الدفع نحو المجهول

مناف الحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4385 - 2014 / 3 / 6 - 04:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

كم كنت أشفق على تلك المرأة العجوز وأنا أراها تذرع نصف حارات المدينة مروراً بالحي الذي يقطن فيه أهلي في وسط المدينة وهي تنادي بأعلى صوتها : أحمااااااااد في وقت القيلولة حيث يركن أبناء المدينة إلى منازلهم بسبب حر دير الزور الشديد في فصل الصيف .وكلما أمضّها التعب أخذت قسطاً من الراحة بالجلوس على أحد الأرصفة .
أحمد الذي كانت تجهد في البحث عنه كل يوم هو حفيدها اليتيم الذي غادر أبواه الحياة وتركاه لتحمل هي عبء تربيته والإشراف عليه .
كان ذلك في بداية الثمانينيات من القرن الماضي وبعد الهزة العنيفة التي حدثت للمجتمع السوري عموماً، ولمدينة دير الزور على وجه التحديد على إثر ما سمي في أدبيات السياسة السورية (بقصد تجهيلي ) أيام الأحداث .
بعد أن غُيّب من غُيّب من الشباب الواعد ، وانقلب من انقلب بحثاً عن بديل يملأ الفراغ الذي خلّفه كفره بمبادئه تحت وطأة ما جرى .
فقد المجتمع آنذاك بوصلته بعد أن التبس الأمر على نخبته ، واستمرأ الجلاد الظلم بعد أن كسر إرادة الناس بعنف غير مسبوق .
في تلك الأجواء كان مطلوباً من العجوز الأمية الفقيرة التي تقطن في بيت متهالك في حي شعبي أن ترعى طفلاً شقياً لا يرى في مدى الرؤية خاصته مثلاً يحبه ويقتدي به .
كان احمد يكبرني ببضع سنوات وكنت أخشاه لشراسته ولكن لمرة واحدة أحسست أنني أمام شخص آخر مغاير للصورة النمطية التي أكونها عنه .
كان ذلك عندما علم أنني مصاب بمرض ربو الأطفال فسألني بتعاطف باد في عينيه : ما معنى ربو الأطفال ؟ . الحس الإنساني الذي طرح به السؤال ونظرة التعاطف مع حالتي الصحية جعلاني أشعر للحظة أنني أمام إنسان طيب تحتاج طيبته الثاوية في غور عميق إلى بعض الرعاية لكي تصبغ شخصيته وسلوكه .
رمزية القصة اكتملت عندما غبت عن المدينة بعد ذلك لسنوات وعندما عدت إليها وسألت عن أحمد قيل لي إنه قداختفى وهو مختف إلى اليوم ولا يُعلم أين هو ولا فيما إذا كان حياً أو ميتاً .

كأن العجوز كانت تكرس لديه حالة الهروب إلى الأمام بطريقة بحثها اليائسة ، وكأن اندفاعه الى المجهول هو المعادل الموضوعي لحالة المجتمع الذي دفع آنذاك في الطريق نفسه . .
ترى كم حالة اختفاء وهروب إلى الأمام ستلي مشهد العنف الطويل الفصول الذي نعيشه اليوم .
كم نسخة من أحمد الذي لم يجد من ييساعده ليغالب خيره شره سيخلق هذا العبث الذي لا يجد من يكبحه ؟ .

#مناف_الحمد (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات