|
المعرفة وفق المبادئ الهندسية
كاظم الفياض
الحوار المتمدن-العدد: 4416 - 2014 / 4 / 6 - 16:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الحرية تفترض الإرادة التي تفسر القوة المؤثرة الصادرة من شكل طبيعي بوصفها فعل له على إنها تحريض يحدث تأثيرا في الشكل الآخر الذي ينفعل لها انفعالا ميكانيكيا، ذا أثر هندسي. القوة إذن هي قدرة شكل طبيعي عبر عن إرادته آليا في تغيير خريطة المكان الهندسية ، والتي لابد لها من مساحة محددة الأبعاد ، وفيها أشياء مفصولة عن بعضها بفراغات ، هذا ما تسمح به قدرة الإبصار، وهو ما تلمسه الإنسان في كل مراحل حياته. هذه المعرفة ذات الطبيعة الفيزيائية مارسها الإنسان، وكررها دون انقطاع، عبر فعاليات جسده ، كالشعور بالجوع = فراغ، فالحصول على الغذاء =امتلاء، إن هذه المعرفة، أو هذا الاكتشاف ذو الجدوى النفعية المباشرة للجسد ترك أثره المباشر على التجربة الإنسانية مطوقا المعرفة الناتجة عنها بقضبان القانون الفيزيائي. لكن الجوع يتكرر، وفترة حدوثه تطول وقد تقصر، وكمية الغذاء الكافية لإشباعه متفاوتة، ومتغيرة، ومتنوعة، وهذا يعني إن المعرفة الفيزيائية ليست مثالية في الإحاطة بمتطلباتنا الجسمانية، فضلا عن تلبيتها. هناك إذن ثلمة في البناء الطبيعي، الكوني، المؤسس معرفيا على جملة قواعد فيزيائية ثابتة،مكونة قانونا شاملا، تجد لها حضورا في الإمكانية النفعية المتحققة، أو غير المتحققة للقانون نفسه. عندما نقول إن الإنسان يملك قدرة على التصور، نجزم بأنه قادر على تجميع الأحداث العديدة بوصفها معلومات، وترتيبها حسب ظروف تكرارها الأمر الذي أتاح له معرفة وقت ومكان الحدث قبل وقوعه، إن تكرار تحقق النبوءة الفيزيائية دليل على وجود حضور لمكان، وزمان في الذهن غير الحضور الفعلي خارجه، نحن نتحدث عن وجودين متحققين لشيء واحد، إذ لا يمكن للإنسان أن يمارس حياته أي سلسلة العلاقات المرتبطة بوجوده الجسدي الفعلي، أو أن يتصور شيئا لا يكون واقعة معرّفة فيزيائيا. عندما ننظر إلى مرآة نتجه من ذات مدركة إلى موضوع أي أنه شيء قائم بنفسه، منفصل عنّا وإن كان هو صورتنا المعكوسة فيها، والمرآة نفسها موضوع كذلك لذاتنا المدركة نفسها أيضا. هنا وجود مطلق الأهمية، وهناك وجود، أهميته نسبية، اعتبرناه مكانا فهو فراغ هندسي بينما هو وجود مرئي بوضوح. إن الفائدة العملية المباشرة التي جناها الإنسان بتعامله مع محيطه وفق المبادئ الهندسية جعلته ينظر إلى الكون كله بمنظار هندسي استبعد معه كل إمكانية احتمال وجود، فالمكان المعبر عنه بالمساحة لا يتعامل إلّا مع شيء أو فراغ. أقام الإنسان الوجود الفعلي لجميع ما يحيط به على قواعد المعرفة الهندسية، مبدلا المساحة بالكون، والشيء بالوجود، والفراغ بالعدم؛ وكانت نظرته إلى العالم محددة بثلاث مراحل هي:الإنسان، الكون، الله وقد ربط بينها بأسباب منطقية وجدت في حاجات الجسد المتعذر توفيرها كاملة، والمبذولة في محيطه الجسر الذي نقلها من الوجود الهندسي إلى الوجود القيمي. ففكرة حب الحياة = لا موت مجالها الدين وفكرة الشبع = لا جوع مجالها الاقتصاد، وهكذا بدأ يصنع عوالم متعددة بديلة للعالم الذي يعيشه فعلا، فعالم الدين هو الحياة الأخرى، وعالم الاقتصاد هو المدينة الفاضلة وهكذا أهمل عالمه هو، أهمل جسده، ومحيطه، أهمل حاجاته الماسة لجوهر حياته. كان الإنسان أصغر المراحل الثلاث هندسيا، و به تبدأ أو إليه تنتهي العمارات الفكرية، الشاهقة التي صنعها كبار الفلاسفة عبر التأريخ، وكان المهم في كلا الطريقين: الصاعد- الإنسان، الكون، الله- أو النازل- الله، الكون، الإنسان- هو تأويلهما الفكري الذي يؤيد التوجه الديني السائد، ويعطي للحكر الاقتصادي مبرراته الأخلاقية. في هذا النظام الفكري، العمراني، العملاق تكون شخصية الإنسان السوي، الكاملة في عبوديته، ليس دينيا فقط، وإنما اجتماعيا أيضا، لرجل دين أقنعه إن إتباعه إتباع للديّان سبحانه أو لرجل ثريّ أوهمه إنه لا يعمل له بل لنفسه وعائلته. إن ما حققته هذه التوجهات الفكرية من نجاح عريض ظل، وسيظل نجاحا نسبيا، تؤججه في الغالب الظروف المحيطة بالإنسان، ومن أهمها الفقر، وعدم استتباب الأمن لذلك من الأسلم عدم الركون إليها والبحث عن طريقة أخرى تجعله يستجيب للمطالب الاجتماعية؛ بتعبير أدق، يجب أن يخضع جميع أفراد المجتمع لعلية القوم، الفئة المترفة منه، ويجب أن يكون خضوعهم منظما لذلك كانت مؤسسات سياسية، ودينية، واقتصادية . إن الإيمان الذي هو حالة قلبية، تشدّ المؤمن إلى خالقه، بمعرفة حدسية، يقينية، لا يشركه فيها أحد من الخلق، كالألم إن أمكننا الإخبار عنه، فلا يمكننا نقل الإحساس به؛ لذا من غير المعقول أن نكافئ، أو نعاقب الناس المتفقين أو المختلفين دينيا معنا على معلومة لا يمكن للبرهان التجريبي إثباتها، ولا نقضها، صادرة من المخبر نفسه الذي نريد ثوابه، وربما عقابه. يخبرنا تأريخ التجربة الدينية أن رجالاتها كسبوا نفوذهم الهائل، وثرواتهم الكبيرة، عندما أقاموا قواعد الإيمان على أسس هندسية، مبدلين المساحة برضا الله، والشيء بالمؤمن، والفراغ بالمخالف، ولم يكن محدودا بأفكار عقائدهم بل بسط في مجتمعاتهم، يخصون أتباعهم بإدارة الدولة، ونهب خيراتها. إن البلبلة التي أحدثتها فكرة الفراغ الهندسي داخل الفكر الإنساني كانت شديدة لتحول توجهه الخالص في التعامل مع الطبيعة، واستغلال البيئة، إلى مهاترات كلامية، كما إن السلوك العنيف الذي سلكته المؤسسة الدينية حيال غير المتدينين أي غير الخاضعين لسلطانها، حول الجهد البشري من قوة مجموعة في نظام واحد لاستصلاح الأرض، وعمرانها إلى مجموعة قوى طارد بعضها بعضا. هكذا تخلى الإنسان عن التوجه الكامل إلى الطبيعة بغية توفير مقومات حياته، وعمد إلى قهر خصمه، أخيه الإنسان، شريكه في الأرض، مثيله في المخلوقية، والموعود مثله بيوم حساب على أعماله التي عملها، الآن، على هذه الأرض. إن هذا الجهد البشري المشتت لم يفقر الأرض فقط ما يعني حاجات إنسانية أقل من مواد معروضة، بل توجه إلى تشكيل مراكز استقطاب للقوة، كانت هناك قوة الأفكار ممثلة بالمؤسسة الدينية، وهناك قوة وسائل الإنتاج ممثلة بالمؤسسة الاقتصادية، وهناك القوة المهيمنة التي تضبط سلوك الأفراد داخل المجتمع ممثلة بالقوة السياسية. تلك القوى تفاعلت مع بعضها، بما يناسب مصالح كل منها، واستخدمت نفوذها للحصول على أكبر مقدار من ثروة البلد، تريد من خلالها ديمومة أطول، وفاعلية أبلغ، للنفوذ المكون لها، ونعلم أن الثروات المجموعة بنفوذ أصحابها هي أموال طائلة في أيد قليلة لا تستحقها. سلع معروضة أقل بكثير من الحاجة الفعلية لعموم أفراد المجتمع، هذه السلع و أقيامها أموال موزعة بشكل مجحف بينهم. قلة يملكون شطرها الأعظم و بما يفوق كثيرا حاجاتهم الفعلية، وهناك عموم المواطنين لا يملكون إلّا الشطر الأصغر منها، وهي لا تكفي لتلبية جميع احتياجاتهم، نرى من ذلك خللا اقتصاديا، سببه خلل أخلاقي، أنتجه هو الآخر خلل معرفي. روجت هذه المؤسسات أنها السادن الأمثل لقيم المجتمع السامية، والممثل الأول لها، في كل وقت، وعلى أي أرض كانت المدافع الأشد حماسة عن حقوق المواطن في العيش بشرف، وكرامة، وما من سالب فعلي غيرها لقوته، وقوت عياله. رسخت هذه المؤسسات، وتوطدت بمرور الزمن جيلا بعد جيل. خبث توالوا درسه، وتوارثوه، يسند بعضهم بعضا، بينما المواطن الجاهل، الجائع، المريض الذي أسكنه الفقر، يذهب في تصديق مزاعم هذه المؤسسات والدفاع عنها حدّ التضحية بنفسه من أجل مبادئها التي انتهكت جميع حقوقه. لم يكن للجوعى،أمام قلة الطعام، وبقية حوائجهم، إلّا أن يتكالبوا فيما بينهم، ويتطاولوا على السلطات القيمية، وما تملك من أموال، فاستعانوا بالنظرة الهندسية، من أجل بقاء الوضع على حاله ، فأقاموا الدولة معادلا موضوعيا للمساحة، والمواطن بريئا يقابل الشيء، ومذنبا يقابل الفراغ، وهكذا أرغموا الجائع على حبس جوعه في بدنه وإلّا نفي، أو سجن، أو قتل .
#كاظم_الفياض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|