|
نادين
حازم شحادة
كاتب سوري
الحوار المتمدن-العدد: 4416 - 2014 / 4 / 6 - 08:28
المحور:
الادب والفن
جلست نادين بهدوء وهي تشعر بثقل كبير يجثم على صدرها وقبل أن تضع أصابعها على مفاتيح البيانو دخلت من شباك غرفتها نسمة شتائية باردة، ما هي إلا لحظات حتى سمعت صوت المطر يضرب الزجاج ثم استنشقت رائحة تعتبرها الأزكى من بين كل العطور ، إنها رائحة الأرض أول المطر، تذكرها برائحة أول حب عاشته وما زال يعيش في مسامها.. بدأت قطرات المطر تتسلل داخل الغرفة من النافذة المفتوحة لكن ذلك لم يزعجها بل شعرت بشيء من الامتنان، يحق للمطر وحده أن يدخل غرفتي دون استئذان.. ـ قالت نادين لنفسها ـ ثم راحت أصابع اليدين النحيلة الطويلة تعزف أحب مقطوعات شوبان لقلبها.. لا شيء كموسيقى شوبان سيجعلها تطير خارج واقعها الذي ما عادت قادرة على تقبله وفي ذات الوقت لا حيلة لها في التعامل معه، فهو في النهاية واقعها هي.. حياتها هي.. سجنها الذي لا جدران له.. سجن روحها الحزينة.
أنقذ العزف نادين قليلاً.. الفتاة الثلاثينية ذات الملامح الطفولية والعينين العسليتين الجميلتين راحت تحلق مع نوتات فريدرك البولندي.. كانت ترتدي بيجامة صفراء مريحة، أما شعرها الكستنائي الطويل فقد ألقي بعبثية فوق كتفيها الصغيرين، ثم بدأت تشعر بالنسمات الباردة أكثر فأكثر، تقلب الطقس كان مفاجئاً، قاومت البرد قليلاً لكنها استسلمت فتوقفت عن العزف وأغلقت النافذة، أفلتت منها تلك اللحظة السحرية التي كانت بين يديها منذ قليل ومن العبث محاولة استعادتها.. وقفت وحيدة تطالع المطر المنهمر على أشجار الحديقة مستعيدة ذكريات لا على التعيين من حياتها الماضية، ثم قررت أن الاستماع إلى ريتشارد كلايدرمان وهو يعزف موسيقى شوبان سيكون أفضل.. جهزت لنفسها كأساً من الشاي واستلقت على سريرها محدقة بالسقف وهي تنتظر أن تظهر معجزتها من خلاله، لكن أيام وحدتها الطويلة علمتها أن هذا لا يحدث... على الرغم من ذلك استمرت بالتحديق.
لم يخطر لنادين يوماً من الايام أنها ستكون وحيدة إلى هذه الدرجة.. خلال دراستاها الجامعية كان لديها العديد من الاصدقاء، كانت تمضي أغلب الوقت معهم في المقاهي والحدائق، الذهاب لمشاهدة المسرحيات والأمسيات الثقافية.. زيارة السينما أسبوعياً كان طقس الشلة المفضل على الرغم من ندرة الأفلام الجيدة التي توفرها دور العرض في هذه المدينة المزدحمة بهمومها وناسها ومشاكلها الكثيرة، لم تكن الأفلام بحد ذاتها المتعة التي يحققها الأصحاب من الذهاب إلى السينما وإنما الجو هناك هو ما كان يسحرهم.. النقاش بعد الفيلم كان يسعدهم أكثر من الفيلم نفسه.. ولّت تلك الأيام وانقطعت أخبار الأصدقاء عن بعضهم بعضاً.. كل واحد اختار طريقه في الحياة ومضى بعيداً. بعد تخرجها من الجامعة كانت نادين متحمسة للعمل في مجال اختصاصها وبالفعل بعد أن قرأت إعلاناً عن حاجة إحدى المؤسسات لموظف في هذا الاختصاص لم تتردد وأجرت مقابلة أكثر من رائعة مع رئيس القسم الذي أعجب بجمالها أكثر من إعجابه بأجوبتها وعلى الرغم من أنها لاحظت ذلك من خلال نظراته التي كانت تأكل نهديها وشفتيها إلا أنها قررت أن تتجاهل ذلك طالما لم يقم بأي تصرف مزعج أو خارج نطاق الأدب، لم تكن تعلم أن الرجال عند أغراضهم دنيؤون وأن رئيس القسم كان يبيت لها خطة تدفعها للقبول بإرضاء شهوته مقابل موافقته على توظيفها بسهولة كبيرة وكانت خطته هذه تطبخ على نارد هادئة الأمر الذي جعلها تنخدع بداية بلطفة ولباقته قبل أن تتفاجأ بعد شهر واحد من عملها بطلبه المباشر منها أن تمارس معه الجنس مقابل تسهيله موضوع توظيفها.
لم تتردد نادين كثيراً وقبلت طلب رئيسها في القسم شرط أن يكون مرة واحدة فقط مع تنبيهه إلى أنها ما زالت عذراء، على الرغم من أنها مرت من قبل بعلاقتين جادتين إلا أنها لم تنظر لموضوع الجنس من أجل وظيفة مضمونة ومريحة بعقلية منغلقة، فتقبلت الفكرة، ثم شهد مكتب رئيس القسم أقرف شيء يمكن أن تتذكره عن الجنس مقابل شيء غير الحب.. لا مشاعر ولا أحاسيس، لكنها راحت تقنع نفسها أن التجربة مهمة للإنسان في حياته، وتأمين المال أيضاً.. ثم تبين لها فيما بعد أن هذين الأمرين عند القيام بهما مقابل خسارة (الروح) يجعل من الحياة أكثر قسوة.
صارت تكره نفسها يوماً بعد يوم، وكلما نظرت في عيني رئيس القسم ازداد كرهها له على الرغم من أنه كان في قمة اللطف معها فيما بعد وبدا كأنه نسي أمر تلك العلاقة في المكتب، لكن من أين لها هي أن تنسى.. نظرة الرجال للعلاقات تختلف عن نظرة النساء إليها.. عندما يبيع الرجل جسده مع امرأة لا يحبها ربما يندم ليوم أو يومين.. بينما قد تمضي الأنثى حياتها نادمة على فعل ذلك.. وراح الأمر يزداد سوءاً بالنسبة لها على الصعيد النفسي، ثم جاءها حبل النجاة حين تحسنت أمور أسرتها المادية بشكل ملحوظ وشهدت أعمال والدها التجارية تقدماً كبيراً الأمر الذي سهل عليها ترك العمل مع كامل الاحتقار لذاتها بعد هذه التجربة السيئة.
فيما بعد تعلمت العزف على البيانو وعلى الرغم من أن عمرها متقدم جداً بالنسبة لمن يرغبون بالعزف على هذه الآلة الصعبة إلا أنها كانت أمنية من أمنيات حياتها وقد دفعها الشغف إلى تعلمها خلال خمس سنوات من التدريب المتواصل على يد معلمة متمرسة، حتى أنها نسيت عالمها الخارجي بشكل غريب وما عادت تخرج إلا فيما ندر، التواصل مع الآخرين بات معضلة بالنسبة إليها والموسيقى غدت عالمها الذي تجد نفسها فيه، حتى الأفلام ما عادت تشاهدها في السينما واستعاضت عن ذلك بمتابعتها في المنزل.
مصالحتها لنفسها أخذت منها وقتاً طويلاً لكن في المقابل أصبح تصالحها مع المجتمع عصياً على التحقيق.. عالمها الآن في عقلها.. هناك تعيش وحيدة مع أحلامها التي لم تتحقق وتلك التي تعلم أنها لن تتحقق على الأغلب، تنتظر معجزتها التي ستظهر يوماً ما من خلال السقف الذي تحدق فيه بينما المطر يطرق نافذتها في يوم شتائي غائم
#حازم_شحادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موعدٌ مع امرأتي
-
رِيحُ الجُنون
-
ازدواجية امرأة
-
دربُ الهوى
-
الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل
-
الثورة الفرنسية السورية العرعورية
-
ألف ليلة وليلة
-
امتلاك الحقيقة
-
راياتك بالعالي يا سوريا
-
لمَ لستم سعداء؟
-
طريق النحل
-
عَزفٌ مٌنفَرد على أوتَارِ رُوح
-
أنا حازم شحادة
-
المُقَامِر
-
دعوةٌ للاعتذار
-
أشبَاح
-
شَيءٌ مِنَ البحر
-
جلجامش
-
المُعَاتِبه
-
دكتوراه
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|