أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين عاشور - تونس على سرير بروكروست .. أو في البروكروستيّة الهوويّة















المزيد.....

تونس على سرير بروكروست .. أو في البروكروستيّة الهوويّة


ياسين عاشور
كاتب

(Yassine Achour)


الحوار المتمدن-العدد: 4398 - 2014 / 3 / 19 - 08:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" إنّ الهويّة بنت الولادة .. لكنّها في النهاية إبداع صاحبها لا وراثة ماضٍ " محمود درويش
" إنّ الهويّة تُقال على معانٍ عدّة " أرسطو
تُحيلنا الوقائع الرّاهنة إلى الأمثال و الأساطير باعتبارها حمّالة لمعانٍ جوهريّة عابرة للأزمان , نستأنس بها في قراءة الرّاهن الآني و فهمه فهمًا طريفًا . لأنّ الأسطورة ليست حكاية مبنيّة على الاعتباط بل هي جُمّاعُ الحكمة و خلاصتها . ننطلق في هذه المحاولة من الحالة التّونسيّة حتّى نخلص إلى ما اصطلحنا عليه بال"بروكروستيّة الهوويّة " .
جاء في الأسطورة الإغريقيّة أنّ قاطع طريق يُدعى " بروكروستْ Procrustes " كان يستدرج ضحاياه إلى بيته , و بعد أن يتعشّى الضّحيّة يدعوه إلى النوم عنده , فإذا اضطجع على السّرير الحديدي قام بروكروست بربطه ربطًا محكمًا و من ثمّة يشدّ ساقيْه و يمطّهما إلى حافة السّرير إذا كان الضّحيّة قصيرًا أو يقوم ببترهما إذا كان طويلًا حتّى ينطبق جثمانه تمامًا مع طول السّرير .
و لباب الأسطورة أنْ صار بروكروست و سريره رمزًا لل"إسقاط النمْذجي" , نقصد إسقاط النماذج الطوباويّة و القوالب الجاهزة و المقولات الجامدة و فرضها فرضًا على مجالات الوجود الحيويّة , كي تتماثل و تتماهى و لو قسرًا مع هذه المجالات . و هذا ما يعكس" وهم التّطابق " الكامن في تمثّل الكائن الهووي : تطابق ما هو ماثل في الأذهان ( الموضوعات تمثّلًاcomme Représentation ) مع ما هو واقعٌ في الأعيان ( الموضوعات كما هي في ذاتها En-Soi) .
و يعتبر "وهم التطابق " سليل "الوعي الماهوي " إرث المثاليّة الأفلاطونيّة التي تقول بالماهيات الثابتة , و الماهيات الثّابتة تقتضي وجودًا بالجوهر , في حين أنّ الفلسفة المعاصرة تجاوزت القول بال"الوجود بالجوهر " و استعاضت عنه بال"الوجود بالعرض " , و قد تجلّت هذه الفكرة بخاصّة لدى سارتر حيث أقرّ بأسبقيّة الوجود على الماهيّة , و الماهيّة –حسب سارتر - إنّما هي تحصل بالكسب و الجهد و الكدح و ليست معطى جوهريًّا .
بُعيد الأحداث الكبرى و الفاصلة في التاريخ , عادةً ما تُستعادُ الأسئلة الكبرى من قبيل السّؤال عن النّحن ؟ و ما الأجدر بنا ؟ و كيف ندبّر هذه " النّحن " ؟, و هذا ما حصل -و يحصل- بالفعل في " تونس " إثر الأحداث و الوقائع السياسيّة التي حفّت بها , حيث استعيدت إشكالات عديدة مثل إشكال هويّة الشّعب التّونسي , و علت الأصوات و حلّ الصّراخ و فشت السطحيّة في الطرح بما لا يليق بسؤال جليل كسؤال الهويّة . الكلّ صار ينسب تونس إلى نفسه و يردّها إلى مرجعيّاته العقديّة علمانيّة كانت أو دينيّة .
الكلّ صار يضع تونس و شعبها على سرير بروكروست , كي تتطابق مع تمثّل مجموعة مّا , فهذا ينادي بأنّ تونس إسلاميّة و الإسلام يجبّ ما قبله و بأحقية الحكم بالشريعة و إقامة دولة الخلافة , و ذلك يدعو إلى عروبيّتها و حصر أفقها في مقولات استنفذت كلّ إمكاناتها التاريخيّة , و ذاك يتحدّث عن القضيّة الأمازيغيّة و الاضطهاد العربي و صفاء العرق البربري و النّضال ضدّ المحتلّ القُرشي , و الآخر يريد استعادة التجربة البلشفيّة بحذافيرها مُتناسيًا الشروط التاريخيّة الحافة , وصولاً إلى ذلك الذي يحنّ إلى الكولونياليّة و دولة ما قبل الاستقلال ...
إنّ هذه البروكروستيّة الهوويّة اغتيال للنّحن , و نفيٌ للذات من حيث إرادة إثباتها , لأنّ النّحن ضاربةٌ في التّاريخ بكليّته الزّمانيّة , ليس التّاريخ المنحصر في الماضي و إنّما التّاريخ المتجدّد في حركته القادمة من الماضي , و المتفاعلة في الحاضر , و الممتدّة إلى المستقبل , " إنّ الهويّة معنى يسكن صورةً متحرّكةً دائمًا . إنّها تتجلّى في –الاتّجاه نحو - , أكثر ممّا تتجلّى في- العودة إلى- " كما يقول أدونيس .
يتميّز طرح الفيلسوف الفرنسي إدغار موران لمسألة الهويّة بكونه انطلق من علوم الأحياء و الإناسة و النّسابة و التّاريخ كي يثبت ثراء الهويّة الإنسانيّة في إطار وحدة النّوع . فالنّوع الإنساني وحدة متكثّرة و كثرة متوحّدة , انطلاقًا من التعقيدات البيولوجيّة الوراثيّة حتّى المتصوّرات الثقافيّة و قد اصطلح على هويّة النوع الإنساني بكونها " هويّة مركّبة-معقدّة" لا يمكن أن تخضع للاختزال و التبسيط القاتل . يقول " ثمّة وحدة بشريّة , و ثمّة اختلاف بشري . و ثمّة وحدة داخل الاختلاف البشري , و ثمّة اختلاف داخل الوحدة البشريّة . و الوحدة ليست في الصّفات البيولوجيّة لنوع - الإنسان العاقل – حسب . و الاختلاف ليس في الصّفات النفسيّة و الثقافيّة و الاجتماعيّة للكائن البشري حسب . فثمّة اختلاف بيولوجي بحت أيضًا داخل الوحدة البشريّة , و ثمّة وحدة عقليّة و نفسيّة و عاطفيّة . و هذه الوحدة-الاختلاف تبدأ من التشريح إلى الأسطورة " . نخلص حسب موران إذن إلى أنّ الاختلاف و التنوّع قدرٌ أملته الطّبيعة البشريّة , و مهما سعت مجموعة هوويّة ما إلى إثبات أحاديّة الحقيقة فإنّها تجد نفسها مشدودةً بالضرورة إلى أفق متعدّد الألوان و الخيارات .
كلّ مجموعة تمارس البروكروستيّة الهوويّة راسمةً أفقًا ممكنًا وحيدًا , هي تحاصر نفسها من حيث لا تدري و تعزلها عن المجال الحيوي الذي يحتضنها , واهمةً أنّها تخضع الحضارة لمنطقها , لكنَّ سيرورة التّاريخ تأبى أن تضطجع في سرير بروكروست و ترفض الخضوع لمنطق البتر و القطع و قولبة المجال و تصميمه وفقًا لرؤية مجموعة هوويّة معيّنة . لذلك فإنّنا نرى المستقبل للمنطق الحيوي مقابل المنطق الهووي , و التاريخ مقابل الميتافيزيقا , و النسق المفتوح مقابل النسق المنغلق , و التّنوّع مقابل الأحاديّة . إنّ تدبير "النّحن" هو تدبير للاختلاف , و استيعاب للمختلف , و سعيٌ إلى تحقيق المصلحة المشتركة , و قد قال فيلسوف العرب الأوّل – الكندي – ( و هو يبدو أكثر حداثةً من أهل عصرنا و بني جلدتنا) " وينبغي لنا ألا نستحي من استحسان الحق ، واقتناء الحق من أين أتى ، وإن أتى من الأجناس القاصية عنّا ، والأمم المباينة لنا ، فإنه لا شئ أولى بطالب الحق من الحق.وليس ينبغي بخس الحق ، ولا تصغير بقائله ولا بالآتي به . ولا أحد بخس بالحق ، بل كل يشرّفه الحق. " فالمنشود في النّهاية هو الحقّ , و ما هو الحقّ إن لم يكن الخير المتعلّق بالصّالح العام ؟
يقتضي البراديغم الحيوي في مقابل البراديغم الهووي ضربًا من التّواضع الوجودي و إيمانًا بضيافتنا على هذا الكوكب – فما الإنسان في النهاية إّلا عابر سبيل - , كما يقتضي تصوّرًا معيّنًا للحقيقة يقوم على التّنسيب , تنسيب الذّات بما تحمله من متصوّرات و تمثّلات و رؤى و أفكار . يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني " إنّ الإنسان في أفقنا الرّوحي لم يعد بعدُ إلى ذاته , كما فعل في أماكن أخرى من القرية الرّوحيّة التي تمثّلها الإنسانيّة الحاليّة . إنّه مازال مطالبًا باقتناء هويّته من خارج ذاته , ككائن ممنوع سلفًا من أيّ اختراع حيوي لمرجع وجوده " , و هذا ما يدعونا إلى تحطيم سرير بروكروست و تحرير تونس من مطباته التي غالبًا ما تؤول إلى عدم الاعتراف و بالتالي إلى العنف الرمزي و من ثمّة المادي . و ما الاغتيال السّياسي إلّا أعتى تجليات النفي المطلق للآخر و التشريع الكامل للذات ؟ !!



#ياسين_عاشور (هاشتاغ)       Yassine_Achour#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفُصامُ جُنونًا و شِعْرًا... -أرنست هربك- العائدُ مِن وَادي ...
- جان دمّو .. أو ديوجين في حياةٍ أخرى
- الشّعرُ يُنشدُ خافتًا
- غثيانٌ من وطأة الرّاهنِ
- الرّابطة العربيّة الأكاديمية للفلسفة
- محاكم التّفتيش السّراطيّة
- كلّ الهزائم لي
- فلسفة المعيش
- يوميات الخيبة
- أوّلُ الاغترابِ
- تشذّرٌ على هامِشِ النّسقِ
- العرّاف
- و هل تغيبين عنّي ؟
- مشروع ميثاق العمل الإسلامي - محمّد شحرور
- الإسلاميون و الكذبة المقدّسة : قراءة في أخلاق التدجين
- كنَعِيقِ البُومِ أو أتْعَسْ
- هَمْسُ البَرَاءَةِ
- سَعَةُ البَيْنِ
- فاتحةٌ لروايةٍ لمْ تبدأْ بعدُ
- الكينونةُ مأساةً و استحالةً


المزيد.....




- دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك ...
- مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
- بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن ...
- ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
- بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
- لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
- المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة ...
- بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
- مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن ...
- إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين عاشور - تونس على سرير بروكروست .. أو في البروكروستيّة الهوويّة