|
منزلنا الريفي (34)
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4361 - 2014 / 2 / 10 - 06:19
المحور:
الادب والفن
الجندي المتمرد...
يقول خالي المكي : " عام – رني – هو عام ساد فيه القحط والجوع . ماتت المواشي، ومات الرجال، وماتت النساء، أما الأطفال، فلا حديث وحرج، وكانوا يسقطون كالجراد، ويتم دفنهم في حفر بلا مراسيم " . تقول مي فاطنة : " كان الكرزازيون يهيمون في الأرض جماعات، ولم يتعاطوا لأكل – رني – وحدها، بل حتى – بلالوز-، وأي شيء عثروا عليه، لأن المسألة مسألة جفاف وجوع ومرض . لم يكن الآباء يفكرون في أولادهم الذين يسقطون تباعا، بل إنهم كانوا يفكرون في أنفسهم . ولدت في ذلك العام ولدا أسميته محمد، ولكن مرضا اسمه : - العواكة – أجهز عليه، فدفنته في حفرة، وواصلت المسير ؛ أحن إليه الآن، وأذكر وجهه البسيم في أحمد ابن جارتي التومية الله يرحمها، الذي أصبح جنديا مع المخزن " . يقول أحمد قبل أن يموت : " عملت مع المخزن، وتلك كانت غلطتي الكبرى، الذي يظل على قيد الحياة في ظروف عصيبة كعام – رني – لا يمكن أن يكون جنديا خنوعا يدافع عن نظام متوحش وفاسد يستعدي القرية، ويستعبد سكانها، ولا ينظر إليهم إلا كخزان للدفاع عن وجوده، أو أصوات انتخابية، وأفواه للتطبيل والتزمير ...، إن الإنسان الحقيقي هو ذلك الذي يتغور عميقا في التاريخ، فيصعد بأحشائه الطرية معيدا كتابته من جديد، وطالقا النار على من يقف وراء السياسة التهميشية التي محقت بالقرية منذ زمن بعيد، وذلك لن يتحقق إلا بلغة جديدة تقطع مع لغة الخنوع " . ***************** على منحدر " فدان ضبعة "، كانت تقبع " كشينة " مبنية " بالديس "، وكانت خالتي التومية تسير جيئة وإيابا، وهي تمسك ببطنها . كانت تسكت تارة، وتولول تارة أخرى، لقد نخرها الجوع، فزوجها محمد ولد الغزواني قد خرج ليبحث عن " رني "، لكنه لم يعد بعد، لا شيء يجاورها غير ركام من صخرة مومن المتفرسة، وأشواك السدر الذابلة . إن الجوع يمحقها، والجنين الذي في بطنها يتحرك هنا وهناك، كل القبيلة خرجت، وبقيت وحيدة، ماذا عساها أن تفعل ؟ إنها لا تخجل من الموت، ولا تخشى المرض، فالموت هم يومي، أما المرض فيستوطن كل بشرتها، والذي يهمها الآن هو أن يخرج هذا العفريت من بطنها، فهي منذ الصباح تصارع تلكؤه الذي يأبى أن ينتهي . تأوي قرب الباب، وها هو المخاض قد بدأ يعتصر كيانها، احمرت وجنتاها، ارتفعت حرارتها، وسخونة تعتري بطنها، وألم يجيش في دواخلها، ولذة تسكن ألمها، يقترب الجنين شيئا فشيئا من الخروج، وها هو ينقذف بوحشية، بلا رحمة نحو الوحش – الوجود. تأخذ شيفرة وتقطع حبله السري، كان الجو باردا، نهضت خالتي التومية من مكانها، وذهبت نحو " النادر "، وأخذت قليلا من " الهيشر "، ضمت الوليد بين جلد الماعز، وأحاطته " بالهيشر "، وتركته في ركن " الكشينة، والتحقت بجموع القافلة بحثا عن " بلالوز " . ************** قرب مسجد بمدينة بنسليمان، يجلس رجل ضرير يرتدي ألبسة بالية، وجلباب ممزق، وسروال مهترئ، ويحمل نعالا تعمها الأوساخ، لكنه كان يقول كلاما رزينا لا يقوله إلا العقلاء : " إذا احتقرنا أنفسنا، فإن الآخرين حتما سيحتقروننا " . يسكت، ثم يضيف : " تخدم نفسك خير من أن تخدم الآخرين مقابل أن يخدموك " . " ماتت أمي دون أراها، وتلك هي غلطتي الكبرى، فإذا كانت هي قد سخرت كل وقتها من أجلي، فماذا عملت أنا من أجلها ؟ خدمت الآخرين، وها أنا أتجرع معاناتي " . ***************** لقد دافع أحمد عن الوطن على الحدود الموريتانية – المغربية، بينما هو الآن يتحسس الجدران، ويتسول الدكاكين، ويسيل لعابه أمام الجوامع، لا أحد يهتم به، فالوطن هو آخر شيء يتم التفكير فيه من طرف هؤلاء الذين يطبلون ويزمرون بكل نفاق من أجله، لو كان يهمهم الوطن لما هربوا الأموال إلى بنوك دول أخرى، ولأنصفوا هذا الرجل المتسول الذي دافع ببسالة، وتصدى بجسده لرصاص العدو ...لم يشاهد أمه، وهي تموت، لم يسمع آخر كلامها، لم يعاين مراسيم دفنها، لم يتأوه من أجلها، لم يواكب جنازتها ضمن الحشود . أما قريته، فلم يسقط عليها آخر رذاذها، ولم يقبع في " كشينتها "، وهو يسمع رذاذ المطر متهاويا برومانسية على نبات " الديس " المتماوج . ****************** منذ تاريخ سحيق : كان القرويون عرضة لأمراض الجدري، العواكة ....، كانت تستنزف خيراتهم من طرف أتباع المخزن، كانوا عرضة للجفاف والبرد والجوع، وفي أوقات الشدة الماحقة يأكلون بعضهم البعض . 1901 : فرض ضريبة الترتيب، وتسليم جميع المحاصيل للمخزن . 1936 : قحط وجفاف، دفع الناس لأكل الجيفة . 1943 : عام البون . 1948 : عام " رني " – ولادة أحمد 1970 : دخوله إلى الجندية . 1979 : وفاة خالتي التومية . ...... : موجة ظلام تكتسح الذاكرة . ****************** أطلق النار عليه! - أمر قائد المعسكر أحمد، لكن هذا الأخير لم ينفذ الأمر مبررا ذلك بالقول : - كيف أقتل زميلي ؟! فهذا رفيق دربي، وقد عاينت عن قرب بسالته في التصدي للأعداء، لكن لن أقتله . رد عليه القائد بتجهم : - أقتله ! عقب أحمد : - لن أقتله، لقد علمتني أخلاقي القروية ألا أقتل أحدا حتى أعرف الداعي إلى قتله . أمر القائد جنديا آخر، فأرداه قتيلا . فقد أحمد أعز الزملاء ممن خاضوا حربا شريفة على الحدود المغربية – الموريتانية، لم يعرف لماذا قتل ؟ لكن حينما تم حجزه في بئر عميق وسط صحراء قاحلة، هناك اشتعل خياله . إن صديقه الذي قتل عاين القائد، وهو يعقد صفقة مع قائد العدو لتهريب البضائع، فأراد أن يصفيه، ويصفي هذه الحقيقة إلى الأبد . **************** عند لوية " ولد الشيخ الكبير " توقفت " كرويلة " عن السير، وعادت أدراجها، خرجت القرية من صمتها، وهي تسمع رجلا يرغي على موت حبيبته : " التومية لالة، التومية مي، التومية ختي ..." كان يريد أن يأخذها إلى المستشفى، فلا طريق، ولا سيارات، استنجد " بالكرويلة "، ولكن " التومية " فقدت حياتها في منتصف الطريق . لم يفارقها عمي محمد حتى تم وضعها في القبر، وأبى أن يأكل أياما و أياما نظرا لفقدان أعز من في العمر . انفصمت عرى الأسرة، وضاعت إلى الأبد . **************** يسير أحمد في طريق، ملؤها النقيع، حافي القدمين والرأس غير حليق . كان أشعتا – مغبرا – مطوقا برمال الصحراء، كان ولم يكن جنديا، ذهب معتزا بذاته، ورجع ذلولا . أين الأم ؟ أين المنزل ؟ أين الأرض ؟ أين الحنان ؟ .... وهام في عدم محيق مرددا : " عدت يا أمي معتقدا بأنني سأجدك كما تعودت، وأنت تنتظرينني قرب الطريق ممتطية أتاننا السوداء، وها أنا أعود، فأجد العالم قد ملأه الفراغ، خاويا من ضحكاتك، وأغانيك الجميلة، لمن أغني ؟ ولمن أبكي ؟ والعالم تحول إلى كثافة من السواد، زرت قبرك معتقدا أنك ستكلمينني، فلم تجبني إلا الدموع التي انسكبت بلا توقف، لم تعد لي عيون، ولا آذان، كل شيء تلاشى، وتبدد وضاع في السراب . أنا الآن ميت . سألتحق بك . العالم ما عاد يطاق، لقد سكنته جموع من الأشباح والمنهزمين والفاسدين " . *************** آهات من بعيد، تقتحم هرج الصمت، وتئن آتية من بعيد : " ...ردو علك التراب، وخلوني أنا في الضياع ..."
يتبع
عبد الله عنتار/ الأحد 09 فبراير 2014 / واد زم – وسط المغرب .
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منزلنا الريفي (33)
-
متاهات
-
قبلة من الوادي
-
منزلنا الريفي ( 32 )
-
منزلنا الريفي (31)
-
نحو رؤية هادئة للتملق
-
منزلنا الريفي ( 30 )
-
عائد إلى القرية
-
حمى الاستسلام
-
دروب التيه
-
نشيج الكلمات
-
منزلنا الريفي (29)
-
منزلنا الريفي (28)
-
منزلنا الريفي (27)
-
منزلنا الريفي (26)
-
منزلنا الريفي ( 25 )
-
منزلنا الريفي (24)
-
منزلنا الريفي (23)
-
منزلنا الريفي (22)
-
منزلنا الريفي ( 21 )
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|