|
الرواية التاريخية و العولمة
إبراهيم إستنبولي
الحوار المتمدن-العدد: 1249 - 2005 / 7 / 5 - 10:39
المحور:
الادب والفن
ميخائيل بوبوف - كاتب و ناقد روسي ترجمة د . إبراهيم إستنبولي في بداية الثمانينات من القرن العشرين ،عندما كنت اعمل في مجلة " التعليم الأدبي " ، جاء أحد الكتاب البولونيين لزيارة صديقه رئيس تحرير المجلة . و خلال حديث " رفاقي " عام حول المائدة تطرق الحديث على وجه الخصوص إلى هينريك سينكيفيتش . عندئذ قلتُ ، بكل ثبات و عزم التلميذ ، أن سينكيفيتش هو بالتأكيد كاتب معروف و حائز على جائزة نوبل ، لكنه في الحقيقة ، لا يمكن تصنيفه في عداد الأدباء العِظام . كما هو بونين ، على سبيل المثال . و قد اغتاظ في حينه السيد البولوني ، و اضطرب ثم راح يتكلم بحماس شديد لكن بدون إقناع . لكن عبارة واحدة انطبعت في ذاكرتي . " في وقت ما لم تكن بولونيا موجودة في هذا العالم سوى في صيغة روايات سينكيفيتش " . هذه العبارة لم تنطبع في الذاكرة و حسب ، بل و بعد بعض الوقت دفعتني إلى كتابة هذا المقال . لقد قرأت من القصص التاريخية عدداًً لا يحصى ، و قد لفت انتباهي منذ وقت طويل أنه توجد عدة نماذج لتوظيف هذا الجنس الأدبي في أدبيات مختلف البلدان و العصور . النموذج الأول يمكن تسميته ، مجازاً بالطبع ، بـ " نموذج سينكيفيتش " . على وجه التحديد ، كانت توجد لدى كل شعب مثل تلك اللحظة التاريخية ، التي ذاقت فيها البلاد المعينة طعم الذل و المهانة و رزح الوطن خلالها تحت وطأة الاحتلال و التجزئة . في هذه اللحظة ، إن الروح القومية ، الفاقدة إمكانية ترجمة نفسها في العالم الموضوعي ، كأن تنهض بالشعب ، مثلاً ، لطرد المحتلين ، كانت ، الروح ، تنتقل إلى الفعل في عالم المُتَخيل . كان ذلك يجد تعبيراً له في ظهور الكتب المختلفة . و المهم في الأمر هو أن المؤلف لم يكن يطرح في نتاجه الأدبي العمليات المعاصرة له ، و إنما توجّه إلى حالات و شخصيات معينة في الماضي . الأمثلة لا تعد و لا تحصى . إليكم سينكيفيتش ذاته . لقد عاش الكاتب في الوقت الذي كانت فيه بولونيا جزءاًَ من الإمبراطورية الروسية . لكن هذا الروائي المعروف لم يكن يعتبر الدعاية المباشرة ضد النظام القيصري شأنه أو واجبه ؛ ففي روايات " الطوفان " ، بالنار و بالسيف " ، " السيد فولولديفسكي " قدم الكاتب وصفاً لأحداث نهاية القرن السابع عشر ، محاولاً بمساعدة صور تلك الفترة أن يزرع في نفوس البولونييين المعاصرين له فكرة الاعتزاز القومي ، الحلم بالدولتية الخاصة . نفس الشيء ينطبق على إيطاليا . في القرن التاسع عشر كانت إيطاليا مقسمة إلى إمارات كثيرة و كانت ترزح تحت نير الاستعمار النمساوي . و قد كانت منتشرة و شائعة في ذلك الوقت الأدبيات التحريضية و الدعائية للكاربونير Carbonari - من نوع الأهاجي و الكراريس و المنشورات . و لكن إلى جانب ذلك ، إن الروائيين التاريخيين كارلو ماندزوني ( في رواية " المخطوبين " ) و رافائيلو جوفانولي ( رواية " سبارتاك " ) تناولا بالتسلسل أحداثا إيطالية تعود لقرنين من الزمن و إلى عصور روما القديمة ، مستحضرين من ماضي أرضهما المادة الروحية اللازمة من اجل استنهاض الكرامة القومية للايطاليين المنقسمين . أما " رواية " تيل اولانشبيغل " للكاتب شارل دي كوستر ، التي تروي عن كفاح أهالي فلاندريا Vlaanderen , ضد المحتلين الأسبان في القرن السادس عشر ، فقد كانت عملياً بمثابة الحجة في الجدل حول مصير الدوليتة البلجيكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر . و هذا يوجيف دارفاش - كاتب هنغاري عمل في منتصف القرن العشرين . جعل بطلاً لروايته " المنتصر على الترك " لايوش هونيادي - رجل الدولة الذي عاش قبل ذلك الوقت بخمسة قرون . أي أن الكاتب هو ذلك المناضل الهادئ ضد الستالينية ، المعادي للهيمنة السوفييتية على " أمة السادة الملاكين " العريقة ، بينما البطل يناضل ضد الاحتلال العثماني . و الكاتب السويسري فرديناند ماير ، من الثلث الأول من القرن التاسع عشر ، عندما راح يتشكل الاتحاد السويسري ، يتناول في راوية " يورغ يانيتش " التقلبات المريعة التي استمرت ثلاثين عاماً من القرن السابع عشر ، حين أن وجود الأمة الألمانية الكبرى بحد ذاتها كان موضع تساؤل جدي . أما كاتب الرواية الكلاسيكية من جمهورية جورجيا السوفييتية كونستانتيني غمساخورديا فإنه يستلهم موضوع كتابه " اليد اليمنى للمعلم العظيم " من زمن داود – البنّاء . هكذا هو أيضا الكاتب السوفييتي ديرينيك ديمرتشيان في روايته " فاردانانك " يتناول الأحداث التي رافقت الغزو الفارسي لبلاده أرمينيا ، و الذي جرى في القرن الثالث الميلادي . بالإمكان أن نورد أمثلة كثيرة بهذا الخصوص و هي كما ذكرنا لا تعد و لا تحصى . إن الهدف من جميع تلك المحاولات هو ، على العموم ، واحد – بعث في الذاكرة الشعبية المعاصرة تلك الظلال العظيمة للماضي ، التذكير باللحظات المجيدة أو الأيام الرهيبة في تاريخ الأمم . " العَظَمَةُ في الدراما " – كما قال ليسينغ . لذلك فإن الكتّاب غالباً ما يتوجهون في أعمالهم إلى تلك اللحظات من تاريخ شعوبهم ، عندما يكون هو إما متربعاً على قمة المجد إما على حافة الموت و الضياع . و يتوقف الأمر على حماس الشعب المعني و على خصائص الكاتب المعين . لكن على العموم و بشكل رئيسي ، إن مبدأ البناء الروائي متشابه في مختلف البلدان : الرواية التاريخية هي عبارة عن محاولة لنفض الذهول و النوم ، اللذين يتملكان وعي الأمة من حين إلى آخر ، و اللذين هما اخطر من الخجل و اليأس . مداخلة صغيرة : و نحن نتحدث عن الرواية التاريخية ، لا بد لنا من كلمة عن الروائيين أنفسهم . و عندما نتحدث عنهم لا يمكننا أن نتجاهل خصوصية واحدة . إن كتاب الأعمال التاريخية الشهيرة و المؤثرة في ثقافة شعوبهم ، كثيراً جداً ما يكونوا أشخاصا ملتصقين بقوة مع عالم السلطة الحقيقية ، قريبين ، يمكن القول ، من سدة الحكم . مثلاً ، زفياد - ابن الكاتب الجورجي غامساخورديا ، صار فيما بعد رئيساً لجورجيا ، نسيب الكاتب الأرمني ديمرتشيان ، و إن تكن صلة القرابة به بعيدة ، كان السكرتير الأول للحزب الشيوعي في أرمينيا ؛ الروائي البرازيلي جوزيف دي الينكار ، مؤلف رواية " غواراني " ، هو ابن الانقلابي المعروف و الذي كان من الممكن أن يصبح رئيساً للبلاد ؛ رافائيلو جوفانيولي – صديق حميم لغاريبالدي . و من بين كتاب الرواية التاريخية أيضا رئيس كولومبيا ميكيلسِن Michelsen و رئيس هنغاريا انتال Antall . الأمثلة كثيرة . علماً أن هذه القاعدة الغريبة لا تنطبق على الحقب السابقة و البلدان النامية فقط . فقد تبين أن الروائي التاريخي الأمريكي الأكثر شهرة اليوم غور فيدال G. Vidal ، الذي كتب روايات ممتازة " Baer " و " 1876 " ، يتصل بعلاقة قربى مع ( على الأرجح خاله ) النائب السابق لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية ألبرت غور . كما كتب الرواية التاريخية وزير بريطانيا للشؤون الخارجية دوغلاس هيرد . أرجو الانتباه إلى أنني اذكر أسماء الروائيين فقط ، أي المؤلفين " الصرف " ، دون الإتيان على ذكر أولئك الذين كبتوا مجرد نصوص تاريخية كما هو الحال ، مثلاً ، مع وينستون تنشرشل . يبدو أن هناك تشابها بين أن تقود البلاد بالفعل و أن تحافظ على الشعلة في صورتها المخفية للروح القومية . قبل الانتقال إلى وصف النموذج الثاني من توظيف الرواية التاريخية في الثقافة العالمية ، أود أن أشير إلى أنها – أي النماذج – هي اكثر من اثنين . لكنني عاجز فعلياً عن الإحاطة الكاملة بهذه الظاهرة مع تفاصيلها ، خصوصاً في إطار مقالة واحدة . عدا ذلك ، هناك انحرافات ، تفاصيل دقيقة و مختلف الألاعيب . لنأخذ مثلاً الصيغة الأوكرانية للرواية التاريخية . إنه مثير باعتباره قريب إلى ثقافتنا . كجواب على " الثلاثية " المذكورة سابقاً للكاتب البولوني سينكيفيتش ، إن الكتاب الأوكرانيين في زمن الاتحاد السوفييتي قد ردّوا بسلسلة من الكتابات الخاصة . بالطبع إن هذه الروايات تتناول أحداث نفس الفترة التاريخية الدراماتيكية من القرن السابع عشر . منها نذكر الرواية في ستة مجلدات " زينوفي – بوغدان خميلنيتسكي " للكاتب أ . كوزميتش ؛ و " ثلاثية " الكاتب م . ستاريتسكي " قبل العاصفة " ، " العاصفة " و " عند المرسى " – ؛ و كذلك رواية في ثلاثة مجلدات " الكسي كورنيينكو " لصاحبها أ . تشايكوفسكي ؛ و رواية " بوغون " أ . سوكولوفسكي ؛ و رواية " غليان أوكرانيا " ب . بانتش ؛ " رادا بيريسلافا " للكاتب ن . ريباك ، و الرواية في ثلاثة أجزاء " خميلنيتسكي " للكاتب Ley E . . من حيث الكمية ، إن الجواب كبير بالتأكيد . أما عن النوعية الأدبية لهذه الروايات فنحن لن نتحدث لأن هذا ليس من مهمة هذا البحث . لكن سألفت الانتباه إلى خصوصية صغيرة ، ربما إن المؤلفين أنفسهم لم يحسبوا لها حساباً . لكي يصبح مفهوماً محتوى فكرتي ، أقترح أن نتذكر البطل تاراس بولبا و أولاده ، اوستاب و اندريه . من ناحيتي ، أنا شخصياً لا يمكنني– عندما أقرأ روايات الكتاب الأوكرانيين تلك ، خصوصاً روايات ريباك و لاي ، - سوى أن أؤكد أن مّن كتبها يتمتع بنفس عقلية اندريه ، و ليس اوستاب . إن الميل ، ليكن الخفي و غير المحسوس دوماً ، إلى بولونيا ، إلى الثقافة البولونية ، يسيل ، كما السم حلو المذاق ، في قاع تلك التيارات الواسعة و العاصفة من القص الروائي . إن الرغبة المموهة بشكل جيد بأن تكون أوكرانيا مهزومة من قبل بولونيا و من خلالها من قبل " أوروبا المتنورة " ، نراها مخفية في عمق تلك النصوص . نعم ، إنه موضوع يتعلق بالأحاسيس ، لكن ما العمل مع هذه الأحاسيس ، طالما هي موجودة . أما الآن فننتقل إلى النموذج الثاني الذي وعدنا به . لنبدأ من مثال تاريخي . القرن الخامس عشر . نحو شواطئ إنكلترا يتجه أسطول ضخم للملك الأسباني ، ما يسمى " الأسطول العظيم " . من زاوية موضوعية ، إن ذلك الاجتياح كان اكثر خطراً لبريطانيا من الهجوم الهتلري المرتقب . لو أن خطط هتلر نجحت لكانت نجت و تحررت أمريكا على الأقل . بينما لو نجحت خطط " الهجوم الكبير للأسطول الأسباني " لكان التاريخ ، ربما ، غير اتجاهه بزاوية حادة تماماً . لم يكن لدى الإنكليز أية فرصة لمقاومة الأسطول الأسباني بعد أن يتم الإنزال على شواطئ الجزر البريطانية . حادثة طبيعية – العاصفة - ساعدت الأسطول الإنكليزي على صد هجوم الأسبان و درء الخطر . لقد انهزمت إسبانيا في تلك المحاولة العظيمة و منذ ذلك الحين بدأ نفوذها في العالم يتراجع ، ذلك النفوذ الذي لم ينافسها عليه أحد قبل ذلك . وقد استمرت العملية على مدى مئات السنين و انتهت باستسلام إسبانيا في الحرب الأمريكية – الإسبانية أعوام 1899 – 1901 . المؤرخ البريطاني الشهير أر نولد توينبي قال : " ما أنجزه أسطولنا ، بانتصاره على الأسطول الأسباني العظيم " ، قد تم تكريسه و ترسيخه من خلال أسطول هائل من الروايات التاريخية " . ما المقصود ؟ إن كتاب الرواية التاريخية الإنكليز قد انشأوا الصيغة الملائمة لمصلحة بريطانيا عن الصراع بين الإمبراطوريتين – البريطانية و الإسبانية ، اللتين جابهتا بعضهما البعض خلال عدة قرون . راحت إسبانيا تضعف بالتدريج ، بينما راح بأس و نفوذ بريطانيا يزداد و يزداد ، لتنتصر في نهاية المطاف . لكن هذا لا قيمة له في مناقشتنا . إنه مجرد حقيقة تاريخية . لقد بذل الكتاب البريطانيون جهوداً جبارة و لعبوا دورا كبيراً لكي تبقى إسبانيا في الوعي العالمي على أنها أمة الكونكيستاتور الدمويين ، أمة اللصوص و السفاحين ، الذين نهبوا ثروات و ذهب الهنود التعساء عن طريق أبشع أنواع التعذيب . " الأفعال الوحشية للعسكرتاريا الإسبانية " – هذه الكليشة مأخوذة من واحدة من افضل و اكثر الروايات المقروءة في روسيا للكاتب رافائيل ساباتيني " ملحمة الكابتن بلادا " . لا أعتقد أن هناك من لم يقرأها . و قد كتبت المئات من أمثال هذه الرواية . ابتداءً بالعجوز جون لايندسي J. Lindsey وصولاً إلى معاصرنا تقريباً فيك ماك مايسون V.M. Mayson . في كل مكان الأسباني نذل و متوحش ، و أما الإنكليزي ( حتى و لو كان قرصاناً ) – هو جنتلمان و مُنقذ . مع العلم أنه لا يمكن عدم ملاحظة كيف إن السادة الإنكليز في تلك الروايات إنما يقومون ، كقاعدة ، بنهب الذهب الذي حصّلوه الأسبان . هناك جانب آخر يلفت الانتباه ، ألا و هو أنه في الأراضي ، التي كان يحكم فيها " الوحوش " ( في البيرو ، المكسيك .. ) يوجد إلى الآن ملايين الهنود ، بينما في الأراضي ، التي " استثمرها الأسياد " الإنكليز ، لا يوجد سوى بضعة آلاف من السكان الأصليين ، الذين يحتجزونهم في أماكن معزولة خاصة Reservations . لكن ليس مهماً ماذا كان في واقع الأمر ؛ المهم كيف تم تقديم ذلك و في أية صيغة بقي في الوعي المجتمعي . ليس مهماً كيف أنتَ حاربتَ في القرن السابع عشر ؛ بل المهم كيف أنتَ كتبتَ الروايات التاريخية في القرن التاسع عشر . إليكم مثالاً آخر حول ذات الموضوع . من تاريخ العلاقات المتبادلة داخل المجتمع الألماني في أوروبا النصف الثاني من القرن التاسع عشر . هاجم بسمارك النمسا في عام 1866 و هزمها . انتصرت برلين غوغينسليرنيين على فيينا غابسبورغيين في الصراع من اجل الزعامة الألمانية . يجب القول أن تلك الحرب كانت ، و فق جميع المعايير الإنسانية و التاريخية ، عملاً لا أخلاقيا . لم يكن اكثر وقاحة سوى الهجوم على الدانمرك الأعزل و اقتطاع منطقة شليزفيغ – غولدشتاين منه . و قد أدرك ذلك بسمارك الفطن و اللبيب ، كما فهم أيضا أنه بالإمكان " تنظيف " كل عمل خسيس . و لماذا لا تكون الرواية التاريخية هي الوسيلة " لإضاءة " هكذا عمل دنيء . و كان ما كان . في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر قام الأدباء الألمان بتأليف الكثير جداً من الكتب ، التي تم فيها تمجيد الروح البروسية و التأكيد على أحقيتها بالقيادة . بداية في الفضاء الألماني . لم تكن الروايات التاريخية الألمانية افضل من أخواتها الإنكليزيات . لكن هذا ليس مهماً . بل المهم هو أنها ، أي الروايات ، كانت موجهة لجمهور واسع من القراء العاديين . و راح القارئ العادي يلتهم تلك الروايات بشهية كبيرة و راح يغرف منها حقه بأن يكون منتمياً إلى الشعب المختار . إن تشكيل الرؤية الخاصة للتاريخ العالمي و من ثم فرضها على الوعي المجتمعي – هذا هو جوهر النموذج الثاني من الرواية التاريخية . هناك أمثلة كثيرة ، لكن المجال لا يتسع لسردها هنا . فما هو المنظر العام في هذا المجال الآن ؟ يبدو كما لو أن اللوحة السياسية واضحة اليوم . انتصرت أمريكا في الحرب الباردة . و نحن نعيش اليوم في وضع العالم البارد .كان يفترض أن نشهد غزارة في الروايات التاريخية الأمريكية ، حيث يتم تفسير و شرح التاريخ العالمي بما يتفق مع المصالح و الرؤية الأمريكية . لكن لا شيء من هذا القبيل . إن الأمريكيين يميلون على العموم إلى إقصاء تاريخهم الخاص نحو الماضي . يهتمون بشكل كبير لكل واقعة ، موضوع أو اسم مهما كان قليل الشأن . لقد خبرت بنفسي ، أثناء تواجدي في أكاديمية ويست – بوينت West – Point Ac. ، كيف أن التلاميذ هناك يعتنون بمدفع لا يتميز بشيء ، سوى أن جنرالاً مشهوراً لديهم إما احتسى البيرة إما التقى بصديقته بالقرب منه يوماً ما . عندهم تقوم الدولة بحماية كل بيت أو بناء يزيد عمره عن عشرين عاماً . و الحرب العالمية الثانية بالنسبة للأمريكيين هي مجرد بيرل – هاربور P. – Harbor ، port Midway و اللقاء على جبل إلبروس Elbrus مع أولئك الروس ، الذين لم يكن أحد يعلم ماذا كانوا يفعلون قبل ذلك اللقاء . لكن الفن الروائي التاريخي في أمريكا لا يحمل ميزات الظاهرة " المتمددة " . في البداية ظننت أن " نظريتي " تعاني من الضلال . لكن هذا الظن لم يدمْ طويلاً . إذ جاء التفسير سريعاً نظراً لأنه لم يكن ببعيد . ذلك أن دور الرواية التاريخية الجماهيرية ، كما نحن نتخيله و نفهمه ، تقوم به الروايات – الفانتازيا Fantasy ، المبنية على المواضيع التاريخية . هناك غزارة في الإنتاج في هذا المجال . ذلك أن هذا الجنس ، الذي ابتكره الكاتب طولكين Towlkin ، باعتبار أنه قابل للفهم و الاستيعاب من قبل الناس الأقل ثقافة ، قد سبب نتائج كارثية . فما هي قيمة الكتاب المتوسط النوعية من هذا النوع ؟ قبل أي شيء ، يجب على الحدث أن يجري ليس فقط في بلد غير موجود أصلا ، بل و كذلك إن المبدأ الذي على أساسه يتم اختيار البلد المُتَخَيل هو أيضا غير مفهوم . أحيانا في الجنوب ، أحيانا أخرى في الشمال ، تارة من الأيام الغابرة و تارة من القرون الوسطى ، و هلم جرا . و كما لو أن الخير بشكله العام و المُجرَّد يصارع الشر بشكله العام و المجرد . لكن أساليب و وسائل الخير لا تختلف كثيراً عن حذاقات و أساليب الشر . كما يلاحظ غياب كامل لأية علامات قومية عند الأبطال ، بغض النظر عن الجهة التي يقاتلون إلى جانبها . أن تتخيل عالماً جديداً ، افتراضياً و أن تُسْكِنَه بشراً ، و أن تملأه بالعادات و بالأشياء ، لأمر غاية في الصعوبة . لكن الكتاب الذين يكتبون الروايات الخيالية Fantasia إنما هم عادة حِرَفيون بامتياز . لذلك فقد ابتكروا لأنفسهم أسلوبا حِرفياً مشتركاً : تمويه و تشويه النماذج ، المعتقدات و الجغرافيا حتى النهاية . من هذا المنطلق نرى كيف أنه يقفز من على صفحات هذا النوع من الكتابات جندي و على رأسه خوذة يونانية ، يحمل سيفاً رومانياً و في ثياب ساراتسينية . يقفز في أراض تشبه براري ( سافانّا ) سيبيرية ، حيث يمكن في أية لحظة أن يقفز من الغابات الاستوائية إلى المنطقة الجليدية المغمورة بالثلوج ، أو إلى نزْل مشتعل . يقفز لكي ينقذ فتاة خلاسية من الإسكيمو من بين مخالب الفايغينغ Vikings الصفر ، الذين يعتنقون خليطاً كثيفاً من الكاما - سوترا Kama -Sutra ، و رقص البطن على ضوء القمر . وقد تلقف السينمائيون و المخرجون التلفزيونيون مبادرة هؤلاء الكتاب . هكذا على أثر كونان الروائي ظهر كونان الشاشة . إذ لم تعد الكتب كافية لوحدها . ذلك لأن عدد المتلقين اصبح كبيراً جداً و بالتالي من الأسهل " غسل دماغها " بواسطة أدوات أكثر تأثيراً و أكثر فاعلية . في البداية حاولت هوليود أن تلتزم الحقيقة التاريخية ، على الأقل في الحدود العامة جداً : " سبارتاك " ، " ثلاثمائة إسبرطي " ، " كليوباترا " – لم تكن اكثر من خصخصة للتاريخ العالمي من قبل المنتج السينمائي الأمريكي . ثم بدأ ما هو مثير للفضول حقاً ، إذ ظهر ما يسمى نموذج " بِن غور الهوميري " ( من هومر Homer – المترجم ) ، حيث تعرض التاريخ الحقيقي ، من ناحية ، للإخصاء ، و من ناحية أخرى تم تلوينها و تحريفها . فقد تم زرع شخصيات و مراحل مصطنعة في النسيج التاريخي الحقيقي . و من المناسب الإشارة هنا إلى أنه تم في ذلك الفيلم استخدام مُركَّز للوسائل و الأدوات لدرجة تفوق العقل . فقد بلغت نفقات الفيلم حداً لم يصل إليها أي فيلم سوى " تياتانيك " مؤخراً . اعتباراً من " بِنْ غور " بدأت عملية إفراغ كل ما هو أصيل و ذو قيمة .. لقد أصبح التاريخ مطواعاً ؛ لكن هذا لم يكن سوى خطوة في الاتجاه نحو إلغائه . ذلك أن المسلسلات الطويلة المليئة بالتاريخ و بالمغامرات ، التي تم غسلها جيداً بـ " الشامبو " و كذلك بنماذج " هيراقلـ "ـية و مختلف أنواع السندباد – البحارة بعد أن تم " تصويبها " تماما إلى الحدود اللازمة ، كل هذه المسلسلات قد تابعت تلك المسيرة . و ماذا كانت النتيجة ؟ في النتيجة نشأ لدى الجمهور العالمي الهائل و بالتدريج إحساس كما لو أن كل ذلك التاريخ الماضي ليس سوى حشوة دموية و خالية من أي معنى . لم يكن هناك أي تاريخ قومي ذات مضمون جيد ، لا يوجد الآن و لن يكون في المستقبل . التاريخ – عبارة عن كابوس فظيع بشكل هائل ، من المستحسن أن يتم التخلص منه . كما لو إن جميع الشخصيات التاريخية من أمثال الكسندر نيفسكي ، و مونتسوما ، و فريدريخ بارباروسا ، و كرومل ، و حتى نابليون ، هذا إذا لم يطل الأمر تاميرلان و روبسبير – كلهم مجرد شياطين متوحشين و خطرين يجب حبسهم في الماضي إلى الأبد ، أي يتوجب نسيانهم . و عندما يعلن نهاية التاريخ شخص اسمه فرانسيس فوكوياما ، فإن المواطن الشبعان و الذي يعيش حياة ميسّرة في الغرب يشعر بارتياح كبير : أخيرا حلَّ النظام ، الذي سيقضي على جميع تلك الأوهام و الكوابيس ، و بالتالي فإن العولمة " المباركة " ستبدو طبيعية و مشتهاة . لكن الحياة ، و كما هي دائماً ، تتكشف عن أن الأمر هو اكثر تعقيداً و أكثر دهاءً من جميع الخطط و المنظومات ، بما فيها تلك الأوهام المكلفة و المدفوعة الثمن باهظاً : فمن ذلك التاريخ الفعلي ، الواقعي ، جاء الإرهابيون – الكاميكادزي ، الذين قاموا بتفجير ناطحات السحاب ، و الذين وزعوا جرثومة الجمرة الخبيثة عن طريق البريد . فالتاريخ ، الذي تم إعلان نهايته ، لا زال مستمراً في إظهار طبعه الجموح . ربما ، ليس هذا هو المكان المفضل ، لكن تخطر ببالي هنا فكرة من دفتر يوميات الكساندر بلوك ، التي كتبها مباشرة بعد أن علم بغرق " تيتانيك " . " لا زال هناك المحيط ! " – عبارة التعجب هذه لا تشير إلى غِلاظة قلب أو قساوة الشاعر العظيم ، بل بالعكس ، تشير إلى الرضى عن الذات و عن الإنسان ، و إلى الثقة العمياء بالنفس . و من الخطر بمكان عندما يسقط في هكذا عمى ليس فرد واحد ، و إنما البشرية بأكملها .
المقال المترجم كان قد نشر في " Roman - Jornal XXI century " شهر تشرين ثاني لعام 2004 - و هي دورية ادبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب لعموم روسيا . و قد كان زار سوريا في آب عام 2004 وفد من الاتحاد برئاسة الدكتور غانيتشيف ... حيث قدم لنا مشكوراً بعض الأعداد - المترجم
#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فارس آخر يترجل : الشيوعي الشهيد جورج حاوي - وداعاً
-
عذراً ، لقمان ديركي : نحن أيضا سوريون
-
موضوع الوحدة عند تشيخوف
-
الحسن يُظهر ضدَه الحسن : عن حوار الطرشان في بلاد العربان
-
من الشعر الروسي المعاصر
-
- قصص من سوريا - بــتجنن
-
لبننة - التيار العوني ... لمصلحة الجميع -
-
أدباء عظام ... و لكن
-
... حكي من القلب
-
قراءة في البيان الأخير لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا
-
بمناسبة أربعين اغتيال الرئيس الحريري : انطباعات مواطن سوري
-
بوريس باسترناك - الكاتب و الشاعر الفيلسوف
-
أيتها الوَحْدَة ، ما اسمك ؟
-
لماذا 8 آذار – هو عيد المرأة العالمي ؟
-
من الأصوات الشعرية الروسية المعاصرة : اناتولي فيتروف
-
تداعيات و خواطر .. ع البال
-
امتنان و فكرة .. و سؤال
-
تمنيات مواطن سوري في العام الجديد
-
تطورات الروح - من تعاليم التصوف
-
متى ستزور - لحظة الحقيقة .. - اتحاد الكتاب العرب ؟
المزيد.....
-
ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا
...
-
بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات
...
-
تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض
...
-
“معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر
...
-
ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
-
أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز
...
-
الأديب والكاتب دريد عوده يوقع -يسوع الأسيني: حياة المسيح الس
...
-
تعرّف على ثقافة الصوم لدى بعض أديان الشرق الأوسط وحضاراته
-
فرنسا: جدل حول متطلبات اختبار اللغة في قانون الهجرة الجديد
-
جثث بالمتاحف.. دعوات لوقف عرض رفات أفارقة جُلب لبريطانيا خلا
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|