|
حدود العقل .. 11 - العقل المنفصم
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4406 - 2014 / 3 / 27 - 13:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإنسان في رحلته الطويلة عبر الوجود يحتاج إلى العديد من الأشياء الثابتة ليتمكن من مواصلة مسيرته المضنية، فهو يحتاج إلى طريق مفتوح أمامه ويحتاج إلى قاعدة متينة ينطلق منها ويحتاج إلى أرض صلبة يثبت عليها قدميه ليحس بوجوده وبضرورته في الكون كمشروع قابل للتحقق، فيتخيل أن الأرض خلقت من أجله وأن السماء والنجوم والكواكب وكل ما يدب على أرض البسيطة إنما خلقت من أجل هدف معين وغاية معلومة، هي خدمة هذا المخلوق المزري المسمى بالإنسان ليحقق مشاريعه الوجودية .. ويرفض أن يسقط في ظلمات الشك أو ضبابيات الريبة فيما يراه، يرفض العبث الذي يترقبه عند زاوية الشارع ولا يرى سوى ميكانيكية الطبيعة وترابط الظواهر ببعضها البعض، ويستنتج بعقله الحاسب ratio - reason - raison - بأن قانون العلية قانون عام يسري على كل الظواهر، فلكل معلول علة، ولابد إذا من العلة الأولى، وهكذا يدخل الله حلبة الصراع ويرتقي خشبة المسرح ليكمل المعادلة الكونية. هذا في حد ذاته يمكن إعتباره إبداعا فنيا أو رياضة عقلية لا ضرر منها، لولا أن هذه العلة الأولى أصبحت تكبر وتتضخم لتلقي بظلها الثقيل ليس فقط على الكون وظواهره الطبيعية وإنما على الإنسان ذاته مبتدع هذه العلة التي أصبحت في نهاية الأمر غولا وتنينا يرعب البشرية ويطالبها بالولاء والخنوع والسجود لهذا المخلوق الوهمي. العقل الغيبي هو العقل المندهش من كل الظواهر الطبيعية، الباحث عن السبب الأول والعلة الأولى لكل كبيرة وصغيرة، وبذلك لا يرى القوانين الطبيعية البسيطة التي أمام عينيه. فبمجرد أن يرى عشبة أو حشرة أو قطرة مطرأومجرد نواة التمر الصغيرة فإنه يهتف بكل قلبه ووجدانه "سبحان الله". هذه النواة التي تمسكها بين أصابعك وتتأملها في يدك حتى ألف عام فإنها تبقى مجرد نواة ولن يخرج منها أي شيء آخر، وقد تتحلل في نهاية الأمر ويأكلها السوس وتتحول إلى غبار، ولكنك إذا وضعت هذه النواة في الأرض، في ظروف معينة تتعلق بنوعية التربة وتكوينها العضوي والمعدني ودرجة الحرارة والرطوبة والتوقيت إلخ .. فإن هذه النواة قد تتحول إلى نخلة سامقة تعطيك بلحا وتمرا بعد عدة سنوات. ذلك إن هذه النواة تحتوي في داخلها على البرنامج الجيني الطبيعي للنخلة، ولن تنبت لك شجرة زيتون ولا شجرة لوز، كما أن النخلة لن تعطيك تفاحا ولا مشمشا، هذا هو قانون الطبيعة البسيط وهو مجرد ميكانيكية طبيعية لا تستدعي الدهشة والإستغراب ولا التسبيح بقدرة العلة الأولى، فالمعجزة ليست معجزة وإنما طبيعة الأشياء كما هي. النواة يمكن أن تكون نخلة كما يمكن أن لا تكون، والإنسان له إمكانية التحكم في هذه الإمكانيات وتطويرها وتعديلها بحيث تنتج النخلة موزا بدلا من البلح. العقل الفلسفي، منذ البدايات الأولى كان مهددا من قبل العقل الغيبي الذي يرفض فكرة الفراغ والعدم. ومنذ بداية الأنطولوجيا، في قصيدة بارمينيدس "في الطبيعة" أعلن استحالة إمكانية معرفة العدم، حيث الكينونة كائنة، واللاكينونة لا تكون. وإنطلاقا من هذه المقدمة البديهية البسيطة استنتج بارمينيدس بأنه من التناقض القول فيما بعد بالحركة والتغير والصيرورة، إذ إن كل من هذه المقولات يفترض العدم كمصدر للإنتقال من حالة إلى أخرى. وهذا يعني أن الوجود بكامله منغمس في حاضر سرمدي جامد ليس له ماض ولا مستقبل، فهو واحد متناه، ومتجانس لا يقبل القسمة، ممتلئ كله بوجوده، ولذا كان ثابتاً لا بداية ولا نهاية له .. " أقبل الآن لأخبرك، واسمع كلمتي وتقبلها. هناك طريقان لا غير للمعرفة يمكن التفكير فيهما، الأول أن الوجود موجود، ولا يمكن أن يكون غير موجود، وهذا هو طريق اليقين، لأنه يتبع الحق. والثاني أن الوجود غير موجود، ويجب ألا يكون موجودا، وهذا الطريق لا يستطيع أحد أن يبحثه، لأنك لا تستطيع معرفة اللاوجود ولا أن تنطق به، لأن الفكر والوجود واحد ونفس الشيء "، وهذه الفكرة الأخيرة في حد ذاتها تشكل خطورة أكثر من فكرة استحالة العدم، لأنه إذا كان الفكر والوجود شيئا واحدا، فإن الله كفكرة وكذلك كل ما يمكن أن نتخيله ونتصوره يدخل ضمنا عالم الوجود. فالله والملائكة والجن والشياطين والجنة والنار ونوح وسفينته وآدم وتفاحته وحواء وحيتها، وكذلك كل أبطال هوميروس، آشيل وهكتور وهيلينا وآجاكس وأوليس وغيرهم، يمثلون عالما من الموجودات الأزلية التي لا يجري عليها قانون العدمية ولا يطأها العدم الذي لا يمكن التفكير فيه. ويجب إنتظار هيجل حتى يكتشف أن الكينونة والعدم هما شيء واحد في نهاية الأمر، ثم سارتر وفكرته عن الـ contingence أو "العرضية" وأن الإنسان وجد بالصدفة ويمكن أن يختفي بالصدفة ذاتها. الحياة عموما والإنسان شيء غير ضروري، وجد بالصدفة مثل النمل والبراغيث والذباب ويمكن أن ينقرض بنفس الصدفة التي جاء بها إلى العالم. لا شك أن موقف الفلسفة أو الدين أو الفكر عموما من قضية العدم لها نتائج في غاية الأهمية على مسيرة الفكر وتطوره. فالفلسفة اليونانية، مع بارمينيدس نفت العدم وقدفت به خارج حدود الفلسفة، وبذلك لا يمكن للعدم أن يكون أساساً لحدوث الأشياء ولا يمكن أن يتم خلق أي شيء من المعدوم، فالوجود والإمتلاء هو القاعدة ولا مكان للفراغ او للعدم . وعلى العكس من هذه النظرة الفلسفية اليونانية، نرى النظرة الدينية تقول إن الخلق، أو على الأقل فعل الخلق الأول الذي أوجد به "الله" الكون وما فيه من مخلوقات لا يتم إلا من خلال العدم. فالعدم المطلق النافي لكلّ وجود هو المصدر والمنبع الذي خلقت منه الطبيعة والكون، حيث أن فكرة الخلق وفعل الخلق لا يمكن أن يتم إلا في الزمان ومن العدم، وإلا فإن هناك استمرارية وأزلية وسرمدية منافية لإنبثاق الإنسانية والوجود عموما فجأة عن طريق الإرادة الإلهية والعلة الأولى التي وحدها تتمتع بالقدم. وهذا ما يشكل أحد المفارقات والتناقضات الكبرى للفكر الغيبي، حيث يقر بالعدم وبضرورته لأن المخلوقات كلها "حادثة" وليست قديمة، وفي نفس الوقت يرفض العدم المطلق لأن الله قديم وأزلي.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدود العقل .. 10 - العقل الإنتحاري
-
حدود العقل .. 9 - الحلقة المفرغة
-
حدود العقل .. 8 - العقل الغيبي الأوروبي
-
حدود العقل .. 7 - العقل الغيبي
-
المختصر في أخبار الكابوس الليبي
-
حدود العقل .. 5 - الإيمان
-
حدود العقل .. 5 - اللغة
-
المختصر المفيد في أخبار ليبيا
-
حدود العقل .. 4 - الحجر
-
حدود العقل .. 3 - السيبورج
-
خرائب الوعي .. 27 - لماذا هناك أي شيء؟
-
حدود العقل .. 2 - الجسد
-
جدلية السيد والعبد
-
حدود العقل .. 1 - الإنسان
-
الإنسان حيوان قاتل - حل الجيوش هو الحل
-
الجريمة والعقال 6 - العلم ضد التربية
-
الجريمة والعقال 5 - القرود الخمسة والموزة المحرمة
-
الجريمة والعقال 4 - العصا لمن عصى
-
الجريمة والعقال 3- الإسلام .. رسالة ملغمة
-
الجريمة والعقال 2- البحث عن الجنة
المزيد.....
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف يمكن لواشنطن مساعدة إسرائيل
-
زيلينسكي يقرّر سحب الأوسمة الوطنية من داعمي روسيا ويكشف تفاص
...
-
إسبانيا: السيارات المكدسة في شوارع فالنسيا تهدد التعافي بعد
...
-
تقارير: طالبان تسحب سفيرها وقنصلها العام من ألمانيا
-
لبنانيون يفضلون العودة من سوريا رغم المخاطر - ما السبب؟
-
الدوري الألماني: ثلاثية كين تهدي بايرن الفوز على أوغسبورغ
-
لحظة سقوط صاروخ إسرائيلي على مبنى سكني وتدميره في الضاحية ال
...
-
سلسلة غارات جديدة على الضاحية الجنوبية في بيروت (فيديو)
-
مصدر مقرب من نبيه بري لـRT: هوكشتاين نقل أجواء إيجابية حول م
...
-
فريق ترامب الانتقالي: تعليق القضية المرفوعة ضد الرئيس المنتخ
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|