عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 4421 - 2014 / 4 / 11 - 17:48
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
جلسنا مثل الكثيرين على احد المصاطب الحديدية التي توزعت بالتوازي تحت الجملون الذي يلي غرفة الاستعلامات باتجاه باب الخروج . غرفة الاستعلامات تغص بالمراجعين , وعند الباب الموصلة الى داخل الدائرة جلس موظف يستلم المعاملات , وينادي على من تنجز معاملته , او يخبره ماذا ينقصها خاصة اذا كانت من الاوراق الاربعة المطلوبة لانجاز اية معاملة حتى وان كانت شهادة وفاة , وهي الجنسية وشهادة الجنسية , وبطاقتي السكن والتموينية . السكن والتموينية مطلوبتان ايضا حتى من الذي لا يزال يسكن خارج العراق , وعندما تسأل الموظف المختص ونحن في دائرة للهجرة والمهجرين , يجيب : آني ما اعرف , هذا القانون هالشكل , المعاملة ما تمشي اذا ما تجيب الاربع اوراق . والعراقيون يسمونها تندرا ( المقدسات الاربعة ) .
ارتفعت حرارة الجو بعد ان قاربت الشمس ان تكون عمودية على سقف الجينكو الذي يغطي الجملون , والساعة تشير الى الحادية عشر والنصف . ذهب سعيد ليجلب لنا قناني ماء بارد من خارج بناية الدائرة . قال فاضل : سعيد اصله مو عراقي , ايراني من اهل الحميدية . وهي ناحية تقع على اطراف هور الحويزة الذي يمتد بين العمارة والأهواز .
اجبته : احتمال اهله من اصول عراقية . وقصدي ان يكون مثل فاضل الذي هجر اهل والدته في بداية السبعينات من القرن الماضي لكونهم اكراد فيلية , وسكنوا الاهواز لأنهم لا يعرفون اللغة الفارسية ووجدوا صعوبة في تعلمها , وتزوجت والدته من احد اقربائها الايرانيين ورزقت بأربعة اولاد كان فاضل اصغرهم .
أجزم فاضل ان : سعيد لا يمتلك اية جذور عراقية , متأكد من هذا وانا الذي حققت معه .
نودي على سعيد وذهب فاضل لاستدعائه واخذ قناني الماء منه . فاضل ضابط استخبارات في البسيج الايراني ( احد التنظيمات العسكرية ) , وبعد ازاحة صدام بفترة قصيرة اخذ اغلب المهجرين بتقديم طلباتهم الى الحكومة الايرانية للسماح لهم بالذهاب الى العراق لاستعادة اوراقهم الرسمية والمطالبة باسترجاع بيوتهم وأملاكهم التي صودرت من قبل النظام السابق , والحصول على التعويضات التي تقدم من الحكومة العراقية للمهجرين من قطع اراضي ومنح مالية .
يقول فاضل : كنا نطلب من المهجر او المهاجر ابراز احد الاوراق الرسمية التي تثبت انه مهجر عراقي , وقدم سعيد جنسية عراقية اصلية غير مشكوك فيها , الا ان الذي لفت نظري ان الجنسية صادرة عام 1985 ابان الحرب على ايران, وفي نفس الوقت كان يلفظ القاف غين مثل اهل الاهواز التي يختلف لفظها عن اهل مدينة الحويزة العراقية التي اصدرت الجنسية . اخبرته : انني اشك بكونه عراقي , ولن امنحه موافقة بالذهاب الى العراق .
سألني : هل يوجد اشكال في الجنسية ؟
اجبته : لا , ولكن اذا اتيتني بجنسية لوالدك سأوافق .
اجابني : انا هربت بنفسي , وسكنت في الحميدية لان فيها اقربائي وتزوجت من احدى قريباتي وحصلت على الجنسية الايرانية , وكل اوراقي وأوراق زوجتي وأطفالي تثبت ذلك .
اجبته : صحيح تثبت ايرانية وليس عراقية . اخبرني من اين حصلت على الجنسية العراقية ؟
رفض كلامي وطلب ان اعطيه الجنسية والجوازات ليذهب الى الحميدية ويحاول ان يأتي بجنسية والده ويعود الى الاهواز . رفضت , وأخبرته باني لن ادعه يخرج ما لم يخبرني . وأضفت : جنسية عراقية ؟ وتأخذها اثناء الحرب ؟! ولكي يفهمها جيدا : اكيد جنت تعمل لصالح العدو وحصلت عليها من نظام صدام . ارتبك , واستعاد توازنه بسرعة وهددني بأنه سيشتكي علي في مديرية الاستخبارات العامة في طهران , وعنده من يدافع عنه هناك ويعرفه جيدا . اجبته وبصريح العبارة باني : لن اتركه يخرج من باب الدائرة , وسأضيع خبره الى يوم الدين ولن يفيده من يعرفه في المديرية ان لم يقل لي الحقيقة بالكامل . اخذ التردد والحيرة تظهر عليه , فأقسمت له بأني لا اريد ان انتقم منه , ولكني اريد ان اعرف الحقيقة , ومن واجبي ان اعرفها .
فاخبرني بأنه ومعه اثنان من اهل الحميدية اخذوا طريق الماء الى مدينة الحويزة وسلموا انفسهم الى الحكومة العراقية, واخبروهم بأنهم من العرب المتضررين من نظام الخميني . وبعد تحقيق استمر لعدة اشهر تخلله تعذيب في بعض الاحيان , ادخلوهم عدة دورات في جمع المعلومات وبث الاشاعة وأخرى عسكرية , وأعادوهم الى ايران لتنفيذ ما طلب منهم من ارسال للمعلومات . يقول سعيد : بعثنا بالكثير من المعلومات الصحيحة , وبعد اكثر من عام ذهبت للاستراحة في العراق , وقد منحوني الجنسية للاستفادة منها عند الضرورة والهروب الى العراق , وهو ما شجع استخباراتنا لإرسال الكثير من الاخبار المظللة وبعض الاخبار الصحيحة . وأعطاني اسم الضابط الكبير في المديرية العامة في طهران , وبعد ثلاثة ايام وصل تأكيد الضابط الكبير , وأعطيته الجوازات والموافقة .
عاد سعيد فرحا وقد استلم كتاب استحقاقه للأرض موجه الى دائرة البلدية في الحويزة , ودعانا بالمناسبة للغداء في احد المطاعم الجيدة في العمارة , وطلب برجاء من فاضل باعتباره صاحب حظوة وكلامه مسموع , ان يسألهم عندما ينادون عليه عن كيفية اجراء معاملة اعتبار الاب شهيدا ان كان متوفى في ايران قبل ازاحة صدام عام 2003 , ليأخذ التعويض عن والده الشهيد , وهو سألهم ولم يحصل على نتيجة من الموظف . نودي علينا سوية انا وفاضل , واخبرني موظف الاستعلامات بعد ان سلمني الفايل بأني غير مشمول بتوزيع الاراضي لاني في الجنسية مطلق , اي لا اعيل عائلة . اخبرته : عندما عدت الى التدريس وطالبت بقطعة ارض اخبروني اني اعزب , وعلي ان اقدم الى الهجرة والمهجرين .
الموظف : صحيح , هذا سابقا . التعليمات الجديدة تأكد على ان تكون صاحب عائلة . سألته : ممكن اقابل المدير ؟ الموظف : وقت الصلاة صار , والدوام اليوم خميس يعني نص دوام , اذا تريد تجي يوم الاحد . اشر لي فاضل ان اترك الموضوع , استلم فاضل كتاب حصوله على الارض وخرجنا من الاستعلامات وطلب مني ان انتظره مع سعيد . وعلى مبعدة منا اخذ يتحدث في تلفونه الموبايل . اخبرت سعيد برفض طلبي , فأجابني : ولا يهمك , فاضل ما يعصى عليه شي .
فاضل يعرفني شيوعي , ويعرف ايضا عند التحاقي بكردستان نصيرا طلقت الحكومة زوجتي , وبعد الانفال عام 1988 دخلت ايران للعلاج , وبقيت ما يقارب السنتان وفاضل لم يكن يتجاوز الرابعة عشر من عمره , ولم تنقطع زياراتي لأهله كلما زرت ايران طيلة هذه السنوات , فقد كان خاله صديقي وساعدني كثيرا عندما كنت في ايران . اليوم وجدته بالصدفة في دائرة الهجرة , وهو ايضا يراجع على استحقاقاته في الارض والإكراميات بعد ان استعادوا دار جده التي تحولت الى ثلاث عقارات في وسط المحافظة . اشر لي فاضل ان اذهب اليه بسرعة , وسألني : عندك احد من اهلك تعيله ؟ اجبته : نعم اختي . وسألني عن اسمي كاملا حيث كان يجهل اسم جدي . انهى المكالمة واخبرني : راح يخابر المدير . بعد ما يقارب العشر دقائق نودي علينا للدخول الى المدير . استقبلنا باحترام مبالغ فيه , واخبرنا بان لا توجد مشكلة ليس لها حل مادام خلصنا من صدام , واخبرنا بان علي ان اجلب الاعالة لاختي كي امنح الموافقة في استحقاق الارض وباقي الاكرامية . نتيجة المفاجأة اندفعت بفضول اسأله : متكَلي المن خابرت ؟! اجابني : انت شعليك , هذوله اعرف شلون اتعامل وياهم . المهم يوم الثلاثاء القادمة اجي وياك ونأخذ الكتاب بنفس اليوم انشاءالله , لان بالأربعاء لازم ارجع لإيران .
اصر سعيد على دعوتنا للغداء , وفي التكسي جلسنا خلف فاضل والسائق واخذ يطمئنني بأن : اي شغلة مع الاستاذ فاضل ستنتهي على خير , وأكد على ان انجز معاملة اعالة شقيقتي يوم الاحد ولن اتأخر , وحتى اذا تحجج القاضي او كاتب العدل لأي سبب وحاول تأجيلها فادفع له مع المعاملة الورقة الزركَة ( ويقصد ورقة الخمسة آلاف دينار ) . التفت فاضل اليه : الف رحمة على روح ذاك الاب الخلف هيج خلفه , ابن عشاير وتعرف الاصول , خوما مثل الحجي ( واشر عليّ ) ماخذها كلها جديات . فاضل يتمتع بروح خفيفة , وتعليقاته في اغلب الاحيان لا تعرف هل هي جادة ام للسخرية .
على الغداء اعاد سعيد طلبه من فاضل بان يسأل له يوم الثلاثاء القادم عن ما تتطلبه انجاز معاملة اعتبار والده ووالدته شهيدان لوفاتهما في ايران قبل ازاحة نظام صدام . نظر فاضل في وجه سعيد طويلا وسأله : فتهمنه صدام انطاك الجنسية لان قنعته انت تشتغل للبعثيين , لكن اريد اعرف شلون راح تثبت ابوك وأمك عراقيين ؟ سعيد : استاد فاضل اذا ما فاد الازرك موجود الاخضر ( ورقة العشرة آلاف دينار ) , واذا وكَفت الاحمر حاضر ( الخمسة والعشرون ألف ) , وشكَد ما تدفع انت مخسران . فاضل هز يده بمرارة , ولا اعرف غيرة من ما يحصل عليه سعيد , ام غيرة على العراق من هذا النهب , وسأله : ماذا ستعمل بقطعة الارض والتعويض الذي ستحصل عليه عن المرحومين ؟ فاخبره بأنه يريد بناء فندق في الحويزة , وأكمل فاضل : والأفضل تسميه " فندق الشهيد " .
بعد اربعة اشهر حصل سعيد على مائة وعشرون مليون دينار عراقي تعويضا لاستشهاد والده ووالدته . اليوم الذاهب الى الاهواز يجد سوبرماركت كبير باسم " سوبر ماركت الشهيد " لصاحبه سعيد دحام اللامي , وهو من افضل عشر مجمعات تجارية في الاهواز .
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟