|
في جوف ثلاجة
خالد منصور
عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 1254 - 2005 / 7 / 10 - 12:23
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
في جوف ثلاجة لقد أذهل الشهيد غسان كنفاني الدنيا كلها قبل أربعين عاما، برائعته المشهورة رجال تحت الشمس.. حين تحدث عن اللا معقول كواقع يتجسد على الأرض، من خلال تصويره بعضا من صور المأساة الفلسطينية- التي حصلت تحت سمع وبصر العالم كله.. ورغم أن كنفاني كان يشير حينها بوضوح لغياب الضمير الإنساني بجعله خاتمة قصته تتمثل بموت الرجال القابعين في الخزان.. إلا أن هذا الضمير الإنساني مازال لغاية اليوم على عجزه ولا مبالاته، ولم يتحرك بشكل جدي وكاف لإنقاذ الشعب الفلسطيني ولوضع حد لماساته ومعاناته.. وظل الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا شبه وحيد في مواجهته الأسطورية للوحش الصهيوني الذي يعدّ الأكثر شراسة بين كل وحوش الأرض.... من المؤكد أن تسلل الفلسطينيون عبر نقطة الحدود العراقية إلى الكويت مختبئين في جوف خزان ماء، محمولا على عربة يقودها سائق عربي-- مخاطرة كبيرة.. لكن وجه الخطر فيها كان محصورا في احتمال إطالة مدة مكوثهم في الخزان وما يعنيه ذلك من التعرض لدرجات عالية جدا من الحرارة.. ولم يكن لدى الرجال الذين وافقوا على الدخول في المغامرة أي تفكير سلبي آخر، كإمكانية تآمر السائق عليهم.. أو احتمال تصفيتهم على أيدي شرطة الحدود.. وبالتالي فقد وافقوا على الدخول في هذه المغامرة.... ولكن العمال الفلسطينيين العشرين، الذين قبلوا الدخول في جوف ثلاجة، يملكها ويقودها مستوطن يهودي متدين، ليعبر بهم الحواجز ويخترق الجدار العازل وكل الإجراءات الأمنية.. هؤلاء العمال وعلى خلاف سابقيهم قبلوا ويقبلون الدخول في مغامرة محفوفة جدا بالمخاطر.. وهم يعرضون أنفسهم لشتى الاحتمالات، التي ابسطها قيام المستوطن اللعين بتشغيل جهاز التبريد في الثلاجة، والتسبب العامد بموت العمال متجمدين.. لقد استمعت لمدة تزيد عن ساعة لواحد من هؤلاء العمال وهو يسرد قصته.. وكان يتحدث ببرودة أعصاب عجيبة وكأن كل ما يقوله أمر عادي.. وقال لي بعد أن لاحظ علامات الدهشة على وجهي.. لم العجب فهذه القصة تحدث كل يوم، بل وان العمال المحظوظين هم فقط من يحصلون على مكان في هذه الثلاجة.. لأنهم بذلك يستطيعون الدخول إلى إسرائيل.. ويتمكنوا من اخذ فرصة ( قد تأتي وقد لا تأتي..!! ) للبحث عن رب عمل إسرائيلي يشغّلهم ويكسبوا منه أجرا يسد رمق أطفالهم... يقول اسعد الصافوطي: أن حاجته للعمل دفعته هو والعديد من العمال للتفكير في انسب الطرق ( وهي أشبه بالمستحيل ) لعبور الجدار العازل، وبعد بحث وتدقيق اهتدى اسعد إلى شخص عربي ( سمسار) تربطه بالمستوطنين علاقات قوية ( وهي بالتأكيد علاقات مشبوهة ) فعرض هذا السمسار على اسعد وزملاؤه مساعدتهم في عبور الحواجز الإسرائيلية بطريقة آمنة-- بنقلهم داخل ثلاجة إسرائيلية يقودها مستوطن يهودي متدين-- على أن يدفع كل واحد من العمال مبلغ ( 100 ) مائة شيكل للمستوطن.. فوافق العمال مرغمين لحاجتهم للعمل والمال، وانسداد كل سبل العيش في وجوههم، وذهبوا في اليوم المحدد، وفي الساعة المحددة، وفي المكان المحدد، لانتظار قدوم الثلاجة.. وبالفعل وصلت الثلاجة، وتوقفت بجانب العمال، ونزل سائقها المستوطن الملتحي ذو الجدائل، وفتح الثلاجة، وطلب من العمال الصعود إلى داخلها، مطمئنا إياهم ببعض العبارات، وبقيامه بتشغيل مروحة هوائية لتامين الأكسجين اللازم للتنفس، ثم قام بإغلاق باب الثلاجة من الخارج ( وهي بالعادة لا تفتح من الداخل ). وتحركت الثلاجة وأحسّ العمال بداخلها بالحركة.. لكنهم أحسّوا أيضا بعد تحركهم بنوع من الرهبة، وبدأت الأفكار السيئة تطاردهم... ماذا لو قام المستوطن عامدا بتشغيل جهاز التبريد ؟؟ ماذا لو قرر المستوطن قتلهم بإيقاف المروحة الهوائية وتركهم يموتون خنقا ؟؟ ماذا لو حصل حادث للثلاجة ومات السائق فمن سيدري أن هناك داخل الثلاجة أناس أحياء؟؟ ماذا لو تآمر المستوطن مع جنود الحواجز، وفجروا الثلاجة بالادعاء أن العمال كانوا يدبّرون عملية عسكرية ضد إسرائيليين؟؟ ماذا...؟؟ وماذا...؟؟ وكانت كلها احتمالات ممكنة التحقق، كون سائق الثلاجة والمتحكم الوحيد ببوابتها هو مستوطن، ينتسب لعموم المستوطنين المعروفين بكراهيتهم الأبدية للفلسطينيين، والمشهورين بصلفهم وحقدهم الشديد على كل ما هو عربي.. لكن كل هذه الأسئلة وجميع المخاوف التي فكر بها العمال، لم تثنيهم عن تكرار هذه التجربة أكثر من مرة، وذلك بعد أن اقنعوا أنفسهم وطمأنوا قلوبهم بأن هذا المستوطن السائق للثلاجة هو من النوع الجشع الطماع، وهو تماما مثل شخصية اليهودي شيلوك بطل رواية شكسبير.. لا يفكر إلا بالحصول على المال، وهو لا يضحي أبدا بمصدر ثابت يدر له المال الوفير كل يوم- يتجاوز الألفي شيكل عن كل حمولة من العمال لا يستغرق وقتها أكثر من نصف ساعة... لقد أدهشتني تجربة هؤلاء العمال كثيرا، وعندما سردت قصتهم لعمال آخرين محاولا التأكد من صحتها، ضحكوا من دهشتي، واخبرني بعضهم أنهم قد اخترقوا الجدار وعبروا إلى إسرائيل أكثر من مرة ( بجبالة باطون ).. وآخرين قالوا لي أنهم ركبوا في قفص وحملتهم رافعة ( ونش ) فوق الجدار، ليصبحوا وخلال ثوان معدودة في الجهة الأخرى من الجدار، مقابل دفع كل واحد منهم مبلغ خمسين شيكلا لصاحب الرافعة... فأدركت حينها أن شعبنا هو فعلا شعب الجبارين.. وان المحتلين مهما اخترعوا من أساليب ووسائل لخنقنا وإرهابنا فلن ينجحوا، وسيفلح شعبنا في اختراع ما يبطل مفعول كل تجهيزاتهم، ويفشل كل مساعيهم، فالضغط يولد الانفجار والحاجة أم الاختراع.
خالد منصور عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني مخيم الفارعة – نابلس – فلسطين 8/7/2005
#خالد_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الضرب في الميت حرام
-
من ذاكرة المخيم الفلسطيني - معركة المقثاة
-
كلمات في ذكرى النكبة الفلسطينية
-
شعارات لمسيرة في ذكرى النكبة الفلسطينية 2005
-
ذكريات لاجئ من جيل النكبة
-
في الذكرى السابعة والخمسين للنكبة الفلسطينية - سلام عليك يا
...
-
الاغاثة الزراعية الفلسطينية تسهم في تعزيز الديمقراطية
-
هتافات في مسيرة تضامن مع اضراب المعلمين الفلسطينيين
-
هتافات لمسيرات عمالية في عيد العمال العالمي
-
من أدب الانتفاضة الفلسطينية.. شعارات للمجلس التأسيسي
-
شعارات سياسية مطلبية - للمجلس التشريعي الفلسطيني - من اجل قو
...
-
عودوا الى بيوتكم
-
انهم يحاصرون نابلس بالدبابات والنفايات
-
الاغاثة الزراعية الفلسطينية تطالب السلطة باعادة النظر في الا
...
-
مهرجان يوم الارض في مدينة نابلس
-
لتحزم السلطة امرها
-
بالعزيمة والاصرار-- تفرض المراة وجودها وتنال المزيد من حقوقه
...
-
جمعية تنمية المراة الريفية - نابلس - تحيي يوم المراة العالمي
...
-
التنمية شعار وممارسة
-
من لهؤلاء الناس ..؟؟
المزيد.....
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|