|
إمبراطورية الرعب
خيري حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 4406 - 2014 / 3 / 27 - 13:34
المحور:
الادب والفن
إمبراطورية الرعب خيري حمدان
الحديث داخل المملكة إجباري باللغة العربية فقط.
مراقب
أمسك الضابط المعني بتأديب المعتقلين أذني، وأخذ يشدّها ويشدّها لعشرِ دقائق حسبتها العمر كلّه، ثمّ أخذ يدور بي في محيط الغرفة الباردة، وأنا حافي القدمين وعارٍ حتى الخصر. توقّف بعد ذلك، شعرت بأنّ أذني قد انفصلت عن جسدي في يده، وبسرعة خاطفة صفّعني بيده العريضة على وجهي، أتبعها ببصقة جذلة، غنية، لاصقة غطّت معظم تقاطيع وجهي وصاح. - يا كلب يا حقير، أعطيناك رقمًا في المعتقل، رقم. حين يسألك أحد المسؤولين عن اسمك يا واطي تجيب بالرقم وتتبعها بلفظة الاحترام والتبجيل "سيدي"، دائمًا وفي أيّ وقت من الليل والنهار. هل هذا واضح. - واضح طبعًا. أمسك بأذني مرّة ثانية ثمّ لكمني في وجهي، شعرت بالدم الساخن يملأ تجويف فمي، بلعت سنّي المكسور. نلت العقاب الأخير لأنّني نسيت لازمة سيدي بعد ردّي على سؤاله الأخير. - واضح سيدي. - شو اسمك يا عرص؟ - ألف وخمسمئة وثلاث وعشرين سيدي. - وكثير عليك، يلعن فرج أمك وكلّ نسوان أهلك وبيتك. مضى على وجودي في المعتقل قرابة الشهر، وكنت أعتقد طوال الوقت بأنّ أصحاب القرار سيدركون خطأ اعتقالي، حتّى لحظة مثولي أمام هذا المحقّق، لم يوجّه لي أيّ سؤال، جهده منصبّ بالكامل على تأديبي وتحطيمي ككتلة بشرية ويبدو بأنّه على وشك النجاح، بل نجح كما تدلّ المؤشّرات على أرض الواقع، أوّلها: قطرات البول الأولى التي سالت في ردائي الداخلي، ثانيها: الألم يحاصر عضلاتي، ثالثها: ريقي ناشف إلى درجة مخيفة. لا أدري ماهيّة الخطوة التالية، أشعر بالبرد والعصابة مشدودة فوق عينيّ، لا أرى سوى شبح الرجل في داخلي، أو ما تبقّى منه. قد يصفعني أو يطعنّي بسكين في بطني، لكنّه لن يقتلني لأنّ الموت سهل المنال وبه تنتهي الحكاية.
حتّى اللحظة، اعتبرت نفسي مراقبًا لا غير، ما زلت غير قادر على الانتماء لهذه المستعمرة أو الجمهورية، زملائي يطلقون على هذا المكان إمبراطورية الرعب. هو مكان كبير شاسع، ونحن نمثّل جزءًا محدودًا منه، أحيانًا نسمع صراخ المعتقلين في غرف التعذيب النائية خلال ساعات الليل. السكون ينقل الصراخ والأنين بيسر، سمعت أحدهم يصيح من شدّة الألم "من شاء الله اقتلني وريّحني!" لكن دون طائل، الموت هنا مرفوض، لأنّه يمثّل الخلاص، لكن التخلّص من الجثث المرقّمة عند الضرورة كان سهلا للغاية، تُرمى للضباع والكلاب لتنهشها وتأكل لحمها وتحطّم هيكلها العظمي، ثمّ تجمع بقايا الإنسان وتُرمى في حفرة ما في جوف الصحراء القريبة. حتّى اللحظة، اعتبرت نفسي مراقبًا فقط، لا أنتمي لهذا المكان، لكنّ المعادلة اختلفت بالكامل، بعد رحلة التعذيب الأولى أصبحت في مركز الحدث.
الإنتماء للعدمية
- كلّنا سواسية في رحلة العذاب الطويلة، بدأت أشعر بالألم في أماكن غريبة يا وجدي. - أرجوك لا تنادني بهذا الإسم، أنا الرقم ألف وعشرون، أخشى أن يسمعنا أحد العملاء أو الحرس، نحن هنا أرقام لا أكثر. - كما تشاء، هل يمكنني أن أثق بك على أيّة حال؟ - وكيف تثق بي يا رجل، أنا لا أثق بنفسي. قُل ما يجول في خاطرك، سأستمع إليك كما استمعت للنسور المحلّقة فوق رؤوسنا بانتظار مأدبة جديدة. - امرأتي شابّة يا ألفًا وعشرين، وعضوي مات منذ شهر، أصبت بالعنّة. - ما الذي يقلقك. كم مدّة محكوميتك؟ - عشرة. - إذا سمحت لهذه الأفكار أن تسيطر عليك بالكامل، لن تعيش أكثر من عام في هذا الجحيم. عليك ان تتحرّر من قيد أفكارك السوداء وتبحث عن اهتمامات أخرى، تعلّم لغة جديدة، أدرس بعض العلوم، يوجد خبراء لدينا في كافّة المجالات في هذه الإمبراطورية، والآن، اغرب عن وجهي، أنت تهمة وكارثة.
أدركت في تلك اللحظة بأنّني قد أصبحت جزءًا من عدمية اللامنتهي، بهذا نجحت إمبراطورية الرعب بتحقيق هدفها غير المعلن. أنا تهمة، لأنّني أبث الخوف لدى الآخرين الذين تمكنوا من التوصل إلى صيغة ما للتفاهم مع الذات، ولأنّ المخاوف التي تقتلني متجذّرة لديهم، لكنّهم بالكاد يتناسونها للحظات. أخبرني الرقم ألف وعشرون بأنّه سمع طلقًا ناريًا قبل أيام، تبع ذلك وليمة كبيرة للضباع والكلاب والنسور ليس بعيدًا عن محيط الإمبراطورية. أخبرني كذلك بأنّه من النادر التخلّص من بعض المعتقلين بالقتل المباشر لكنّ هذه الحالات غير مستبعدة، وتكرّرت لعدّة مرّات في الآونة الأخيرة، ولا يمكن لأحد أن يتنبّأ متى ولماذا يُعدِمون المعتقلين، وقد تكون الإعدامات غير حقيقية ومجرّد تمثيل لبثّ الرعب في نفوسنا. كلّ شيء هنا غير حقيقي، حتّى المشاعر متباينة وكاذبة، الخوف هو سيّد الموقف، يفرض حضوره بلا هوادة، ساعات الليل لا تنتهي. نقوم أحيانًا بالمناوبة في المنامات الجماعية، كيلا يعتدي الحرسُ علينا في غفلة النوم، وتحسبًا من انتقامات فرديّة داخل المهجع ولأسباب أخرى لا أفهمها، لكنّها تبدو منطقية في ظلّ العدمية ونكران كامل الحقوق الإنسانية في المهجع. وقع عليّ الاختيار للمناوبة، فزعت كثيرًا، بعد منتصف الليل، التصق أحد المعتقلين بآخر من الخلف، همس "حبيبتي"، ويبدو بأنّه قد أفرغ بسرعة، تململ الآخر ولم يدرك ما حدث. خيّم الصمتُ المخيف على المكان، وسرعان ما وجد الخوف طريقه إلى صدري، ماذا يمكنني أن أفعل إذا قرّر أحد الحراس النيل من أحدنا؟
تسللت إلى مكان نومي، وقمت بخيانة زملائي المعتقلين للمرّة الأولى، تخلّيت عن وظيفتي، لن أبقى أسير الرعب حتّى ولو جزّت أعناقنا جميعًا. "أنا خائن"، وقبل الصباح بقليل عدتُ لمكان المناوبة المخصّص بالقرب من القضبان الفولاذية.
أنا مركز الحدث
تعوّدت السير مطأطئًا رأسي معظم الوقت خلال السنوات الأولى من الاعتقال. المهمّة الأولى التي تقوم بها الإمبراطورية تخليص المعتقل من مشاعر الكرامة والإنسانية، عليه أن يدرك بأنّه مركز الحدث، وأنّ جسده وروحه مُتاحة للاغتصاب طوال الوقت، وللتسلية عند الضرورة. ما زلت أذكر كيف أمسك أحد الضباط برسغ معتقل خلال فترة الفورة وجذبه نحوه، خلع ملابسه بالكامل وركله في مؤخّرته ببصطار ثقيل، ثمّ دفع بالعصا في فتحة شرجه، صاح الرقم من شدّة الألم، تبع ذلك نزيف حادّ، وسرعان ما فارق الحياة. لذا، بقينا نسير لأشهر طويلة بعد تلك الحادثة ضاغطين عضلات مؤخّراتنا بشدّة.
حين تصبح مركز الحدث، تفقد القدرة على التفكير أو الاعتراض، وتصبح معرّضًا حتّى للهوس وفقد الأعصاب لأتفه الأسباب، الخلاص يكمن بتهذيب النفس والبحث عن مجالات أخرى لقتل الوقت والخلاص من جحيم الذات. إمبراطورية الرعب تعيش في داخلنا ليل نهار، كالحة، مالحة، ظمأى، لا ترحم أبناءها، تفرض قوانين غرائبية، تحبس الروح داخل الجسد الممزّق، وتتحدّث بطلاقة - اللغة العربية.
#خيري_حمدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حجرةٌ للحياةِ والموت
-
عشاءٌ برفقة الأنبياء
-
الحلزون الحكيم
-
مجنون حتّى إشعار آخر.
-
الزمن المفقود
-
أنا أبله - هي تملك ثديين كبيرين
-
أزمة الإنتماء لدى المثقف العربي
-
ذاكرة متلبّسة بالدهشة
-
الكيلومتر الثلاثون
-
سارقو الحيوات
-
لا مبرّر
-
قطارٌ آبق
-
المطارُ المغدور
-
ساقا المتوفّى طويلة – أتسمحين بنشرهما؟
-
حوارٌ بنّاءٌ موثّقٌ بأعيرةٍ ناريّة
-
ذاكرة معطوبة
-
الخطاب ما قبل الأخير
-
البصطار
-
يوم قُتلت كارولينا
-
الشاعرة البلغارية المعاصرة سيلفيا تشوليفا
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|