|
مصير الأنبياء
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 4372 - 2014 / 2 / 21 - 03:19
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بحسب العقيدة الإسلامية، فإنَّ الأنبياء والرُّسل هم بشرٌ يصطفيهم الله ضمن أقوامهم، كما يقول القرآن: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}(آل عمران:33) ليُبلِّغونهم عن الله ويهدونهم إليه، لذلك يقول: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا}(الجن:28)، وبذلك تقوم الحُجَّة على النَّاس، وفي هذا يقول القرآن {رُسلًا مُبشرين ومُنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا}(النساء:165) وهذا هو الركن الأساسي في العدالة الإلهية، حيث لا يُحاسب اللهُ إلَّا العارف المُكلَّف الذي قامت عليه الحُجَّة، ولهذا يقول القرآن أيضًا: {وما كنا مُعذبين حتى نبعث رسولًا}(الإسراء:15) وفي هذا المقال، لن أبحث في أمر المُبَلَغِين المُكلَّفين، وإنَّما سأبحث في أمر المُبَلِغِين المُصطفين، الذين هم رُسل الله وأنبياؤه، فما هو مصيرهم يوم القيامة؟ هل سيدخلون الجنَّة فعلًا؟ ولماذا سيدخلونها؟
تتمثل عقيدة المُسلمين في اليقين الكامل والقطعي بأنَّ الأنبياء لا محالة سيدخلون الجنَّة، وهذا الإيمان له ما يُؤيده في القرآن، فنقرأ: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا}(النساء:69) ، بل إنَّ نُزَلهم سيكون فيما يُسمى بالفردوس الأعلى من الجنة، وهي أعلى درجات الجنَّة وأرقاها منزلة، كما في الحديث الصحيح الذي رواهُ أبو هريرة: "فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة "(البخاري: 2637 ومسلم: 2831) وهي مُخصصةٌ للوارد ذكرهم في الآية السَّابقة، وفي مجموعة فتاوى على موقع islamweb.net الفتوى رقم (32228) نقرأ هذه الجُزئية: "دل القرآن والسنة على أن من المؤمنين الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأنهم في الفضل والمنزلة على هذا الترتيب، فأفضل المؤمنين هم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون"(انتهى الاقتباس)
دخول الجنَّة، كما هو معلوم، وبالتالي الارتقاء في مراتبها، لا يكون إلَّا بحسب اجتهاد المُؤمن في اجتناب النواهي وفعل الطَّاعات، والتسابق على هذا الفضل لإدراكه لا يكون إلَّا بمُجاهدة النفس الأمَّارة بالسُّوء، لأنَّه، وكما يقول الحديث النَّبوي الصَّحيح: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"(صحيح مسلم) فيُجازى المرء الذي غالب نفسه وقهرها رغمًا عنها في اجتناب المحظورات وفعل الصَّالحات، ولهذا يقول القرآن: {قد أفلح من زكَّاها وقد خاب من دسَّا}(الشمس:9-10) فالجنَّة هي المُقابل لهذه التضيحة الكبيرة، ولهذا يقول القرآن كذلك: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}(آل عمران:142) وهي الجائزة الكبرى والقيمة لمن يستحقها، وهذا الاستحقاق -كما قلنا- لا يأتي إلَّا بمُجاهدة النفس وحملها على ما تكره، فمن جاهد نفسه وغالبها استحق الجنة، فبماذا استحق الأنبياء والرُّسل الجنَّة إذن؟
للمُسلمين عقيدةٌ في عصمة الأنبياء، فهم يُؤمنون بأنَّ الأنبياء معصومون من الكبائر قطعًا، والصَّغائر التي تقدح في ذممهم وشرفهم وأخلاقهم، والحديث عن العصمة فيه شرحٌ طويلٌ ليس هذا مقامه، وما يهمني هنا أن نعرف سبب عصمتهم، وليس الموضوعات المعصومين منها. فهل هم جاهدوا أنفسهم وعصموها من الذنوب، أم أنَّ العصمة أمرٌ خارجيٌ طارئ؟ الواقع أنَّ الله هو الذي عصمهم، وهذه العصمة الإلهية جاءت بعد وقوع الاصطفاء لهم دونًا عن غيرهم، وهذا أمرٌ بدهي، لأنَّ الملائكة فقط -حسب العقيدة الإسلامية- هي التي خُلقت دون إرادةٍ حرَّةٍ للعبادة، ولهذا فالله لن يُجازيها عن عبادتها، رغم كثرتها، بأن يُدخلها الجنَّة، ولن يكون في مقدورنا عندها الطَّعن في العدالة الإلهية، لأنَّ الله جبلها على فعل الطَّاعات واجتناب المُنكرات، فما الفارق بين الملائكة والأنبياء إذا كان كلٌ منهم واقعٌ تحت مشيئة الاصطفاء الإلهي الذي يعصمهم من الخطأ والذنوب ويُهيؤهم للنبوة (وبالتالي العصمة) حتى منذ طفولتهم، كما هو الحال مع يحيى ابن زكريا، الذي يقول عنه القرآن: {وسلامٌ عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًا}(مريم:15) ومع عيسى ابن مريم، الذي تكلَّم في مهده -بحسب القرآن- قائلًا: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا وجعلني مباركًا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا والسَّلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا}(مريم: 30-33) وربَّما انتبه القارئ الكريم لعِبرات: (جعلني)، (لم يجعلني) التي تدل على التهيئة القبلية، وحتى تلك القصة المشهورة عن شق صدر النَّبي مُحمَّد، وهو طفلٌ صغيرٌ في بادية بني سعد، والتي تدل على الأمر ذاته. إذن، فما الفارق بين الملائكة والأنبياء؟
ودعونا نقرأ بعض أقوال علماء المُسلمين عن موضوع اصطفاء الله للأنبياء والرُّسل. يقول الإمام الغزالي: "اعلم أن الرسالة أثرة علوية، وحظوة ربانية، وعطية إلهية، لا تكتسب بجهد، ولا تنال بكسب"(كتاب: معارج القدس) وكذلك يقول الدكتور محمد الشظيفي: "النبوة اختيار من الله، واصطفاء، لا تبلغ بكسب، ولا بغيره، فجمع الله للأنبياء الفضل من أطرافه، ميزهم على خلقه من قبل النبوة، ثم زادهم فضلًا عليهم بالنبوة، فلا يبلغ أحد منزلتهم"(رسالة: مباحث المفاضلة في العقيدة ص: 184) ومن هنا نفهم أنَّ اصطفاء الله للأنبياء يسبقه تمهيدٌ وإعدادٌ مُسبقٌ لا شأن للنبي به، فهو ليس خُلقًا مُكتسبًا، فهم لم يُجاهدوا أنفسهم، ولم يُغالبوا شهواتهم، بل أعدَّهم الله لذلك، وعصمهم بقوةٍ منه، وليس بفضلٍ أو مجهودٍ من أنفسهم أو إرادتهم الحُرَّة! وإنِّي لأتسال: هل يستوي من يُغالب نفسه ويُجاهدها بلا عصمةٍ إلهيةٍ، بمن عصمه الله وأعدَّه وهيأه؟ فبماذا يكون الأنبياء في المنزلة العُليا من الجنَّة، وهم لم يبذلوا لها جهدًا؟ وفقط حتى لا يتطوَّع أحدهم بإجابةٍ سطحيةٍ، ويقول: "جهاد الأنبياء كان في تحمَّل الرِّسالة والصَّبر على الأذى في سبيل تبليغها" أُذكرهم أنَّ هذا هو واجبهم الذي كلَّفهم الله به، وأعدهم من أجله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}(المائدة:67) فهم في ذلك كالملائكة الذين كلَّفهم الله بعبادته، وبأداء بعض المهام، ككتابة أعمال الناس (رقيب وعتيد) واستجواب الموتى في قبورهم (مُنكر ونكير) وغير ذلك، فهل سيُجازيهم الله على أعمالهم التي كلَّفهم بها أيضًا؟
أنا لا أسأل هنا عن: لماذا يدخل الأنبياء منازل الجنَّة العليا فحسب، بل ولماذا يدخلون الجنَّة أصلًا؟ يقول القرآن: {جنات عدنٍ التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيًا}(مريم:61) ويقول: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجرٍ كريمٍ}(يس:11) إذن، فالمسألة لا تتعلق فقط بالعمل، سواءٌ اجتناب السَّيئات وفعل الصَّالحات، وإنَّما عنصر التصديق الغيبي هنا له أهميةٌ كبيرةٌ جدًا، وربَّما كان هذا العنصر هو من يخلق الفارق الكبير بين الأنبياء والرُّسل من ناحيةٍ، وبين بقية البشر من ناحيةٍ أُخرى، فالأنبياء لديهم تواصلٌ مُباشرٌ بعالم الغيب، فمنهم من كلَّم الله ومنهم من رأى الملائكة وتكلَّم معها، ومنهم من رأى الشياطين والجن وتكلَّم معهم وصارعهم، ومنهم من ارتقى إلى السَّماء، فأي قيمةٍ للحساب بعد ذلك؟ وكما يطيب لكثيرٍ من المُسلمين تشبيه الدنيا بأنَّها دار امتحان، فهذا امتحانٌ مكشوفٌ بالنسبة إلى الأنبياء، وكأنَّ أستاذًا ما اصطفى مجموعةً من طُلابه وأطلعهم على ورقة الأسئلة! وإذا شئنا استخدام مثال الأستاذ بطريقةٍ أُخرى، فبإمكاننا تصوير الأنبياء والرُّسل كأساتذة ومُعلمين يشرحون لطلابهم مادةً بعينها (العقيدة) ويُحاولون إخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ويُوضحون لهم الخطأ والصَّواب استعدادًا لامتحانات آخر العام الدَّراسي، الذي سيكون فيه فئةٌ ناجحةٌ من الطُّلاب وفئةٌ راسبة، فهل نتوقع أن يكون الأساتذة أيضًا ضمن الفئة النَّاجحة؟
إضافةً إلى كل ما ذُكر، فإنَّ الشَّرط لا يكون شرطًا ومطلوبًا في الوقت عينه، فعندما تقول مُربيةٌ لطفلٍ ما: "هذه الشيكولاتة هي جائزةٌ لكَ إن أصغيت لكلام أبيك وأمك طوال الأسبوع" فالأب والأم هنا شرط والشيكولاتة هي المطلوب، وليس من المُتوقع أن تُعطي المُربية الشيكولاتة للوالدين أيضًا، وإذا حاولنا تطبيق هذه الفكرة المُبسَّطة على قضيتنا في هذا المقال، فسوف نجد أنَّ الأنبياء شرط، لهذا نقرأ في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالًا بعيدًا}(النساء:136) فالأنبياء والرُّسل هم شرط، مثلهم في ذلك مثل الملائكة والكتب، والإيمان بهم يُؤدي إلى الجنَّة، والكفر بهم يُؤدي إلى النَّار، فكيف يُصبحون طلبًا بعد ذلك؟ فكما أنَّه لا يصح عقلًا القول بأنَّ الملائكة والكُتب سيدخلون الجنَّة (لأنّ الإيمان بهم شرطٌ لدخولها)، فكذلك لا يصح عقلًا القول بأنَّ الأنبياء والرُّسل سيدخلون الجنَّة.
كيفما قلَّبنا العقائد الدِّينية وجدناها فاقدةً لأبسط قواعد المنطق والتفكير السَّليم، ومُجافيةً للعقل!
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحجاب والحرية الشخصية
-
دفاعًا عن نظرية التطور
-
خطايا السَّيد المسيح - 2
-
خطايا السَّيد المسيح
-
فضائح السَّند والمتن في علم الحديث
-
الالتفاتة الأخيرة لخلدون
-
رَمَدُ العُيون في مقالة المدعو خلدون
-
قراءةٌ في سِفر الوثنية
-
محاولة لقراءة التاريخ الإسلامي بعينين
-
زواج عتريس من فؤادة باطل
-
هكذا تكلَّم يهوه 1
-
يا فتيات العالم المختونات .. افتحوا
-
لماذا الله غير موجود 2
-
ما الغاية من حياتنا وما الهدف منها بلا دين؟
-
هولي بايبل يحرق مراكب العودة - 2
-
بين محمَّد ومُسيلمة الكذاب
-
هولي بايبل يحرق مراكب العودة
-
دردشة فقهية: حدّ الرِّدة في الإسلام
-
عن العلمانية مرَّة أخرى
-
الحواس التوأمية للإنسان
المزيد.....
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
ليبيا.. سيف الإسلام القذافي يعلن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|