شعوب محمود علي
الحوار المتمدن-العدد: 4370 - 2014 / 2 / 19 - 19:10
المحور:
الادب والفن
بعد العشاء وذهاب طرف من الليل 0
بدأ الفلاحون ينسحبون من المضيف الواحد بعد الاخر0
كان الصمت , والسكون يخيمان على ديوان شيخ القرية 0وبين حين واخر كان يسمع نباح الكلاب مع دخول السراكيل , واستغراب الشيخ لبقاء احمد وهو يتململ فانتبه الشيخ وقال لاحمد اراك استطلت الجلوس وقد انصرف الفلاحون 00 ؟ احمد تلعثم وارتبك وقال
بقيت انتظر ريثما يخرجون لاطلب منك 00 وما تطلب مني ؟ الهجرة . ماذا ؟ ووضع اطراف اصابعه على اذنه . كرر احمد الهجرة 0 لماذا الهجرة ؟ وهل سمعت احداً يهجر ارضه ؟ , ورفاة اجداده ؟ احمد لقد تعبت , واستهلك كلما فيّ من طاقة , ونشاط , وحيوية , وقد اصبح عاجزاً في غضون شهور قادمة من ايامي الباقية
لا افهم ما تعني ؟0 لقد تعبت وها انا اعمل , واعمل كثور يدور , ويدور ليوفر الماء للارض وقد اعجز عن الدوران ورغبتي في ان تتركني . قاطعه , وقال انت تهذي , وتهلوس0 ولاول مرة في تاريخ القرية اسمع ما اسمع من فم فلاح غبي , وبليد يتحدث عن التعب , اكمل , اكمل . سيدي اقصد اعفائي من عملي في القرية , هل سمعت عن فلاح يفك ارتباطه من الارض ويحتجب عنها (شوف ابني) . افتح عينك
ارضك هي مهدك , وقبرك 0 فقابيل وهابيل لا يفترقان الا في الموت , وانت تسمع عن القرين 0
وهل سمعت في ارض السواد عن فلاح قطع حبله السري ؟ انا تعبت حدّ الانهاك , وارجو منك فك الارتباط بيني , وبين الارض , كيف ؟ هل رأيت اباً رحيماً يفرط بابنه ؟ انا في دوامة من امري 0 اسمع ابني ربما خدعك احدهم 0 من تقصد ؟0 اقصد المعلمين هؤلاء الذين جلبوا لنا المصائب, والغرائب باحاديثهم الخرافية التي تقول انّ الارض كروية , والنجوم تسبح في الفضاء , والمطر عبارة عن بخار , نعم هذه العبارات المزوقة هي التي غرّتك , ودفعتك لتدس انفك خارج القرية 0 الا لعنة الله على من صنع السيارات لتنقلك وامثالك الى اماكن خارج حدود القرية 0 سيدي لقد قررت الهجرة 0 لاولن نسمح لك . بل ساطلّقها طلاقاً لا رجعة له 0
غضب الشيخ غضباً شديداً . وتحرك السراكيل باتجاه احمد الا ان الشيخ منعهم باشارة من يده وقال اسكت ولا تتحدث في حضرتي يا ناكر الجميل والله ما اراك الا عبداً آبقا 0 قلت لك انا في حيرة من امري , وقد عجزت , تصبأ وتسمي حياة القرية بالدوامة 0
هذه القرية التي ترعرعت على لبنها وتريد قطع ثديها 0 لم ولن اسمع حتى في عهد المرحوم والدي من تجاسر وطلب ما طلبت , وليكن في علمك ان من يهجر القرية ستلفظه القرية , وتطرحه مثل نواة على قمامة , وستخرجه من تعدادها العشائري . مشرّداً ومنبوذاً
و طريداً بين الناس مثل كلب او عنزة جرباء . وستعيش غير مبارك , ولتحل عليك لعنة الارض التي تنكرت لها يا ناكر الخبز , والملح , وليكن في علمك انت مطلوب لي عليك تسديد ما في ذمتك : سيدي انا لم ولن اتنصّل مما تراكم من ديون في ذمتي , وقد كانت الارض وما زالت لا تتجاوب, وان الانقلاب في الطبيعة كعجز الفصول وانكفاء المواسم هو الذي يقيد الفلاح ويثقله بالديون ,ويجعله رهينة في سوق البيع والشراء مثل اي عبد في مجتمعات العبودية والقهر اللاإنساني للإنسان وكسر قوس حريته المكتسبة منذ فجر ولادته التي منحها الله للبشر.
فان شئت فاجعلها اقساطاً متباعدة ريثما التقط انفاسي في العمل الذي يحررني من الديون ورغم عجزي ساستردها لك شاكراً وطائعاً واحسبك بمثابت والدي 0كلا اذا شئت الرحيل فاترك لّما تملك كوخك الحقير وما فيه من دجاج وآثاث وخذ ملابسكم فقط وتوارى عن وجهي فانا لا اطيق النظر الى ظلك في مجلسي هذا 0فاذهب قبل ان ينفد صبري ويسبقه غضبي 0 0 0
صار احمد يركض , ويركض, ويركض مسرعاً مبتعداَ
عن القرية مثل جواد يميل الى دخول المضمار لقطع المسافات الطويلة , والدورة حول الفردوس . كانت العربة خلفه مكوّنة من هديّة وعلي ومحمد . يسرع الخطى وهو غير مصدّق كونه خرج من شدقي التمساح . يتعثّر , ويتلفّت الى الوراء خوف ان تلحق به السراكيل . لم يصدّق كونه خلع جلد الطاعة ليرتدي جلد
الحرّيّة . كان عبداً ولكنّه من النوع الابيض . اثقلته المعاناة وشاخ من الداخل . وبعد دخل المركبة وجلس على المقعد وامامه هديّة ومحمّد وعلي سحب نفساً طويلاً وهو يطلق الزفير تعبيراً عن السعادة المتناهية . لم يكتمل النصاب في المركبة بعد وهي تحتفي بالقرويّن .كانت الاحاديث تدورعن المحل , وقلّة المطر , وانكفاء
الموسم , وقصور الفصول , في مهرجان الطبيعة المكفهر, وحزن الايّام في ارض السواد والتي انقلبت
الى تربة جرداء . وبينما كان احمد غارقاً في تصوّراته الداخليّة , ولغط الذين يجلسون في المركبة .
كان احمد يسقط في دائرة الضوء الايحائي وعندما يخرج من باب النوم الذي يملك زمام ال بشر وقد ينتابه احساس غريب , ويغمره نوع من السرور كونه تجاوز متاهه الصحراوي , وكان يخاطب نفسه ويهمس احمد تجاوزت ما كنت تخشاه خلال قطع المسافات الطويلة من المحيط الرملي وروحك تغور مثل سمكة عالقة بصنّارة . ولكن
عليّ ان انزع نفسي من طين احلامي , والا سأبقى منشدّاً الى قطبين متنافرين , لاقيم احتفاليّة ميلاد في طقس مجوسي على محيط لا ارى ساحله . كان احمد
يحس بقوّة خفيّة تعوّق مساره
وهو يخشى استقراء صحيفته الباطنيّة في العلن امام هديّة المأخوذة بين خدر النعاس , ومهماز اليقظة ..
راح يخاطب ذاته ويقول احمد كفّ عن ارسال
النظرات قبل السقوط في المحذور, رغم انّ مغريات الجمال تدفع بك لتكون قريباً من خائنة العيون وهي تلحّ وتدفع بك بعيداً وانت ابن القرية التي تعيش على استحياء في كلّ ما تفرضه العادات , والتقاليد , وما يمجّه الذوق , وتنفر منه الروح , ولكنّه ظلّ منشدّاً لذلك
الهمس المشبوب تارة بحركة الشفاه , واُخرى بالإيماء , وطوراً بالابتسام . انغمر احمد مبهوراَ وهو ينظر اليهما
كعصفورين من عصافير الحب وهما يتبادلان النظرات
بغير حرج من الذين يشاركونهما المقاعد في السيّارة
من فضولييّن , او ممن يخشون الخروج من الدائرة التي رسمتها التقاليد , والأعراف العشائريّة .
ومع كلّ كركرة هادئة ,وابتسامة عريضة كانت تكشف
عن ذلك التنضيد الرخامي الناصع البياض لتلك الاسنان
اللؤلوئية . ظلّ احمد مبهوراً , ومنشغلاً بذلك الجمال
الساحر . ردد في نفسه همساً سبحان الله الخالق العظيم . اضحى اخيراً لايملك زمام نفسه , و لا يستطيع كسر نظراته السريّة و الحمامة في زاوية المرصد ,
ومع طهارة قلبه , ونقاوة روحه : كان يعجز عن كبح
ذلك الجواد الجامح والذي سيطر عليه . كان احمد غارقاً في حواره الداخلي عندما صعدت النعامة ورفيقها.
الفلاحون لا ينفكّون عن غرس مخارز نظراتهم
المسلّطة على تلك السيّدة وهم يذرعونها بالاشبار طولاً وعرضاً . كانت تعكس مشية الطاووس في خطواتها المتأنّقة والتي ارتسمت على شغاف القلوب , وقد احتوت على كلّ ما للجمال من معان , ودقّة في الصياغة . فسبحان من صوّر , وقوّم , وبعث , وانبت
عودها الخيزراني الميّاد تحت القوس السماوي بكلّ الوانه الزاهية زهو الغزال النافر المبارك بالعناية الالهية . انشد احمد بعد وقت ليس بالقصير تحركت المركبة0
كان احمد يحس وكانه نسراً فر من قبضة الصيّاد.
كان الرجل يجلس غير بعيد عن احمد وهو يتكلم مع رفيقته وهي تنصت وتبتسم
عاد احمد يسترق النظرات وينصت لعله يلتقط ما يدور بينهما لكنه لم يفلح لاقتناص ما يدور من احاديث لا تسمع وهما يتحدثان بصوت خفيض
عادت السيارة تهتز باحمد وبمن معه مثل مهد يهز الطفل الرضيع .
خلد الى النوم ثانية
في الطريق الطويل كانت الاحلام كالجدائل تشده بشكل مفزع وما ان يخرج من دائرة الرؤيا ليسترجع انفاسه , وليستقر في حدود ثواني قليلة ليرى نفسه وقد دخل الدائرة نفسها مرة اخرى , واخرى
فهو مثل من خرج من الباب ليدخل من الشباك الجانبي لمسلسل احلامه الخيطيّة تارة , والعنقودية مرة اخرى وهكذا بقي بين سنة , وسنة وصحوة , وغفوة يجول في البراري , وشواطئ الانهار حتى يرتقي صهوة المجهول , واقتحامية المغامرة التي لا يعلم نهايتها ,والى اين سينتهي الانسراح , والتزلج على المسطحات المائية , ولا يدري على اي ميناء ستستقر قدماه فهو مثل مهوس تقوده الاقدار, وتستضيفه الصدفة .
ومع كل هزة من الهزات العنيفة
التي تختطف الغفوة من عينيه لتحرمه من النوم
استيقظ ليرى وجه هدية وهي تنظر اليه بشفقة وحنان ومحمد يغفو في حضنها . محمد الغصن الذي
ما بعده من غصن في شجرتها التي تظلل العائلة وتحميها من رياح السموم
احمد ينام تحت شجرة تفاح ومع كل غفوة تسقط ثمرة من ثمارها الحمراء على رأسه وهو يحلم , ويتمنى ان تسقط على رأسه تفاحة( نيوتن) ليحل مشكلاته الحياتية , والمعقدة , والتي لا تأدي الّا الى الخيبة في قضيته المعلقة بين طرفي المعادلة رغم انه فك الارتباط المادي بالقرية الا ان الارتباط الروحي بقي راسباً في الاعماق يلاحقه بشكل قوي وهو يخفي عن هدية كل تلك التصورات .
كانت المسافة التي تقطعها السيارة من العمارة الى بغداد معادلة لماراثون العمر كله بالنسبة له وما يغمره من قلق في تلك المغامرة 0
كان يهمس في كنهه الداخلي , ويقول لنفسه مخاطباً ذاته .
احمد لم لم تفكر قبل ان تسحب عربتك وخلفك هدية وعلي ومحمد على سكة الخوف , والهلع,
والقلق , والشكوك التي تضعك على كف مارد من الجن
لو فكرت قبل التحرك اكثر فأكثر لكانت الارض فراشك والسماء خيمتك , ولكنت مثل اي لقلق تنام على ذرى الابراج او قمم المنائر ولا تخشى وانت في مهب العاصفة , وعلى اجنحة الرحيل . اما الان فأنت تخطو وخلفك ثلاث عربات لتقوم بسحبها وانت تجهل ما يترتب على هذه المغامرة .
نظر احمد الى الرجل وخمّن كونه من اهل المدن لانه كان يرتدي سترة وبنطالاً وهو يشبه الاساتذة في المدرسة 0 قال في دخيلته لابد انه موظف وربما من سكنة الجنان 0
سأل احمد الرجل الوقور ما المسافة المتبقية بيننا وبين بغداد ؟0
ضحك الرجل , وقال لاحمد نحن مازلنا في المربع الاول من رمال الربع الخالي نزحف في المتاه الترابي فصلي على النبي و آله , وقل يا مسهل سهل امورنا ,
ولكي تصل وانت خارج الوسواس عليك بالنوم وستصل عاجلاً , ام اجلاً .
لاذ احمد بالصمت وكان يعرف الطريق ولكنه حاول ان يجد باباً ينفذ منه الى الحديث , وليقع على موقع الرجل من اين جاء , والى اين سيذهب ؟
وما ان هبط للجب حتى رأى السراكيل يجولون في كوخه , وهم يحملون
كل ما فيه من البيض , والدجاج ويقتادون دابته وما يملكه الفلاح والمحروم من كل شيء . ايقظته الاصوات من هنا وهناك فالتقت عيناه بعين احدى القرويات وهي تحمل الدجاج المقيد من سيقانه لتحاول بيعه للركاب
كان الدجاج يصدر اصواتاً , واستغاثات وهو يرفس وقد
اشتبك الحلم عند احمد باليقظة ثم نهض وهبط من الحافلة فأشترى له, ولزوجته ولاولاده ارغفة خبز وبيضاً مسلوقاً وعاد الى مكانه وقدم لهم الطعام , ولعن هذا التوافق , واختلاط اصوات دجاجاتهم في القرية مع اصوات دجاج تلك المرأة القروية قرب نافذة الحافلة وهو المعزول عن العالم .
كان يجلس على كرسي الرحيل
وليس على كتف ساقية من سواقي القرية
وهاهو ينتقل من منفى القرية بجسده , وليس بروحه
وتصوّره الحالم ,
وطيفه الذي لا يلامس الاشياء مثلما تلامس النمال الاشياء بمجسّاتها . وفي لحظاته التأمّليّة
استدرجته انسيابيّة الافكار, ومنحدر التصوّرات التي سحبته مثلما يسحب الثور المسكين الى حلبة الصراع ,واستدراجه بالخرقة الحمراء والتي يستفز بها ليسحب الى حتفه المحقق . تلك قاعد اللعبة التي تدلّ على وحشيّة , وقساوته , وهمجيّة الانسان . والحيوان ان لم يمت في هذه الجولة , فسيموت في غيرها0
ولا شئ اصعب من تلك المعادلة في عذابات القرية , ومتاهات المدينة , واغراءاتها , وانكماش القرية وضمورها 0
كان الاهتزاز يبعث في مفاصل احمد الانحلال والتداعي
بعد تعب مشوب بالقلق. بدأت الرموش تلتقي لتمنع العين من الحركة على مسرح الرؤى والتجوال 0
والنائم لا يرى بالعين اي شئ , ولكنه يرى بالعقل المسرّح من الخدمة لحظة التداعي لعالم الموتى الاحياء
لما وراء قناطر الرؤى والعقل الباطن في وشوارع الاوهام غير المقيدة بقيود الطين 0
كان احمد يخشى من ان يغيّر ناصر موقفه , ولا يفي بالتزاماته , وربّما تمارس انواع من الضغوط عليه
بعد ان اتخذ قراره الذي لا رجعة عنه .
فالكل في المدينة بشر وليس مجتمع ملائكة . قد ينشط الاحباط عندهم ساعة
تتطلب التضحية , وقد ينتشر عشبهم المروي بماء نرجسيتهم الدافق بحب الذات ليمنعوا ناصرعن نجدتنا0 من هنا قد تذر قرينها انقلابية ناصر. وهذا ليس ببعيد عنّا نحن البشر. وانا ما زلت اهبط بكفة الميزان غير المبارك بالنقض الموشك على الوقوع 0
وفي كل الاحوال قد تسنح لهم الفرص في غياب المروءة وسوف لن يتوانوا عن ارتكاب ايّ عمل خارج شرعية الاعراف الحاتميّة طالما هم تحت سياط الانانية يُجلدون ويجلدون غيرهم تحت مظلة الفقرالروحي ,
ولكي لا انسى هناك من تجاوزوا ذواتهم نتيجة الطباع
غير الكريمة من خلال ما دُجنوا عليه لذلك نراهم يرتدون ريش الطواويس وقد تنكروا
للفقراء من امثالهم .
خرج احمد من تطوافه ليهبط من سفينة نوح جديد وذلك على اثر صوت السائق وهو يعلن عن نهاية الرحلة والوصول الى بغداد اميرة ارض السواد . انسل احمد من عالم الاحلام 0
سار ومعه العائلة في حدود نصف ساعة 0
وصل البيت الذي كان يقصده
طرق الباب وكان الوقت مساء وهو في خشية من امره خرج ناصر ويا للمفاجئة هوى بنفسه على احمد وهو يحتضنه ويعانقه عناقاً حاراً , وطويلاً حيث تعجز الكلمات عن تصوير ما يجيش في صدر ناصر من حب وحنان والدموع تنهمر بغزارة ومن ثم اقبل ناصر على علي ومحمد يقبلهما ويشمهما وما كان من ظافر الا ان افرد لهم غرفة مستقلة وناصر لا ينفك عن معاتبة احمد على تسويفه وتردده , وكذلك كان الجميع ينصب اهتمامهم على هدية0
قال ناصر لقد ضجرت من حالة التردد وعدم النزوح عن القرية التي ازدردت احلى ايام عمرك 0
ثق ياعزيزي طيلة ايام انتظاري لك كانت مشوبة بالقلق وتراودني حالات حزن ما بعدها من حزن لاجلكم 0
واحياناً اقول لنفسي ناصر لماذا لم تذهب وتأتي بسفينة احمد ومن فيها من تلك القرية النائية 0
كنت احس ما يكمن في صدرك
من اعصار وتمرد مغطى مثلما يغطى
الجمر تحت الرماد 0
وواقع القرية الذي تعيشه مثل حصار يغلق عليك نور الفجر, ويمنع النهار في حياتكم التي هي كلها ظلام ولو ان المدينة لا تختلف عن القرية الا قليلاً, ولكن حبك لها طغى , وكلما كنت اعزم , واصمم على ان اخطو باتجاهكم يقف حائلاً امامي ما يمنعني من المجيئ وانت تعرف عثرات الحياة ومعوّقاتها 0 كنت مثل من ينتظر قطاراً ولا يرى دخانه , ولايسمع صوته فالحمد لله حيث اراك جالساً قربي واستطيع ان اجسك بيدي خوفاً من ان اتصور مجلسنا ضرباً من اضغاث احلامنا الخادعة وكم انا سعيد بالخطوة المباركة والجريئة صوب التغيير
مضت على احمد اربعة شهور وهو يبحث عن عمل 0
انا مثل صياد يخرج الى النهر ويلقي بشبكته دون ان يحصل على صيد 0
واخيرا عثر على وظيفة قاطع تذاكر في مصلحة نقل الركاب , ومن ثم استقرت المرساة في قاع النهر
ابتسم الحظ لاحمد 0
كان احمد يفكر فيمن يديرون دفة الحكم وهم مسمرون على الكراسي وكل واحد منهم يحلم بالتحليق على حصانه الطائر 0
والحالة الاقتصادية تراوح في مكانها , وشجرة البطالة مثقلة بثمارها واهمال المدن
قطع شوطا طويلا في ماراثون التجاهل لهذه الظاهرة الخطيرة , وملفات احتياجاتها تركن على الرف0
اما العاصمة فالعمل على ستر عورتها وتزويقها يجري مع القليل من وضع اللبنات بشكل بطئ ولا يتناسب وحجم نموها , وقد تمتاز عن بقية مدن ارض السواد 0
اما القرى والقصبات فقد مارس معهن ممن مات ضميره طقوس ما حرم الله تحت مظلة الدستور, وكل اشكال , وانواع الابتزاز, والاستغلال الفاحش لسرقة جهد من يروضون الارض , ويكدّسون تلال البيادر وهم يحلمون بقرص الشعير, وقد يشدون حجر المجاع على بطونهم واقدامهم تغوص في الطين0ولا من مغيث الى جانب وجود القوانين والمظلات الرأسمالية حيث اختفت موازين العدل0
فوق الارض وحيث وضعت البائع تحت رحمة المشتري بموجب القوانين التي لم يشارك في وضعها البائع والذي يشكل ثقل الاكثرية 0
اما القلة القليلة التي سنّت القوانين الجائرة وما يطرحه المشتري يزيد اضعاف ينتظرمن مردود 0
وبذلك تتم سرقة الجهد خلال العمر كله 0
واذا ما رفض , وتمرد على العطاء الشحيح فالسجن بانتظاره , وبانتظار من يوزعون الازهار في مناجم الفحم والحديد , ولمن يقفون وراء الآلة ويريدون تحول الخط لقطار التاريخ المحمل بالعطايا المادية والروحية مع قناني الحليب , والحلوى ,
والكساء لساكني الاكواخ , وللمشردين في المدن , وليس في ارض السواد وحدها بل في جميع انحاء العالم
وجراء ما حصل ويحصل من مجاعات يشيب لها رأس الطفل , وهم يحلبون الارض , والارض تشهد على ما فعلوا ويفعلون بشعوب تلك البلدان حيث نرى الاطفال يموتون جوعاً , والاكثر غرابة حين تسلط الضوء على تخطيطاتهم و نهب الثروات والكنوز التي تضمها الارض من نفط ومعادن ثمينة الى جانب وجود قواعد يتم منها الوثوب على الغير حيث تتجانس وسياسة الارض المحروقة الى جانب مثال جوع كلبك يتبعك وهم يقتّرون على الشعوب المنهوبة خيراتها 0
استيقظ احمد في المساء فنهض , واستحم ليزيح ترسبات ما علق في جسده من الغبار والاملاح0
وبعد ان تناول فطوره خرج هائماً على وجهه وبلا هدف مثل رجل نوّم تنويماً مغناطيسيّاً
تقوده احاسيس ما تحت الوعي 0
وعلى غفلة من غفلاته اللاواعية0
فجأة رأى نفسه في شارع ابي نؤاس والشارع مزحم بالناس وهم خليط من الشباب , والشابات , وكبار السن والاطفال 0
كان يأنس حين ينظر الى طيور الجنة وهم يلعبون ويمرحون حيث الاضواء الملونة وفي الاماكن التي تباع فيها المشروبات الروحية , والمرطبات , والسمك المشوي , واقداح الشاي
كان ينشدّ الى صوت سيدة الغناء كوكب الشرق ام كلثوم وهو ينساب كقارب على بحيرة (عمر الخيام )في رباعيّاته التي اخذته بعيدا الى اجواء فسيحة وهو يغرق في تأملاته التي تنطوي
على ابعد مدى في فضاء الروح اللامحدود , و الانشداد لسلسلة احلامه . ظل ذلك الجندول يتحرك تحت الاشجار, وبالقرب من صدى امواج القهقهات في شارع ابن هاني امير الحان وسيد الكأس 0
في تلك الاجواء والتي لم تتح لاحمد ولو لليلة واحدة من الالف المطروحة ليسترقها احمد بزهوها وعنفوانها الذي لم يتعرّف عليه قبل الآن
كان يسرح بين الحلم واليقظة وقد اعطى زمامه لعالم لم يدخل فردوسه من قبل .
كان يطفو على موجة الفرح , وامتداد الحبور 0وهو يرنو بعيون مكتحلة بألوان قوس قزح يلامسها مرود قمر اشقر, ليشيع البهجة في عوالم احمد ,
ولينعش المشاعر, ويزيل الاحزان من فوق شغاف القلب , ويردم ما حرث الزمان 0
لتغطية الخطوط الغائرة على مساحات الفصول في ارضه البور0
كان يخالجه شعور بأنه انطلق من القفص الطيني وهو الان يحلق بعيداً في العالم الذي استرد كل جماليته وجلاله , وراح يتحسس ذراعيه ليتلمس الريش الذي نبت فغطى جسده 0
والا كيف سيحلق وهو بلا ريش 0 وفي تلك الشطحة من شطحات الحلم الذي تملك الحلاج , وبن عربي ,
وغيرهم . حاول ان يخرج من طوق الحلم , ليتعامل بالتماس في انقلابية خاطفة بعد ان وقعت عيناه على صورة اعلانية لاحد الملاهي الليلية عبارة عن صورة مغرية, وفاضحة ومثيرة للجنس , ومحركة للوتر الحساس . لم يسبق لاحمد
ان تعامل مع مثل هذه الحالة0
توقف قليلاً , ثم اندفع والقى بنفسه بين تيارين عارمين في تلك المخاضة بين الهرب او الاقتحام
وهو يستعرض حياة شاعر الخمرة بغير منازع0
ظلت تلاحقه غزوات ابن هاني ,واسم جنان الفتاة التي خلدها في شعره كما ان الشارع علّم باسمه المدوي حيث تغنى بالصهباء وجاوز بوصفها كل الشعراء , وكيف ادمن الطواف على حانات بغداد واسم جنان مثل قطعة سكر تذوب على لسانه بحلاوتها , ولكن كان الحب من طرفه دون الطرف الآخر
انشد احمد لماضي ابن هاني وهو يتصور تلك الاحلام التي تقلّب فيها الشاعر بين ارتياد الحان , واستراق النظرات لمعشوقته المزعومة 0
توقف احمد امام وصورة الراقصة التي غزت وجدانه وهّزته هزاً عنيفا فتسمّر امام تلك الصورة الفاضحة .. وبعد صراع لم يدم طويلاً امام اللوحة
تحرك باتجاه بائع البطاقات . دفع الثمن ودلف مع الطابور البشري المنساب صوب عالم مجهول 0
قال في نفسه لتكن ليلتي حمراء ولو لليلة واحدة وما ان استقر على احد الكراسي التي تخفي نفسها خلف سور من النباتات المتسلقة 0
والاضواء الملونة والخافتة وهو قريب من مسرح العرض وكان الكثير ممن جلسوا قبله وقناني المشروبات على المناضد الى جانب قطع الثلج والكرزات وعلب السجائر والدخان يتصاعد برشاقة ليشكل خطوطا وخرائط ولوحات لايمكن ان توصف الا في ادب اللامعقول رغم تواجدها وحضورها 0
كان يسمع عن ملاهي بغداد الا انه لم يخترق حجب ليرى ما على
الساحل الذي غادرته سفينة الشباب والان اتخذ قراره في ان يرى كل ما في المدينة ظاهرها المريء وباطنها الذي تكتنفه الاسرار وقد ركبته نزوة من نزوات الطيش تفاجأ بالصور الفاضحة حيث التعري والكشف عن مفاتن الجسد الانثوي , وارتجاج الافخاذ الصارخة والالتواء مثلما تتلوى الافاعي حين تخرج من مخابئها على صوت الناي لعازف من حواة الهند 0
كان صدرها الرخامي يهتز هزا عنيفا مع نفور الاثداء كحمامتين تسكبان الحليب مثل نافورتين 0
كان ظهور السرة في المركز من المنطقة الوسطى ولوح العاج الابيض المتصل بالردفين يمثل انسيابية حلم لم يتذوقه الحالم ابن قرية المكاسب وهو يستقرئ هذه الصور العاصفة منذ الهبوط الاول جراء تناول الثمرة المحرمة التي تذوقتها اُمّنا حواء وهي تختبئ خلف شجرة فقدت اوراقها النضرة 0
كانت ترتدي قميصا شفافا يعكس ما تحته وقد انسدلت على جسدها تلك الاشرطة التي تعجز عن حماية ما هو مستور وهي تتحرك بخفة بالغة الروعة تتحدى بأثارة لا يخفى منها الا ما يثير القرف والتقزز ناهيك عن المساحيق بمختلف الالوان والتي تظهر الوجنات بلون التفاح الاحمر مع الاظافر الطويلة وقد تعبر عن سلاح المرأة امام الرجل الى جانب الاهداب الشوكية للاُنثى وحيث الكحل يكشف عن عيون المها وما يغطيها يصبغ باللون الفضي المختلط بالازرق 0
كان الفصل نوعا من الفسيفساء الجنسي وبانوراما تعبر عن انفجار المكبوت في كتاب تاريخ اولويات الثورة الجنسية 0
تلفت احمد حوله وسلط نظراته الى كل الجهات وهو يتصبب عرقاً حيث دهمه الحياء القروي وهو في حالة انفجار وغضب 0
كان يقول أهذا هو المظهر الحضاري البائس ثم راح يلعن القدر الذي ساقه الى هذا المكان الموبوء, والمشحون بالرذيلة والدنس .خرج يسير بين قطيع من الضحايا والمخمورين حد غياب الوعي 0
وهم يدخلون بكامل عقولهم واكتناز جيوبهم بالنقود ويخرجون وقد فرغت جيوبهم وفرت عقولهم مجازة بساعات زمنية 0
ومنهم من اتخم معدته بالطعام وقد يفرغ كل شيء من معدته ويخرج وهو لايعلم اين هو . هذه هي مصادر الانس وتبديد السأم , وتصريف الوقت . وبدل ان يسمو الانسان على واقعه المتدهور في هذه المزرعة واذا به يحصد سنابل الضياع في متاهة الهزيمة امام الرذيلة التي توصله الى احتواء الخيبة والخواء لحظة انهيار انسانيته المتألقة 0
كان احمد في تلك الليلة اليتيمة بالقياس للياليه المدعمة بالصفاء وحضور العقل بكامل حيويته 0
تمدد فوق السطح
وكان مواجهاً للقبة السماوية .
في ذلك الصفاء المشوب
بالهيبة والخشوع للصانع العظيم
كان رأسه يدور كما تدور النجوم في افلاكها وهو يلوم نفسه ويعنّفها على هذه الشحطة العميقة الغور وكيف انزلق للهاوية ؟ وان تساهل معها قد تقوده مرة اخرى الى منزلق بهيمي والنفس وما ادراك بالنفس
وفجأة عرّج ليفتح حواراً داخليا في مجال النقد والنقد الذاتي فقال الكثير من رفاقنا ممن سافروا الى المدن الفاضلة , ومدن اوربا الشرقية التي تقف تحت خيمتها الجموع من البشرية وهي لا تخلو من مدارس رقص الباليه ووسائل اللهو كالملاهي الليلية فلماذا احمّل نفسي فوق طاقتها , واطلق عليها الاحكام جزافا كالحكم بالنفي الانفرادي , والعزلة الابدية كيف لي ان اتجانس مع محيطي الاجتماعي الذي يتجانس
وتلك التوجهات ؟ وأشكال التيارات ضمن الدائرة العريضة , والمرئية التي هي الوطن خيمة الجميع 0
ليس لدي ما يبرّرهذا القلق سوى الترسبات والتقاليد القروية . ها هي الشعوب تدخل الماراثون وتنهي اشواطها المضيئة وهي الان تبحث عن اشواط جديدة , وافاق جديدة , ومسيرات جديدة , وانا اقبع في ظلام الاسطبل , ومع كل خطوة اخطوها الى الامام اعود بخطوتين الى وراء الوراء وما دام تيار الحضارة يأتي متدفقاً عنيفاً فلا خيار لنا للانتقاء , او الرفض وذلك لان التيار قوي وعارم وقد يكتسح ما هو ضار ويحل ماهو غير ضار ونافع وقد تغمر نقاط الاختبار وتظهر نقاط الاستيعاب عبر صراع المعايشة . والتجذّر المكاني 0
بعد هذا التوتر العنيف انسدلت جفون احمد وحانت لحظة دخول باب النوم والغياب هنا . والظهور هناك في الزمان المطوي من كتاب الاحداث المرئية واللاملموسة .
0 0 0
قبل الدوام الرسمي تحركت الحافلة في احد شوارع بغداد المزدحم بالسيارات والناس . كل شخص يحاول الوصول الى دائرته او موقع عمله 0
والحافلة مكتظة بالركاب من الرجال والنساء وقد انشد كلّ واحد منهم الى الوقت والقليل القليل ممن تطوق معاصمهم الساعات وهي تتكتك بصوت خفيض مع عقاربها المتحركة دون كلل 0
كلما توقفت الحافلة في احدى الناطق المقررة لها لكي يهبط البعض ومن ثم يصعد اخرون 0
والحافلة تحمل اصنافاً من الناس 0
وهناك البعض من الشباب ممن لايحترمون حيثياتهم وحيثيات الناس 0
والحافلة قد يأخذها الحياء مما يحصل في داخلها من قبل الشواذ الذين غير مأهّلين حضارياً لان يكونوا مستقيمين يعكسون الصفات الحميدة , والخلق الرفيع ,والصفحات المشرقة والدالة على علو ورفعة الشباب المتساوق والمجريات الحضارية والتي تأشر على جيل ورث كلّما هو حميد . في ذلك الجوّ الخانق والمشحون بالركّاب يصدف ان تلمح البعض من الشواذ وقد
حشروا انفسهم في الزحام غير المسموح به و هم يتحينون الفرص للالتصاق بالاجساد النسوية ومع اهتزاز حركة الحافلة يحصل ماهو خارج حدود الذوق والادب وقد يحدث شرخاً في لوح العادات والتقاليد التي يألفها المجتمع العراقي المحافظ
والمرأة المحافظة الملتزمة تقف مثل حمامة تحت المرمى من نقطة الهدف وهي تصرخ في اعماقها وتطلق استغاثاتها المكتومة من فعل هؤلاء الصعاليك النكرات الذين يعيثون فساداً وتهوراً وخسة ودناءة0
ان اشاعة مثل هذه الاعمال قد تضعهم على نفس الخشبة في مسرح الرذيلة حيث يتعرضون هم في صميم من هن نبتن في بساتينهم وقد يقفون على البحر المتقد او ,على حقل من الحسك والعوسج جراء افعالهم تحت خيمة العنكبوت وفي فضاء الخفافيش 0
ماذا يكون احساسهم عندما تتعرض نساؤهم لنفس المحنة في الحافلة , او في الشوارع المزدحمة واسواق المدينة الغاصة بالشواذ الاحياء الموتى وهم على الحافلات المنسية من ارض السواد 0
كل واحد من هؤلاء يحاول
ان يطلق الغريزة ليشبع رغبته الجنسية
وهو يصعد احساساً عارماً بلذة الملامسة المحجوبة بالعباءة والملابس الشفافة حيث تعكس ما تحتها من فتنة تبعث النار في الثلج الطيني 0 تحرك احمد لاهثاً وخازراً بنظرات تدل على البغض , والاحتقار, والتحدي وزمجرة الاسنان لفعل الذئاب الماكرة والعابثة 0كان احمد يجسد اخلاقيات القرية
عفة الريف المحتجب بالمقارنة الى المدينة السافرة والتي اطلقت البداوة منذ زمن بعيد 0
تحرك احمد صعوداً وهبوطاً تارة في الطابق الاعلى وطوراً جوار السائق , وقرب باب الدخول ونظراته لاتستقر على حال ثم قال في نفسه ما رأيت من خروقات وشروخ كما ارى الان وبأم عيني خلال اربعينيّتي في القرية ولا اريد ان ابرأ نفسي من الشوائب والسلبيات 0القرية ايضاً تنغمس في حوض الخروج على القيود التي سنها الآباء وحفظها الابناء ولكنها لا ترتفع عن كعب القدم في موقع الرذيلة قياساً الى المدينة0
الشباب هنا يختلفون عن شبابنا في الريف ولا اريد المفاضلة او خفي سراً انما ارى صوراً في مجريات عملي اليومي تكبر وتتجسد وقد اراني اكثر الناس احتكاكا في المجتمع , ومع مختلف الشرائح والطبقات
ولّدت لديّ احاسيس ضد المدينة وجعلتني انتصر للقرية واقترب من اتخاذ الطلاق الخلعي من المدينة مقروناً باصرار لولا ان تداركت وقلت لنفسي في الماضي القريب كنت قد رسمت للمدينة لوحة رومانسية وقد اججت بين اضلاعي جمرة شوق للقاء بها مثلما يلتقي عاشق بعشيقته ولنقل مثلما حصل لقيس بن الملوح ذلك الهيام الذي ضرب بجذوره في طين الجنون لا لكوني مثل قيس بل انا الذي قطع حبله السري ونبذ القرية غير نادم واليوم انظر الى قريتي بقداسة 0
هكذا كنت الحالم الاعمى والمبصر, والهارب من الجحيم الى الفردوس وانا أعطي التزكية واصدر الادانة لفعل مشين متناسياً تلك التراكمات من الجرائم التي يرتكبها شيخ القرية وسراكيله بحق الفلّاحين وعوائلهم
كنت هارباً من تلك لهذه التي لم ار حتى اثار الجدري على وجهها , ولم انظر اليها كمدينة في مصاف المدن بل كنت اظنها جوهرة ما بعدها جوهرة وهي اطهر من كل بقاع الارض وتتمتع بكل مزايا الكمال وهي ترتدي قفطان الحضارة سابقه لعصرها0
كانت الصور النشاز تقضّ مضجعي وتجعلني ضيق الصدر مبلبل الخواطر والتصورات الصارخة في اطار المدينة الخارجة عن الاصطفاف فيما لو قيست بالمدينة الفاضلة 0
وكلما توغل انكفأ على نفسه خائبا مغمورا بتلك الغمامة الصفراء وهو يحس بنفسه كجرم يدور في الفراغ ولا حول له ولا قوة للخروج من ذلك الفضاء والدوران اللاارادي 0
كاد ينهار قبل ان تنتهي الحافلة من شوطها المقرر في المضمار المرسوم لها وبينما كان يتحرك داخل الحافلة صرخ احد الركاب بصوت عال وقال لقد سرقت اخي السائق اغلق الابواب ولا تسمح بالهبوط , وتوجه الى اقرب مركز للبوليس 0
ضج الركاب بالتذمر. وانطلقت كلمات لا مسؤلة من بعض البلهاء وكل من في الحافلة كان ينطلق من مصلحته الذاتية 0
والكل يفكر في وقته الذي سيهدر ولا احد يهتم لسرقة غيره ما دام هو لم يسرق فلتسرق كل محفظات الركاب بل وحتى مصارف الوطن 0
هتف احدهم وهل السارق سيبقى مشدودا الى جانب المسروق ؟ قال اخر من قال لك ان السارق 0
خارج الحافلة الان 0 ربما سرق توا ولم يسعفه الوقت للهبوط والهرب بالغنيمة فلنتحلى بالصبر
السارق قد يقع في الشرك الذي نصبه لنا 0 ولو ضفر به فلسوف نكون مشاركين في مطاردة الجريمة والقبض على اللص ان تحلينا بالصبر, واعطاء الوقت الكافي للشرطة لتقوم بواجبها في التفتيش على اثر الجريمة وملاحقة المجرم 0
قال اخر اخواني ادعوكم للتفتيش عن السارق وليكن كلاً منا مثل غطاس يحدّق في وجه الآخر
داخل اعماق النهر 0 اجابه احدهم اخي لانهر ولا محيط نحن على الشاطئ وتحت ضوء الشمس الحارق .
فكيف بالسارق وهو وحيد في اللعبة وكل من في الحافلة فليتفرس في وجه الاخر وسنكسب الجولة عندما تختفي جميع الوان الطيف الشمسي الا اللون الاصفر الذي يلاحق المجرم بلونه الزعفراني 0
كانت الحافلة تتهادى وتنوء بكل من فيها واحمد ينصت لتلك التعليقات , ويتنهد , ويزفر, ويهمس يا صبر ايوب ,نحن على ابواب انتهاء رمضان علينا وفيه يكسر قوس القطيعة وينثني الغضب , ويتراجع الشوك في غصون , الورد وينشر جناحه الحب وتطفأ جمرة الضغينة , ويحل الصفاء والتسامح والناس مقبلة على التوجه الى الله الخالق العظيم ولم يبق بيننا وبين العيد سوى ساعات . اقتربت الحافلة من مركز الشرطة 0صمت الجميع وما ان توقفت حتى هبط السائق ورفع الغطاء عن خزان الماء فانطلق البخار يتصاعد منه بسرعة مذهلة وافراد الشرطة اتجهوا الى الحافلة وهم يدركون بالغريزة ان لا بد من وقوع شئ غير اعتيادي 0
وعلى الفور ضربوا نطاقاً حولها ليكون الركاب في محتوى تصرفهم وراحوا ينزلون الركاب الى داخل المركز وقد اخبروا بأن هناك سرقة فاخذوا يفتشون الركاب الواحد بعد الاخر الى ان افرغوا من تفتيش الجميع 0
وقال احدهم متى ينتهي تفتيش الحمولة لسفينة نوح فارسل الضابط نظراته الحادة الى ذلك الرجل0
كان الرجل المسروق يتصبب عرقاً وقميصه ابتلّ , وبعد جهد مضني لم يعثروا على شئ والمسروق كان يحس بجفاف في فمه وشفتيه وهو في حالة غثيان ,ودوار وعلى وشك الانهيار من شدة ما يعاني , ولكثرة القلق والحزن الذي نشر عليه خيمته , راح يفكر كيف سيجابه عائلته وقد خطط لشراء ما تحتاجه العائلة والايفاء بالتزاماته , ومسؤولياته وقد ضاع كل شيء وتبخر ما خطط له 0
نظر الضابط للانكسار الذي لاح على وجه الرجل المسكين والكارثة التي تعرض لها فصار يرثي لحاله واخيرا اوقف جميع الركاب بشكل يتيح للرجل المنكوب النظر الى وجوههم . وقال له حدق في وجوههم وتذكر من كان منهم قربك في الحافلة 0
قال الرجل لا استطيع تشخيص احدهم قال الضابط بل تستطيع تشخيص من كان بقربك 0
صار الرجل المسروق يتأمل , ويحدق في وجوههم فوقعت نظراته على شاب كان يقف بالقرب منه وقد ضايقه في الزحام وكان يتميز بأنف منحرف فقال سيدي الضابط هذا كان بقربي . الضابط للشرطة فتشوا داخل الحافلة 0
وعند التفتيش هتف احدهم سيد الضابط وهو يهم بالنزول من المركبة وبيده محفظة 0
قال الضابط للرجل هل هذه محفظتك . الرجل نعم سيدي وطفح البشر والفرح على وجهه قال الضابط كم من النقود فيها ؟ الف دينار ودعاء لدفع البلاء , وبطاقة سفر بالقطار ففتح الضابط المحفظة فوجد فيها المبلغ والدعاء وبطاقة السفر فقال له خذ محفظتك واذهب في حفظ الله , ثم اخذ يحقق مع صاحب الانف المنحرف وحاول في مناورة بوليسية تنم عن دراية وجدارة في مجال التحقيق , ولكنه ما استقر على القعر في محيط الجريمة0
الا انه بقي يسبرغور الشاب ومع كل الجهد المضني والمكثف ما حصد سنبلة واحدة من حقل الانف المنحرف مع التشبث ومحاولة الدخول لقلعة الشاب الحصينة , والتي يقتضي اختراق جدرانها 0
حاول الضابط ان يجد الف مبرر ومبرر لشكوكيته وقد وجه اسئلته الى دائرة الشعبة الخاصة بالجرائم , وطلب معلومات عن صاحب الانف المنحرف وجلبها ان كانت لديهم معلومات الف باء الجريمة0
وبالفعل جاءت المعلومات على شكل طرد يسلط الضوء على حياة المتهم , وبأحصائيات جميع سرقاته 0
فاحال الضابط المتهم الى حاكم التحقيق ليرى تقرير مصيره على ضوء القوانين المعمول بها في المملكة
0 0 0
كانت عائشة فريسة
للهواجس ولا تدري ما حل بمنير .
كلما تمر الدقائق كان اضطرابها يزداد وهي تخاطب عبد القادر الا تعرف احداً من اصدقاء منير لكي تستفسر منه عن سبب تأخير منير وعدم مجيئه الى البيت 0
منير لا يعاشر احداً من الذين نعرفهم ويعرفوننا0
الوقت قارب الساعة الرابعة مساء ولا اثر لمنير. قم معي لنذهب ونستفسر عن مصير ولدنا منير. اين نذهب ؟ الى مراكز الشرطة لعلنا نعثر عليه . وماذا يفعل في مراكز الشرطة ؟ . نحن نجهل سبب غيبته 0
نهض عبد القادر مع عائشة وخرجا من الدار وهما يذرعان الطريق الى مراكز الشرطة . اخذ التعب منهما ما أخذه ثم اخذ سيارة اجرة وزارا ما استطاعا من مراكز للشرطة دون ان يعثرا عليه0
عادا الى الدار في الساعة العاشرة ليلا وقد لفهما الحزن بوشاحه دون ان تغمض لهما عين 0
كانت عائشة تنحب طوال الليل وعبد القادر تنهمر دموعه بشكل مكتوم , راح يستحضر طيف منير ويستقرئ النجوم , ويكثر الدعاء ويردد يا راد يوسف على يعقوب ويا مبطل اسطورة الذئب , وكاشف الدم الكاذب فوق قميص يوسف 0
اللهم احفظه من اشرار الانس والجن وما ان انطلقت هتافات الديكة حتى شعر عبد القادر باقتراب الفرج0
كان الظلام ينسحب رويدا بنسيجه القاتم وفي الصباح خرج عبد القادر وعائشة وهما يدوران ويسألان عن منير الاقارب , والطلاب الذين معه في نفس الكلية ولم يشما رائحة لمنير واخيرا قيل لهما هل ذهبتما الى المستشفيات ؟ او الطب العدلي 0
عبد القادر كلا لم تذهب قال احد الطلاب نصيحتي لكما ان تذهبا الى المراكز المعنية بحوادث الدهس وغيرها من الحوادث لاسمح الله0
وفي اليوم التالي خرجا وقد زارا المستشفيات ولكنهما لم يعثرا على منير وهما يدوران كطيرين خارج قبضة القنّاص0
واخيرا ذهبا الى ثلاجة الموتى , وتفحصا الجثث واحدة بعد الاخرى وهما يحدقان , ويطيلان النظر الى الوجوه , والملابس , والعلامات الدالة 0
وفي احد الاماكن من بناية الطب العدلي لمحا تجمهرا وسمعا لغطاً , وبعد اقترابهما من جمهرة الواقفين وقد لاح على وجهيهما القلق , والخوف , وقفا بالقرب من ضباط الشرطة والافراد وفي وسطهم جثة ممددة ومغطاة بشرشف ابيض وعليها بقع من الدماء ظهرت تحت الغطاء 0
انتبه المعنيون من الضبّاط , وافراد الشرطة , ورجال التحقيقات الجنائية الى اقتراب عبد القادر وعائشة اكثر مما ينبغي حتى اطلق احدهم صرخة مدوية وهو يقول ما معنى اقترابكما مع تحذيرنا مرات , ومرات بعدم الاقتراب0
امسك احدهم بتلابيب عبد القادر وهو يقول له من اين خرجت من تحت الارض , ام هبطت من السماء؟ .
قال عبد القادر ابني منير 0
الرجل لا منير ولا , سمير قلّي كيف سوّلت لك نفسك الاقتراب من الجثة ؟ قلنا ممنوع الاقتراب يا حــما00, وهل تمنعوني من البحث عن ولدي المفقود ؟, لا يوجد هنا مفقود وهذا المسجى امامك كان في حياته تحت
الرصد , وسيكون في قبره تحت الرصد 0
عبد القادر الا تسمحوا لوالد ملهوف يبحث عن ولده ردّ , عليه بصوت عال متقطع النبرات0
اسمع نحن لن نسمح لك , ولا لغيرك بالاقتراب من الجثة افهمت ام لم تفهم بعد . عبد القادر ابني ارجوك . قلت لن نسمح لك , بل وحتى للملائكة بالاقتراب من الجثة 0
تراجع عبد القادر وتبعته عائشة , ووقفا الى جانب المتجمهرين 0
كان من بين هؤلاء مثل عبد القادر وعائشة يبحثون عن ابنائهم الذين فقدوا 0
كان هناك رجل يتحدث عن الجثة بعيدا عن سمع (الجلاوزة )0
قال الم تسمعوا عن الجثة كون صاحبها قد نفذ فيه حكم الاعدام صباح اليوم 0
قال احد الرجال الذي شاركهم في التجمع ماهي جريمته ؟ هل هو قاتل ؟ ام سارق كبير . كلا لا هذا ولا ذاك بربك قل ما هي جريمته0؟
جريمته تتعلق بالمعتقد , والعمل السري . اي معتقد ؟ واي عمل سري ؟
اعتبروه ممن يروج للابفكار الاشتراكية ويدعو الى التغيير . مانوع التغير ؟
تغير كل شيء الا جلد الإنسان فقط يبقى على ما هو عليه 0
قال آخر افصح في حديثك وكن بعيداً عن الطلاسم 0
كان الحوار يدور بشكل خفيض بعيداً عن العيون , وسمع الرقباء . نعم اكمل وماذا اكمل ؟ حديثك. حديثي خارج كل الطلاسم والاحجية , قاطعه اخر وقال لماذا ينزلون مثل هذه العقوبة البشعة , والقاسية على صاحب هذه الافكار التي لا تضر احداً ؟ ابتسم الرجل بخبث لبساطة السائل , وقال قلت لكم انه يريد التغير وهل يستحق مثل هذه العقوبة صاحب تلك الافكار ؟
ولماذا تلح فان اردت ان تصل الى الجذور , ونسغ السدرة فاستفسر من الحرّاس الذين يقومون بقطف الورود من حدائق الشعب , ويقتلعون الجذور دون ان يخفق لهم قلب وهم ينزلون العقاب الذي يصدره اصحاب القرار 0
ومن هم اصحاب القرار؟ ارجوك لاتدخلني الى الجب 0
الست من اهل هذه المدينة الملعونة ؟ الم ترتوي من النهر الذي جرى حبراً .., وها هو اليوم يجري دماً زكياً . زدني علماً. لا استطيع ان اكشف لك اوراق اللعبة فانا صاحب عائلة , ولا استطيع المبيت خارج بيتي ولو لليلة واحدة 0
يأس عبد القادر ولكنه ركن الى الطمأنينة كون حجم الجثة اضعف واقصر من جسد منير الشاب اليافع المتدفق حيوية . ومع اقتراب الغروب الذي يسحب برياحه سفن الاحزان الى محيط العذاب , والخوف. عاد عبد القادر وعائشة الى الدار ولا احد يعرف مصير منير . قالت عائشة غداً نذهب الى سامراء لزيارة اختي ام هناء ولعلنا عن طريق خالد نفتح نافذة جديدة 0
ومع زقزقة العصافير, وهديل الحمام تحرك عبد القادر وقال همسا اللهّم اجعل ذهابنا فاتحة خير. كانت عيونه محمرة 0
منذ مهرجان الخفافيش وهي تجول في المساء وحتى انفجار الهوام , وهتافات الديكة , لم تغمض له عين. نزل عن السرير, وذهب الى الحمّام , وردد الدعاء وتوسل الى الرب بعد ان اكمل صلاته ان يعيد له منير سالما . تذكر تلك الايام الخوالي حين كان يهبط الى النهر ومنير معه وهم ينظرون الى النهر وهو يشطر منطقة الاعظمية عن منطقة الكاظمية الى ضفّتين , وتبليط الشوارع الى جانب القصور الشامخة , والزوارق المتحرّكة فوق الموج حيث تجرنا الى ليالي الرشيد وهو يجلس تحت ضوء النجوم , وبزوغ القمر العابر ذلك المحيط الكوني ,وصوت اسحاق الموصلي , وترنمه بالخمريات النواسية
في حدائق القصور , واصوات الجواري , وحناجر الاماء , والحفلات المتخمة بالاافراح , والسرور, وكيف انقلبت تلك الليالي الى مواكب تصوم على القهر, وتفطر على الاحزان يوم اكفهرّ الافق العربي , ومزقت المدن بالعواصف التترية , ونصبت السرادق العثمانية على تراب قبائل العرب , ورموزها ثم تلتها دخول العربة الانجليزية وقد صهل حصان لندن الطروادي في قلب اميرة المدن , وعروسة التاريخ تحت ارداف الجنرال (مود) عبر لهاث السنين , وهرولة الفصول 0
كل هذه الافكار صارت تدور برأس عبد القادر وهو في طريقه الى المحطّة0
كانت عائشة غارقة في عالمها المعتم وهي تقف قرب قاطع التذاكر . القطار يصفر ليستعجل المسافرين الى سامرّاء0
عائشة تندب , وتعول . القرى , والقصبات كانت تشغلهم لدقائق عما هما فيه , وحركة الدوليب ودورانها على مقاطع السكة تجعل العربات في حالة غيرمستقرة حيث يشعر الراكب مثل طفل في مهد متأرجح يتسلط عليه النعاس الذي هو بمثابت طلقة الرحمة 0
التعب سلب عبد القادر وعائشة الراحة , والركون الى النفس , وصفاء , التفكير الا ان منير لا يخرج عن تصوراتهما في كل الاحوال , فهو الحلقة المركزية , واللوحة المعروضة على الشاشة الداخليّة غير المرئية للاخرين ممن يحيطون بهما وذلك يعود لنهم البصيرة , والموازي للحدث المتساوق مع اهتزاز العربة على السكة الحديدية , ودوران الدواليب وهي تنزلق مثل زورق فوق الماء 0
كان الطريق بمثابت مسيرة العمر , وكانت الافكار بالنسبة لهما مثل مركبة تقطع دورتها حول الارض بسرعة غير معهودة ضمن الحسابات الفلكية . ما ان توقف القطار حتى شعرا بانتهاء الرحلة الشبيهة بالدوران حول الارض وذلك لكثرة الصور التي مرت امامهما 0
بدأ الركاب يهبطون من العربات , ويسيرون قاصدين النهر ,والبعض الاخر كانوا يذهبون الى سبل اخرى 0
كان عبد القادر يسير على الحصى الملون , والرمل النقي الى ان اقترب من حافة النهر ثم صعد لاحد القوارب للعبور . جلس الى جانب عائشة وهو يطيل النظر الى صفاء النهر, والقارب يهزّه النسيم هزّاً خفيفاً . كان الجانب الاخر من المدينة يقترب من القارب كما يلوح للركاب , واخيرا عانق الجانب الاخر من المدينة , مدينة العسكر, ومرقد الامامين علي الهادي والحسن العسكري (ع) . كان عبد القادر يتعثر ويتأرجح في مشيه وهو شارد الذهن , ونظراته تائهة . كان يخطو بلا تركيز. فالمدينة ضائعة في محيط تصوراته , وهو ضائع في ازقتها , ولا دليل سوى عائشة 0
طرقت عائشة على الباب فاستقبلتها هناء وهتفت بصوت عال اهلاً بك خالتي وقد زارتنا البركة بزيارتك , لنا وزيارة العم عبد القادر 0
صاحت باعلى صوتها ابي تعال لاستقبال خالتي ام منير , وعمي عبد القادر. خرج خالد مسرعا لاستقبالهما وكان
سابقا لهما بدقائق لدخول البيت وهو مجاز من قبل الآمر في وحدته العسكرية 0
شكر الله وحمده على هذه المصادفة الجميلة كونه مجازاً ليقوم بالخدمة مع ان الزيارة كانت مفاجئة , وغير متوقعة0
جاءت باسمة من وراء اللهب , وبيدها رغيف العجين وهي تسلم على عبد القادر , وتهوي على رأس عائشة وتمطره قبلاً 0
دارت بعينيها بين نجمتين آفلين ولم يبق منهما الا بصيصا 0
قالت بشئ من الارتياب اين فيلسوفنا ؟ سكتت عائشة , واطرق عبد القادر براسه الى الارض . قالت لم لا تردان على سؤالي حول فيلسوفنا منير 0
تلعثمت عائشة , وانهمرت الدموع من عينيها , وقال عبد القادر خرج ولم يعد.لا افقه قولك ثمّ ما معنى خرج ولم يعد . بحثنا عنه في مراكز الشرطة , والمستشفيات ولم نحصل على جواب . درنا في كلّ مكان ولكن لم نحصد سنبلة واحدة من مزرعة الغياب . هكذ ذاب مثل حبّة سكر في بحيرة المدينة . اجل غاب ولم نر له من اثر وها نحن نطلب النجدة للعثور على درتنا الضائعة في اعماق البحر, وفي دهاليز المدينة القريبة
من الغروب 0
عائشة انا اجهل ما يجول في الوجدان0
ارجوك افصحي .
ذهب مع الريح ,اوالموج بعد النزول الى النهر . لا اعرف . خرج ولم يعد0
قال خالد كيف خرج ولم يعد ؟ ألم يكن له معارف , , اصدقاء من الطلاب معه في الكليه . هل ذهبتم الى مراكز البوليس والمستشفيات ؟ نعم بحثنا, وطرقنا كل الابواب والمواقع التي عددتها ولكن : دون وجود بصيص لنجمنا في الافق0
عبد القادر ابني خالد ألا تستطيع ان تمد لنا يد العون فقد نضيع بعد ضياع منير وانت ابن الدولة , وصوتك يصل لاي بقعة من بقاع العراق وانت بمثابت رمز من رموز الدولة فهل تعيننا , وتبذل جهداً للعثور عليه0
اطرق خالد بوجه حزين
وسقطت دمعتان على خديه وقال لعبد القادر
اين ابحث , ؟ هنا يمكن ان تمتد ذراعي لقمة الملوية اما في بغداد فأن ذراعي لا تمتد لاطول من قامتي0
اختي عائشة كيف حصل هذا الغياب الذي لايصدق .؟
كانت الزيارة سريعة وخاطفة مهمتها التشبث لاجل العثور على منير 0
كان عبد القادر لايستقر بأي مكان قبل ان يعثر على منير0
وفي اليوم الثاني عادت عائشة وعبد القادر الى بغداد ولكن هناء ظلت تلوم والدها واعتبرته مقصرا بحق خالتها عائشة وزوجها عبد القادر
قال خالد لهناء انا رجل لا سند لي في الدولة واخشى ما اخشى على منير انتقال الجرثوم له , اي جرثوم؟ جرثوم الافكار الوافدة , هناء لا افهم قصدك , قصدي واضح طالما
ان منير غاب ولا اثر له في مراكز البوليس , ولا في المستشفيات اذن اين هو ؟ الجواب لا احد يعرف ولكن , ابي ما وراء كلمة ولكن . ربما لا يقتنع عمّي عبد القادر ولاعائشة اذا كنت تتحدث عن بعد نجهله فدلنا عليه . ربما البعد غير المنظور لا سمح الله ان كان منير قد وقع في سرة الدائرة الامنية للمدينة المدورة , وفي مثل هذه الحالة من الصعب العثورعليه ومن يريد ان يبحث عنه مثل من يبحث عن حبة قمح في واد تغمره القشور. هناء ارجوك لاتجعل مني سمكة على الجمر : فانا احب ابن خالتي منير , واخشى عليه من هذا الغياب المفاجئ 0
حبيبتي هناء اسمعيني , وافهميني , وافهمي ما سأقوله لك فلو ان احدا خيرني بين حالتين :
الوقوع في فخ لعصابة مهمتها ابتزاز الاموال , أو السقوط في بحيرة الحيتان الزرق لملت لسوف ل تريني ملت الى عصابة الخطف , وابتزاز المال . كيف يهون عليك التحدث بمثل هذه الخيارات 0
اردت ان تفهمي جذور القضية والغوص الى عمق الطين 0
اذ لا شئ يجعل منير طالب الفلسفة يختفي عن الانظار في بلد مثل . واعود لاطمئنك ان كل الذي تفوهت به قد لايعدو ان يكون ضرباً من الظنون وانا اتمنى من الله ان لايخرج حديثنا عن نطاق الظنون 0
كان هذا الحديث بعيداً عن سمع عائشة وعبد القادر0
بعد العودة من سامراء 0
كان عبد القادر يقف في الصف الخلفي للامام اثناء الصلاة والدموع لا تفارق عيناه
وعائشة تقف مع النساء في الصفوف الخلفية للامام . بعد الانتهاء من الصلاة عاد الى البيت على امواج الحزن , ورياح الالم , والشعور بالوحدة بعد غياب منير 0
كان الطرق على الباب خفيفاً , وكان الوقت الرابعة عصرا0ً
خرجت عائشة فرأت رجلاً وسيماً يقف في استحياء وتحرّج همس بصوت خفيض هل هذا بيت السيّد عبد القادر , وقبل ان تستفسر منه هرعت الى الداخل مهرولة كالمجنونة . هتف الرجل اختي . سمع عبد القادر الصوت وكان قد اضطرب وما زال بين التردد والإقدام وأخيرا قرر ان يخرج 0
قال لذلك الرجل الواقف على الباب نعم ابني انا عبد القادر0
قال الرجل الحمد لله لاني وصلت ,
وساوصل الرسالة
سكت عبد القادر .
قال الرجل هل تستضيفني ولو لدقائق داخل بيتك .
تحير عبد القادر بين الرفض والقبول واخيرا قال للرجل تفضل 0
بعد ان دخل قال عندي بشارة تفرحكم 0
هتف عبد القادر عائشة اخلي لنا الغرفة .
انتابها الهوس ,
وكاد الدمع يطفر من عينيها ,
وجاء صوتها على سلم مموسق وهي تقول نعم
, انتابتها رعشة فرح , وشعرت باحساس منعش وهي تحلق باجنحة ملائكية , وتجوس عوالم لم ترها من قبل ولا تدري اين ستهبط بعد ان ذبحها الحزن مثلما يذبح الطير بالمدية0
كان قلب عائشة يقطع نصف دورة العمر خلال تلك الدقائق , والانفعالات الوجدانية جعلت افقها داخل قوس
قزح من الفرح
كانت اطياف منير منذ الطفولة والفتوة والشباب تمر من امامها ومنذ مناغاته حتى غيابه 0
قال الرجل جئتك بالبشارة من طرف منير. سمعت عائشة من خلف الباب اسم منير فاجتاحها مد عارم من الحنان , واختل توازنها وارتجّت افكارها , وشعرت بانهيار وهوت مثل نخلة صرعتها الرياح0
سمع عبد القادر صوت ارتطامها على الارض. نهض مسرعا كالبرق وما ان نظر خارج الغرفة حتى رأى عائشة ممددة على الارض . أنحنى مفجوعاً, واخذ ينثر الماء على وجهها ويهتف عائشة , عائشة وهي لا تجيب فاقدة الوعي . اخيرا استيقظت وراح يحدثها بحنان0
فتحت عائشة عينيها على مهل وهي مثل ميتة عادت لها الحياة . نطق عبد القادر الحمد لله على كل الاحوال ,هزّها فاستقرت وهي جالسة على الارض بعد ان عاد عبد القادر الى جانب الرجل معتذرا لانسحابه قال اكرر اعتذاري عمي . لم تعتذر ثم راح يتوسل ويقول انا جئت لأدخل الفرح على قلوبكم ولم أأتي لأحزنكم ولكنها معذورة فهي ام وقلب الام على ولدها . نعم ابني انت تقول الحق 0
جاء والدي قبل وقت من الدائرة
دائرة التحقيقات الجنائية , جفل عبد القادر, وتوجس شرا , وتطير من الرجل ,
واعتقد انه اضحى تحت خيمة العنكبوت
وفي قبضة اخطبوط قاتل ,
تغير لونه ,
ومال الى الاصفرار ,
وراح قلبه يركض مثل لاعب كرة في ملعب البرابرة 0
خانه النطق
واعتقد ان صنارة الصيد طعمها في فمه 0
وهو عالق فيها
لاحظ الرجل ارتباك عبد القادر ..,
فحاول تلافي الموضوع بسرعة ,
وأردف قائلاً والدي ليس منهم
وإنما يعمل متعهدا لإطعام منير وأمثاله من المعتقلين الذين تقودهم اقدارهم
لذلك المكان المزحوم بالخوف , والهلع 0
فالناس ترتعب لمجرد ذكر اسم الدائرة
ومن يدخلها كأنما يدخل الى مقبرة مهجورة ليلاً0
والدي والحمد لله ليس من شياطين الجن ,
ولا من كواسج الانس
وقد بعثني اليكم اعتقادا منه
سيدخل الفرح الى قلوبكم ,
وبناء على تكليف من قبل ولدكم منير
ان يوصل والدي معلومة اعتقاله ولا اعلم كيف حصل والدي على معلومة اعتقاله .
والدي منذ تعاقد مع هذه الدائرة بدأ يتغير يوماً بعد يوم وقد تعقّد من عمله في هذه الدائرة المشؤومة
والقبيحة في نظر كل العراقيين
جراء ممارساتها , وارتكابها من الاعمال ما يسقط هيبتها بين الناس ومع ان والدي في وضع المضطر للاستمرار في عمله وهو يتبرم وله كل الحق والا كيف يتعامل مع هذه الضواري المتوحشة ,
والمتعطشة للدماء 0
عمي لقد كلفني والدي بإيصال الرسالة الشفهية
وذلك ليطمئنكم على وجود منير
في دائرة التحقيقات الجنائية 0وهذه نفعلها لوجه الله خالصة , وارجو ان لا تخرج عن نطاق عائلتك والا فسيدفع والدي الثمن باهظا ,
وربما يصار مصيره الى المجهول
والجحيم الذي لا يطاق ,
فلتحرصوا على كتمان السر.
ابني الله يحفظك ويجازيك بالخير , ويبارك لك طول العمر , والستر , والصحّة , 0
كنا نجهل وضع ولدنا منير, وافضل معلومة لنا لا تزيد عن كونه خرج ولم يعد . زرنا جميع مراكز الشرطة والمستشفيات وحتى ثلاجات الموتى ومع كل هذا البحث المضني عدنا صفر اليدين رغم تواصلنا الليل بالنهار 0
كان القلق نهارنا والكوابيس ليلنا والان انت عملت على انتشالنا من الغرق في عالم الغيبوبة والتلاشي ووضعتنا على شواطئ الامل الكبير. عمي والدي يقول عليكم بالصبر, وعدم اخبار من يحيطون بكم ممن عرفوا ان منير خرج ولم يعد فلا تفشوا سر والدي وقد اكد لي ان وضع منير لا يقلق , وسوف يطلق سراحه عاجلا ام اجلا وهو في خير وما ساقني الى بيتكم الا عمل الخير . وهم لينسحب . وكانت عائشة تنصت من قريب فهتفت كلا لن تخرج على الاقل سنقدم لك الشاي , عبد القادرنعم نعم اذن عجلي فهو بمثابت الضيف 0
بعد ان ارتشف قدح الشاي المعطر بالهيل قال عمي انا ارفع الزحمة , وارجو السماح لي بالخروج لقد طوقتموني بالجميل وانا اشكركم على حسن ضيافتكم لي عبد القادر لن ادعك تذهب ان لم تشرفنا بمعرفتكم وارجو اعطائي اسم والدك , وعملك ان تضحيتكم يجب ان لا تمر بدون مجازات . عمي لا داعي لذلك 0
اقسم عليك ان تخبرني لانكم وضعتم طوقاً في عنقي , ولي رغبة ملحة في ان تشرفونا بمعرفتكم وسالتزم بتحذيراتكم من طرف منير,
وعدم البوح في كلما سمعته منك 0
نعم عمي لقد احطتك بعمل والدي ناصر 0
اسم والدك على مسماه والله ينصره مدى عمره 0
اما انا فأسمي ظافر واعمل كبائع ساعات وتحف في محل يقع في رأس القرية على الضفة من شارع الرشيد القريب من النهر الذي يحمل تاريخنا 0
اين تسكنون , في الكرادة الشرقية 0
نهض ظافر واعتذر عما سببه لهم من احزان , رد عبد القادر بالعكس انت انقذتنا من هواجس مدمرة 0
تحرك ظافر فاحتضنه عبد القادر وقلبه يدق وقبله من جبينه وقال كنا نعتبر منير في حكم الموتى , او المفقودين وانت اعدت لنا الامل والحياة , وأخرجتنا من انين ونشيج وبكاء ام منير, وسحبتها من تحت خيمة الليل الى واحة الصباح , وخلعت شتلة حزنها من طين الغياب الى مهرجان الحضور وقد ازحت ما تراكم من خوف عن شغاف قلبها المضطرب , وانبتّ بذرت التفاؤل ل في تربة التشاؤم وطردت الغربان الناعقة عن سعف نخلتها المائلة الى الجفاف , وانا اجزم ستكون الليلة الوحيدة التي ستنام فيها قريرة العين
,وستنام بلا كوابيس , ولا هذيانات وربما سيغزو المطر مسطحات الملح . خرج ظافر متخوماً بالفرح , وشعر كأنه ازاح عن صدره حملاً ثقيلاً في تطوافه الذي ستباركه السماء وشعر بنفسه قد ملك الحدائق التي تجول بها الفراشات الملونة وقلبه يحلق وهو يردد اناشيد الحياة كونه استطاع ان يدخل البهجة على صدور المكروبين0
كان ذلك الشعور يطفح ليغطي احزان الناس . فظافر جُبل على الخير والكلمة الطيبة فهو خيّر بالفطرة ويتمنى ان يقدم خدماته الى الناس بقلب قد يضم العالم وما فيه 0
وبعد اسبوع من زيارة ظافر طرق الباب طرق الباب
في الساعة العاشرة صباحاً .
فتح عبد القادر الباب فرأى رجلاً يطالعه بنظرات حادة
وهو يتصنّع بحركاته كديك منتفخ .
نطق بلهجة متبرّمة , وبصوت جهوري جاف وقاسي
هل هذا بيت عبد القادر؟
نعم . كانت صورته تذكّر برجال البوليس المقدّس
أيّام سطوة محاكم التفتيش ,
والتسلّط الكنسي حيث استحوذ الارهاب , واشتدّت قبضته في تلك القرون السود في عصور اوربا ,
وكيف كان يتعامل بوليس البابوات مع العلماء والمتنوّرين من مسيحيّ تلك الحقب وقد اذاقوا شعوبهم
العذاب المر .والاضطهاد الوحشي , وانزال احكام الموت حرقاً , وخنقاً , وتحميلهم عشرات السنوات سجناً , وقد امتدّت مدّة حكمهم لما
يزيد عن ثمان قرون . كانوا يبسطون نفوذهم , ويشيعون الارهاب بين المؤمنين المسيحييّن , والمتنوّرين منهم .
ان التاريخ كشف عن متن تعاليهم وما دبجوا من اسس
بحيث جعلوا من الانجيل كتاباً ثانويّاً امام مرجعيّتهم
الكنسيّة التي امتدّت ممارساتها وحضورها لتلك الفترات البغيضة كاخطبوط ينشر اذرعه ليغطّي اسبانيا , وايطاليا وبريطانيا , وفرنسى
وليحيل الارقام الى اصفار .
الرجل ابنك منير موقوف في دائرتنا .
ان رغبت عودته الى بيتك فاقصد الدائرة لتكفله .
وهمّ للذهاب ولكن استوقفه عبد القادر, وقال ابني
اين دائرتكم ؟
عجيب امرك
الا تعرف اين تقع دائرتنا
نعم لا اعرف
تقع خلف شارع المستنصر , وبجوار نهر دجلة .
تعال لتكفله والّا سيبقى مخمّراً , ووليمة طازجة
الى القمل , وقد يهبط وزنه الى النصف وهو يتخبّط في عالمه الضيّق , والصغير جدّاً وهو يدور مثل طاحون
بين الليل , والنهار ليتلو كتاب اساطيره بين
سبت , وسبت . ثمّ ولّى دون ان يلتفت .
ذهب عبد القادر وهو غارق في بسملاته , وتصعيد
دعواته الحارّة بصيغ الشكر , وهمسات التحميد
حتّى غاب عن الزقاق .
عائشة بين مصدّقة ولا
مصدّقة وهي بحالة هوس , واضطراب تأخذها موجات
من التصوّرات وهي تحلّق بين الفرح والهموم .
عاد منير الى البيت بمعيّة عبد القادر وما ان دخل
البيت اقبل على عائشة ,وصار يقبل رأسها وقد غابت عن الوعي فاحتضنها منير لكي لا تسقط على الارض
واجلسها على كرسي . وراح عبد القادر يرش الماء على وجهها ويفرك جبينها حتّى استيقظت وقلبها يدق بعنف . قامت تقبّل رأس منير ووجهه , وتشمّه مردّدة التحميد , والتهليل , والتكبير , والشكر للّه الخالق العظيم . ومن ثمّ افرطت بالتقريع , والعتاب , بعد وقت طويل , قال منير اريد ان استريح قليلاً احس ان جسدي يكاد ينهدّ من قسوة الرطوبة , والسهر والقلق
الذي رافقني طيلة مدة اعتقالي والضعف الذي لزمني
نتيجة الطعام الردئ . كذلك احسّ باختلال توازني
, وكأنّي احمل جبلاً على رأسي.
فرشت له عائشة وقد غاص في نوم عميق , عمق جب
(يوسف) الذي تداركته السيّارة ولم يأكله الذئب.
دواليك هي الايام حيث تعود الليالي , وتفر
النهارات , وتضمحل الفصول , وتكبو السنون في الدائرة القدريّة , والحطام الذي تخلّفه العاصفة .
في الصباح استيقظ منير وذهب الى صندوقه الخشبي
الذي حوّله مخزن لكتبه . فتح الصندوق وسحب الكتاب الذي قدّمه له جمال: الكتاب الذي سلب راحته , وأقلقه
, وشدّه مثل حصان يسحب خلفه العربة , عربة هواجسه , وهمومه وقد حمله لآفاق لم تصلها نظرته
القصيرة . قبل ان يطيل معه جلسات التلميذ مع الاستاذ , او جلسات المحاضر مع المتلقّي , او لنسمّها جلسة تأمّل , وعظة . ولقد ساور منير بشعوره كرحّالة يطوف حول غابة واسعة ,
في مطلق يدفع به لآخر الشوط ,
والمدى الذي تسبره عيون (زرقاء اليمامة) , وقد لا
تدركه حتّى الملائكة .
وقف منير قرب التنّور المشتعل , والجائع لتلك الافكار
الخطيرة , وذلك لكي ينسف الجسر القائم بينه وبين
الاجراس التي توقظ الغافلين , بل الموتى من سكّان
القبور. اختلطت الرؤى , ولاحت علامة السؤال مثل
فنارامام سفينة تائهة , ووخزات الندم تدمي فؤاده ,
وتعترض ضميره .
وما ان لذعت النار اطراف انامله من بعيد .
عاد لنفسه وقال ماهي مبرّراتي لأصدر عليه
حكم الإعدام خرقاً كما حكم على القدّيسة (جان دارك)
. كيف اُواجه جمال ؟ ايجوز لي قلع الشجرة النادرة
التي اثمرت ما يقرب من نصف الجنس البشري , وضمّت المساحة التي تقارب ثلث البقاع المسكونة من الكرة الارضيّة .
مضى على منير نصف شهر وهو يتجوّل بعد خروجه
, والذهاب الى الكلية لمواصلة دراسته , والدخول الى السينما لمشاهدة الافلام التي تنسجم مع رغباته , وميوله . في مصادفة من مصادفات العمر شاهد فلم البؤساء لرواية (فكتور هيجو)
وفي اثناء العرض تأثّر حين رأى السجناء وهم يقومون
بنسف الصخور في الجبال , وكيف يعانون صنوف المشاق عند حمل الصخور بعيداً عن موقع التفجير .
عاد منير بشريط الذكريات لأيّام اعتقاله وبعد انتهاء
العرض ذهب الى البيت مثقلاً بالأحزان الى جانب أحزانه القديمة .
0 0 0
#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟