أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تاجرُ موغادور: المدخل















المزيد.....

تاجرُ موغادور: المدخل


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 4413 - 2014 / 4 / 3 - 08:48
المحور: الادب والفن
    



{ أشار أحمد بن غزال، وهو من حاشية السلطان سيدي محمد، إلى أنّ مصبّ الوادي صار غير صالحاً بسبب الرمال، التي تسده إبان فصل الشتاء. وأكّد بن غزال لمولاه أنّ ذلك يعرقل تحركات القراصنة المغاربة، المدافعين عن الاسلام. فأمر السلطان على الأثر بتأسيس مدينة موغادور، لتكون ذات مرسى ’ تسافر منها القراصين متى شاءت ’ }
كتاب الاجتهاد، الورقة 5
...........................

ها هوَ، إذاً، أثرٌ آخر؛ " دار الكردي ". أنه بناءٌ من ثلاثة أدوار، يطلّ على درب " القصبة القديمة " المفضي إلى الحصن البحريّ. كانت عمارة البناء من الحجر الأشقر، والمعوَّض في المقابل بالبازلت الأسود لإطارات وأفاريز النوافذ. هذه الدار الكبيرة، المهجّنة العمارة، تجلّتْ لناظري مثل هولةٍ تفتح عيونَها النوافذَ على الغموض والألغاز. إلا أنني لم أرغبَ بالولوج، طالما أنّ البناءَ أضحى على منقلبٍ آخر لا يمتّ بِصِلةٍ لتاريخه أو نسَبه.
محاولة معرفة سرّ " دار الكردي "، كان هوَ دافعي الوحيد حينما فكّرتُ لاحقاً برؤية الرجل العجوز، الإسرائيليّ الجنسية. فخلال وجودنا في المدرسة اليهودية، في يوم أسبق، علمتُ منه أنّ أحدَ أجداده البعيدين، واسمه " يوسف بن عمران "، عاصرَ الكثير من وقائع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبحسَب تأكيد الحفيد، فقد كان سلفه ذا مكانة كبيرة في المجتمع اليهوديّ بصفة رتبته الدينية، السامية. كذلك الأمر، بالنسبة لمركزه بين تجار المدينة وفي البلاط السلطانيّ. على ذلك، فإنني من سعى للقاء العجوز اليهوديّ في هذه المرة، بعدما كان الأمرُ قبلاً محضَ مصادفات. ومن حسن الفأل، أنني سبق ووضعتُ تحفظي جانباً لما مدّ يدَه ببطاقةٍ مُرقشةٍ برقم هاتفه الخليويّ.
*
بعد ليلة من الأرق الممضّ، عقدتُ العزمَ في اليوم التالي على الاتصال بسليل آل " عمران ". إنّ ما هوّن من هواجسي، أخيراً، هوَ حقيقة كوني لاجئاً سياسياً في السويد؛ وفي التالي، فإنني لن أنفع الدولة العبرية بشيء فيما لو كان ذلك العجوز يعمل لحساب جهاز جاسوسيتها. هكذا خاطر، كأنما جال أيضاً في ذهن عجوزنا. فإنه خلال لقائنا الجديد، الذي تمّ مساءً في أحد البارات المطلة على الكورنيش، لم يسألني قط عن أحوالي الشخصية سواءً في سورية أو في بلد اللجوء. من جهتي، فإنني لم أتوان آنئذٍ عن أخذ الحديث في اتجاه لغز " دار الكردي "، مؤملاً أن يكون لدى رفيق السهرة رأياً فيه. فكم كانت فرحتي كبيرة، حينما أخبرني العجوز بأن ثمة مذكرات مخطوطة من لدن " الحَزّان " ـ كما عرّفَ هوَ جدّه الأول بوظيفته الدينية. وبما أنني أشرتُ سلفاً لمشاعري إزاءَ الخبر، فالقاريء سيدركُ ولا شكّ أنّ المخطوطة قد انتقلت لاحقاً إلى حيازتي.
" تلك المذكرات، ما فتأت محفوظة في منزل جدّ أجدادي بالمدينة "، استهل العجوز القولَ. ثمّ أضافَ بنبرة تبسّط " إنّ هذا المنزل، الذي سبق وآل إلينا بحكم الإرث، يقع أيضاً في القصبة القديمة؛ أي مثل دار الكرديّ، التي تشغل فكرك "
" حسبما فهمته من حارس المدرسة، أنّ الملّاح هو حيّ اليهود؟ "
" نعم، بالنسبة لغالبيتهم. أعني، الحرفيين والفئات الأخرى الفقيرة. أما كبار تجار اليهود، فإنهم حصلوا على منازلهم في القصبة، متجاورين مع أندادهم المسلمين والأوروبيين "
" على ذلك، يمكن القول بأن القصبة هي الحيّ الارستقراطي في موغادور؟ "
" في كل مدينة مغربية كبرى، يوجد ثمة قصبة "
" ولكنّ موغادور، في آخر الأمر، هي مدينة صغيرة؟ "
" في الوقت الحاضر، أجل. أما في القرن التاسع عشر، فقد كانت موغادور المرسى السلطاني الوحيد، وشابهت في أهميتها الإسكندرية وبيروت. لا بل إنّ المدينة أضحت آنذاك إحدى أهم الحواضر التجارية في العالم، حيث قدمَ الكثير من الأجانب بقصد الإقامة فيها كوسطاء وسماسرة. وعلى الأرجح، أنّ مواطنك الكرديّ كان أحد أولئك التجار الغرباء! ". حينما نطق محاوري الجملة الأخيرة، فقد أحلتُ معلوماته إلى تلك المذكرات، التي لا بدّ واطلع عليها. فلما أفصحتُ عن فكرتي، فإنني فوجئت بجوابه " المذكرات مكتوبة باللغة العربية. أما أنا فلا أعرف سوى الدارجة المحلية، المستعملة من قبل يهود المغرب والمختلطة بتعبيراتٍ من لغتهم العبرية ". ولما سألته عن سبب عدم طباعة المخطوطة، فإنه أوضحَ قائلاً " كون المذكرات مكتوبة باللغة العربية، ربما يُفسّر لمَ لمْ يهتم أحدٌ من أخلاف الحَزّان بنشرها ". ثمّ استطردَ متبسّماً " وربما ستكون أنتَ، يا صديقي، أول من يقرأها ..! ". سرّتني، بطبيعة الحال، أريحية الرجل الغريب، فأعربت له عن عميق امتناني. وكعادته في التعبير عن التعاطف، راح يربت على يدي المهملة فوق سدّة البار: " وسأكون بدَوري ممتناً للربّ، فيما لو أنّ المخطوطة أفادت بحثك المرتقب "، قال لي وقد عادت قسمات وجهه لتشعّ مجدداً. وقبل أن أفتح فمي، بادرني مستطرداً: " إنّ صفة الكرديّ، كما أعرفها، تشملُ الآن مواطنين يعيشون في أربع دول بالشرق الأوسط. وما أريد معرفته منك، هوَ سبب اهتمامك بهذا التاجر، المفترض؟ "
" سؤالك نفسه، كما أعتقد، يختصرُ نصفَ الجواب..! "، قلتُ للعجوز الذكيّ مطنباً. ثمّ أردفتُ على وقع رنين كريستال الأقداح " فلأنّ الرجلَ تاجرٌ، على مرجوح تقديرنا، فلا بدّ أن يكون قادماً من دمشق؛ وهيَ المدينة، التي كانت تعتبرُ المركز التجاريّ الأهمّ في العهد العثماني. من ناحية أخرى، فإنّ المغاربة شكلوا جماعة مميّزة في الشام، مما يدفع للظن أنه كان ثمة تبادل تجاريّ بين البلدين في ذلك العهد "
" نعم، هذا بالضبط ما أردتُ معرفته منك "
" كما أنّ كرد دمشق قد شكلوا خلال ذلك العصر مجتمعاً منغلقاً على نفسه، شبيهاً إلى حدّ ما بالمجتمع اليهوديّ في الملّاح "
" ثمة فارق مهم بين الجماعتين؛ فالكرد مسلمون مثل غالبية الشوام، أي أنهم أقلية عرقية لا دينية "
" بالتأكيد. كما أنّ كرد الشام نادراً ما امتهنوا التجارة، مما يجعلني أتساءل عن سبب وجود مواطنهم في موغادور. وكما أتمنى، فإنّ تذكرة جدّكم الكبير قد تجيب على اشارة الاستفهام هذه "، قلتُ للعجوز الطيّب. هز رأسه علامة على التفهّم، ثمّ ما لبث أن نصحني بمراجعة مصادر أخرى، سواءً في موغادور أو مراكش. على الأثر، رأيتني أمضي في اشغال الفكر بما جدّ من إشاراتٍ قد تفيدُ تقصيّ المحتمل للغز دار القصبة. العجوز من ناحيته، وقد لاحظ صمتي، ألقى برأسه على الأريكة مغمضاً عينيه قليلاً وكأنما في سبيل استعادة صوَرٍ قديمة. من الواجهة الزجاجية العريضة للبار، رأيتني من ثمّ أتطلع باتجاه أنوار الأبنية المحدقة بالبحر المحيط. بدا الشاطيء كالقوس، فيما بَصَري نباله المُريَّشة.
*
في عصر اليوم التالي، تسلّمتُ أوراق المذكرات من يد سليل آل " عمران ". كانت المخطوطة سليمة، لحسن حظي، وعلى الرغم من الصفرة المتفشية في أوراقها. تساءلتُ عندئذٍ، عما إذا كان من السهل على المرء العثور على محلّ يقدّم خدمة تصوير الوثائق ( فوتوكوبي ). وإذا بالرجل يقول لي ببساطة " تستطيع الاحتفاظ بالمخطوطة، فلم أكن بحاجة إليها على كلّ حال ". كانت زوجته برفقته، هذه المرة. رمقتني بنظرة تعاطف، لما عاينت مبلغ تأثري بالهدية الثمينة، حدّ أنني كنت أشمّ في كلّ وهلةٍ عبقَ أوراقها العتيقة. لم أكن قد تبادلت مع المرأة أيّ عبارة من قبل، وربما لأنني لحظتُ أنها تستخدم العبرية في كلامها مع قرينها. وإذاً عندما جاء دورها كي أصافحها مودّعاً، خاطبتها باللهجة المغربية: " بالسلامة..! ".
*
أشرتُ فيما سبق إلى أنّ المذكرات، المكتوبة بخط الحَزّان ( توفيَ عام 1889 ودفن في المقبرة اليهودية)، كانت هيَ وسيلتي الأولى في رحلة تقصّيْ أحوال صاحب " دار الكردي ". لم يكن قد أصبحَ بعدُ تاجراً كبيراً، الرابي اليهودي " يوسف بن عمران "، عندما أبحرَ إلى المغرب على متن أول سفينة بخارية تصل إلى هذه البلاد. لقد اضطرَ الرابي لترك وظيفته الدينية في مستعمرة " جبل طارق " البريطانية، كي يحاول انقاذ السمعة المالية لعائلته المرموقة، المتوطنة في " موغادور ".
من جهة أخرى، فلم أكتفِ بذاك المصدر الفريد وعلى الرغم من أهميته البالغة. في حقيقة الأمر، أنه لا " موغادور " ولا " مراكش " قد استطاعتا مدّي بالمراجع المطلوبة، التي سهّلت بحثي. فالمعروف الآن، أنّ العصرَ الذهبيّ لكلّ من هاتين المدينتين قد انطوى مذ فترة طويلة. على ذلك، فإنّ الكنانيش والسجلات الخاصّة بمرسى " موغادور " وتجارها، قد تمّ حفظها في خزائن " الرباط ". ثمّة، في العاصمة، تمكنتُ من مراجعة العديد من تلك الوثائق الأصلية، علاوة على بعض مصادر الإخباريين، المحلية، العائدة للقرن التاسع عشر.
هوَ ذا أخيراً كتابي عن تاجر " موغادور "، الدمشقيّ. إنه حصيلة بحثٍ دائب خلال رحلاتي المتواترة إلى موطن الأطلس، والتي استغرقت قرابة الأربع سنوات. قد ينظر القراءُ إلى هذا الكتاب باعتباره تأريخاً، أو حكاية، أو مجرّد رحلة: وإنه كذلك؛ كتابٌ تجري في عروقه دماءٌ عديدة، متنوّعة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاجرُ موغادور: المقدمة
- سيرَة حارَة 16
- سيرَة حارَة 15
- سيرَة حارَة 14
- سيرَة حارَة 13
- سيرَة حارَة 12
- سيرَة حارَة 11
- سيرَة حارَة 10
- سيرَة حارَة 9
- سيرَة حارَة 8
- من أجل عَظمة
- أحلام مشبوبة
- الشاطيء الشاهد
- النمر الزيتوني
- فكّة فلوس
- القضيّة
- الطوفان
- مسك الليل
- خفير الخلاء
- البرج


المزيد.....




- قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل ...
- ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية ...
- حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
- عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار ...
- قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح ...
- الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه ...
- تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
- مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة ...
- دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
- وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تاجرُ موغادور: المدخل