أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح محسن جاسم - الخطوةُ الأخرى - استكناهٌ للغربة وتثويرٌ للسرد المضاد















المزيد.....


الخطوةُ الأخرى - استكناهٌ للغربة وتثويرٌ للسرد المضاد


صباح محسن جاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4415 - 2014 / 4 / 5 - 23:37
المحور: الادب والفن
    



قراءة في رواية توفيق حنون المعموري ( للهُروب خطوةٌ أُخرى)

مقدمة : تتوّج دار – ميزوبتاميا – اصداراتها المتنوعة للعام الجديد 2014 بمنتجها الجديد للشاعر والروائي توفيق حنون المعموري ، ( للهُروب خطوةٌ أُخرى) اثر اصداراته الأخرى ( روايتان وثلاث مجاميع شعرية وكتاب مترجم(. جاءت الرواية بـ 185 صفحة من القطع المتوسط فيما اخرجت– دار صفحات- الغلاف الأول عتبةً لثيمة منوسة بلوحة تشكيلية وفضاء نصّي ودلالي يحتضن غريقاً يجاهد للتشبث بعشبة املاً بخلاص.
تصدّر الغلاف الأخير انطباعٌ مكثّف للشاعر والناقد (ريسان الخزعلي) مفلسفاً الهروب على اعتبار انه يمثل" محنة الأنسان العراقي الوجوديّة ومسعاه في الخلاص الروحي والجسدي...". توزعت الغلافين ارضية تشكيلية رامزة لبداية شروق أو لعله الغسق تورية لنهاية رحلة النهار والى غياهب المجهول . تُدار احداث الرواية بثلاث عشرة خطوة يعقبها هروب معاكس بثلاث خطوات من ثم الخطوة السابعة عشرة المفتوحة الى المطلق .. طرحٌ فلسفي لماهية الهروب، مسبباته وحتى ايجابياته مثل ما يتكشف عن رؤى وأفكار تشخّص بعض امراض العصر الرأسمالي الذي لا يني عن الإعلان بوقاحة من احتلاله لدول اعضاء في الأمم المتحدة بآليات ومساقات المحتل عبر رسم الخرائط والعمل على الاستحواذ على ثروات الشعوب - الشرق الأوسط على وجه الخصوص -.
* البداية – الخاتمة : " في البدء، أعني بداية هذا النهار، ..." هكذا يبدأ الراوي ، احداث روايته او خطوته البكر على لسان السارد ، الشخصية المتقدمة والرئيسة ذات الملامح الرقيقة والذي يؤْثرُ " الحياة البرية" ص61 ، الحاد الطباع الذي (لا يتخلى عما في رأسه لأحد) ص52.. من ثم يختم فلسفة ما وراء خطواته جميعها بعبارة خلاصتها" الهاربون غاضبون دوما لا يستقر لهم قرار". ص184 على انهم يعودون ما " أن تستقر اقدامهم على اية ارض" ص35 هكذا " ينقّط " بداية السرد، فيخال للقاريء أنه اعلان عن – بدء الخليقة – من ثم يدرج لخطوات روايته. في خطوته السابعة عشرة والمفتوحة ... يذيّل الروائي الصفحة بالتعبير ( يتبع). خطوات بمجملها المسترسل " تدوس على مسلّة الحزن التي تقف شامخة " ص10 ..ابتداءا يستمرئ السارد مشاركة قارئه هروبه الى داخل غرفته المتواضعة متواريا ليتطلّع عبر " النافذة الوحيدة" متأمّلا مدينته ببيوتها المتلفعة برداء الموت ايذانا بذلك الغياب المزمن! غرفة ستظل مغلقة بمفتاحها المعلّق منذ العام 1968 والى ما بعد احتلال العراق عام 2003. بعدها تغلق ثانية والى الأبد.
هو ولوج أكثر منه دخولا فالسارد جنيّ الكاتب والأخير ينقل الى نفسه قبل أي شيء آخر- لذّةً يستشعرها لتجربة خاض غمارها فراحت تلوّح له عن فترة يفاعته التي هربت كسواها من ثمّ يقتنصها عبر قنّاص اللحظة الشعرية .
وليبث السارد قصص رحيله المضني الذي يعدّه ( حلم الإقلاع، بل الإقتلاع من الجذور) - كذلك يتلاعب على الألفاظ، وليعلّق كل ذلك على " لعبة انتظار المتاهة" ص7-.
رواية مونولوجية واقعية من حيث المضمون الواقعي والتاريخي مستثمرة المتخيّل بمحطات سردية معينة، تعتمد في اسلوبها على خطاب ثنائية الأنا والآخر عبر لوحات التداعي الحر او الأرتجاع الفني flashback على غرار ما تناوله الروائي الآيرلندي جيمس جويس في روايته – صورة الفنان في شبابه- تمنح احساسا بملمس ولون وسماع توصيف السارد للأشياء (أشعر أني ... متلفع بأجنحة الوثوب، .. اية جلبة في صوتي المخنوق... وجه امي الموشوم بنيران تنورها، ... ولحية أبي المسترسلة ..) ص7. واذ تنطلق من اصول نفسية وجودية لشخصية رئيسة برغبات دفينة مكبوتة تتنامى الى صراعات تعود بالتالي بحثا عن براءة عالم الطفولة المنسي حيث التوازن والأنسجام والحياة السعيدة منطلقة من حقيقة ان " كل روائي لابد وان يعكس في عمله الأبداعي شيئا من سيرته الذاتية وتاريخه الشخصي وطفولته المثالية" – مارت روبير-
* الحبُّ وحريةُ الفكر ، حين يُسلبان : في تناغم داخلي قدّم الروائي/ السارد معاناة – عماد عبود السرحان- الشخصية الرئيسة في الرواية ، باغترابه الأنساني قبل السياسي. فهو شخص اُجبر على ان يُقصى عن حبيبته التي يزعم انّه يعشقها ، تلا ذلك بل وتزامن معه رفضُه الانحياز الى السلطة التي تمثلت بإلحاح خاله لإجباره الانتماء الى حزبها الشمولي وما ان يلقى معارضة شديدة من ابن اخته حتى يسومه هذا شرّ العذاب عبر التبليغ عنه في دائرة الأمن الأرهابية السيئة الصيت.التمايز بين مواطني البلد الواحد خلق رفضاً قاسياً لدى – عماد السرحان- بحيث صار ينعت الحكومة التي تُدار من قبل أنفار بالعاهرة وما المواطن المدنَّس والتابع لها الآ ابنها " الشرعي" ومن يعارض فليس سوى ذلك " اللقيط" .. و – عماد- ارتضى على مضض هكذا نعت. هو المختنق الذي لا يعنيه سوى حصوله على " لحظات الحريّة" ، فيرمي بجسده المتعب المستلب عاطفياً والمقهور فكرياً الى محطة القطار.
* و ، " وزعق القطار.." في دلالة استعارية يستعرض السارد بدء مشاوير الغربة والاغتراب المجهول المصير ، هارب من كل شيء ، لا يحمل معه من وسيلة للدفاع عدا غضبه الذي يمور فيتحول الى " مدفع" يوجه فوّهته الى اهدافٍ منتخبة ( الهروب نحو البصرة ) ص23،10 ،( افريقيا) ص33،( الجنة او الجحيم) ص36، و الصفحة 41 ( هذه المدينة التي استقر فيها مدفعي صامتا ..) بعد ان استنزف قذائفه كلها . واذا ما لم يتوضح هدفه فسيشعره انه يوجّه مدفعه نحو السماء ص 10 و الصفحات 157 ،155، 182 ( لابد أن أجد بقعة على هذه الأرض أوجّه اليها فوّهة مدفعي الآن وإلآ فسوف أصر أن أوجّه فوّهته نحو السماء) في اشارة دالّة على عجزه ونكوصه " المؤقتين" بل واحتجاجه بكل ما فيه من بقايا تمرّد ورفض للظلم والأقصاء .على ان السارد الهارب (عماد عبود السرحان) يعود ليسمعنا حكايته من على سنن النيران عبر مسامع شيخ في البصرة آواه عند الميناء ( ما يزيد على سنة كاملة كانت أولى سنوات قهري) ص24 ، من ثم ليواصل هروبه صوب خطوة لاحقة بل خطوات .من محطة / خطوة والى أخرى يتماهى القارئ والسارد في محصلة من سلسلة من هروب يفضي الى قلق فلسفي ينصهر في خيال تأملي ، اجاد الروائي في احالة القارئ الى عالم ساحر وساخر بشحنات دلالية لأحداث تجري عبر 35 عاما من فترة تاريخ العراق، قهرٌ مارسته شلّة من البرجوازية الرجعية على شعب بالكامل فيما استحوذت على خيرات البلد وكرّست ثرواته بكاملها لطفيليي الحروب ومصالح تجّارها.
* المتن - النص الروائي : فيما ينقسم النص الى مقاطع وصفية ومقاطع سردية فقد ميّز الرواية برنامجان استهوائيان يتركزان على الحب والكراهية على ان هناك جدلية وتفاوت بين هذين الفضاءين المتقابلين. كما تتمظهر في الرواية مجموعة من المفردات والأفعال الدالة على التسامح والحب والجمال يقابل ذلك الغطرسة والقسوة والتسلط والكراهية والتعذيب والحقد . واسم ( عماد عبود السرحان) ذو دلالة رمزية وأيقونة تدل على عوالم الشخصية الداخلية والخارجية. فـ "عماد" يدل على التفاؤل والأمل ، على ان لقبه " السرحان" يدلّ على تورية للهائم على وجهه في الفلاة ( لقد سرحتُ في البلاد طولاً وعرضاً خائفاً مرعوباً .. الى اقاصي الدنيا الى الغرب الأفريقي المتوحش)ص149. ذلك اقرب منه الى حال الذئب الذي ( يسرح سرحاته الطويلة في المراعي يتصيّد قطعان الأغنام). كذا الحال مع ( ايمان عبد الغني) الفتاة الدلوعة التي تعبد الجاه والمال والتي تخلّت عن حبها لعماد في اقسى لحظات الترقب يوم خطبها من عمّها فزاغت الى رجل ثان. ذلك ما أسس الى اول هروب غاضب لعماد بعد ان كان هروب الصبا يحلو له برغبة عارمة ملقيا جسده بكامل رغبته الى عجاج النهر: (حبيبين كنّا أنا وايمان، جارين، ندور في المحلة معا، نذهب الى سوق المدينة ... اقف بعيدا عن دكان- ابيها العطار- خوفا من ان ينكشف سري: هذا الرجل كنت قد قبّلت ابنته مائة قبلة) ص62. (صار الذي بيني وبينها حبّا، لكنه لم يكن حبّاً عذرياً) ص62
في فضاء روائي متسع قدم لنا السارد مثالين متخالفين في الشخصية أقرب إلى الشخصيتين الرئيسيتين ، "عماد السرحان" ، مدرس اللغة العربية الجديد العاطفي في اغلب الأحيان وصديقه استاذ اللغة العربية الجامعي "نعمان الجبوري" ، صاحب الموقف الثابت ممثلا العقل. فصحّة احساس نعمان الراجحة بما ستؤول اليه الأمور في تشخيص ما سيلي بشأن التغيير والأيادي الغريبة تردُ في وقتها المناسب ومثل ذلك موقفه الشجاع حين سارع في انقاذ صديقه من قبضة المتوحشين السحرة.
ولقد حدد الروائي رؤيته القصصية عبر ثيمة الاغتراب والانتقام من الحبيبة بدرجة عالية فصاغ خلاصة ما يجري وسيجري:( ... ستدرك ما أحدثك به الآن يا عماد ما دام التغيير لم يتم بايدينا، وما دامت الأيدي الأجنبية هي أقوى من ايدينا كثيرا وانتزعت التغيير انتزاعا فسوف تبقى تسيّرنا كما تشاء، ...) ص155.
* الوصف الروائي بصفته فنا : لقد شغّل الكاتبَ الوصفُ كثيرا في روايته كما نوّع من صوره الوصفية اذ يتبع منهجية واضحة في روايته عبر وصفٍ دقيق للمواقف والأشياء فينقل الينا مجموعةً من الصور البلاغية واللقطات الوصفية البارعة كما امتاز بتناوله الشجاع لحالة اجتماعية غالبا ما شخّصها الدكتور علي الوردي في ازدواجية المتديّن لا رجل الدين.(.. وجوه جديدة اشبه بوجوه العرافين، يتسربلون بلحى مرتبة كل حسب موقعه .. انتقلت العدوى الى العسكر يتسربلون بلحى تشبه لحية كاسترو او هوشي منه ) ص160 .. واذ يركز على موضوعة تقاسيم الوجه ابتداء بابتسامة الأنسان – ذلك الكائن المتفرد بها- فيوظفها تمييزا عن الحيوان الغابي، فهو يقدّم مشهدا تخيليا في ادانة لرجال الأمن وهم يبحثون عن صوره في السجلات : " لابد أن ذلك قد اوقع الجهات الأمنية في حيرة من امرها.. بحثا عن صورة تحمل وجها متجهما، اذ لا يعقل أن يكون المجرم ... مبتسما منشرح الصدر."ص21 .. من صور الاستعارة للهروب نعثر في ص 34 ( .. رحت اتطلّع في وجه الرجل بصمت وداخلي ينزف هروبا ) كذلك (.. تمنيت لو ينطلق بي ذات الكرسي هاربا كما فعل السرير في غرفتي ) ص85 ، وبالمثل في ص 105 ( سيارة نعمان الهاربة امامي). .. عن تنامي تمرده وغضبه الثوري يقرن وصفه النفسي بالنماء " حين دخلت غرفة المدير بقيت انا خارجها، شيء ما في فكري راقني اخضراره، شيء ما يشبه توقف الزمن، ذلكم هو انني استجمعت قواي .." ص29.. ومن التوصيفات الثابتة وصف السارد للمطعم بأيقوناته واعمدته بنقوشها والأقواس والشبابيك المزينة بالصلبان والطائر الغريب ذي الصوت الشجي في السافانا ، مجاهل غابات افريقيا .. كذلك وصفه للمنحدر الخطير وسط الغابة ص 117-118 " راحت تهتز كل حجيرة فيه، صار جسده يرتعش ارتعاشات قلقة واضحة انتقلت عدواها إليّ، كنت أرقبه ، فلم يكن مني إلا التمسك بمقود سيارتي" .
ولحظة ايقاف الوثنيين لسيارته وسط الوادي السحيق ص120.
وكما لا يخفى بعض التقاطاته لأحداث من الف ليلة وليلة : ( اخترع بساطا للريح.... ابتدع طاقية الخفاء، فأرى حمَامات السماء تهبط الى الأرض تنزع عنها الريش لتكشف عن صبايا حسان) ص136.. في الوصف ايضا ( الفرات يحتضن دجلة، انا احتضن نعمان والرقص يطول والزمن يسيل بين ايدينا ..) ص152 .. كذلك، ( هذا العالم الذي صيرني كرة قدم تتناوشني ركلاته من كل اتجاه كي ادخل هدف القهر والأذلال ثم اخرج منه لتتناوشني اقدام اخرى اكثر عنفا..) ص178 .. بما في ذلك الوصف الأثنوغرافي ، عبر تقديم مشهد – الصخرة الخرسانية - وتراكض المتوحشين الأفارقة من آكلي لحوم البشر التي يستحضر فيها العادات والأعراف والتقاليد التي يذكرها السارد في – الخطوة الثانية عشرة – والتي يقدمها هكذا ( خطوات بلا حياة وصمت مروّع) ص123
* الفنطازيا- سحرية اللاواقع السحري : شهد القرن العشرين أكبر الحروب المدمرة والتغيرات الحاسمة في تاريخ البشرية وما يزال عالمنا يشهد حتى الوقت الحاضر الحرب والفقر والمجاعة والمرض. حتى اغتربت الذات مع واقع هكذا حال لتنحسر بحثا عن خلاص. وحيث تدور الأحداث في فضاءات وهمية معتمدة على الخيال التأملي والسخرية من مرارة الواقع يسعى السارد الى ادراج عناصر الخيال داخل اطار متماسك متناسق من الداخل.
برع الكاتب في توظيفه للفنطازيا عبر وصفه لواقعة جنسية اثر نكوص عاطفي بحيث جمع بين استهوائين متناقضين قاسمهما المشترك تطمين شبق جنسي. وكأنما يقدم حيثيات منطقيه لفنطازياه حين يتماهى مع الآخر في لحظة شبق عميقة تنقل عدواها الأنتشائية فتكسبه خدرا في مفاصله وحواسه الخمس. واذ يهتز السرير في اشارة لأيروس التعبير عن دفق الشهوة للفتاة التي تضطجع اسفله يُستحال السرير الى بساط سندسي بلون العشب. فيصعد به إلى السماء – لعله بساط الريح استعارة عن ذلك الذي كان يصعد اليه علي بابا او السندباد – ثم ليتواصل الوصف ولتتكرر مفردة – بساط- بفضاء ثلاث صفحات فقط ( 81-83 ) تسع عشرة مرة! على انه من الحذاقة لم يكن تكرارها مملا على الأطلاق. توظيف جنسي غايته الشعور بالأمان والأستقرار في الوطن المضاع." البساط لم يفتأ يهتز مقتربا فهو يحوم الآن فوق سطح دارنا تماما .. لاحت لي .. نخلة بيتنا المنتصبة.. رائحة طلعها ملأت رئتي"ص82 .. توصيف ابداعي يماهي بين التلاقح الجنسي المضمخ برائحة الأنوثة والخصب والعبور الى ضفة الأمان – الوطن – الأستقرار ، ذلك العنصر الرئيس والأمل المستباح البعيد المنال. لقد أكد السارد في اغلب لقاءاته الجنسية مع – ايمان – بحثه عن امومة افتقدها ووطن اقتلع من ثناياه العميقة اقتلاعا ظالما بل وقهريا. لقد كثّف التوصيف باعتماد الفنطازيا لخلق عالم سحري مُوهم ، اذ سرعان ما ينتبه من غفلته فلا يجد ما اقضّ عليه مضجعه فينفر كعادته في كل لقاء واتصال. ولتنفتح الرواية على وطن اختزل بصديق اكثر منه الى الحبيبة التي لم تمنحه سوى شهوة جسد بدلا من صداقة حقيقية حميمة.( كنا أربعة في تلك المدينة التي تعداد أهلها أربعة ملايين، واحد فقط هو نعمان الجبوري بقي يجول ويصول بين تلك الملايين الأربعة... هذا الواحد الذي يقبع هناك سيصبح أثنين إن أنا عدت اليه..)" ص183
* السخرية ، الدفاع الهجومي : السخرية آليّة دفاعية ووسيلة فعالة لتجاوز وضع اجتماعي سيء عدائي وخانق او الدفع للإطاحة به صوب تغييره من أجل أن تستمر مقاومة الإنسان دون الإقرار بهزيمته. والسخرية تعزز من قيمة العمل الأدبي مثلها مثل الآراء والأفكار الفلسفية فيما تؤدي وظيفة فنية وجمالية بخاصة اذا ما استخدمت ببراعة لافتة . يتجلى اسلوب السخرية في المونولوج التالي للشخصية – عماد السرحان – وهو يتناول موقف الحكومة من وضعه:( ..ها انا اقف على باب الحكومة.. التي تغازلني، ترمقني بطرفة عين شبقة... ربما عشقت شكلي وهيأتي الجديدة وهي العاشقة دوما لكل منظر أخّاذ .. اصدرت أم اللقيط لولدها امرا بالقلم العريض يقضي بعودتي الى الوظيفة .. كي ابقى قريبا من عيونها التي لا تملّ التلصص والتحديق في شكلي الذي اعجبها كثيرا)" ص27.
وفي موقع آخر " كل الشعوب تنجب أبناءها إلآ نحن ننجب أجدادنا، وليتنا ... الكارثة اننا ننجب أجدادا مشوّهين، معوقين .. صرت اسير في شوارع مدينتي .. وانا أحاور مع نفسي تلك الوجوه المشوّهة، المنغولي، والأفطس ..." ص160 .. كذلك يتخذ السرد مساره الساخر فيتكثّف في مثل هذه الصورة " .. اولئك الذين يظهرون على الشاشات الصغيرة التي افرطت في كثرتها قنوات لم نسمع بها من قبل خرجت لنا من خلف جدران الطوف والبردي وبيوت التنك، لم تفتأ تلك القنوات تنشر وجوههم على واجهاتها ليل نهار يتمشدقون بألسنة عُوج، ...ساسةٌ ومحللون موشومة جباههم بعلامات مشوّهة تفضح نفاقهم."ص161 .. وفي ص 163 نقرأ " أمنا الشمطاء التي ملأت البلد باللقطاء من امثالي وفرّقت بين ابنائها، ... قد تغيرت باستيراد أبناء جدد شرعيين طبعا جلبتهم أم البلد الجديدة معها.. استوردتهم من كل إصقاع في الأرض. هذه الأم ادّعت ان كل ابنائها شرعيون واعلنت ذلك على الملأ..." في اشارة واضحة لأمريكا . وفي موقع آخر حين تفاجأ السارد بالأعلام المرفوعة والملونة بعد عودته الى مدينته " حتى خامرني شعور أن سفارات كل دول العالم استقرت في مدينتنا، .... لقد كانوا يحبونه.. نعم يحبون جلادهم حبّاً جمّاً، هذا هو ديدن اهلي. ص 159.
ومضات فلسفية : واذ يتحول السرد إلى مرآة تعكس الوجود برموزه وإشاراته وعلاماته عبر اللغة والصورة ، يجعل هذا الانعكاس من الذات والموضوع وحدتين انقلابيتين قد يأخذان شكلاً ثالثاً يمتزجان فيه بالموضوع الوجودي الذاتي، عبر تأمل الوجود ودراسة العقل من ثم حضور أنساق فلسفية ضمن حبكة النص الابداعي الروائي. (ان الحقيقي دائما هو ماض وليس حاضرا ابدا." ص42 اذ يحيلنا الى استنتاج ان – المستقر هو الماضي، بينما الحاضر والمستقبل هما المتحرك- ذلك أن الزمن الجديد هو تطلّع وانفتاح صوب المستقبل . وهي ما يدينها من حال اجترارية " ما نحن يا صديقي إلا هباء، هباء في دهاليز الزمن، لا نكسب من هذه الدنيا سوى تلك المتعات العنيفة الخفية."ص68 . على أنّه يعود لينتصر للهروب " الهروب يا عماد شيء رائع، لولاه لمتنا كمدا، انه حل جميل لكل ما نعانيه، ... حين تنغلق امامك كل الأبواب...، حينذاك فقط يكون الهروب عمرا جديدا لحياة جديدة.. انه الباب الواسع الذي يشعرك بلذائذ نسيمات الحرية.."ص92.. عالم لا مناص من تدميره ".. أنتن كلّ شيء فيه، تفتتت خلاياه، تعفّن، لم يعد ممكنا إصلاحه ابدا، يجب ان يدمّر، لعلّ عالما جديدا يقوم على انقاضه ..."ص127.. وليستدرك بعد لأي " زيّفتُ كل ارقام الرياضيات وكفرتُ بعلم الفلك، واستهزأتُ من فيزياء الكون، حين تشابكت النظريات في ذهني، المفروض والمطلوب اثباته والبرهان، كل ذلك زيفٌ ما بعده زيف لأن البراهين كلها قد فشلت لم تحقق نظرية واحدة.."ص146.. تناقضات تتشابك وتتباعد " لا تبتئس حين ترنو ولا ترى برّا، لأن منتهى السفن إلى اليابسة"ص 133اما لماذا "الهاربون غاضبون دوما لا يستقر لهم قرار" ص184، فذلك ما سيكتشفه القارئ بنفسه ما ان ينتهي من متعة قراءة الرواية.
* السرد باعتباره لغةً غايةً في التهذيب : السرد Narration هو اللغة المتناسقة في نقل مضمون الكلام بصيغة تراتيبية ونقله الى المتلقي بافضل ما يمكن.لقد جاءت لغة السرد بشكل متناسق عبر تقسيمات دلالية مترابطة ومشوّقة ، تتلبسها روح جمالية من شاعرية في اللغة – سيما اذا علمنا ان الروائي هو شاعر لقصيدة العمود يجيدها اجادته لقصيدة النثر - حتى اتضحت تقانته لصياغة افكاره بمثل هذه الروح من الإحساس بالشعر فراح يضمّنه بتوصيفاته الدقيقة والمبدعة ." شيئا فشيئا اخذ جسدي يتعافى مما ألمّ به، لكن نفسي لم تتعافَ، ادخل البيت انزوي في غرفتي. لا أكلم أحدا ولا أحد يكلمني، صامتٌ صمت الزمن السحيق الذي يلفّ تاريخ الأنسان، شيء من أجراس الذاكرة يجلجل في كهوف النفس، والرؤى تحاول أن تعيدني الى الصباح والعشق والحياة. "ص 19 فيما توجه لغة السرد بمرونة الانتقال من حال الى أخرى من على لسان السارد ذاته :( تناوشتني ساحة (أم البروم) ومسطر عمّال البناء، ما الذي قادني الى هذا المكان؟ لابد أنه لا وعيي الذي انتشلني من صخب الميناء الى صخب المدينة، هل من أحد يعرفني هنا؟" ص25
كما تضمّن السرد عناصر لغوية متنوعة من التورية والاستعارة والتشبيه والانزياح .. فعنوان الرواية جاء على تورية واضحة تؤكد على لا نهائية الهروب ، اذن هو هروب لا أمل يرتجى منه طالما القهر يتواصل.
كما تتضح الاستعارة بشكل مركّز في مفردات دالّة تكشّفت عبر عملية السرد: فالأم الشمطاء هي الحكومة وهي " أمٌّ زانية وعاهرة " ايضا ص29، وابناؤها اللقطاء هم المستقلون من مواطنيها ..اما ابناؤها المنتمون الى حزب السلطة فهم وحدهم الشرعيون. من ثم نتلمس صيغة المبالغة في اكثر من موقع وحدث ففي ص 31 ( تسمّرت نظرات الرجل على صفحة وجهي، فتح عينيه على وسعهما، تطاولت عنقه حتى حسبت انها ستخترق سماء الغرفة الواسعة، شفتاه المرتجفتان تصطفقان ..الخ". . كما تتميز لغة السرد بمطواعية المفردة لعمق معناها في اكثر من حالة ففي ص 33 تومض المفردة ( مشغول) بحالات اشتقاقية غير مبتذلة: ("– انا مشغول بغضبي: - كلنا مشغولون بغضبنا!! - المشغولون بغضبهم يحملون في دواخلهم طاقات عاطفية رهيبة!!" ) كما نتلمس جمالية التشخيص Personification في مثل هذه الصورة "( كأنها طفلة شقراء غافية بين أحضان الطبيعة الخلابة، هكذا بدت المدينة..)" فيما يشذّ السرد مائلا الى العبث حاشرا بعض تعابير لا علاقة لها بالسرد لكنها ذات دلالة :( " عاد نعمان اليّ قائلا- هل انت سعيد الآن؟ - ها .. نعم سعيد، سعيد جدا، سعيد أبو الدرده! ") ص57 . وما " ابو الدرده" هذا سوى شخصية شعبية ، يعمل دلالا لبيع السيارات في مدينة الكاتب، في اشارة الى التهكّم عن سؤاله عن السعادة. في ص 108 تتكرر مفردة "عبث" اربع مرات ، ذلك توظيف لما سيفاجؤنا به السارد لاحقا حول اختطاف وحوش الغابة لعماد السرحان.
لغةٌ ذات وقعٍ سلسٍ وبناءٍ متينٍ تومضُ بين ثنايا البناء بتعابير رائقة " غِرباناً سُحْماً تُقطّع مِزَقاً جسد أيمان العاري بمناسيرها الضخمة" ص178 .وبالمثل في ص8 " والليل هلّ، هلّ فجأة كفارس يعشق غزو المدن .." وكأنه يستنطق الليل لـ (يهلل) بما يكتويه من عشق.ومثل ما يكشف السرد عن عفوية في الكلام المسترسل " ترى ماذا اصنع؟ لا شيء سوى أن أنام وبعمق الموت إن استطعت، .." ص10.
آثر المؤلف هنا تجزئة سرده عبر خطوات جرى ترهينها في الحاضر السردي وبلغة سلسة محملة بالدلالات والفلسفة متجاوزا هموم شخوصه الذاتية الى هموم الوطن والأنسان الطموح المستلب وسط واقع من تجاذبات وصراعات لا فكاك منها.



#صباح_محسن_جاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- همسني - هوهوبا- ثم اختفى
- -عربةُ يالطا -.. تقانةُ صورِ المخْيالِ صوبَ تخومِ الشِعْرية
- شيّ الطين في -شياطين- غالب الشابندر ، منحى للأرتقاء
- هداياك في مزاد
- -وديعة إبرام- للروائي طه حامد الشبيب ، جوابٌ على ما ضُيّعَ د ...
- بي كادُد ..القرنفلة السوداء ، مائة عام وإصرار على الغناء
- دون رجْع
- المربد الشعري في دورته السادسة .. لما يزل حنجرة الديك
- مرام المصري في كرزة حمراء على بلاطة بيضاء
- كفاح الأمين يدعو لما بعد زمن الكتابة !
- هل من تساؤل ٍ للبرق ؟
- الصحافة العراقية .. إعادة اكتشاف أبي القاسم الطنبوري
- لذاذة
- يا ليَ من ’ توم ‘.. يا ’جيري‘ !
- كثيرة هي التنهدات غير المجدية
- غزل التراب
- باول العرب .. قبل أن يغبطك الغرق
- رصاصٌ راجع
- خطابات في الضد من الحرب: خمس سنوات كثير جدا لحرب!
- كو أن ، الأدب والانتصار على لعبة الألم


المزيد.....




- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...
- -هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ ...
- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح محسن جاسم - الخطوةُ الأخرى - استكناهٌ للغربة وتثويرٌ للسرد المضاد