العمر في المضمار باتّاجه اللبنة فوق اللبنة ليساهم بتشييد عمارة الاشتراكيّة وان كانت مرسومة على الورق ,
وبدمه يسقي اشجار العراق , ويصبغ شوارع المدن, ومداخل القرى , والقصبات . نعم يقضي اغلب ايّامه هناك : وقد يقضي القليل القليل من نهاراته محلّقاً في جوٍّ من الحرّيّة خارج اصطفاف المعتقلين . ذالخضار
وربّما سيقضي في زنزاناتهم اشواط الماراثون العراقي ,حيث يطمح ,
الكبارالاقزام بتدجين رفاقنا الذين ينتشرون كالنبات في برّيّة الخصوبة والنماء . بعد ان ودّعهم . قادته خطاه وهو يفكّر برصيد الحزب بين العمّال
في مختلف المهن حيث تناوبت الطلائع واخذت زمام حركت النضال الدائب
وهي مسكونة بالثوابت , والاندفاع العاصف في المجابهة لعبور اعوام العسر , والثراء .
وفي زاوية من الزوايا التي لم تسلّط عليها الاضواء الاديولوجيّة برزت قيادة رصينة تقلّبت على مدى سنوات ضامرة وشحيحة تمثّلت بالعمال النقابيّين علي كسّوب وعبد حسّون وعلي عبّاسالكرّادي وعلي حسين الزبيدي النقابي البارزالمخضرم وعبد الرزّاق محمد اليساري والشيوعي المتطرّف , والذي كان اشبه بموجة عاتية تجعل من البحر صهوتها وفي ايّام حالكة
وشحيحة . كانت الحركة اليساريّة في انحسار قوي تجابه المد الوحشي الدموي , وفي فترة ما قبل اعدام الرفيق فهد . كان الحزب يدفع بكلّ ما لديه من قاعدة , وقيادة الى الشارع يوم حبلت السجون , والمعتقلات , والمواقف وانتاب الناس الهلع من الهجوم الكاسح الشامل لجميع الاطراف السياسيّة حتى عمل مقص السلطة الغاشمة على قص قوادم البرجوازيّة الوطنيّة ايضاً حيث خمد الرنين لنواقيس الحركة الوطنيّة . كان العامل النقابي عبد الرزاق محمد محاطاً ببئر ملغومة وهو يجمع التواقيع الاحتجاجيّة لانقاذ الرفيق فهد ورفاق الدرب من حبل المشنقة . وفي بعض الاحيان كان يعوّق في الماراثون , ويكبح جماحه , ويحد من تحرّكه من قبل زملائه في الحركة النقابيّة . بعد اعدام الرفيق فهد وسوق المناضلين الى السجون, والمنافي, باعداد هائلة.
السنوات تمضي كسيحة وعجفاء. وفي مراجعة ذاتيّة , وجرد جدّي تحوّل المناضل النقابي عبد الرزّاق محمد ليصطفّ تحت خيمة الحزب الوطني الديمقراطي .اما العامل النقابي علي كسّوب المنتمي الى الحركة النقابيّة المهنيّة . كان لا يقف خلف بوصلة اديولوجيّة وهو كمرساة تستقرّ في قعر مهنيّته .امّا المخضرم , والعامل النقابي علي حسين الزبيدي وضع بصمة مضيئة داخل ظلام الامّيّة , وبجهده , وطموحه هو خارج حلقات اليسار . كان كباخرة ثقيلة في تحرّكها الى جانب القوارب السريعة , كان يمخر خارج محور اليسار : لا يتأثّر بامواج المد والجزر , ولا بالطقس المتقلّب . عمل الرجل علي حسين الزبيدي بشئ من الحكمة .
كان لا يتحرك الّا ضمن حسابات دقيقة , واعماله لا تنطوي على المغامرة
, وكان يدرك انّ النقابة منظّمة اقتصاديّة مهمّتها ان ترفع الغبن عن العمال وتعمل على تحسين احوالهم الاقتصاديّة : لا ان تقفزبالجواد من فوق ما لا يمكن قفزه, وقد مرّت سفينته لسنوات تجوب في محيط الاحداث دون ان تصطدم بالصخور الحادة , بل حرص , وجهد على ترويض الشركاء من ممثّلي شركة الدخّان الاهليّة, واوجد قواسم مشتركة , وقناعات ليسحبهم من ابراجهم العالية, ولينزلهم الى الواقع المر الذي يقفون تحت خيمته العمّال وما يعانون من انسحاق و ضنك العيش في حياتهم . وبالمقابل كان مصدّة , وجداراً اخضراً يمنع العمّال من السقوط في الدوّامة..
كان يغرس في اذهان العمّال بذور حدودهم في مجال العمل النقابي كون النقابة لها اهاف اقتصاديّة محدودة . امّا ان يعمل بمسافة قريبة من برنامج
حزب مّا تحت جناح العمل النقابي ذلك هو الخطأ الفادح, والقاتل لروح ومقوّمات العمل النقابي السليم . عمل الرجل بجهد مكثّف في نقابة السجاير,
لإنشاء مدرسة لمكافحة الامّيّة : فكانت اجل , واكرم وسام يتألّق على ماضيه في مجال العمل الدؤوب والجاد . كان عاملاً نقابيّاً يدور في عالمه اللائق به حيث لا يشتط , ولا يخالف ما يراد منه كقيادي في مجريات العمل الملقى على عاتقه قيد انملة في نمطيّة عمله الرائع , والمتقن .
اعقبته قيادات من العمّال النقابيّين في مختلف الصناعات , وبشكل خاص في شركات الدخّان , وفي نفس الشركة التي مارس معضم نشاطه النقابي . اندلعت موجة من الاضرابات العاصفة مطبوعة بالطابع اليساري كقيادة العامل النقابي ابراهيم صالح السبع وعسكر العيبي ثمّ اعقبتها قيادات اخرى تمثّلت بالعامل النقابي محمد غضبان وغازي سلمان السامرّائ وحسّان طاهر ومجيد محمّد وحسّان محسن واخرين : كانت اضراباتهم ردود فعل غاضبة , ومصطبغة بالطابع اليساري . وفي شركة الرافدين المنتجة للسجاير التركي : تصدّرتها قيادة نقابيّة يساريّة ايضاَ تألّفت من صادق .. وعبد محمّد ورجب نزهان وحسين ابيض . وهكذا كانت اغلب القيادات المتعاقبة
في شركات السجاير. كان النهج نهجاَ يساريّاً متطرّفاً . وهذه القيادات
اعطت اكثر مما اخذت من مكاسب للعمّال , وكان نصيب قياداتها الفصل من العمل , والسجن , والتشريد وقد اصبحت لقمة سائغة لمحاكم الجزاء ,
ولمعدة السجون . وبالمناسبة قال جمال سمعت من احد رفاقنا السجناء
وهو يقول_ قرات لقطة في كتاب ابن الشعب لموريس توريز سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي في موضع نقده حول احدى شركات التعدين وقد حصل فيها اضرابان خلال عام واحد : فكان ينقد تلك القيادة النقابيّة في شركة التعدين وهو يتّهمها بالتطرّف_ ونظام الحكم عندنا كان متحيّزاً لاصحاب رؤوس الاموال وهو غير حيادي دائماً وابداً, وذلك يعود لطبيعته الرأسماليّة . فالنظام الملكي
دئب على شن هجماته الوحشيّة على العمّال ليحد من نشاط الحركة النقابيّة
ويقوم باعتقال البعض منهم لاجهاض تلك النشاطات العمّاليّة , ويضع الحظر على تحرّكها, ويبحث عن الحجج لغلق النقابات ومصادرة ممتلكاتها. وفي ليلة من الليالي الغادرة خلال اضراب معمل سجاير المختار
هاجمت الشرطة المعمل الى جانب عصابة (خليل لالو)العميل المأجور, وقاموا بالاعتداء على العمّال المضربين . ومن ثمّ تمّ اعتقالهم ليلاً , وسوق
قياداتهم وايداعهم السجن , و فصلهم عن العمل . كان الهجوم شاملاً
حيث تمّ احتلال مبنى شركة الدخّان الاهليّة بالاتفاق مع اصحاب الشركة .
وقد تزامن الهجوم في نفس الوقت الذي حصل لشركة المختار. كانت الحكومة تعتبر الرؤوس المدبّرة للاضرابات والاكثر خطراً هي العناصر المتواجدة في شركة الدخّان الاهليّة . احتلّ مبنى الشركة ليلاً _دون وجود احد من العمّال _ باعداد كبيرة من الشرطة وضبّاطها مع جلب عتادهم معهم وكانّما احتلّوا قلعة حصينة لعدوٍّ خارج حدود مملكة العراق الى جانب تواجد افراد من الامن , ولم يغادروها الّا بعد شهور حيث صفّيت القيادات النقابيّة , وتم طردها من العمل لشركات , ومعامل الدخّان (كمعمل طبّارة وعبّود . ومعمل الرافدين)
ومعامل اخرى وقد اصدر حكماً بالسجن على قياداتهمً وتم ارسالهم الى السجن . وفصل عشرات من عمّال تلك المعامل لحرمانهم من العيش .
كان جمال منسرحاً في نهر ذكرياته على قارب الايّام , وهو يتذوّقها بمراراتها وعذوبتها . وها هو ينقلب الى فصل طفولته حيث يستعرض البيوت الطينيّة في ( خان حجّي محسن) .
انتقلت العائلة الى اماكن متعدّدة
وخاصة البيت الذي يقرب من الجامعة التكنولوجيّة وكيف كان يحس تحت ثقل الذكريات قبل ان يقترب ويصبح اباً لاثنين من الذكور , ولاثنين من الاناث . كان كنهر يتدفّق خيراً بين اخوين واُخت متفرّدة تحت خيمة والده , ووالدته حيث انحدرا عن ريف العمارة وهما يحملان في سفينتهما
ذكريات العذاب , وهموم الارض مثل وشم ازرق ليس على الجلد , بل على شغاف قلبيهما . كان جمال يضم قلباً كبيراً تحت اضلاعه . تعاطف مع عائلة موصليّة : مؤلّفة من امًّ , وطفل , وشابة في اوج ربيعها : وهي التعبير عن ابداع الصنع للخالق العظيم في تناسقها المتكامل لهيكل حوّاء الشفّاف والمثير للسبات الجنسوي . كان يحترق شوقاً بالنارالمتّقدة تحت الخيمة الموصليّة . وهو يردد في وجدانه (يانار كوني برداً وسلاماً ..)
فكّر في الاقتراب من اسوار الفردوس وما خلف الاسوار حيث عشّ الحمام.
كان اشبه بنخلة تتخلّلها ذرّات تتأثّربقوّة الجذب القبلي والعاطفي . وهو كمن يعوم في تيّار بين ضفّتين يتخلّلهما الربيع العاصف . كان الهاجس يصعد جداراً سميكاً بينه , وبين الخيمة , وما ضمّ كتاب الغيب في متن مفارقاته المختومة , والمحاطة بالغموض . هو لم تقع عيناه على صفحة واحدة من صفحات الكتاب غير المنظور ..
قاوم فراشة النفس التي تجول بين الزهور والورود , وكبح جماحها لامتصاص الرحيق من الحدائق التي فقدت حرّاسها , وحصّن قلبه, وكبح قارب الطيش عن امتطاء الموجة, والعوم في محيط لا يرى ساحله .
كلّ ذلك دعاه ليحجم عن صيغة التمازج , والاندماج , والتحوّل عن غرس البذرة في المجهول من الطين الاُنثوي الذي ينتسب لامّ الربيعين .
راح يخاطب نفسه وكأنّه يهلوس عند الانفعال وهو غارق في حواره الباطني وقد نسي كونه وحده .
ثمّ قال اتذكّر كيف كان والدي ينفر من الرحيل و لاتروقه المدينة الملعونة .
كان يعيش وينشدّ الى الريف, وينحدرعميقاً الى ايّام طفولته .
كان جدّه جري سيّداً مستقرّاً في قريته :
ولكنّ الحرب الكونيّة حين اندلعت بترت (زعانف الحوت العثماني) وما يقع تحت نفوذه من الدول وبشكل خاص رقعة الوطن العربي .فتزامنت ثورة الحسين.. , وتململ الشعوب العربيّة مع تزامن الحرب . كانت عشائر ومدن ارض السواد تتباين
في مواقفها من جيش الاحتلال البريطاني : منها من اعطت الولاء المطلق
للجيوش الفاتحة بلا تردّد : ومنها لم تخلع قميص الامبراطوريّة المرسوم عليه كلمات (لا اله الّا الله محمد رسول الله) رغم تاريخها القاسي , وبربريّتها , وكيفيّة تعاملها مع الشعوب العربيّة والاسلاميّة , وقد امتدّت سيطرتها على الدول العربيّة لما يزيد عن اربعمائة عام من سحبها السود
الممطرة بالويلات , والمحن , والمصادرة للهويّات الانسانيّة .
كان الشعب العربي يستغيث تحت كوابيس التتريك : انا لا اعرف موقف الجد جري. هل كان يقف مع نفسه ؟ ام كان ينحاز لصالح الامبراطوريّة العثمانيّة بعد ان انهارت . ربّما لم يتحرّك لصالح الوضع الجديد خوفاً من عقاب الاخرة كون الامبراطوريّة العثمانيّة محسوبة على الاسلام. وفي كل الاحوال تمّ طرد الجد من ارضه كما طرد العشرات من امثاله ممن انحازوا
الى الامبراطوريّة التي اصابها الانحلال, والتفكك , او رفضوا الهيمنة الجديدة , ولم يرحبوا بالدولة المحرّرة حسب زعمها والتي تحوّلت بين ليلة واخرى الى دولة فاتحة بربريّة غير مدجّنة تجيد التعامل بقوانين الغاب : بقدر ما تتغاضى , وتتجاهل التعامل بلغة حضاريّة . كان جمال يمشي وهو في الدوّامة , دوّامة الطوفان على محيط الماضي .
و صورة الهرب تلح , وتضغط على شريط ايّامه , وترتسم في الفراغ مثل لوحة من لوحات رسّام متجانس مع وجدانه , واحساسه بالاغتراب عن تلك الرؤى المباغتة والتي تغتال الصفاء على ارض متميّزة بالاهتزاز الزلزالي. اجل صوت القطار يملأ سمعه , ويخترق نسيجه مع تراكم الشهور , ودوران الايّام . فالمقبرة هي هي لم تتغيّر , ولعلعة الرصاص , وصوت القطار يدوّي في اعماقه لحظة الهرب الدراميّة , تصلح لأن تكون فلماً سينمائيّاً من الافلام الواقعيّة في منتصف القرن العشرين . قال في حواره الداخلي . لقد القيت بنفسي لعبور سكّة الموت وذلك لكي احقق حرّيتي , واتجاوز اعباء عام المراقبة كي امنعهم من التصرّف في آدميّتي ومنعي من الطيران في سماء الحرّيّة .
شعوب محمود علي
#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟