|
في اللاهوت و حرية الإنسان
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4396 - 2014 / 3 / 17 - 14:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في اللاهوت و حرية الإنسان
اللاهوت هو قولبة يُقدِّمها الدين، هي مساحة مُحدَّدة بالتبليغ محدودة في المُحتوى، تحتوي "معارف" إلهية ليست كأي "معرفة" أو "حقيقة" أو "بُرهان" قابل للفحص و التأكد و القياس و إعادة الإنتاج و اختبار الأثر، و هذا الأخير يُفقد القالب اللاهوتي أي مصداقية يمكن الاعتماد عليها في قبول الدين كحقيقة واقعة تحكم الرؤيا إلى الواقع و ترسم شكل المستقبل و تُعيِّن سقف الطموح المعرفي و أبعاده الجُزئية الشَّارحة (إن جاز تسميتها بالمعارف و الشروحات) و تشريعاته المُتداخلة في شؤون الحياة و المُنظمة لها.
اللاهوت هو الكلام عن الغيبيات، عن خالق في عالم ٍ غائب، يتحرَّك كما شاء، ليصنع َ ما شاء، فَيـُنتج َ "الخلق َ" و "إدارة َالخلق" في العالم الملموس، فتتحرك البشر و المخلوقات و الكواكب و النجوم ُ بإرادته، دون أن نتمكن من قياس الإرادة أو الاستدلال ِ عليها، أو الربط بين المشيئة و كينونتها المُرادة، و المُتحققة بفعل المُريد و بين الأثر الناتج عنها.
اللاهوت هو إِخبار ٌ عن عالم ٍ غائب غير مرئي غير موجود معي، غير صادر من عندي، من كياني، من طبيعتي، غير مُتصل معي، غير مُرتبط بي، غير مُؤثر علي، لكنه في الحِكاية و كل ِّالحكايا المُرتبطة بأولى تلك الحكايات، هو سبب وجودي، و علَّة ُ استدامته، و المسؤول عن استمراره و الضامن لبقائه، و المصدر الذي منه خرج و إليه يعود.
في حكايا اللاهوت، الإنسان موجود بقدرة الواجد، و هو خاضع ٌ لِـ "حقائق" ذاك الواجد، ساع ٍ إليه، عابِد ٌ قانـِت ٌ يمتاز ُ بمساحة ٍ من الإرادة و عقل ٍ مُمَيــّـِز و فِعل ٍ حياتي ٍّ يستدعي حُكمَ الواجد عليه بالقبول تتبعه المُكافأة، أو بالرفض ِ يتبعه العقاب، فهي حُرِّية ُ العبد الذي لـَه ُ أن يرد ِ الماء بدلو ٍ أو دلوين، يختار طريقه أن يمضي من وسط ِ المضارب بين الناس أو من الدرب الأبعد ِ مُلتفا ً حولها حيث ُ لا ضجيج، لكنه عند الظهيرة سيُسأل ُ عن الماء الذي في الزير، بدلو ٍ أتى به أو بدلوين، سالكا ً ما بين المضارب ِ أو من حولها، سيان.
في حكايا اللاهوت حكاية ُ الواجد الأول الذي رسم دائرة الكينونات ثم شاءها فخرجت منه، ثم حدد صفاتها و خصائصها و طبيعتها و ما يـُـتوقع منها، و ما يريدها أن تفعل، و ما يريدها ألا تفعل، و كيف يجب أن تمضي في الحياة، بم تؤمن، و بم تكفر، و كيف و بم تُفكِّر، و أشكال تفاعلاتها الحياتية، تلك الحكاية ُ الأولى التي منها القانون العُرفي غير المكتوب، و بإلهامها القانون ُ الدستوري المكتوب، و بسطوتها و إكسير ِ عبقها الساحر المتغلغل في النفس يلتحم ُ الأفراد ُ بعلاقَة ٍ غير مرئية لكن محسوسة هي ذات ُ إدراكهم للواقع و رؤيتهم لماهيته و ذات ُ قانونه و نظامِه و قيمه و أعرافه.
في اللاهوت لا مكان للإنسان، المكان ُ فقط للغيبي غير المرئي، للحكايا القديمة القادمة من التاريخ، من المقبرة، من جُثث الرجال و النساء، و سير البشر المُندثرة، من آهات ِ المسحوقين َ تحت خيول الفاتحين، من دماء المذبوحين بالسيف، من جنون ِ سدنة الكنائس و المساجد و من قسوة ِ أحكامهم و تحريماتهم، من وقاحَة ِ احتقارهم الفظ و الوضيع للإنسان و الحب و الحياة و زخم ِ الوجود و انطلاق ِ الكينونة الحياتية.
المقبرة هي قلبُ الدين،هي صوت ُ دعوته. الخوف ُ هُبوبه الناري يقتحم ُالقلوب، حجرُه الثقيل ُ على العقول، انسيابُ كثافتِه ِ المُعطلة للحياة، لصوتِ الحرية، لانعتاق المُشتاق ِ من مساحَة ِ "حقائقه" المحدودة، من ضيق تعصبه و رفضه لكل ما هو من خارج دائرته الضيقة، تلك الدائرة التي يُحكى أن فيها كلُّ شئ لكنها لا تحتوي مما تقدمه الحياة ُ أي شئ.
الدعوة إلى الدين هي الدعوة ُ إلى القبر، إلى الدخول ِ فيما دخل فيه الأموات ُ السابقون، إلى جماجِم الرجال المُبلغين، و صدور القديسين و القديسات و الأولياء و التابعين و الصالحين و الأئمة و المُشرعين، هي الدعوة إلى لجم الحياة، تحديد ما هو غير قابل للتحديد، هي الضرب ُبالثبات لكل ما هو ديناميكي و تفاعلي و إنتاجي، هي النتائج العارفة ُ بِـ و المُعرِّفـَةُ لـِ الظروف غير المُدرَكة و غير القابلة للإدارك و المعرفة، هي ضعف القزم الخائف أمام جبروت العملاق الذي يتجاوزه بقوة ٍ و سرعة ٍ لا مثيل لهما، فيتصور َ الأول أن أثر العبور ِ هو العبور ُ ذاتُه و أن الإرتماء َ داخل َ مساحة ِ أثر قدم العملاق هو إحاطة ٌ بشموليتِه ِ و دلف ٌ إلى أسرارِه و فهم ٌ كامل ٌ له يستتبع ُ الحديث عنه و التبليغ َ عن مروره و الوعد بامتلاك ِ ذات ِ جبروتِه و تسير كل ِّ ما يختص بِه لخدمة الأقزام ِو المؤمنين بفوقية التَّقزُّم.
الحياة ُ في الدين هي الحياة ُ في المائت، في المُنتهي، هي الموت ُ الذي يحيا، و الحياة ُ التي تموت، و العجزُ عن الانطلاق نحو استكمال ِ المُمكن، العجزُ عن الامتلاء من المُستطاع ِ أن يكون. هي الوقوف ُ بين يدي الأصفاد، و السجود للأقفال، و القيدُ العنيفُ الجائر ُ للنفس المانع ُ من الارتقاء ِ الأفقي نحو الإنسان ِ الآخر، نحو شَبَع ِ الإنسانية، نحو اكتفاء القلب ِ بالقلوب و النفس بالنفوس و الإنسان بالبشر و الحياة ِ بطبيعتها و الصخب ِ الإنساني بانسياب كينونة الحياة ِ داخل نفسها، لا في مساحة ِ اللاهوت ِ الذي أتى من المقبرة ِ و من توابيت ِ و أكفان ِ الأنبياء و المُبلغين و التابعين و الأولياء و الصالحين و القديسين و القديسات.
صوت ُ الدين ِ هو صدى اختبارِ نفس الإنسان البدائي ِ المُنشق ِّ بالتطور ِ عن شُركائِه ِ في رُتبة الأوليات، تعبير ٌ عن توق ٍ أعظم حي، مُشتاق، مُنعتق، ديناميكي، تم َّ تأطيرُه في عصور ٍ سحيقة بهدف الإخبار ِ عن لا محدوديته، فكان َ المحدود المعرفي المخلوط بالإدراك المتشوه منهجا ً خاطئا ً أفسد التصور و البناء و الهيكل و الشكل، و تلقفته السلطتان السياسية ُ و الاقتصادية و جعلتا منه المُعتقد و الاعتقاد َ و السبب و العلة و القانون و التشريع و الحُكم و الخصم َالمُختَصـِم و القاضي معا ً، و استبدلت َ بالصدى الاختباري الأول و بالتوق الأعظم و بالشوق الأكبر ذاك الصوت الديني المائت و تلك الحكايا القادمة َ من القبر، و رمت تلك َ الجيفة َ الميتة في نفق ِ الزمن ِ يتوارثها كلُّ من خرج من رحم الحياة ِ الأول.
إن الحياة َ في الحياة، بملئ الإنسانية، بدون اللاهوت، بغير تشريع ِ صوت المُبلغين و قصصهم و نصوصهم هو المَحيا الذي لا ممات فيه، لأنه استمرار الواحد الإنساني على محدودية ِ سني عمره في المُتواصِل الإنساني ِ الماضي بلا انقطاع طالما بقي جنس البشر. إنه المَحيا الذي لا يحتويه موت، هو صوت ُ الإنسانية ِ نحو إدراك ذاتها الكائنة في كينونة ِ الوجود ِ نفسها، هو إدراك ُ العلاقة ِ مع الحياة و تحدِيدُ أبعادها و مداها بعين الطبيعة، و قوة الماهية ِ الإنسانية ِ الأصيلة ِ القادمة ِ من البشري نفسه و من وجوده و من عقله و من إداركه، بُغية َ "الحياة" اليوم و الآن و هنا، لا بُغية قضاء السنين ِ للموت للحياة في مكان آخر، إنها الحياة ُ في الممكن، في المُستطاع، في الطموح، في الإنطلاق، في المرغوب، في الحب، نحو امتلاء النفس، و شبع الكينونة، لبناء الإنسان، لتعمير المجتمع، لضمان المستقبل الصحي لنا، لأطفالنا، لمجتمعاتنا، لدولنا، لكوكبنا الأرضي.
إن الحياة َ في الحياة ِ نفسها هي "المحيا" لأنها استقبال ُ الحياة ِ كما هي، بكل ما فيها، و التشريع ُ البشري ُّ الإنساني ُّ في المجتمعات ِ بما يتناسب مع الحاجات و الظروف و الأوقات، بما يعبِّر ُ عن الجغرافيا المكانية، عن الزمن الحالِّ، عن الإنسان ِ الفاعل، عن الإنسان المُؤَثِّر في البيئة، المُتأثِّر ِ بها، بما هو ترجمة حقيقة للواقع، للوجود، لرغبة المجتمع، لاحتياجاتِه، لما هو تحقيق ُ للمُستطاعات و المُمكنات و اللاتي من شأنهن َّ الارتقاء ُ بالنوع و حملُه نحو آفاق ٍ جديدة و انطلاقات ٍ ديناميكية تحقيقية لكل تأكيدات ِ ماهيَّة ِ ذاتِه البشرية الجامعة.
إن الانعتاق َ من اللاهوت هو استرداد ُ حرية ِ الإنسان المسلوبة، هي عكس ٌ لعملية التشويهِ الإدراكي ِ للواقع حتى يستعيد َ الإنسانُ قدرته على "أن يُدرك" الأشياء َ كما هي، أن ينزع َ الجلد المُشوَّه عن وجهِهِ حتى يظهر من تحتُه ُ منظرُه ُ الحقيقيُّ الجميل، أن يُعود َ عقلُهُ طازجا ً صحيَّا ً قادرا ً أن يستقبل َ الحياة َ و الحقيقة َ و التنوع َ كما هم، بالضبط كما هم.
معا ً نحو الحب، معا ً نحو الإنسان!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار؟ - 3 (من وحي ال
...
-
لماذا يُقتل رائد زعيتر؟
-
قراءة في تحريم الخنزير
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين 2
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين
-
قراءة في الإنسان.
-
لما ضحكت موناليزا
-
في تحرير المرأة – انتفضي سيدتي الآن
-
داعش – فرض الجزية على المسيحين في الرقة السورية
-
قراءة في القداسة – بين الجذر الديني و الاستحقاق الإنساني
-
في نفي النبوءة - رؤية في الجذر النفسي للنبوءة و نقد آليات ال
...
-
في اللاوعي الإدراكي و تأثيره على الإنسان – الحنين، و الجنة و
...
-
في نفي دونية المرأة – التكاثر الجنسي كخيار الطبيعة
-
في نفي دونية المرأة – بين داروين و العلم الحديث
-
بين الإله الحُلولي و الإله الشخصي.
-
من سفر الإنسان – قتل الأطفال باسم الحب
-
الهوس بجسد الأنثى - بين فيمين و النقاب
-
قراءة في شكل الاستعباد الحديث.
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار؟ - 2
-
من سفر التطور – في النظام داخل العشوائية.
المزيد.....
-
جنسيات الركاب الـ6 بطائرة رجال الأعمال الخاصة التي سقطت وانف
...
-
الدفعة الرابعة في -طوفان الأحرار-.. 183 فلسطينيا مقابل 3 إسر
...
-
-كتائب القسام- تفرج عن أسيرين إسرائيليين وتسلمهما للصليب الأ
...
-
بعد 50 يومًا من التعذيب.. فلسطيني يعود بعكازين إلى بيته المد
...
-
توأم الباندا في حديقة حيوان برلين: التفاعل بين الأم وصغيريهْ
...
-
دراسة تكشف حقيقة الفرق في الثرثرة بين الرجال والنساء
-
هل صورك الخاصة في أمان؟.. ثغرة في -واتس آب- تثير قلق المستخد
...
-
تاكر كارلسون يصف أوكرانيا بـ -مصدر الجنون-
-
لا يوم ولا مئة يوم: ليس لدى ترامب خطة سلام لأوكرانيا
-
الصداقة مع موسكو هي المعيار: انتخابات رئيس أبخازيا
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|