|
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار 4 (من وحي الألبانية و السجين رقم 16670)
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4411 - 2014 / 4 / 1 - 19:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار 4 (من وحي الألبانية و السجين رقم 16670)
ينشغلُ الكثيرون في سجالات إثبات العقائد و صحة النصوص، و فوقية دين، و دونية آخر. و يصرف النُّقاد الوقت و الجهد للتثبُّت من النصوص، و لدراسة منطقية الغيبيات و تعارضها أو توافقها مع العلم، و يمدُّون الخيط على استقامته نحو التشريعات و القوانين الدينية، و يتبعون علوم النقد و الفحص و التأريخ لمحاولة الوصول إلى شكل الدين الأول عندما بزغ، و مقاصد الأنبياء و النُّساخ. تصدر ُ الكُتب، تعج ُّ النت بالأبحاث، تدور رحى ً إلكترونية شرسة بين هؤلاء و أؤلئك، و تبقى الديانات، تزداد بمقدار و تنقص بمقدار، هذا يتنصر و ذلك يسلم، و كما يقول المثل "أسلمت فاره، لا زادو المسلمين و لا نقصو النصارى" و يُقال أيضا ً "تنصرت فاره، لا نقصو المسلمين، و لا زادو النصارى".
في الحقيقة، كل هذا مكانه الكتب و الدراسات و الأبحاث و هي تخصُّ النخب العلمية و الثقافية، لكنه لا يرتبط ُ مباشرة ً بإنسان الشارع العادي، هذا أو تلك الذين يعيشان الواقع الملموس، الذي فيه حاجات ُ النفس البشرية بكل تعقيداتها و آلامها و طموحاتها، و حاجات ُ المعيشة ِ اليومية و الضغوطات المالية و الاجتماعية.
يعرف ُ المسيحي الإنجيل لا من خلال "أُلوهيته" لكن من خلال ِ مثاله الصالح، و ينفر ُ بطبعه ِ من أي انحراف ٍ عن هذا المثال، فيستقبل بكثير من الاشمئزاز و الرفض حالات العنف المسيحي و الانحراف المؤسسي الكنسي، لأن وعيه ُ و ما طُبع فيه يحكم بفساد هذه النماذج التي يُصدر الإنجيل ُ قوله فيها.
"المثال الصالح" كما يفهمه المسيحي ليس أفعال البابوات و الكهنة و أصحاب السياسة و الملوك و الأمراء و الفرسان، لكن أفعال البُسطاء من قديسي و قديسات البلاد الذين عرفهم الناس و عاشوا معهم، و اختبروهم بأنفسهم، البشر الذين عاشوا ذات "الفردية" التي ذُكرت عن شخص المسيح يسوع، الفردية العملية، لا الجدلية اللاهوتية.
تزرع المسيحية في أبنائها نمط سلوك ٍ سلامي، يقوم ُ على قبول التضحية و الانسجام مع استحقاقات الفداء ثم إشعاعه على الآخر، دونما سؤال أو تميز، و هو نمط ٌ سلوكي ٌ قائم ٌ على أساس ٍ زُرع في اللاوعي يُعطي المسيحين بشكل ٍ عام "هوية ً" تعرفها فيهم، و تُحسُّها، و هي هوية ثقافية لاعقائدية، تمتاز بإنسانيتها و احتضانها لبذور ِ الخير.
يختار المسيحي أن يعتز َّ بهذه الهوية حتى لو صار مُلحدا ً أو لا ديني، و يجمع ُ بتصالح ٍ بين عقله الذي يقبل العلم و الفكر و المنطق و يرفض الخرافة و من ضمنها العقائد و الطقوس و النصوص، و بين "هويته" التي تدفعه للحب حيثما كان، و حيثما حل، في الوقت ِ الذي ينظر فيه بقلق ٍ نحو عالم ٍ يصعد ُ رويدا ً رويدا ً إلى حافة المواجهة ِ مع الآخر تحت ضغط ِ الأنانية الفردية و التعصب.
الحب في المسيحية أساسي، هو الجذر و الجوهر و الدافع و الآلية و النتيجة في آن ٍ معا ً، و تظهر ُ في العالم ِ رموز ٌ عتيقة في المنهج حديثة في السنين، تُنشأ إرساليات و مؤسسات ٍ و مستشفيات ٍ و دور إغاثة و معونة تقدم نحو الأخر الحب، و تسد ُّ الحاجة، فمن لا يعرف تلك الراهبة َ الألبانية منحنية الظهر التي أسست "مُرسلات المحبة" الراهباتِ الهنديات اللواتي يدرن في شوارع الهند يلتقطن َ المرضى و يدفنَّ الموتى و يعتنين بالأطفال، أسوة ً بأمهن الراحلة "الأم تريزا".
معدن المسيحي يظهر ُ حين الاختبار، في كل مكان، حتى في السجن، حتى في معسكرات الاعتقال و الإبادة، حتى في أشرسها "أوشافيتز" ذاك المعتقل ُ البشع أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما جمع النازيون البشر عبيدا ً أدنى من البهائم، و أذاقوهم الويل حتى الموت، أو الموت بالويلات.
من ذلك المُعتقل هرب ثلاثة سجناء، فأمر نائب قائد المعتقل أن يتم اختيار عشر سجناء و حبسهم في أحدى الزنازين ليموتوا جوعا ً دون طعام ٍ أو ماء، عقابا ً تأديبيا ً للباقين حتى لا يفكروا في الهرب. أحد الذين تم اختيارهم عشوائيا ً كان السجين "فرانسيسك غاجونيسك"، الذي أخذ يصرخ "زوجتي!" "أطفالي!".
كان السجناءُ الآخرين يرون المنظر، فقد تم جمعهم ليروه، قُصد لهم أن يروه، أن يفهموا أنَّ هرب أحدهم هو موت ٌ لعشرة ٍ آخرين وراءهم، أُريد لهم أن يخافوا و يرتعبوا، أحد السجناء الواقفين كان الأب الفرنسيسكاني السجين رقم 16670 "ماكسميليان ماريا كولبه". كان هذا الأب سجينا ً بتهمة مساعدة ألفي يهودي على الاختباء من النازين الذين كانوا يقتلونهم بالغاز و السُخرة، ذنبه أنه كان إنسانا ً رفض الوحشية َ و الظلم، فسُجن.
تقدَّم الأب ماكسميليان و طلب أن يأخذ مكان السيد فرانسيسك، رفض النازي ذلك فقال له الأب ما معناه أنك يا سيدي يهمك عشرة أشخاص، و لا يهمك من يكونون، فاسمح لي أن أكون مكانه، و كان له ما أراد. عشرون يوما ً قضاها الأب ماكسميليان في الزنزانة المخصصة للتجويع مع تسع ٍ آخرين من إخوته البشر، بدون طعام، بدون شراب، ينتظرون الموت. و عندما ماتوا جميعا ً و بقى لوحده ِ حيَّا ً شبه حياة، قتلوه ُ بحقنة ٍ من حامض الكاربوليك، ثم حرقوا جثمانه، عن سبع ٍ و اربعين عاما ً (47) هي مجموع ُ سني عمره.
عاش السيد فرانسيسك بعد هذه الحادثة ثلاثا ً و خمسين عاما ً كانت شاهدة ً على الحب، الحب الإنساني، و الحب المسيحي المنسجم معه، ليموت َ عن عمر ِ أربعة ٍ و تسعين (94)، منحها له الحب المجاني من شخص ٍ لا يعرفه اسمه "مكسمليان ماريا كولبه".
هذه هي ثقافة الإنجيل و هكذا نفهمها، و هو ما يسكن ُ في قلوبنا. نحن بنو المحبة و السلام، هكذا نعرف ُ أنفسنا، لسنا بني السياسة و لا بني المؤسسات و لا بني الرئاسات.
معا ً نحو الحب، معا ً نحو الإنسان!
______________ لمزيد ٍ من القراءة المُوجزة عن معسكر الاعتقال و الإبادة النازي: أوشافيتز، أقدم مقالي التالي رابِطُه و المنشور سابقا ً بعنوان:
قراءة في الوحشية – الوجه الآخر للإنسان http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=406504
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماري
-
من سفر الإنسان – الوحدة الجمعية للبشر و كيف نغير المجتمعات 2
-
خاطرة - قرف ُ المازوخية عند المُستسلمة
-
عودة حركة 24 آذار – تعبير ٌ عن الرأي في الوقت الخطأ
-
صور ٌ من الكراهية – عن الموقف من الأستاذ سامي لبيب
-
قراءة في الوحشية – الوجه الآخر للإنسان
-
قراءة في الشر – مباعِثُه، مظاهره، و ارتباطه بالدين و الألوهة
-
في اللاهوت و حرية الإنسان
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار؟ - 3 (من وحي ال
...
-
لماذا يُقتل رائد زعيتر؟
-
قراءة في تحريم الخنزير
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين 2
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين
-
قراءة في الإنسان.
-
لما ضحكت موناليزا
-
في تحرير المرأة – انتفضي سيدتي الآن
-
داعش – فرض الجزية على المسيحين في الرقة السورية
-
قراءة في القداسة – بين الجذر الديني و الاستحقاق الإنساني
-
في نفي النبوءة - رؤية في الجذر النفسي للنبوءة و نقد آليات ال
...
-
في اللاوعي الإدراكي و تأثيره على الإنسان – الحنين، و الجنة و
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|