أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميشيل حنا الحاج - ماذا عن اغتيال الأفكار والمبادىء، وماذا عن اغتيال الشعوب وآخرها الشعب السوري؟















المزيد.....


ماذا عن اغتيال الأفكار والمبادىء، وماذا عن اغتيال الشعوب وآخرها الشعب السوري؟


ميشيل حنا الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 4370 - 2014 / 2 / 19 - 22:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أسئلة تحتاج الى اجابات حول الواقع العربي والربيع العربي
السؤال الثاني والسبعون:
ماذا عن اغتيال الأفكار والمبادىء، وماذا عن اغتيال الشعوب وآخرها الشعب السوري؟
في العصور الحديثة، جرت العملية الأولى لاغتيال الأفكار والمبادىء في عام 1922، عندما أقدمت فتاة روسية تنتمي الى حزب معارض، باطلاق النار على القائد الروسي وزعيم الحركة الشيوعية في روسيا "فلاديمير اليتش لينين"، فأصابته اصابات كبرى أدت الى وفاته بعد ثلاثة أشهر تقريبا. وكانت تلك الفتاة، تسعى لاغتيال الفكر الشيوعي الذي انتصر مؤخرا في "روسيا" وأسقط حكم القياصرة، بل وبدأ بالانتشار في مناطق أخرى. لكن "جوزيف ستالين" حل محل "لينين" في قيادة البلاد التي تحولت تدريجيا الى الاتحاد السوفياتي، الدولة الأقوى في أوروبا، والتي واجهت فيما بعد، الغزو الألماني الهتلري، واستطاعت هزيمته خصوصا بعد خوض معركة كبرى في "لينينغراد". فالفكر الشيوعي لم ينته باغتيال "لينين"، بل انتشر وتوسع في كثير من المناطق وخصوصا في دول أوروبا الشرقية، وفي كثير من الدول الأخرى، خصوصا بعد هزيمة "المانيا" النازية.
وبعد اغتيال "الاتحاد السوفياتي" على يد "يلتسين"، رجل أميركا المزروع في المكتب السياسي الشيوعي، وبمشاركة من مخططات بعض الدول كالولايات المتحدة وغيرها، ظن البعض أيضا أن الفكر الشيوعي قد انتهى وقضي عليه الى الأبد بانتهاء "الاتحاد السوفياتي". ولم يقدر أحد عندئذ، أن أفكار "ماركس ولينين" كانت أفكارا تطرح مبادىء سامية، والمبادىء السامية قد تحبط أو يتأخر انتشارها، لكنها لا تموت أبدا. فالفكر الشيوعي ما زال منتشرا في عدد من دول العالم ومنها "الصين"، أكبر دول العالم مساحة وسكانا، ومعها "كوريا الشمالية"، و"فيتنام" و"لاوس". وهي منتشرة في أميركا اللاتينية في كل من "فنزويلا" حيث حل في الرئاسة "مدورا" محل "يوجو شافيز" بعد وفاته، وفي "بوليفيا" التي يرأسها الزعيم اليساري "ايفو موراليس"، وكذلك في "تشيلي" حيث أعيد انتخاب "ميشيل بيشيلت" اليسارية الاشتراكية الاتجاه، لدورة رئاسية أخرى، اضافة الى "كوبا" أول الدول الماركسية الاتجاه في أميركا. وهذا يكشف أن أكثر من ثلث سكان الكرة الأرضية تحكمها الآن حكومات تدين بالأفكار الشيوعية.
وكما قدر البعض أن الفكر الشيوعي هو واحد من الأفكار السامية التي لا تموت باغتيال الأشخاص أو الدول، فان البعض يرى أن أول الشيوعيين في العالم، باعتباره قد بشر بأفكار سامية، ربما كان "عيسى بن مريم" (يسوع المسيح) الذي بشر "بخبزنا كفاف يومنا أعطنا"، مؤسسا للفكر القائل "لكل حسب حاجته"، فلا داعي لترك الثروات تتراكم في أيد البعض القليل من الناس، وهم عادة بعض مستغل ومستبد. ومن هنا قدر مفكرون أن الفكر "الماركسي" لم يكن كثير البعد عن الفكر المسيحي (رغم محاربة بعض المسيحيين للفكر الشيوعي) الذي سعى لتحقيق العدالة بين البشر، كما سعى الفكر الشيوعي فيما بعد الى تحقيقها أيضا. ومازال يسعى الى ذلك رغم المساعي المثابرة على محاولة اغتياله أو احباطه.
ولكن جرت عمليات كبرى أخرى لاغتيال الأفكار والمبادىء في العصر الحديث. ولعل أبرزها كانت عملية اغتيال "المهاتما غاندي"، واغتيال "مارتن لوثر كنج" الذي كان يطالب بالعدالة والمساواة للسود الأميركين.
واغتيال الزعيم الكبير"مهندس كارامنشاد غاندي" المعروف باسم "المهاتما غاندي" والذي تم في الثلاثين من كانون ثاني عام 1948 على يد "ناثوران جودسيه"، لم تكن مجرد عملية اغتيال رجل، بل كانت اغتيالا لمبادىء نادى بها ذاك الرجل أي "غاندي". فالمهاتما الذي تعرض قبل ذلك لأربع محاولات اغتيال نجا منها، قد نادى بالمقاومة السلمية من أجل طرد المستعمر البريطاني من "شبه الجزيرة الهندية". فهذا الرجل العظيم قد رفض تماما فكرة استخدام العنف أوالقوة كوسيلة لتحقيق ذاك الهدف. ونظرا لقوة شعبية "المهاتما"، فقد لجأ أعداؤه المناهضون لأفكاره السياسية، لعملية الاغتيال تلك. فأطلق عليه "جودسيه" منفذ الاغتيال، ثلاث رصاصات أطلقت من مسافة أمتار قليلة أثناء استعداد "غاندي" للذهاب الى الصلاة، فاستقرت اثنتان منها في صدره، وواحدة في قلبه. ولكن أفكار "غاندي" رغم اغتياله، انتصرت في النهاية، وحصلت الهند على استقلالها رغم انتهاء الأمر الى نهاية سيئة بتقسيم البلاد الى "الهند" التي قادها "جواهر لال نهرو"، والى "باكستان" برئاسة "محمد علي جناح".
وفي الرابع من نيسان 1968، جرى اغتيال قائد أخر ينادي بالأفكار السامية هو زعيم الأميركيين السود "مارتن لوثر كنج" أثناء استعداده للقيام بمسيرة للسود تطالب بحقوقهم المدنية. وكان "مارتن لوثر كنج" ، القس في الكنيسة المعمدانية، من المنادين بالنشاط السلمي في المطالبة بالحقوق المدنية للسود. ونتيجة لدعوته للتحرك السلمي في المطالبة بحقوق السود في أميركا، منح جائزة نوبل للسلام عام 1964. ولكن الرجل المعروف بعبارته الشهيرة: " أنا لدي حلم"، وهو على ما يبدو حلم الوصول بسلام الى الاعتراف بحقوق السود الكاملة، تلقى عدة رصاصات في صدره أطلقها عليه قناص مختبىء في مكان ما، فأردته قتيلا. لكن حلم "كنج" تحقق فيما بعد، اثر مواصلة السود كفاحهم مطالبين بحقوقهم، رغم مقتل "لوثر كنج" الذي أراد قاتلوه اغتيال مبادئه. لكنهم اغتالوا الرجل ولم يقتلوا مبادئه التي حققت النصر ولو بعد حين.
وبطبيعة الحال، كانت هناك العديد من عمليات الاغتيال الأخرى للأفكار والمبادىء التي تبناها العديد من القادة أو الناشطين السياسيين ودفعوا حياتهم ثمنا لها. ولكن المجال لا يتسع للتعرض لها كلها وبتفصيل. الا أنه لا بد من التعرض لنوع آخر من الاغتيال المرفوض وهو اغتيال الشعوب. فهذه أيضا كثيرة وقصصها مؤلمة خصوصا وأنها تتعلق بشعوب لا بأفراد.
وأول الشعوب التي اغتيلت بشكل بشع الى حد كبير في القرون الخمس الماضية، كان الهنود الحمر في الأميركيتين الشمالية والجنوبية. وبدأت عملية التخلص من الهنود الحمر، منذ هبوط "كريستوفر كولومبوس" على الأراضي الأميركية عام 1492. وتتفاوت الأرقام عن الهنود الحمر الذين قدر بأنه قد جرى التضحية بهم منذ ذلك الوقت، وهي أرقام تذهب بالعقل وقد لا تصدق. فقد ذكر كاتب اسمه "دافيد ستانرد" في كتاب له بعنوان "هولوكوست اميركي"، ان عدد الضحايا قد بلغ مائة مليون من السكان الأصليين للأميركيتين. لكن البعض شكك في هذه الأرقام، والبعض الآخر اعتقد أن الوفيات جميعها، لم يكن مردها عمليات القتل، بل كان انتشار الأمراض بين السكان الأصليين كالحصبة والطاعون. الا أن بعضا من الدارسين قدر أن هذه الأمراض قد نتجت عن حرب جرثومية، ولو بدائية في ذلك الوقت، تسبب بها الغزاة القادمون من الدول الأوروبية. وكانت العملية كلها بمثابة عملية ابادة لهذا الشعب البسيط الذي لم يكن مسلحا في حينه الا بالبلطة والقوص والنشاب، في الوقت الذي كان فيه مهاجموه، مسلحين بالبنادق وأحيانا بالمدافع الصغيرة في بداية الأمر، مع تطور أسلحتهم بشكل سريع، دون وجود تطور جدي لأسلحة السكان الأصليين من هنود حمر وخلافهم من السكان البدائيين، الا بعد فترة طويلة. وكان التطور نتيجة بيع تجار السلاح من الغزاة البيض بعض الأسلحة للسكان الأصليين، ولكنها كانت تظل أسلحة أقل تطورا ودون مستوى الأسلحة التي يحملها المهاجمون البيض. وكان "هوجو تشافيز" رئيس جمهورية فنزويلا، قد لام الأميركيين على احتفالهم "بعيد الشكر" احتفالا منهم بالنصر واكتمال السيطرة على الأراضي الأميركية. فالاحتفال هو في الحقيقة، احتفال بابادة شعب، أو ابادة القسم الأكبر منه.
ومن الشعوب الأخرى التي واجهت عمليات اغتيال بشعة، الشعب الشركسي في روسيا، والتي أدت الى مقتل الكثيرين من الشراكس وطرد المزيد منهم الى بلاد أخرى، رغبة من القياصرة الروس في الوصول الى مياه البحر الأسود الدافئة في "سوتشي". فمن أصل سبعة ملايين شركسي، لم يبق في الموطن الأصلي للشركس الا ثمانمائة ألف مواطن شركسي. أما الباقون فقد شردوا في بقاع الأرض، حيث تواجد بعضهم في تركيا التي كانت عثمانية، وفي بعض البلاد العربية، وكذلك في أوروبا وأميركا.
وكما واجهت القبائل الشركسية مذابح كبرى أدت الى خسائر بشرية كبرى، فان الشعب "الأرمني" لاقى مصيرا مشابها على يد الأتراك العثمانيين، وذلك في الفترة قبل الحرب العالمية الأولى وخلال مراحل تلك الحرب. وقد تحققت المذابح بحق الأرمن اما بالقتل المباشر، أو بالتهجير القسري الى مناطق صحراوية لم تتوفر فيها وسائل الحصول على الماء والغذاء أو العلاج. وقدر عدد الضحايا من الشعب الأرمني، بمليون الى مليون ونصف المليون ضحية.
واعتبر اليهود أنهم أيضا قد تعرضوا الى عملية ابادة من خلال مذبحة كبرى على يد النازية الألمانية. وقدروا أن من قتل منهم في معسكرات الاعتقال النازية كمعتقل "أوشويتز" وغيره من المعتقلات الألمانية، بستة ملايين قتيل قيل أن جميعهم من اليهود. وسميت تلك المذبحة "بالهولوكوست". ولكن احدى الدراسات تحدثت عن اختفاء أعداد كبيرة من الأسرى الروس المتواجدين أيضا في معسكرات النازية، وكان عددهم يقدر بالملايين. فقد أحصي من عاد منهم، واحصي أيضا من توفوا في الأسر، وظل هناك عدد مفقود لم يتم التعرف على مصيرهم يقدر بمليونين أو ثلاثة ملايين. ويرى البعض أنه من المحتمل أن يكون الأسرى الروس المفقودين قد أدرجوا ضمن اليهود الذين وصفوا بأنهم قد قتلوا في معسكرات النازية، مما قد يعني أن رقم ضحايا "الهولوكوست" من اليهود، لم يكن ستة ملايين كما روج اليهود للأمر. وعلى كل حال، سواء كان عدد اليهود الضحايا في "الهولوكست" ستة أو ثلاثة ملايين، او حتى أقل من ذلك، فان الأمر لا ينفي أو يلغي أن الشعب اليهودي كان من الشعوب التي عانت من قضايا اغتيال الشعوب أسوة بالهنود الحمر، وبالشركس والأرمن. كل ما في الأمر، انه اذا كان اغتيال الهنود الحمر قد جرى لمصلحة الأميركيين، واغتيال الشركس لمصلحة روسيا القيصرية، واغتيال الأرمن لمصلحة الأتراك العثمانيين، فان اغتيال الشعب اليهودي قد أدى الى اغتيال شعب آخر هو الشعب الفلسطيني الذي عانى من آثار اغتيال الشعب اليهودي، وكان هو الذي دفع ثمن جريمة النازية ضد اليهود.
فيهود اوروبا، بذريعة الهروب من اضطهاد النازية، بدأوا يتدفقون على الأراضي الفلسطينية طلبا للجوء والأمان. وجاء الكثيرون منهم في عمليات لجوء غير شرعية غضت النظر عنها بريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين. لكن أولئك اللاجئين تدربوا على السلاح وزودوا به، وبدأوا عمليات عسكرية ضد الشعب الفلسطيني الذي لم يكن مدربا أو مزودا بالسلاح.
وشارك في القتال، أو قتل الفلسطينيين، قوات "الهاجانا" التي كانت تمثل الجيش اليهودي الرسمي بما فيه النخبة من مقاتليه والمعروفين باسم "البالماخ". كما شارك فيه ما وصف بعصابات "الأرغون" و"شتيرن" اللتان انشقتا عن "الهاجناه" وشكلتا منظمات مستقلة عنه. ونسبت اليهما وخصوصا "للأرجون"، معظم العمليات الارهابية التي نفذت ضد الشعب الفلسطيني. وبدأت العمليات الارهابية منذ عام 1937،وبلغت ذروتها في عام 1948حيث بدأت هجرة الشعب الفلسطيني الى خارج البلاد. وكان من ابرز تلك العمليات، تفجير قنبلة في 2 تموز1938 قتل فيها 53 مواطنا فلسطينيا وذلك بتفجير وقع في سوق بحيفا. وفي 27 شباط 1939 وقعت هجمات متفرقة أدت الى مقتل 33 فلسطينيا 24 منهم قتلوا بتفجير في سوق القدس. وفي 19 حزيران 1939 قتل 20 عربيا بقنبلة محملة على حمار وفجرت في حيفا.
وسادت فترة من الهدوء النسبـي خلال الحرب العالمية الثانية، ليشتعل الوضع مرة أخرى في 11 تموز 1946 عندما تم تفجير فندق "الملك داود" بالقدس، حيث وقع عد كبير من القتلى كان من بينهم 41 فلسطينيا. وفي التاسع من نيسان 1948 نفذ "الأرجون" العملية الأكبر والمخطط لها جيدا، بمهاجمة قرية "دير ياسين" حيث قتل بموجب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" 240 فلسطينيا منهم نساء وأطفال، وفي تقرير لمصدر آخر ذكر 360 قتيلا. ولم يتوقف الأمر على عمليات القتل، اذ امتد الى بقر بطون بعض النساء الحوامل اضافة الى اغتصاب بعضهن، وهو الأمر الذي مس في الصميم مفهوم الشرف لدى الرجل العربي، وأفزع ليس سكان "دير ياسين" فحسب، بل كافة السكان الفلسطينيين. فبدأت الهجرة من فلسطين الى دول الجوار كالأردن وسوريا ولبنان والبعض الى مصر والعراق. ويقدر عدد اللاجئين في تلك المرحلة بمئات الآلاف، وصل الجزء الأكبر منهم الى "شرق الأردن" حيث أقاموا في مخيمات أعدت لهم على عجل كان أبرزها مخيم "الوحدات" و"مخيم الحسين" الواقعين في ذلك الوقت، في أطراف عاصمة شرق الأردن "عمان".
وفي التاسع والعشرين من شهر تشرين اول 1956، عشية العدوان الثلاثي على مصر والمعروف بحرب السويس، ارتكبت "اسرائيل" مجزرة أخرى ضد سكان قرية "كفر قاسم" التي تقع على بعد 20 كيلومترا من تل أبيب، واعتبرت مع ستة قرى أخرى مجاورة، واقعة على ما اعتبر الخط الأخضر في "اسرائيل". واتخذت "اسرائيل" في ذلك اليوم، قرارا مفاجئا بفرض حظر التجول منذ الساعة الخامسة مساء على تلك القرى السبعة. ولكن الأمر لم يبلغ لرئيس بلدية "كفر قاسم" التي يبلغ عدد سكانها 18 الف نسمة، الا قبل ثلاثين دقيقة من سريانه، مما أدى الى عودة العاملين في المزارع خارج القرية، بعد حلول منع التجول. فأطلق الجيش الاسرائيلي النار عليهم وقتلوا 49 فلسطينيا كان من بينهم23 طفلا.
وفي عام 1967 وقعت الحرب الثالثة بين العرب واسرائيل، حيث سيطرت القوات الاسرائيلية على سيناء وصولا لضفة قناة السويس، كما سيطرت على الجولان السورية، واحتلت مدينة القدس وكافة الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، مما أدى الى عملية هجرة فلسطينية أخرى خصوصا الى الأردن. وكان عدد اللاجئين في المرحلة الثانية من هجرات الفلسطينيين، قد قدرت أيضا بمئات الآلاف، وقد أسكنوا عندئذ في مخيم "البقعة" على الطريق الى مدينة "جرش" الرومانية، وفي مخيمي "سوف" و"غزة" اللذين يقعان في ضواحي مدينة "جرش"، اضافة الى مخيمات أخرى أقيمت على عجل في عدة مدن أردنية أخرى. ومع هذه الهجرة الكبرى الثانية للشعب الفلسطيني، بات يقدر بالملايين عدد الفلسطينيين الذين اضطروا لهجرة بلادهم فلسطين والتشرذم في بقاع الأرض.
وفي السادس عشر من أيلول عام 1982، وقعت مذبحة أخرى للفلسطينيين في مخيمي "صبرا وشاتيلا" في بيروت، استمرت حتى نهاية يوم الثامن عشر من أيلول. ونفذ العملية مسلحون من حزب "الكتائب اللبنانية"، ولكن تحت اشراف الجيش الاسرائيلي الذي أغلق المداخل منه منعا لهروب الفلسطينيين المقيمين فيه، في وقت وقف فيه "آريال شارون" وزير الدفاع الاسرائيلي على سطح بناية عالية مشرفة على المخيم، يراقب منه مستخدما المنظار، تنفيذ تلك العملية البشعة. وتضاربت الأنباء حول عدد ضحايا تلك المجزرة. فالصحافي المعروف "روبرت فيسك" قد كشف بناء على معلومات استقاها من أحد ضباط الكتائب، أنهم قد قتلوا ألفا فلسطيني. لكن تقريرا آخر نشره "آمنيك آرنون" في كتاب له، كشف بأن الصليب الأحمر الدولي قد أحصى ثلاثة آلاف جثة. وكانت التقديرات الفلسطينية، قد رفعت عدد الضحايا حسب كشوفات بالأسماء، الى ثلاثة آلاف وخمسمائة قتيل، مع وجود تقديرات أخرى ترفع العدد الى أربعة آلاف قتيل.
وازاء الضغوط الدولية الناتجة عن بشاعة هذه المذبحة، شكلت اسرائيل لجنة للتحقيق في المجزرة، عرفت باسم لجنة "كاهانا". وحمل تقريرها النهائي المسؤولية عما حدث لوزير الدفاع "آرييل شارون"، ولرئيس الأركان "ريفائيل ايتان". ووقعت المذبحة بعد يوم او يومين من انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من لبنان الى "تونس"، نتيجة لوساطة دولية قادها "فيليب حبيب" بين لبنان والفلسطينيين من ناحية، واسرائيل التي غزت "لبنان" منذ شهر حزيران 1982، ووصلت الى بيروت في شهر ايلول، من ناحية أخرى. وتضمن الاتفاق أن يغادر المقاتلون الفلسطينيون الأراضي اللبنانية الى "تونس" مع ضمان دولي صدر عن "فيليب حبيب"، بأن الدول الكبرى، وخاصة "الولايات المتحدة"، تضمن أمن وحماية المخيمات الفلسطينية التي بقيت بدون حماية فلسطينية. لكن ضمان الحماية الدولي لم يتحقق، بل أدى لوقوع مجزرة كبرى بحق الفلسطينيين، لا تختلف كثيرا ببشاعتها عن مجازر النازيين بحق اليهود، رغم تفاوت الأرقام.
وأنا أذكر تماما تلك المذبحة البشعة، خصوصا وأنني كنت أول من كشف للعالم عن وقوعها. فقد كنت يومها (في السادس عشر من أيلول)، حوالي الساعة السابعة مساء، أهم بمغادرة فندق "الكومودور" حيث أقيم ويقيم أعضاء الصحافة العالمية، عندما استوقفني شاب سويسري ينتمي الى مجموعة "أطباء بلا حدود"، وسألني ان كنت اعرف بعض الصحافيين المقيمين في الفندق، فقلت له أنني واحد منهم. فقال لي: أود أن أبلغ عن وقوع مذبحة في مخيمي "صبرا وشاتيلا". فقلت له حسنا سأغطي الخبر فورا وأبلغ الآخرين كلما رأيتهم. ولم أقدر عندئذ أن المجزرة كانت بذلك الحجم. فأرسلت فريقا للتصوير في المخيم. وبعد لحظات عاد من مهمة سابقة فريق آخر، فأرسلته أيضا الى المخيم، ثم جاء فريق ثالث بعد انهاء مهمة كان مكلفا بها، فبعثت به أيضا مقترحا أن يذهب الى "مخيم شاتيلا" حيث توجه الفريقان السابقان الى "مخيم صبرا". وبعد ساعتين، بدأت فرق التصوير تعود الي حاملة أشرطة فيها مناظر بشعة تقشعر لها الأبدان. فعجلنا بارسال الأشرطة بالسيارة الى "دمشق" التي توفر فيها محطة أقمار صناعية لم تكن متوفرة في لبنان، وجرى بثها على عجل من هناك الى العالم الذي روع بما رأى من مشاهد مثيرة أدت الى قيام ضجة عالمية، مما استدعى قيام العديد من وكالات الأنباء الى الاتصال بمراسليهم في بيروت قائلين أن "ميشيل الحاج" من وكالة "التلفزيون العالمي" يقول ويدعم قوله بالصور، أن هناك مذبحة في "صبرا وشاتيلا": "فهل هذا صحيح". ومع الفجر، بدأ الصحفيون والفرق التلفزيونية تتوافد على المخيمين للتأكد من حقيقة ما يجري هناك.
ولكن اذا كان ذلك ما عاناه الشعب الفلسطيني وما زال يعانيه منذ 65 عاما، فان الشعب السوري بدوره قد وصل منذ شهر آذار عام 2011 الى مرحلة جديدة من نوعية معاناة الشعوب واغتيالها واغتيال أبنائها. وكان من قبله الشعب الجزائري قد واجه شبه مذبحة بحق الشعب، عند اندلاع ثورته في خمسينات وستينات القرن الماضي ضد الاستعمار الفرنسي. ففقد من أبنائه مليونا ونصف مليون شهيد، وهو رقم يعادل تقريبا عدد ضحايا المجزرة ضد الأرمن، كما يعادل ربع عدد ضحايا "الهولوكست" ضد اليهود، اذا صدقت أرقامهم ولم تصدق الروايات الأخرى المشككة في أرقامهم تلك. أما الشعب السوري الذي بات يواجه نوعا من المذبحة الجديدة ضده، فقد خسر حتى الآن ما يقدر بمائة وأربعين ألفا من الضحايا، اضافة الى ثلاثة ملايين لاجىء باتوا خارج البلاد ويقيمون في مخيمات مختلفة منها مخيم "الزعتري" في الأردن، وستة ملايين آخرين شردوا من منازلهم واضطروا للجوء الى مدن أو قرى سورية أخرى، ويقيمون الآن اقامات مؤقتة في المدارس والبعض في الكنائس وربما في الجوامع أيضا، انتظارا منهم لوصول الفرج الموعود وتحقق السلام والاستقرار، مع تقدير لحجم الدمار الذي لحق بسوريا بعشرات المليارات من الدولارات، دون أن يعلم أحد حتى الآن متى سيأتي الفرج ومعه السلام.
ولكن أكثر ما يؤلم في مأساة الشعب السوري، أنها مأساة من نوع آخر. فمن اغتال "الهنود الحمر"، كان غزاة أغراب جاءوا مستعمرين لأراض جديدة. ومن اغتال الشعب الشركي، كان شعبا آخر من قومية أخرى هو الشعب الروسي القيصري، رغبة منه في الوصول الى شاطىء البحر الأسود. ومن اغتال الشعب الأرمني المسيحي، كان أتراك عثمانيون لا ينتمون بصلة للشعب الأرمني. ومن اغتال اليهود في "الهولوكوست"، كان الألمان ولم يكن فئة من اليهود أنفسهم. ومن اغتال الشعب الفلسطيني كان شعبا آخرا قادما من الخارج، جاء الى البلاد لاجئا يطلب الأمان، فطرد أهل البلاد من أراضيهم بعد أن اغتال الأمن والأمان فيها. ومثلهم الشعب الجزائري،فمن اغتال مليونا ونصف المليون شهيد جزائري، كان شعبا آخرا هو الشعب الفرنسي الذي لا ينتمي بصلة للشعب الجزائري. أما من يغتال الشعب السوري، فشيء آخر، وليس شعبا قادما من الخارج كغزاة اتباع "كريستوفر كولومبوس"، أو "روسا" أغراب عن الشركس في انتمائهم القومي، أو كالعثمانيين مختلفو الانتماء عن الشعب الأرمني، او كالفرنسيين المستعمرين للجزائر، أو اليهود الذين اضطهدهم الألمان فجاءوا ليضطهدوا الفلسطينيين. ذلك أن من يغتال الشعب السوري العربي، هم عرب أيضا ينتمون لنفس القومية واللغة والدين. وهذا أغرب ما في مجريات مأساة الشعب السوري.
والواقع أن هذا الاتهام لحكام بعض الشعوب العربية، لم يعد اتهاما بحاجة الى أدلة وتوثيق. فحكام هذه الدول العربية – العربية، يعلنون جهارة تأييدهم ودعمهم للتمرد على الحكومة السورية، وهو التمرد والعصيان الذي يجري تمويله وتسليحه بأموال عربية، وبات يشارك فيه مقاتلون قادمون من أطراف الأرض: من الشيشان، ومن أفريقيا، ومن أفغانستان، مما يحوله تدريجيا الى اغتيال لشعب عربي بأيد أجنبية، لكنها ممولة ومسلحة بأموال عربية، بل بارادة وبقرارعربي. والسبب غير المعلن لهذه الحملة، هو اختلاف طائفي ومذهبي بين الجهتين، اضافة الى اختلاف في الرؤية السياسية حول الحلول للقضية الفلسطينية، والى رغبة الحكام الممولين للهيمنة والسيطرة على مقادير الأمور في المنطقة.
صحيح أن الحكومة السورية قد ارتكبت أخطاء بتلكئها في تطبيق النهج الديمقراطي في البلاد، كتوفير مساحة أكبر للحريات، وتطبيق التعددية السياسية بأسلوب حقيقي وفعال مما جعلها تبدو، الى حين، كحكومة ديكتاتورية. ولكن اذا كان ذلك يبرر انطلاق التظاهرات المعارضة للحكومة، فانه لا يبرر المضي بها، بل وتحويلها الى حركة مسلحة تستقدم السلاح والمقاتلين من الخارج لمؤازرتها، بعد أن أعلنت الحكومة السورية عن مجموعة من الخطوات نحو الديمقراطية وبدأت بتنفيذها واعدة بمزيد منها. فلو توفرت النوايا الحسنة لدى الدول الممولة والمسلحة للعصيان، علما بأن تلك الدول نفسها لا تطبق الديمقراطية ولو في أدنى درجاتها في بلادها، لتمت تسوية الأمور، وعاد السلام الى ربوع سوريا قبل فوات الأوان. ولكن النوايا الحسنة لم تبد متوفرة لدى تلك الدول، مما يعزز اعتقاد البعض أن الأهداف الحقيقية لتشجيع العصيان، الذي لم يعد يبدو عصيانا يؤذي الحكومة السورية قدر ما يؤذي الشعب السوري نفسه، هو بسط سيطرتها على الدولة السورية عن طريق فرض الهيمنة المذهبية والطائفية لتلك الدول على سوريا. علما ان دول أوروبا، وهي دول متحضرة، قد تخلت منذ زمن عن الصراعات المذهبية والطائفية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية.
لكننا في هذا الشطر من العالم، لا يبدو بأننا قد بلغنا بعد مرتبة الدول المتحضرة، ولذا نقوم بأعمال طائشة لو توقف تأثيرها على الحكومات فحسب، لقبل الأمر، لكن تأثيرها الأكبر يقع على عاتق الشعوب كالشعب السوري مثلا الذي يجري اغتياله ببطء على نار هادئة ساخنة، والتي عانى منها حتى الآن، كما سبق وذكرت وكما تذكر التقارير الاعلامية، مائة وأربعين ألف قتيل، وتسعة ملايين لاجىء سواء كان لجؤهم الى الخارج أو في الداخل، والحبل على الجرار كما يقول المثل الشائع.
رحم الله الضحايا، آملين أن يضيء الاله بالوعي والرحمة، عقول من تسببوا بهذه المأساة المتفاقمة يوما بعد آخر، سواء كانوا من هذا الجانب أو ذاك، أو كانوا من خارج البلاد، سواء اقتصر دورهم على التخطيط أو على التشجيع والتصفيق فحسب، أو على المشاركة الفعلية ولو بشكل غير مباشر، كتركيا مثلا (اضافة الى كثرغيرها)، علما أن "تركيا" هي أكثر الدول استفادة من مأساة الشعب السوري لأسباب كثيرة ليس هنا مجال ذكرها.



#ميشيل_حنا_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل أصبح الصراع بين الشيعة والسنة، أكثر أهمية وضرورة من صراع ...
- الواقع الفلسطيني المؤلم على ضوء الواقع العربي البائس
- ماذا عن الصراع داخل المقاومة السورية، وهل باتت هناك مقاومة ل ...
- هل ما يجري في سوريا حرب حقيقية، أم هي حرب -دون كيشوتية-؟
- أهلا جنيف 2 ومرحبا: مؤتمر جنيف2 : ما قبله، وما بعده، والاتفا ...
- مع اقتراب مؤتمر جنيف2،هل بدأت الحرب ضد الارهاب في المنطقة، و ...
- كتاب مفتوح موجه للبي بي سي
- هل يسعى مؤتمر جنيف2 لاعلان الحرب على الارهاب بنقله للبنان، أ ...
- كتاب مفتوح موجه الى صديق
- هل تقرع أجراس -الميلاد- للمطرانين، ولراهبات دير -مار تقلا- ف ...
- من هم الرابحون ومن هم الخاسرون سياسيا في الحرب السورية؟
- هل اقتنعت دول العالم أخيرا أن -القاعدة- خطر عليهم كثر من كون ...
- هل سميت الثورات العربية الحديثة بثورات -الربيع- لكونها ثورات ...
- أين استراتيجية -نهاية المطاف- في أدمغة قادة المعارضة السورية ...
- أين استراتيجية -نهاية المطاف- في أدمغة القادة الأتراك ، وأدم ...
- أين استراتيجية -نهاية المطاف- في أدمغة القادة الأميركيين ؟
- هل تلاشى الحلم العربي بالوطن العربي الكبير، ليصبح الأردن الو ...
- متى يزهر الربيع العربي في أروقة الجامعة العربية ويحولها الى ...
- متى يفجر العرب والايرانيون قنبلتهم الكبرى ؟ كيف ولماذا؟
- هل هو حقا الربيع العربي أم هو الدمار العربي ؟


المزيد.....




- تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س ...
- كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م ...
- أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
- ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو ...
- ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار ...
- بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
- -من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في ...
- مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس- ...
- حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال ...
- فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات


المزيد.....

- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميشيل حنا الحاج - ماذا عن اغتيال الأفكار والمبادىء، وماذا عن اغتيال الشعوب وآخرها الشعب السوري؟