|
بين الظلمة والنور
بريهان قمق
الحوار المتمدن-العدد: 4355 - 2014 / 2 / 4 - 18:27
المحور:
الادب والفن
بين الظلمة والنور يقول راوية العرب الأصمعي:" الشعرُ كله نكدٌ، باطنه الشرُّ، إذا داخَلَه خيرٌ فَسُد"ْ تستفزنا العبارة التي تبدو للوهلة الأولى فجّة وغير منصفة لنظرتنا ومحبتنا للشعر، ولكن لو أمعنا التحديق وعبر مستويات مختلفة لعبارة شيطان الشعرالأصمعي بقسوة توصيفه ،متجاوزين ذكورة العبارة في السياق اللغوي لقاربنا رؤيته بشكل أو بآخر ..! الباطن الذي يشير إليه الأصمعي بالشر،برأي يروح قاصدا الظلمة / الكثافة / الألم /الأسر الذاتي في الذات / سجن الفكر والقلب . الشعر على اعتباره صوت الإنسان النقي الداخلي التائق للانعتاق ، معنيٌ برحابته وسحره الولوج هذه المجاهل ، التمزق والعيش بكل معاناتها من خلال آليّة التغلغل في دهاليز عتمة الذات عبر تصدعات نفسانية شديدة..ومن ثم تفكيكها فاتحا بئر الذات العميقة كي تتشمسن وتتكشف للنور/الخير .. كي تغلغل الغبطة تدريجيا سواء القوى الكونية اللمبدعة فيه او باطلاقه طاقات المحبة حتى وان بدت عكس ذلك ولمساحات شاسعة تتخطى الزمكان .. الشعر لا يروح للخير كي "لا تفسد القصيدة" برؤية الأصمعي ، لأن الخير بكل مفرداته وتعدد صوره من مظاهر الفرح والأمان والسعادة ، مضاء بالنور أصلا، ولا يحتاج إلى تفكيك بغية إعادة بناءه ثانية وفق تطلعات الشاعر وأحلامه الشديدة الإنسانية ، متفتح للأعلى. وبالتالي الكتابة في هذه المساحة قطعا ستبدو تكلفا وتصنعا بعيدة عن حقيقة جوهر الشعر.. أمّا النكد الذي أشار إليه الأصمعي في عبارته السابقة باعتقادي أنها تعني الألم والحزن والقهر والمعاناة ،حسب ما نلحظه من الخبرات الأليمة للشعراء سواء أكانت ذاتية أو ذاكرة جمعيّة تلك التي أنتجت شعرا مدويّا من حيث لا يقصد إحداث الجلبة ، إنما شدة المعاناة و الألم والعذاب الإنساني لفت أنظار البشرية لما تمتلكه من مقدرة للنفاذ في بئر الاخرين العميق معبرة عن ذواتهم الإنسانية بالدرجة الأولى وبطرق آسرة وتثير الجدل في ذات الوقت .. بمعنى تحويل الكثافة/ الظلمة /الشر إلى كشف شفيف وشيء من النور الذي يتكشف تدريجيا نظرا لارتباطه الروحي بما هو ميتافزيائي ، وتجميعه كل مستويات المشاعر في اكتساح المبهم بغية التحقق بالحقيقة ، خارج الضجيج والاستعراض العاطفي أو القيمي أو الاستجداء العاطفي للمنظومة المجتمعيّة . فيكون الشاعر بعد ان تم حالة التفتيت هو مضاء في ماكان عتمة .. وقتها ينداح الشعر .. يقول ابو تمام: ولو كان يفنى الشعر افناه ما قرت حياضك منه في العصور الذواهب ولكنه صوب العقول اذا انجلت سحائب منه اعقبت بسحائب عندما نعرف ان السكون ليس سببا للحركة بل الحركة نتيجة حركة تسبقها ،كما في عمليتي الشهيق والزفير الحياة والموت فان فترة الهدوء او السكون ممكن ان تاتي كهدنة مراجعة بين العمليتين هي التي تسمح باعمق ولوج الى حيث البعيد العميق الخافي وبوعي نيرفاني لذيذ .. فالشهيق يفتت مجرى ما يسمى بلاوعي الافكاراو الخافية محولا اياها اجزاء صغيرة مدوية مضيئة ..أما الزفير فهو لا يعني فقط غازات سامة تعبر المادة /الجسد تذهب الى حال سبيلها ، بل ثمة ديالتكية لطاقات اللاوعي / الخافية تخرج من هذه المادة التي تتفكك صوب الاتجاهات والفضاءات الاخرى ..قد تحمل قناديل صغيرة مشعة تخترق الاخرين وقد توجع
ومن هنا نجد أبرز مثال في الاستحضار لهذه الحالة الشاعر بودلير الذي وصفه النقاد بالجحيمي والمتفرد ، والمدمر لذاته و اتفق على تهمته بكل الصفات السلبية والمرضية الى حد الوضاعة..إلاّ أننا نجده في أزهار الشر يحاول بطريقة مذهلة الاحتراق داخل ظلمته مبتعدا عن الضجيج الذي أحدثه بنفسه للأخرين الذين انشغلوا هم بجحيمه بينما انسل هو بوحدة غير انعزالية متفردة صوب الاحتراق التام ،لكأنه كان يحتاجهم الى تلك اللحظة الخاصة المدوية كي يروح هو الى حيث نقطة مضيئة بعيدة في ذاته بغية تفتيت كل الوجع المكثف وصولا بحالة تقطير ذاتية .. فتتفتح هذه النفس كزهر,.. أزهار الشر ( العطر) لبودلير: سحرٌ عميقٌ يجعلنا في حالة ثمالةٍ وانتشاء في اللحظة الراهنة .لمصيري الذي سيغدو نعيمي, سأنقاد كمن يستسلم لقدره المحتم ضحية طيّعة, محكوماً عليه بريئاً يزيد شغفه بتسعير عذابه.. بالتاكيد الزهور ايضا ذات كبرياء بدليل ان بودلير ليس منقادا صوب الشر انما هاجسه هو التحررمنها وحيث تكمن ملتصقة بالذات بكل جهلها وكثافة لاوعيها ..وعندما تتفتح شروره قطعا تكون قد انتقلت من الكامن الى المتفتت الى المشتعل المضيء الى التحرر وهي الاهم في الحالة الشعرية والسمة الاساس لدى الكائن الحي المنحاز صوب الارتقاء والتطور..
وهكذا يتخلد الشعر ليس بالإثارة والفضائحية ، ولا بالتصفيق والتهليل الشللي ، إنّما بما يتلمسه في طريق ظلمتنا الداخلية ، يأخذنا بصدق شديد للتأمل الذي يعد أحد أهم خطوات التحرر من المادة الكثيفة أي /من الظلمة إلى النور.. فلولا الضغط الشديد ، بهدوء وخارج الضجيج والافتعال على ذرة الكربون في باطن الأرض السحيق المظلم ، لما تحول الفحم الاسود المضغوط الى ماسةً مشعة ، بمعنى فيزيائي وميتافزيائي في آن واحد : أي الظلمة /المادة إلى نور ، ذات الشيء جزيء سر الحياة والإنسان والروح والنفس تماما كما هي مخبوءة في سر الشعر ..
#بريهان_قمق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثمة أمل
-
أغيثوا الدفق من العدم
-
كرنفال استقلال كوسوفو
-
حيفا تحاور الأديبة والشاعرة والإعلامية بريهان قمق
-
أيُّها الجَاثِم
-
بين الظلمة والنور يكمن الشعر
-
جديد ابراهيم نصرالله
-
الكاتب الصحفي نزار جاف يحاور الشاعرة و الاعلامية بريهان قمق
-
أقف مع الحرية
-
لأنّني
-
هذيانات حول يوتوبيا
-
لبنان على مفترق الطرق
-
الثقافة الشركسية بين الخصوصيَّة والعالميَّة
-
كلمة
-
في يوم النكبة .. ثمة بوح
-
بالدمع ننمو ثانية
-
زهرةُ بركانٍ .. تبوح
-
قراءة في كتاب الإنترنت والبحث العلمي للدكتور عباس مصطفى صادق
-
حوار مع الإعلامية والكاتبة بريهان قمق
-
سعد اردش
المزيد.....
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|