|
تاجرُ موغادور: الفصل الأول
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4415 - 2014 / 4 / 5 - 05:41
المحور:
الادب والفن
{ ’ الحمد لله هذا الباب أمر ببنائه فخر الملوك سيدي محمد على يد مملوكه أحمد العلج ’ هكذا نُقِشَ على بوابة سقالة " موغادور "، المفتوحة على المرسى. النقشُ، يوحي بأنّ المملوكَ المعنيَّ كان أحد اولئك العلوج، الذين أسلموا وغيّروا أسماءهم الافرنجية بعدما سبق وتمّ أسرهم. فمنذ القِدَم، أشيعَ عن مهندسٍ من " جنوة " بأنه هوَ من تعهّد بناء " موغادور " ومرساها بأمر من السلطان. إلا أنّ ذلك الحدث، بحَسب علمنا المحدود، لا يعدو عن كونه احتمالاً. وإذاً بقيَ النقشُ لغزاً عصياً، طالما أنّ أحداً لم يتمكّن من حلّه حتى اللحظة. فالبربر، الذين يشكلون أغلبية مسلمي المدينة، يقرؤون اسم المملوك هكذا: " أحمد اوهارو "؛ باعتباره اسماً مألوفاً في لغتهم. المنافسة الدولية على المصالح في " موغادور "، جعلت أيضاً البريطانيين والفرنسيين يقدّمون للمسألة اجتهاداتهم الخاصّة. وإذا كان حُماتي، الانكليز، يعتقدون أنّ مهندساً من ملّتهم هوَ من أكمل أعمال البناء، فإنّ الآخرين ذهبوا أبعد من ذلك، بالزعم أنّ " موغادور " هيَ أول المدن الفرنسية، المقامة على شاطيء أفريقية..! ما سلف، كان ردّي على سؤالٍ من لدن تاجرٍ دمشقيّ، حول لغز بناء المدينة ومرساها. أعتقدُ أنّ غموضاً مشابهاً يُحيط بشخصية هذا التاجر الشاب، الكرديّ الأصل، الذي غامر بالابحار إلى الحاضرة الأسطورة؛ هوَ من شاءَ التريّثَ أمام سقالة المرسى، محاولاً بدَوره فكّ طلاسم نقشها. لقائي الأول مع التاجر الدمشقيّ، جرى هناك في حصن الجزيرة؛ في يوم الخميس، الثالث عشر من نوفمبر عام 1853. إنه يومٌ مشهودٌ، لا يُرام } مذكرات يوسف بن عمران، الورقة رقم 17 ................................................
1 طيّ الزرقة الرمادية للمحيط والأفق، مرّ سيفُ الشفق وهوَ يقطرُ دماً. صيّادو السمك في المركب الكبير، " الزهراء "، المُتوَّجُ اسْمُهُ على قاعدة الصارية الرئيسة، كانوا في طريقهم إلى الشط منوّمين نوعاً برائحة الحوت، الحرّيفة. كان الصيدُ من الوفرة حدّ أنّ طيفاً زارَ بعضَهم، كي يَطبَع أثرَ رضابٍ على شفتيه. ولكنّ النوتيّة الداكني السحنة، المنحدرين من الجنس الزنجيّ، كانوا يغالبون النعاسَ بعدما كفوا منذ حين عن ترديد النشيد المألوف، المُحتفي بالغلّة الطيّبة. نواحُ النورس حَسْب، كان من الممكن عندئذٍ أن يطغى على ضجيج الموج. على حين فجأة، أفاق أقدمُ أولئك الصيادين وهوَ يرتعدُ. ما ثبط من غفوته، لم يكن بحال النسيمُ الخريفيّ، الرطب. إنّ الطيفَ الأهيَفَ، الرقيق، كان إذ ذاك قد تحوّل إلى قرشٍ شرس. ها هما عينا " بوعزة "، الرماديتان، تتفتحان رويداً تحت قبّة الفجر المُنجمة، مع صدور صوتٍ غريب ومرعب. كأنما هوَ نفيرُ القيامة، من جعلَ الرجل الأربعينيّ يقفز من مرقده منتفضاً، فاغراً فاهُ على تمتمةٍ تعويذةٍ. فما أن أصدى ذلك الصوت بين رفاقه، فجعل غشاوة الذهول تعمي أفئدتهم، حتى تنطع " بوعزة " مجدداً إلى سدّة القيادة. السفينة التجارية، المنزلقة في خفّة بالقرب من مركب الصيد الشراعيّ، بَدَت مثلَ قرشٍ يستعدّ لالتهام أخطبوط. قبل وهلةٍ، شاءَ قبطان السفينة البريطانية، الطريفُ الطبع، أن يُدخل الخوفَ في جوف ذلك المركب المغربيّ، عندما أطلق صفيرها بقوّة. كان يُدرك، ولا شكّ، أنّ مرأى سفينة مسيّرة بالبخار، للمرة الأولى، لا بدّ أن يسبّب بلبلة بالغة عند هؤلاء الصيادين، البدائيين. وما لم يكن بحسبان القبطان، أنّ خبرَ وصول سفينته إلى ساحل المدينة، سينتشر بين أهلها سريعاً بهمّة أولئك الصيادين أنفسهم: " إنه عفريتٌ بحريّ، يُصدر دخاناً من رأسه مع صفيرٍ مُريع! ". أمام أنظار الخلق المشدوهين، والمتناثرين في جماعات خلف صخور الشط، كانت السفينة البخارية ما تفتأ تتنقل على سجيّةٍ واحدة، أفقية، دونما أن تتمكن من دخول المرسى. عادةً، حينما يكون الطقسُ سيئاً، فإن الزوارق الصغيرة تتجه من السقالة إلى السفينة التجارية، كي تفرغها من ركابها وبضائعها. ولكنّ اليوم، الموافق لما يُعرف بـ " خميس الأسواق "، كان يتألق بوشي أشعة الشمس، الذهبيّ، فضلاً عن الريح الرخية، التي تقود الموجَ من رسنه. على ذلك، تعددت التكهنات على ألسنة الناس المجتمعين ثمّة، عند الشط. إلا أن أحداً، في المقابل، لم يَعُد يتوقع احتمالَ كون السفينة الغريبة طليعة لعمارةٍ حربية، غازية. إذ لم يتمّ استفار الجند، كما أنّ موكبَ قائد المدينة كان قد تأخر لعدة ساعات قبل ظهوره أمام مدخل السقالة. مع حلول الظهيرة واشتداد أشعة الشمس، بدَت الباخرة عن بعد كما لو كانت سراباً. جملة وافرة من الوسامة، قدِّرَ لها أن تُخَطّ على الصفحة الناصعة البياض لوجه أحد ركاب الباخرة. لولا لباسه المشرقيّ، لظنّ رفاق الرحلة أنّ هذا التاجرَ هوَ شخصٌ أوروبيّ؛ اسبانيّ أو طليانيّ. كان الرجلُ على حدود الحلقة الثالثة من العمر، متوسط الطول وبجسم أقرب إلى الامتلاء. وإذا كنا قد أشرنا أولاً إلى تميّز ملابس هذا التاجر، فلكونها قد جذبتْ أنظارَ ركاب السفينة، المغاربة والأجانب على حدّ سواء: كرْزةٌ من الحرير الثمين، مطرّزةٌ بخيوط مفضضة ومشدودةٌ بوساطة ميتانٍ عريض فوق القميص القطنيّ ذي الياقة الدقيقة، المدبّجة بالنقوش المذهّبة. فيما السروالُ، المنسوجُ من الكتان الأسود، ينتفخ قليلاً عند الفخذين ثمّ ينحدر رشيقاً حتى يختفي داخل الحذاء الجلديّ، المصنوع من الجلد الفاخر. وما ضاعَفَ من غرابة هذا الملبس، بأعين الركاب المحليين على الأقل، هوَ طربوشُ الرأس، الأحمر اللون، والمتدلّية من قمّته خيوط سوداء قصيرة، شبيهة بخصل شعر الحصان. هذا الطربوش، العثمانيّ المنشأ، عليه كان أن ينتظرَ عاماً آخر قبلَ أن يُصبحَ مألوفاً في " موغادور "، بعدما بدأ يعتمرُ رؤوسَ بعض الخواص من ساكنيها. عندَ مُنبلج الصّبح، كانت السفينة البخارية قد أضحتْ على مَبعدةٍ يسيرة من الجزيرتين، المعتبرتين بمثابة المدخل إلى مرسى مدينة " موغادور ". إذ ذاك، كان التاجرُ المشرقيّ قد أفاق مبكراً ليُشرف من مكانه في مقدمة الباخرة على منظر المدينة، المعتلية بجلال هضبةً ملاصقة لصخور الشط. وإنها هذه الصخور السوداء، التي أثارت انتباه تاجرنا أولاً، وخصوصاً حينما كانت الأمواجُ تصطدم بها في قوة، مما ينجم عنها ما يشبه انفجار القنابل. وقد حقّ للتاجر أن يُدهشَ، لما في مناخ المدينة من تنافر بيّن. فهيَ ذي الشمسُ السخية، كانت قد بدأت بغزل خيوطها المذهّبة على الرغم من أن الوقتَ بداية الشتاء. عندئذٍ، تجلت الأسوارُ وأسطح البيوت ومنارات المساجد كعرائس في حللٍ بيضٍ، محوّطة بزرقة البحر وخضرة الجبال. كان مشهداً مبهراً، ساحراً، لامسَ شغافَ تاجرنا الشاب مُعيداً لخاطره ذكرى مدينة " بيروت "، التي أبحرَ قبل نحو شهرٍ من مرساها باتجاه بلاد المغرب. مماطلة سلطات السقالة، غير المفهومة، في السماح للباخرة بدخول المرسى، عليه كان أن يؤلّبَ مزاج التاجر القادم من بلاد الشام. فما أن تناهى فلكُ الشمسِ إلى منتصف طريق رحلته، حتى بدأ قيدومُ الباخرة ينحرف نحو كبرى الجزيرتين. ثمّة تأويلٌ، مرجوحٌ، لما طرأ من تقلّب على مزاج التاجر الشاميّ خلال الساعات المديدة، الممضة، التي سبقت سَوْق الباخرة إلى الجزيرة. ولكننا، كما يذكرُ القاريء، كنا قد وعدنا بألا نستبق أحداثَ الحكاية. فالأجدى، والحالة كذلك، أن نعود إلى مبتدأ رحلة الباخرة من المستعمرة البريطانية " جبل طارق "، قبل معرفة خبر منتهاها في هذه الجزيرة، التي تبعد ميلاً واحداً تقريباً عن ساحل " موغادور ". لا بدّ أنّ أمراً ما، على شيء من الأهمية، كان قد جدّ هناك في مرسى تلك المستعمرة البريطانية، حتى تمّ تأخير سير السفينة. ليلاً، وقبل استئناف السفينة رحلتها، اقتربَ منها قاربٌ يحمل عدداً من الرجال المسلحين. التاجرُ الشاميّ، كان قد غادر منذ قليل عنبرَ السفينة. ثمّة، على السطح المزدحم بالركاب الضجرين، ما لبث تاجرنا أن لاحظ حصول أمر غير مألوف: لقد نزل أحدهم بمفرده من قاربٍ صغير، يضمّ رجالاً آخرين. كان شخصاً أسمرَ، فارع القوام ومتين البنيَة، عليه ملابس البربر المميّزة. وإذا كان ثمّ غموضٌ في ملامح الرجل، التي لا تخلو من التناسق على أي حال، فلأنّ جانباً منها محجوبٌ بطرف عمامته. وقد أمكن للتاجر أن ينتبه أيضاً، لكون يد الرجل تقبض بحرص على غرضٍ ما. على الأثر، ابتعد القاربُ عائداً إلى جهة المرسى، وما لبثت أحشاء السفينة أن بدأت في التحرّك بدَورها. ما أن استوى الرجلُ الملثم على قدميه، هناك في سطح السفينة المُنار بمصباح غاز قويّ، إلا وتريّث قليلاً قبل التقدّم إلى الأمام. ألقى نظرةً متمعّنة على التاجر الشاميّ، المنفصل عن مجمل جماعة الركاب، ثمّ ما عتمَ أن توجّه إلى ناحية أخرى أكثر انعزالاً وأقلّ اضاءة. تلك النظرة، كما فكّر تاجرُنا لاحقاً، كأنما كانت تتواطأ مع قدَره. شخصٌ آخر، حُبيَ بموهبة استقراء البواطن المنغلقة، كان ثمّة أيضاً على سطح السفينة في تلك الليلة الخريفية. كما أنه، من ناحية ثانية، كان على معرفة بيّنة بكون " موغادور " ملعباً مكشوفاً لمختلف الدسائس المحلية والخارجية. على ذلك، حق لهذا الشخص أن يتساءل في نفسه عن سرّ الرجل الملثم، ذي الملابس البربرية، الذي اصطحِبَ محروساً إلى السفينة: " أنه مغربيّ الهيئة، على أيّ حال. ولا بدّ أن ثمّة سبباً موجباً، فيما لو كان البريطانيون قد أبعدوه عنوةً من جبل طارق ". وإذاً، حان الوقتُ للتعرّف على من وصفناه للتوّ بالشخص الموهوب والعارف، طالما أنه سيلعبُ دوراً رئيساً في أحداث حكايتنا. كان الرابي يبدو أكثر شباباً من عمره الحق، المُراوح على عتبة الأربعين. كذلك يجوز القول، فيما يخصّ ملامحُهُ البشوشة، المُقبلة على الحياة والمتنافرة مع لون السواد في كامل ملبسه. هذا اللون التقليديّ، المهيمن أيضاً على القبعة المقببة والحذاء الملمّع، لم يكن على صلةٍ بحال مع حِداد الرجل على عمّه الكبير، المتوفي مذ بعض الوقت. وإنه هذا العمّ، من تسبّب بانهيار مركز العائلة التجاريّ مؤخراً، بعدما رزحَ في أواخر أيامه تحت ديون ثقيلة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تاجرُ موغادور: المدخل
-
تاجرُ موغادور: المقدمة
-
سيرَة حارَة 16
-
سيرَة حارَة 15
-
سيرَة حارَة 14
-
سيرَة حارَة 13
-
سيرَة حارَة 12
-
سيرَة حارَة 11
-
سيرَة حارَة 10
-
سيرَة حارَة 9
-
سيرَة حارَة 8
-
من أجل عَظمة
-
أحلام مشبوبة
-
الشاطيء الشاهد
-
النمر الزيتوني
-
فكّة فلوس
-
القضيّة
-
الطوفان
-
مسك الليل
-
خفير الخلاء
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|