أحمد القبانجي
الحوار المتمدن-العدد: 4396 - 2014 / 3 / 17 - 09:42
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قالوا وقلنا:.....
يقول القران: ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وماأنزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون.(البقرة 164).
اقول:هناك عدة رؤى ومذاهب طرحت رؤيتهاعن العالم ,وكيف يفهم الانسان العالم الخارجي, وهذه المسألة طرحت منذ القديم وانقسم الفلاسفة فيها الى مذهبين: المثالي والواقعي,فكان افلاطون يمثل المذهب المثالي(ومنه سميت المثالية لان افلاطون كان يرى بان العالم الخارجي هو ظل عالم اخر حقيقي وهو عالم المثل), وارسطو يمثل المذهب الواقعي, وبالنسبة للفلاسفة المسلمين فبعضهم اختار مذهب افلاطون كالاشراقيين والعرفاء, والبعض الاخر اختار مذهب ارسطو كابن سينا وابن رشد وغيرهما واخرهم السيد الطباطائي في كتابه نهاية الحكمة وكتاب المذهب الواقعي وتبعه السيد الصدر في فلسفتنا ,ولا نستطيع هنا بيان وجهات النظر هذه سوى ان نقول-وبكثير من التبسيط للمسألة- ان المذهب الواقعي يرى العالم كما هو عليه يملك وجودا مستقلا عن الانسان, وذهن الانسان بمثابة المرآة التي تنعكس عليها الموجودات في العالم الخارجي,اما المثالية فترى ان العالم الخارجي ليس له وجود مستقل عن ذهن الانسان,وهناك مدارس ونظريات عدة تفرعت من هذين المذهبين,اهمها حاليا واكثرها انتشارا خمسة مذاهب او رؤى حول فهم الانسان للعالم:
1-الرؤية الدينية التقليدية, وتقترب من الرؤية الواقعية,وتقرر ان العالم الخارجي بما فيه من موجودات له وجود حقيقي وقد خلقه الله لخدمة الانسان كما ورد في الاية اعلاه,وعلى الانسان ان لا ينظر الى هذا العالم الا من جهة كونه اية تدل على وجود الله وقدرته ورحمته,وفي هذه النقطة تختلف هذه الرؤية الدينية عن الرؤية الفلسفية-بكلا شقيها-حيث لا يهم الفلسفة ان يكون العالم آية او لم يكن.
2-الرؤية العلمية,وقد حدثت فيها انتكاسة خطيرة للرؤية الدينية للعالم,وبدايتها من كوبرنيك حيث اثبت ان الارض ليست هي مركز الكون والشمس والنجوم تدور حولها بل هي كوكب صغير يدور حول الشمس مع الكواكب الاخرى,وجاءت من بعده قوانين نيوتن لتثبت ان الكون يتحرك وفق قوانين ثابتة وحتمية,وبذلك حلت الرؤية الالية للكون بدل الرؤية الغائية, بمعنى انه لا غاية للكون فهو موجود قبل الانسان بمليارات السنين فلا معنى لوجود غاية له وانه مسخر للانسان لان الغائية متفرعة عن الحرية كما هي افعال الانسان,والحتمية تلغي الغائية في الخلق,بقيت مشكلة الانسان الذي يتميز بشئ خاص لا يشاركه احد من الكائنات الاخرى :العقل والارادة الحرة,وبذلك لا يخضع للقوانين الحتمية فلابد من وجود قوة غيبية منحته هذا الامتياز,فجاءت نظرية دارون لتقضي على اخر معاقل الرؤية الدينية بعد ان اثبتت ان الانسان هو حيوان متطور في عملية تدريجية في الطبيعة,وبذلك انهارت المرجعيات الدينية والاخلاقية المبتنية على وجود غاية للانسان والعالم,وواجه الانسان الحديث ازمة كبيرة في هذا الشأن,وطفق الباحثون والمفكرون يبحثون عن بدائل للرؤية القديمة,وانفتحت امام الانسان ابواب في التفكير بمصيره واخلاقه وهدفه من الحياة كانت موصدة في الماضي بسبب وجود مرجعية واحدة وهي مرجعية الدين.فظهرت الوجودية والماركسية والبنيوية والبراجماتية وغيرها وكلها تهدف لتقديم رؤية منسجمة ومعقولة للانسان والعالم.
3-الرؤية المادية الالحادية,ومنها الماركسية والمنطقية الوضعية والتجريبيون وبعض الفلاسفة وعلماء الطبيعة ,وهؤلاء ممن تأثروا بالرؤية العلمية السابقة رغم ان الرؤية العلمية محايدة وكان كل العلماء المذكورين اعلاه من كوبرنيك ونيوتن ودارون من المؤمنين بوجود الخالق,ويعتقد اصحاب هذه الرؤية بان الكون يتحرك وفق قوانين الديالكتيك(هيجل وماركس)او حسب قوانين الفيزياء الميكانيكية ولذا لا حاجة لوجود خالق له,والدين ماهو الا منتوج وهمي واله وهمي ومجموعة من الخرافات والاساطير انتجتها مخيلة الانسان لاشباع حاجات نفسية او اجتماعية او طبقية وامثال ذلك,والعالم في نظرهم مادي بحت وهو ازلي وابدي ولابد من الاعتماد على العلم والكشوفات العلمية فقط في فهمنا للعالم,ويترتب على ذلك ان الانسان جزء من هذا العالم المادي ولا توجد غاية للخلق ولا يوجد اساس غيبي للاخلاق ايضا.
4-الرؤية الهرمنيوطيقية للعالم, والبداية كانت مع الفيلسوف الالماني كانت حيث ذهب الى اننا لا يمكننا ان ندرك العالم الا بما يظهر لنا من خلال الحواس,وهي غير امينة في نقل المدركات الخارجية للعقل بل تتصرف بها,والعقل ايضا يتصرف بها من خلال اضافة عنصر الزمان والمكان اليها,وهذا يعني ان العالم له وجود في ذاته لا ندركه,ووجود اخر هو ما يبدو لنا(نومن وفنومن),ومنه اخذت الظاهراتية فلسفتها,واكتملت في الوجودية والهرمنيوطيقا الفلسفية لهيدجر وغادامر, وخلاصتها ان فهمنا للعالم يتغير وفق تجربة الانسان الشخصية ومعتقداته وتصوراته,اي ان الانسان يشارك في صنع عالمه الخارجي ,وهذا يعني مرجعية الانسان نفسه بدلا من مرجعية الدين او الواقع الخارجي,فلا توجد اصوات في العالم الخارجي بدون وجود اذن سامعة ,ولا توجد مناظر دون وجود عين باصرة,والنار غير حارة دون وجود لامسة وهكذا, وبذلك تعرض الواقع الخارجي للاهتزاز وعدم الثبات,فكل شئ متغير,وتبعا لذلك تعرضت الافكار والنظريات الشمولية للانهيار ومنها الفكر الديني الذي يرسم للانسان رؤيته للعالم ويضعه وجميع الكائنات في اطار مشيئة الله والقضاء والقدر,وعليه ينبغي على الانسان ان يختار بنفسه مايريد وهو الذي يحدد هدفه من حياته ويعتمد على تجربته الشخصية, وهنا يتجلى معنى حرية الانسان بشكل عميق,فلا توجد سكة حديد ترسم للقطار طريقه واتجاهه كما في الدين والمنظومات الفلسفية الشمولية كالماركسية,بل توجد طرق عديدة بعدد انفاس البشر, وهنا يواجه المتدين ازمة شديدة فهو قد اعتاد على سلوك طريق واحد مرسوم له سلفا,وعندما يجد امامه طرقا متشعبة وهو حر في اختيار احدها يملكه الخوف من هذه الحرية التي لم يعتد عليها فيسارع ليدس رأسه في رمال صحراء الدين ليجد الامن والراحة فيه,ولكنه من جهة اخرى لا يستطيع غض النظر عن افكار الحداثة من الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان لانه يعيشها وقد اختلطت بلحمه ودمه وذهنه, وانكارها يعني انكار ذاته وانسانيته, فلا يجد امامه سوى طريقين لا ثالث لهما:فاما ان يفجر نفسه ويتخلص من هذا القلق ويعانق حور العين,او يعتنق الحداثة بما فيها من اضطراب وحيرة وحرية وانسانية .
5-الرؤية العرفانية, وتتلخص هذه الرؤية عن العالم بمقولة وحدة الوجود,فالانسان هو العالم وهوالله ,وفيها يتحد العالم- بالكسر- والعالم-بالفتح- ولكن فهم هذه الحقيقة يحتاج الى التدرج في سلم الكمال المعنوي,فالواقعية تمثل المرحلة الاولي لانها محسوسة اكثر,ثم المثالية لانها ذهنية وعقلية اكثر,ثم المرحلة الاخيرة وهي العرفانية وفيها يكون الانسان هو كل شئ ويكون العالم جزء منه وتجليا من تجلياته هو(اتحسب انك جرم صغير – وفيك انطوى العالم الاكبر) لا من تجليات الله,او بكلام ادق ان الله يتجلى بالعالم من داخل الانسان لا من خارجه كما في الرؤية الدينية الساذجة,فمن جهة تشترك هذه الرؤية مع الوجودية في فهم العالم من خلال الانسان ولكنها تضم الله مع الانسان والعالم في وحدة حقيقية, ومن جهة اخرى تشترك مع الرؤية الدينية في كون العالم اية وعلامة على وجود الله ولكن ليس الله الخارجي المنفصل عن ذات الانسان بل هو ذاته الحقيقية, ولا مجال هنا لتفصيل الكلام عن وحدة الوجود,بل نشير الى ان هذه الرؤية تبدأ لفهم العالم من الانسان لتصل الى الله والعالم بعكس الرؤية الدينية التي تبدأ من الله والعالم لتنتهي بالانسان ........... وشكرا لكم.
#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟