|
الفصل الحادي عشر . من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
سعدي عباس العبد
الحوار المتمدن-العدد: 4395 - 2014 / 3 / 16 - 21:18
المحور:
الادب والفن
قبل أنّ اغلق الدولاب سمعت صوت أمّي يأتي من وراء الباب الخارجي ..وطرقات يدها على الباب تتولى متلاحقة ، حالما فتحت الباب ورأيتها أجهشت بالبكاء وأنا اردّد بنبرة أدمنت الغصات والبكاء _ : غادر ..يا أمّي ، ذهب إلى هناك إلى الجبهة ..إلى الحرب ... تركني للفراغ ..للعزلة والعذاب ..لأجترار الذكريات والدموع ..تركني للحياة التي باتت تضيق بي ... أمّي ..كما لو إني أختنق ... أطفو على مجرى راكد ، مجرى من الأنتظار واللاجدوى. كأني اترسب في قاع مظلمة ............ أين هو الآن يا ترى ..؟ فتحت الأمّ فمها كأنها تتهيأ للصراخ او العويل ..فتدفق الكلام رطبا : سيأتي ...حتما سيعود اليكِ ..ستنتهي الحرب قريبا ويجيء ... ولعل سيجيء قبل ذلك ...سيمنحونه إجازة .. فقط لا تقلقي ... ، قلت _ : آخ ... لو استطيع ...... أنتِ لا تعلمين يا أمّي ، كم افتقده الآن ... ها.. إني اسمع وقع خطواته ..! اسمعها باستمرار ، منذ غيابه ..كأنه لما يزل يمشي في الباحة .. في الغرفة .. في الحديقة ..على مقربة من السرير ..وفي امكنة أخرى اعشقها .... قالت الأمّ _ : ربما سيتأخر في المجيء ..لكن اطمأني يا روحي ..يا ظلوعي ومهجتي ..لابد أنّ يعود ...يعود اليكِ ، لعشّه الدافىء ..لمساءاتكم الجميلة ...قلت _ : وانتِ ماذا عنكِ ..لم تخبريني عن النزوح ..اقصد متى عدتم من البراري او القرى او من تلك الأمكنة الآمنه ، المستكينة ..البعيدة عن لقصف واجواء الحرب قالت _ : البارحة .. عدنّا ظهيرة البارحة ... حقا نسيت ان اخبركِ [ بيت ابو نجاة ] أتعرفينهم ..قلت : بلى .. اعرفهم ..،قالت بنبرة باكية مذبوحة بانصال الدموع المحجوزة وراء الفصيّن او العينين الساكنتين _ : ماتوا كلّهم ! قضوا جميعا إبان مرورنا من فوق الجسر ..قبل ان يُقصف ... تخلفوا عنا مسافة ..فحدث ان مرّت خلال تلك المسافة التي تاخروا فيها طائرة وضربته بالقذائف ..فترسبوا في قاع المياه ..كثيرون ترسبوا في الأعماق السفلى ...اعماق المياه المظلمة ... اعداد من البشر ماتوا في طريق النزوح ..في الطريق نحو الخلاص ..فأتاهم الخلاص من حيث لا يحتسبون ..لا اتذكّر كم كان عددهم .. دهمنا القصف في الطريق المفضي إلى البراري ..كنا نسير محاذاة مباني الحكومة أوّل الامر .دهمنا القصف في الطريق ، .. كنّا نغذي الخطى محاذاة المباني الحكومية ..وعلى مقربة من المشفيات ..ومباني الفرق الحزبية المنتشرة بكثافة ! كنا كما لو إنّنا نجري ..تركنا السيارات التي كانت تقلنا في الطريق المهدّدة بضرب القذائف ..طوينا مسافات شاسعة مشيا ، دون ان نستريح ! .. كنا نسمع اصوات القذائف وهي ترتطم بالمباني الحكومية والجسور والفضاء ..كان الظلام داكنا . دامسا ..والدنيا بارده ..والخوف والريح يجراننا في الظلام ..تكبدنا مشاق شديدة للغاية .. كي نصل إلى اطراف المدينة او للخلاءات المتاخمة لحدودها ..بلغنا حدود قرى متناثرة وسط خلاءات موحشة ... هناك رأينا ألوف العوائل النازحة في الظلام ..يلتحفون العراء .. ويتلاشون في فضاءات غرف المدارس المهجورة المكتظة بالبرد والظلام والرطوبة والزحام والبكاء والجوع والشتائم والكفر ! .... وبيوتات القرى الغارقة في بحر ساكن من الظلام .... لا نور هناك ، والماء النقي شحيح .. تركنا الطائرات خلفنا تقصف المباني ..... نسمع دويها يأتي فاترا من بعيد ...كان الظلام شاملا والطعام شحيح ..والأطفال يغطون في مجرى صاخب من البكاء والجوع ..بدا كلّ شيء يكتظ برائحة الخراب ... المباني التي تحترق خلفنا والخليقة يتدفقون من وسط الحرائق ..يخرجون من فضاءاتها الرمادية مذعورين .. كأنهم يحلّقون بأجنحة من رماد ..ونسمع اصوات الطائرات خلفنا تتصاعد باستمرار ...نسمع القصف يزداد كثافة ورعبا وخرابا وحطاما ... قلت اخاطب أمّي بنبرة مواسية _ : يالها ..من أيام سود ..لابد انكِ عانيتِ كثيرا يا أمّي ..قالت _: كلنّا تعذبنّا هناك ..قلت _ : أ حدث كلّ ذلك في اليوم الأوّل من النزوح ... ألقت أمّي نظرة فاحصة إلى اشياء الغرفة ..ثم وقع بصرها على وجهي وجعلت تتفرس ملامحي التي شحبت كثيرا ومسحت شفتيها باطراف اصابعها ثم نزعت او القت عباءتها كومتّها جنبها ..قالت _ : سأبيت عندكِ الليلة ... أنتِ منهكة يا بنيتي .. كفِ عن التفكير به ..كما قلت لكِ ..سيعود في وقت ما ... في الليل ..لم أنم في الليل .في الليل ... لم أنم في الليل ..كان الظلام فاحما مطبق شديد الحلكة وشاملا ينشر اجنحته السود تخفق في فضاء المدينة ...فيخيّم قلق يطبق على الروح ... حتى بات الظلام الذي انهكني طويلا ، اقرب ما يكون إلى علامة فارقة او إحدى العلامات التي تطبع ملامح المدينة وتميّزها ...المدينة التي صارت تخلو شوارعها من المارة عند حلول أول المساء ..كما تخلو مخازنها ومتاجرها من الباعة والمتبضعين ...جعلت تقفل ابوابها مبكرا ، منذ بدأ قصف الطائرات ..توصد نوافذها وبيوتاتها قبل حلول أوّل الليل ..تغلقها منذ خمسة عشر يوما هي المدّة التي غاب فيها زوجي .. المدة التي لم أره فيها ... المدّة التي قلبت الموازين والأشياء !! وساوت بين البشر في الموت والخراب واحالت المباني الحكومية والجسور إلى خرائب وحطام ..المدّة التي تساقط فيها الجند من على سفوح الأحلام الشاهقة ...احلامهم المدججة بالرخاء ..الرخاء الذي هوي صريعا من ابراج البترول والجهراء والمطلاع وشارع السالمي وكوفيات الشيوخ التي تشابه كثيرا لون الكفن والموت .... رأيت أمّي في نور ذبالة الشمعة الشحيح الراعش تتململ في نومها وتتقلب ذات اليمين وذات اليسار ..تنقلب على جنبها ، فيند عنها أنين كخيط دخان راعش او كعواء ممدود فاتر ..كما لو إن حلما يعبر رأسها ..او يتحرك في رأسها..حلم تمرق فيه طائرات ..تمرّ على فوطتها السوداء الملفوفة على رأسها منذ رأيتها أول مرة ذات وقت بعيد . يعود إلى تلك الأيام ، أيام المهد والطفولة .. كانت تنام تحت الصورة المعلّقة على الجدار ... صورة زوجي التي التقطها في ايام حربنا الأولى البعيده...تحت المرتفعات الثلجية .. التي بدت شاحبة كنقطة غائمة .المرتفعات الثلجية التي بدت شاحبة كنقط غائمة في نور الشمعة ....... خيّل ليّ كأني أراه يخرج من الصورة ... يطل عليّ من سواد الجدار القائم حيال السرير ...متلفع بنسيج ابيض يشبه الكفن ..مخضّب ببقع حمر تلطّخ البياض ، تبرز من شقوق الكفن اصابع طويلة عظمية ناتئة ، مدماة بلزوجة مجفّفة ... لمحته فجأة يمزق النسيج ، فتسيل خيوط حمر مائعة متعرجة تندلق من الأصابع .. تنساب من اطرافها الناتئة ..... ثم لمحت في النور الشحيح ، تفتّت النسيج تفتّتا متباطئا كاشفا عن وجه تؤطره عظام تبرز نتؤاتها من اعماق الجدار .......... وجه مرصع بثقوب ترشح رائحة غبار بري وازهار واعشاب برية ... كانت اصابعه تتحرك في الفراغ ، كأنها تومىء ليّ ..تنضح غبارا ونقط دم مجفّفة بوحول شتاء متيبسة ، عالقة فيها بقايا اعشاب جافة تحف به طوال اقامته او عزلته في بريّة موحشة ... اعتراني الرعب ..رعب كاد يشل اطرافي .. بيد إني مكثت احدّق ذاهلة بعينين دامعتين رطبتين يغشاهما ستار من ضباب ، فلم أتبين غير ملامح نازفة مخدّدة تشّع وهجا ساطعا يلوح من الصورة ، كما لو انه رماد متأجج ... أرى إلى ذلك النور المتدفق من عينين او ثقبين تحيطهما بقايا نثار غبار وعظام .. شعرت بالغبار كأنه يضوع من الدولاب ومن الجدار ومن الصورة وينسفح على وجهي .. فأهجس بمجرى جارف من الذكريات المطمورة في الثقبين ..ترتج في اعماقي ، في عينيّ..في ثغري ..في ذاكرتي ... فيتراءى ليّ كما لو ان نور الشمعه الخافت يبزغ من الثقبين او من العينين القديمتيّن العالقتين في فضاء الصورة ... فتلوح ليّ اطياف طفولة قديمه تتقاطع في ذاكرتي ..طفولة غاربة ...طفولة جندي أليف .. كان يمسح على شعري وعلى خديّ بشفتين رطبتين .طفولة جندي أليف ، كان يمسح على شعري ، برقّة وحنو وعلى خديّ بشفتين رطبتين ، باسمتين باستمرار ..كم كنت انعم معه بالدفء والعذوبة والسحر والجمال ....... ما زالت رائحة الغبار تنتشر في الظلام ، نفاذّة تفوح من ملابسه في الدولاب .... من الصورة ..فخيّل ليّ ، أنّ فيضانا مخيفا من الدم جعل يتدفق متناغما مع نمو ، وتصاعد الرائحة الصادمة ... يندلق من الجدران ويسيل داخل الغرفة .. ينساح على السرير ..يهمي من أسفل الصورة ..يتموج في نور الذبالة الخافت ..ينساب أسفل السرير ، عند النافذة .. يغمر اركان الغرفة يحيلها إلى بركة تترقرق في نور الشمعة بركة جعلت تتسع ..فرأيت أمّي تغرق في اعماقها وانا اخوض في لزوجتها .... فيما كانت البركة تزداد اتساعا وتغطي أعلى النافذة وتنفذ عبر الباب في جريان متصل يتعثر ابّان جريانه المتواتر بمخلّفات الجندي _ زوجي _ التي تركها في البيت .... قبل ان انهض خيّل ليّ إني أرتد منكفئة على الوساده .. فأكتم صرخة تكاد تنط من فمي ..أكممّها براحتي ... كنت قد أبصرت إحدى ساقيّه الطويلتين تخرج من اعماق الصورة ... من اسفل المرتفع المغطى بالثلوج ..لمحتها تتدلى في الفراغ بلا قدم !! تضوع منها رائحة رصاص صدىء ....احسست بتلك الرائحة التي ملأت انفاسي كأني شممتها في وقت ما ..وقت مجفّف ! .. كان الجندي او زوجي يجاهد في مكابدة متلاحقة لأنتزاع ساقه الأخرى الغائبة في ظلام ما ..في حين كانت ذراعاه الملوّحتان في الفضاء المدمى تخوضان في الفراغ ، تسعيان للوثوب ناحيتي ... كان في خضم نزاعه هذا ، كأنه عبر مدى مهول ..يبدأ من الطفولة مرورا بتلك البراري ..براري حربنا الأولى ..حتى صحراء [ حفر الباطن ] ..تلك الصحراء الراعشة في ذاكرة اللحظات المظلمة في الغرفة التي راحت تكتظ بروائح شتى يزداد هجومها تأصيلا .في الغرفة التي راحت تكتظ بروائح شتى يزداد هجومها تأصيلا وأنتشرا ، مما دفعني ان انتفض لفك اشتباك الروائح المتصاعدة في في اكتظاظ محموم وسط فضاء الغرفة ، المستكينة لسطوة وهيمنة رائحة الذكريات ... كان الغبار يتفاقم قوّة وشيوعا ، فجعلت تطفو ذراته فوق سطح البركة الموّارة بلزوجة الدم الفائر ... يتطاير من الجدران ..والثياب والدولاب والدروج والخشب والمنادر والوسائد المزدحمة ببقايا رغبات متيبسة ! ومن الصورة المحاصرة بكمّاشة من السنين المجفّفة عند إطارها ... والتي كانت تزيح ركاما من الغبار عن وقتها القديم ، الموغل في البعد ... طفق الغبار يحلّق مع انحدار السيل المدمى .. ويندلق خارج فضاء الغرفة مرتطما خلال انحداره بالأشجار وحافات سواقي مياه مجفّفة تمتلىء باوراق اغصان متيبسة ..فتضيق السواقي بمنسوب الدم الأخذ بالنمو ، فيفيض على الجوانب ويسيل وسط مساحات تكسوها الأدغال ، ثم يطفح عند المماشي والممرات ويدرج متلاحقا بين أخاديد ترابية ، متموجا عند عتبة الباب الخارجي ، مشيعا عبر انحداره رائحة براري داخنة تحوم في خياشيمي .. تزدحم في اعماقي ..تدور في فضاء رأسي الغائم ... فأشعر كأني أقاتل في برية بكامل قواي المسلّحة بالذكريات ... ذكريات زوجي الذي بات جنديا .. اقاتل بكامل دموعي وسنواتي ... فيما كانت رائحة الدم تنتشر في الخارج............... وفي لحظة ما شديدة الغموض وجدتني اجهش في بكاء حار ..أفاقت على أثره أمّي من نومها ..فجذبتني برفق من يدي ..فهوي رأسي إلى حجرها ..فجعلت تربت على كتفي كما كانت تفعل في السنين الخوالي البعيدة وتمسح على رأسي بحدب وتوق ... وتطلب إليّ بنبرة رؤوم تشي بالرأفة ان اكف عن البكاء .. ولكني لم افعل ، فأومىء إلى زوجي المحنّط في الصورة على الجدار .فأومىء إلى زوجي المحنّط في الصورة على الجدار ... كما لو أشير إلى شبح .. او بقايا ذكرى شاحبة ما زالت عالقة في ذاكرتي .... كان الشبح او الجندي او زوجي ..قد اطلق صرخة وجلة مذعورة من دون ان يلتفت ليّ ... فقد كان قد تسلل خفيفا ناعما كالدخان ..انزلق من الحجرة ...خرج من الصورة ومن ثيابه في الدولاب ..من غير ان افطن اليه ..كان خروجه في لحظة وامضة شديدة الغموض للغاية ..لحظة خلتها استغرقت سنين طوال .. ولما افقت من ذهولي ..وجدت أمّي ترش على وجهي قطرات ناعمة من الماء البارد ... فعلمت أن الصرخة التي كان قد اطلقها زوجي ..كانت قد تدفقت من بدني انا ! ... تدفقت من بقعة مظلمة في روحي ... خرجت من فمي في لحظة يأس وبكاء وألم .. خرجت من لساني ومن يديّ ! الراعشتين ومن رأسي ومن عذابي ودموعي وأيامي الغاربة ... فيما كانت صفارات الأنذار تصرخ هي الأخرى ..كأنها تطلق استغاثاتا كأنها تطلق عويلا متقطعا ، يخترق الظلام ..وانا ارتعد في حجر أمّي . تحت يديها الرحيمتين ..ارزح تحت بقايا اطياف كان يكتظ بها خيالي وذاكرتي ..اطياف تلوح في الضؤ النحيل المرتعش في ظلام الغرفة ..كأنه نقط شعاع خافته واهية تنبثق من اعماق ظلام ناء ... او كأنه يندلق من يدي أمّي المضائتين تحت رأسي ، الذي احس به كأنه يغور في قاع من نور ... ولما رفعت رأسي بان ليّ وجهها يشّع في النور الشحيح ..ثم لمحت غيمة من حزن تمرق في سماء وجهها ..خيط من حزن يعكّر سحنتها ..... ثم ما لبثت ان استعادت طمأنينتها .. حالما اكتشفت او استشفت على نحو ما ، إني خرجت من سطوة الكوابيس ... كانت اصوات القصف والدوي المنتشر في الهواء ..ما زالت تأتي في اوقات جدّ متقاربة .. ترج فضاء الغرفة بين آن وآخر ، ..كان النعاس لما يزل عالقا في عينيّ أمّي ...فطلبت اليها ان تنام ..ففعلت ..نامت تحت الدوي ..ونامت الضاحية تحت القصف ..ونمت أنا .... عند حلول طلائع الصباح تناولت أمّي فطورها على عجالة وطلبت إليّ ان ارافقها في رحلتها إلى البيت ، ... في الطريق كنت أرى من وقتل لآخر خليقة تمرّ بشوارع مهجورة ..كانهم معبأين باكياس من الصمت والخوف ..يمرّون ساكتين ..في خطوات متلاحقةيمرّون ساكتين في خطوات متلاحقة ... ابواب مغلقة يغمرها نور الصباح .. المساكن هامده .. لم تفق او تصحو بعد من هول الغارات ،في تعاقبها المريع ..ما زالت بقايا صدى ارتجاجات تهز اكتافها الحجرية وجدرانها الراشحة ظلالا بارده مفروشة اسفل النوافذ التي بدت وسط الظلال في توحدها المسكون بالصمت والخوف والوحشة ، سادرة في عزلة مديدة ..كأنها لا تنتمي إلى تلك البيوتات الأليفة ... تلوح آثار تصدّع تطبع سحنتها الحجرية ..وآثار انهيار في إغلاقها المشّوه . الزجاج مهشّم والقضبان مبعوجة ... مررّت بمحال موصدة ..وجدران مهدودة وأزقة ..شعرت كما لو أمرّ بذهني .. بقدميّ .. بذاكرتي ، على ذكرى .. لا مجرد زقاق ... كانت الذكرى شاحبة ..فأشعر كأني أستعيدها ، بعينيِّ ..وهما ترمقان شبح المدرسة التي كان يقودني اليها الزقاق ..كان الأمر مخيفا في بادىء النظر !! وانا أمعن النظر في جدرانها . صفوفها القائمة في الأعلى المنهار ... أحسست إني أرى الذكرى تتجسد على هيئة طالبات ... كنت وانا امشي ابحلق في الواجهة ، في أعلى الجدار المقابل لشارع العام ... فمرّت عيناي على [ ثانو....ي ة لل ..ب...ني..ن ] كان أعلى الجدار منهار فلم تستطع عيناي الأمساك ببقية الحروف ..فتلاشت في خراب مهول .. ماذا تبقى يا إلهي ..حتى تلك الذكرى ...يا للعذاب ..فأعترتني رغبة جياشة للبكاء ..شعرت أنّ شيئا حميما قد انمحى ..توارى عني في انفاق مظلمة من الأنهيارات المتوالية ... وعلى احد جانبيّ الشارع العام ، ارتفعت حيالنا اكوام انقاض بيوتات متباعدة ... جدران بكامل تماسكها تناثرت في الهواء ، كعلب كارتون ! احجار ثقيلة حلّقت في الريح ..ثم هويت في تشكيلة مبهمة مكوّنة مرتفعات خفيضة من الأنقاض ... كانت الأنقاض تنتشر امام عيوننا ..تمتد ، تلازمنا كظلالنا ..جدران منهارة كأنها هويت دون صوت ..دون أدنى نأمة ..كأنها مكوّمة منذ الأزل !! جدران امسكت بها دوامة من الأنهيارات . جدران امسكت بها دوامة من الأنهيارات ..فأحالتها إلى بقايا ذكرى مدينة من الغارات العاصفة ! ..غارات عاصفة احالت المدينة إلى حطام مهول ..أنتزعت احشاءها ونشرتها على حبال من الخراب ..كلّ شيء بات في طريقه إلى الأنهيار وليس بالأمكان العودة ..كل شيء راح يتصدع .... لمحنا من بعيد مبانِ تحترق على مقربة من جسر منهار ..كانت السنة الدخان تصعد لقمم جدران السطوح .. تلعق بلسان لهب رطوبة الهواء ..والسنة بقايا نيران ما زالت تتصاعد راعشة في الفضاء المشّوه ، الملطّخ بالسخام ..تضيء عبر نورها الداخن جانب الجسر المغمور بظلال قاتمة والذي تحت سماء غائمة محايدة ..كأنه يجهش في نحيب يحفر عميقا في مجرى من الصمت ... كانت عظام الجسر الحديدية قد تهشّمت بالكامل !..كان منظره تحت لهب النيران المنسفحة على ظهره المقصوف يبعث على الرثاء .. لاحت على يمين الجسر عند الشاطىء اعشاب طويلة تتأرجح في الريح والبرد ..تحوم عند فضاءها الأخضر ، عصافير تحلّق أعلى الأنقاض الراكزة في مياه الجرف والغاطسة اسفل الجسر في ركود ثقيل ! .. عند مرورنا على مقربة من الجسر لمحت مظلّة تخفق في الهواء ..مظلّة من النوارس تلمع في نور الصباح وهي تلامس الماء الرجراج عبر قوادمها . عبر رفيفها المتصل وهي تغزل الهواء ...........!! أين أولِي وجهي !؟ لم أر غير الخراب تلوح ملامحه المشّوهة على طول امتداد المدينة التي تكاد تختفي اغلب معالمها القديمة الماثلة في ذاكرتي ...... لم تبق سوى الأشباح تتخاطر ... لم يبق غير الأنطفاء والشحوب ... فما الذي بقي يشدني او يصلني بمدينة باتت مرتعا للخوف والخواء والخراب والقصف النابض برعشات الموت المتكاثر في مفاصلها المتخمة باثقال من الهزائم التترى ... الهزائم التي احالتها إلى بقايا انقاض وخراب ... اكثر من خمسة عشر يوما والقصف ينخر في احشائها والخراب يتسع .. وحنيني إلى زوجي يشتد ويتسع ..والحطام هو الأخر ينمو ويتسع .. والأنكسارات تتوالى ... في البيت ، بيت [ بيت أهلي ، بيت أبي ] حدثني أبي عن أيام النزوح .في البيت [ بيت اهلي ، بيت أبي ] حدثنّي أبي عن أيام النزوح ، الصعبة السود ، حدثني عن شحة المياه والطعام والوقود والعجلات ، قال أيام كأنها سنين مرّت على نزاعنا مع القصف والجُوع والظمأ والخوف والضّياع ..نزاع قاس، لن ينسى ، سوف تبقى آثاره عالقة لوقت عصيب في الروح ، ستمكث مطبوعة لأمد مديد حزين في جدار الذاكرة .. اوقات نابضة بالحرمان ، ضاغطة متوحشة ، كنت خلالها مع أمّكِ ورهط الأفواه الجائعة المفتوحه على آخرها جوعا وبكاءا [ رهط اخوتكِ الصغار ] .. نفتش عن ملاذ يقينا الجوع والبرد .. فلم نجد غير تلك القرى والبراري.، متكئا نسند اليه بكاءنا وقهرنا كنا غرباء في عزلتنا القروية ، في قهرنا البرّي ، تائهين ، معنا انفار من النازحين .. كنا نمشي على حافات من الهلاك ..حافات من الحرمان والجوع والأنطفاء والخوف .. ندور في فراغات من الأنهاك والتيه والخواء والخيبات ، ندور كأننا عميان في مسالك وشعاب وعرة ... نتحسس مماشينا الحافلة في الأمتداد والخوف المحفوفة بالضّياع والتيه وسط فضاءات من اليأس واللاجدوى ننؤ باثقال ابداننا الرازحة بالخواء والأنهاك ...... كنت أبكي وأنا أرى إلى تشكيلاتهم الغبارية تتفتّت في مكابدات من التشتّت ... فاطلق كلاما اقرب ما يكون إلى الشتائم والكفر ..ذلك الكفر المتخم باليأس الذي كنت اطلقه عند اشتداد المحن !!! ... كان البعض يتحطم على مهل ،في توالِ متدرج من من الخرابات المتباطئة ..كان البعض يهوي سريعا من فرط الجوع والخواء والأوجاع المسرفة في الأنهاك وجدتني وسط ذلك الخواء الممعن في خرابنا ، وحيدا مذعورا إلا من من الرهط الصغير الخاوي المفعم بالدموع والندم أجرّه خلفي ...ابحث في خراب آخر من الخرابات المتكاثرة عن وجوه افتقدتها لشد ما كنت بحاجة ماسة اليها ... افتقدتها في دوامة النزوح والضّياع .أفتقدتها في دوامة النزوح والضّياع ... وجوه ضّاعت او تاهت إبّان مسيرتنا الحافلة بالأنكسارات والخيبة والخذلان والدموع ... كان كلّ شيء هناك عاطلا معطوبا مخرّبا منكفئا ...كان كل شيء هناك يتحلّل تحت حرارة الخوف والخواء وسط عراء برّي طاعن في عواصف من الألم والسكون والأندحار ... ولما تركنا القرى ، حومنا عند ابواب الضواحي النائية ، الموصده بوجه النازحين والدخلاء والمعتوهين والكلاب والأسوياء والغرباء والتائهين والعجزه والقطط !!! ..وأضاف أبي : عشت يا بُنيتي ، اوقاتا صعبة عسيرة حافلة بالنكد والمكابدات والخسائر ..كنت أمشي كأني تائه منذ قرون !! كأني خائف وجائع منذ قرون ... وعندما يبلغ بي الخوف اشده ، يساورني الشك في كل شيء ... أعود لأسأل احدا ..أي احد ، كل احد ، خارج تلك المدينة المترملة المحتضرة ........ ولما تطأ اقدامنا ضواحي قريبة لم ينل منها القصف .......... اسمع نداءا فاترا شائخا يخرج يخرج من بدن رجل عجوز ، يطلب مني ان آوي لداره .. يطلب إليّ أنّ أبيت انا وعائلتي عنده ..كان يطلب مني ذلك وهو يهز رأسه الشائخ المتخم بالبياض الناصع ..... كان اكتظاظ النازحين على اشده في الضاحية ، عندما ناولني يده ليقودني إلى بيته ..فشبك اصابعه المتغضّنة على كفي في اطباقة حميمة ، كما لو يعرفني منذ سنين وقادني برفق ........ هناك وسط الضاحية التي تشي بالطمأنينة والسكينة رأيت العديد من النازحين ..اغلبهم تحلق حولي ... طوقنّي بسياج آدمي منهار لم يبق منه سوى الجلد تبرز من بين طياّته عظام ناتئة ... سألوني : من أي ضاحية نزحت ؟ وماذا يحدث هناك الآن ! ؟ ....... لم اقل شيئا ! كنت ذاهلا وجائعا ابحلق مشدوها في وجوه اطفال شعثين ..ونسوة ضامرات خائفات معوزات جائعات ..ففكّرت بالعودة من حيث نزحت ..ايقنت ان من العبث واللاجدوى ان ابقي ادور بحثا عن مأوى آمن ، فليس هناك منفذا وسط الخراب الذي كان يتناسل باطراد ! ليشمل كل الضواحي ................ ثم سألني أبي عن زوجي ومتى التحق للجبهة او الحرب وعن عزلتي المخيفة في البيت وعن المؤنة التي ادخرتها لأيام القحط والجدب القادمة في الطريق ...ثم طلب مني ان ابيت عندهم
#سعدي_عباس_العبد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل العاشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل التاسع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل السابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل السادس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل الخامس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل الرابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل الثالث من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل الثاني من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
الفصل الاوّل من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
-
محض رأي عابر
-
منظر من زاوية حادة
-
مراثي الامهات
-
في تلك الايام .. / مقطع
-
معا .. ومعا تماما في المعبد الحرام
-
إنهم يقتلون كلّ شيئ
-
الله كما رأيته راكبا حمارا ابيض / طفل في ريعان الاوهام
-
ما زلنا نتلاشى
-
مرثية / ا / 2...
-
حدث ذلك بعد الموت بسنوات
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|