أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحق رحيوي - الثورات العربية على ضوء كتاب -سيكولوجية الجماهير- جوستاف لوبون.















المزيد.....



الثورات العربية على ضوء كتاب -سيكولوجية الجماهير- جوستاف لوبون.


عبدالحق رحيوي

الحوار المتمدن-العدد: 4354 - 2014 / 2 / 3 - 21:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الثورات العربية على ضوء كتاب جوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير".
لم يحظى عالم النفس الاجتماعي " غوستاف لوبون "1841 ـ 1931" بتقدير اكاديمي يسمح له بالتدريس داخل أسوار الجامعات الفرنسية، هذا الحظ السيئ كان يطارد كبار العلماء في عصره وخصوصا انشتاين، فإذا كان انشتاين قد جدد فهمنا للعالم، فإن لوبون قدم لنا علما جديدا وفهما جديدا للجماهير من خلال تحليل سيكولوجيتها، انطلاقا من الأحداث الكبرى التي شهدتها الساحة الفرنسية والأروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر.
إن تاريخ الجماهير حديث بحداثة الثورة الفرنسية، لم يكن للجماهير أثرا يذكر في تغير المشهد السياسي المحلي أو العالمي، فعلى مر العصور لم تقوى الجماهير على صنع تاريخ لنفسها، لقد ظلت دائما على الهامش، مطيعة لأميرها كما هي مطيعة لربها، فهما في نظرها مقدسان إذا نقل أنهما شيء واحد في مخيلتها .لقد أسرفت الجماهير كثيرا في عبادة أميرها لكي تدرك في الأخير أن "الأمير الإله" لم يكن سوى خدعة، وأن هذه الطاعة العمياء لابد أن يكتب لها تاريخ الوفاة بوفاتها تكون الجماهير قد عبرت عن نفسها سياسيا. هذا الوعي السياسي الجديد المتمرد والمتولد من روح الفلسفة الأنوارية، انفجر في وجه الاستبداد السياسي بثورتين هزت أركان القصور الأوروبية، وخصوصا الثورة الفرنسية التي كانت أكثر شعبية وجماهيرية وعنفا من الثورة الانجليزية التي لم تأخذ طابعا كونيا في شعاراتها أوأهدافها.
إن ولادة الجماهير مرتبطة بالثورات الشعبية التي شهدتها أوروبا في القرن 18م، لقد أدركت الجماهير بعد الثورة الفرنسية أنها ليست مدشنة لحداثة سياسية وإنما وريثة "لسلطة" كانت متمركزة في يد حاكم مطلق، وبمجرد ما ورثت الجماهير السلطة أصبحت فاعلة في التاريخ السياسي إذ لم نقل صانعته. هذا الدور التاريخي للجماهير، واندفاعها القاتل، وانخداعها المتجدد، دفعت بالعديد من المفكرين والمحللين النفسيين الى الاهتمام بهذه الفئة وبحياتها السيكولوجية، ويعد كتاب "سيكولوجيا الجماهير" الى حد اليوم مفتاحا منيرا لفهم ثقافتها وعقيدتها وكيف تتأثر عاطفيا وتفشل في الفهم عقليا.
إن محاولة فهم سيكولوجية الجماهير بدأت قبل لوبون مع بعض الباحثين الاطاليين، لكن هؤلاء لم يقووا على فهم سيكولوجيتها بقدر ما وصفوا سلوكها فقط، لذلك وصفوهم بالبرابرة الجدد، مادامت ثوراتهم عنيفة ومدمرة.هذا الفهم المحدود للجماهير هو الذي دفع لوبون لبلورة فهم جديد للجماهير ولسيكولوجيتها، باعتبارها جماهير تمتلك وحدة ذهنية " أفكار ومعتقدات..." توحدها، بحيث يختفي مفهوم اختلاف داخل الجماهير، ويصبح الفلاح والمفكر سيان، والغريب في الأمر أن الانضواء داخل الجماهير يفقد المفكر ذاته قواه العقلية، ويتحرك بطريقة لاواعية لأن الوعي دائما فردي. فالجماهير ثائرة ومدمرة وجاهلة، وفي نفس الوقت طيعة وقابلة للترويض والتحكم، سذاجة الجماهير هذه هي التي دفعت لوبون الى طرح سؤال أساسي والذي عمل على تحليله في كتابه هو كيف استطاع الحكام الكبار ترويض الجماهير بهذا الحجم؟.
لو افترضنا أن مفهوم الجماهير حديث الولادة كما يعتقد كل من لوبون وفوكو، فإننا نجد في التاريخ القديم الصورة الأولى للجماهير ويجسدها مفهوم "العامة"، فالعامة هم "كائنات تشترك مع الإنسان في الشكل وتشبه الحيوان في السلوك ونمط الحياة"، وهذا المعنى الذي كان يحمله مفهوم العامة هو نفس المعنى الذي يقدمه لوبون لمفهوم الجماهير. إلا أن الفرق بين العامة والجماهير هو أن الجماهير تتشكل من العامة والخاصة، فالمفكر والعالم ذاته بمجرد ما ينخرط في العمل الجماهيري يفقد خصوصيته ووعيه، فمن خصائص الجماهير أنها لا تفكر، وبمجرد ما ينخرط الفرد تحت رايتها يجد نفسه مثل حبة رمل تتقاذفها الرياح. فعدم قدرة الجماهير على التفكير هو سبب عجزها عن الفهم العقلاني، لذلك وعبر التاريخ الطويل لا نصادف فيلسوفا، أو عالم رياضيات، أو فيزياء كان مصدر إلهام للجماهير وأستطاع أن حاكمها، فقدرها أنها لا تعقل ابدا. من هذا المنطلق يكون من الخطأ أن يحاول السياسي اقناع الجماهير بالوسائل العقلانية لكونها تتأثر فقط بالصور والأحداث الكبرى، فالجماهير تقتنع بالصور والإيحاءات والشعارات والأوامر المفروضة من فوق، حاجة الجماهير الى الأوامر يفسر حاجتها الى زعيم وقائد يدعي قدرته على تحقيق افكارها الطوباوية.
إن فشل الجماهير في الفهم العقلاني للأحداث يجعل منها كائنات سريعة الغضب، مبالغة في العواطف والمشاعر، عاجزة عن النقد وإبداء الرأي. هذا الضعف هو الذي يفسر لنا كيف تتحول الجماهير من النقيض الى النقيض بسرعة البرق تحت تأثير المحرك أو القائد، فهي في أي لحظة ممكن أن تتحول الى جلاد، لكونها صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان، فبمجرد ما يتحرك الحشد يفقد نزعته الأخلاقية. وهذا ما حدث بالضبط مع نابليون في حربه المفتوحة التي حولت كل عشاق فتوحاته الى شهداء في رمشة عين، وتحول نابليون من إمبراطور يبجل ومن بطل خالد الى مجرم في نظر الفرنسين. لكن لكي تفهم الجماهير الفرنسية أن نابليون مجرم قاد ثلاثة مليون جندي للموت المحقق احتاجت الى وقت كبير كان نابليون قد ودع الحياة، لذلك فالجماهير لا تفهم سوى متأخرة عن العلماء والفلاسفة والمفكريين.
هذا الفهم المتأخر للجماهير يكشف عن ضعف قواها العقلية وفي نفس الوقت عن نزعتها الإيمانية، وهذا ما يجعل منها في الغالب جماهير محافظة اكثر مما هي ثورية، فهي بمجرد ما تطيح بديكتاتور تصعد بديكتاتور جديد، فرغبتها في تغيير اسم المؤسسات يخفي رغبتها في الحفاظ على جلاديها، فالحقيقة الثابتة في نظر لوبون هي أن "الجماهير مؤمنة وليس مفكرة، محافظة وليست ثورية".
هذا الضعف الذي يسكن الجماهير فكريا،سياسيا،إراديا، لكونها تفتقد الى الإرادة القوية والدائمة، يجعل منها ضحية قابلة للتحكم فيها، ومن يريد التحكم فيها ينبغي أن يهيج عواطفها الجياشة والعزف على وترها الديني والإنصات الى دقات قلبها، فالخالدون في التاريخ هم الرسل والأنبياء "محمد، عيسى، موسى.." أو من يدعي كذلك أو يدعي أنه يحقق رسالة الله في الأرض التي نصح بها أنبياءه " حملات التبشير المسيحية في القرنين 15 و 16 وقبلها الحركات التوسعية للدولة العباسية والعثمانية" هؤلاء قادوا قطيعا من البشر الى اعدام نصف سكان الكرة الأرضية لكي يؤمن النصف الآخر، جماهير مؤمنة تقتل لكي يؤمن الآخرون بعقيدتهم، سواء كانت العقيدة دينية او اشتراكية كما حدث في بعض البلدان في القرن العشرين.
إن الحاكم الحقيقي في نظر لوبون هو العارف بسيكولوجية الجماهير، هو الذي بإمكانه إقناع الناس لخوض حرب يربحها ويسجلها في التاريخ باسمه، وهذا الإقناع لن يتحصل له إلا من خلال استثمار الدين أو المفاهيم القوية مثل "الحرية، المساواة، والديموقراطية" كشعار للتمكن من قلوب الجماهير. فإذا تملكت قلبها تجدها مستعدة للموت من أجلك وهذا ما قاله نابليون يوما ما " لم استطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت أني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في ايطاليا ولو اتيح لي لكي أحكم شعبا من اليهود لأعدت من جديد بناء معبد سليمان" هذا التدين الظاهري كان كافي ليقاتل الجميع من أجله. لهذا نلاحظ عبر التاريخ تمت الغزوات والحروب باسم الدين وليس باسم الاقتصاد او المال. من هذا المنطلق يكون كل من نابليون، وكينجرخان" قائد المغول"،واسكندر المقدوني، علماء نفس غير واعون ولكن هم كذلك.
كتب لوبون هذا الكتاب في تاريخ لم يسجل التاريخ بعد اسم هتلر أو الحرب العالمية الأولى والثانية، لكن هذا الكتاب يمكن أن يشكل منطلقا ومرجعا لفهم كيف صوت العمال على هتلر وكيف قام هتلر في ظرف وجيز بإعادة بناء ألمانيا واكتساح أوروبا، ما كان لهتلر أن يحقق هذا الإنجاز لولا قدرته على تهييج الجماهير ومن الوسائل التي وظفها هتلر لكسب وجدان الجماهير هي حقده على اليهود باعتبارهم سبب مشاكل اوروبا وألمانيا، اعادة تأسيس ألمانيا على أسس نقية أي دولة تقوم على "بيولوجية العرق"، بالإضافة الى التعريف بفرنسا كأكبر عدو تاريخي لفرنسا ووسائل أخرى كثيرة لا يمكن حصرها .
يبقى الأهم هو أن هتلر مراسل جندية بسيط تحول الى مصدر إلهام لكل الشعب الألماني، فلقد قال يوما ما "أنا نمساوي لكن الدم الذي يجري في عروقي ألماني"، افتخاره بالعرق الألماني وشعار القومية الألمانية، وتأسيسها على أسس عرقية صافية، كانت كافية للنفاذ الى قلب كل ألماني مؤمن بأصالة عرقه وتفوقه التاريخي، ليتحول كل ألماني الى هتلر صغير وهذه النزعة الهتلرية لم ينجى منها حتى كبار المفكرين الألمان سواء عن وعي أو غير وعي ونقصد هنا "هايدغر" المتهم بكونه نازيا على الرغم من أن كل مجلداته لا تضم كلمة تحيل الى انتماءه أو دفاعه عن النازية. مهما يكن الأمر فإن الطبقة العاملة والتي تشكل قاعدة جماهيرية خيبت ظن كل المحللين والمفكرين والمنظرين الماركسيين، لقد صوتت الجماهير والعمال والكادحين بكل تلقائية وعفوية لصالح رجل يفكر في القومية والعقيدة الألمانية، وليس الى حزب اشتراكي يتغنى بالمساواة الاجتماعية ويدعي أنه الأمل الوحيد للطبقة العاملة ومفتاح خلاصها.
هذا التأييد الجماهيري الذي حضي به هتلر ليس أبديا، فالجماهير وبعد نهاية الحرب العالمية، وهزيمة ألمانيا، أدركت أنها مجرد كائنات حالمة في لحظة اللاوعي راودها عن نفسها رجل مؤمن بقضية أكبر منه، فبمجرد ما اشرقت الدبابات الفرنسية، والطائرات الأمريكية، على سماء وأزقة برلين، حتى بدأت الجماهير تستيقظ من كبوتها لتعلن بعد سقوط برلين عن حقدها لهتلر بل أصبحت تتحاشى ذكر هذا الاسم، لكنها لم تستيقظ ولم تفهم سوى متأخرة وهذا قدر الجماهير دائما.
قدرة تحريض الجماهير وتهييجها أمر سهل على من يفهم عقليتها ويخاطب عاطفتها، فالتأييد الجماهيري الذي حظي به " جمال عبدالناصر" كان في أساسه قائم على شعارات كبيرة جدا تبناها والتي كانت تشكل في الأصل شعارات الجماهير في تلك المرحلة، تتمثل في تأسيس القومية العربية، وتدمير اسرائيل والحقد على أمريكا والغرب. وهذه الشعارات كلها تستمد جذورها من الدين الإسلامي، تطابق شعارات عبدالناصر والدين الاسلامي، كان كافيا ليكسب قلوب كل الجماهير المتعطشة للقومية العربية والعداء لإسرائيل. وفي الحقيقة هذين المطلبين غير معقولين نظرا للإمكانات المحدودة للمصر والتخلف التاريخي للأمة العربية عن الحضارة الغربية وترسانتها العسكرية ومخططاتها الإستخباراتية.
لقد كانت لعبد الناصر قدرة كبير على كسب قلوب الفقراء مصر رغم ديكتاتوريته، فإنه كان يوفر لهم شعارات كبيرة جدا قادرة على تغذية مخيلتهم على أمد بعيد، رغبة جمال عبدالناصر في توحيد الأمة العربية يكون هو زعيمها، زرع الرعب في كل الأنظمة العربية، لقد كانت سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات السنوات الأكثر عاصفة لكل القصور العربية حيث بدأت تشعر بخطر داخلي وخارجي يسعى للإطاحة بها، لكن هذا المخطط لم يكن جماهيريا بل كان فرديا قاده رجال الجيش من داخل الكتائب العسكرية وهذا السيناريو من الجيش الى السلطة، عرفته دول كثيرة، ورجال كبار، من عبدالناصر مرورا بأنور السادات، وصولا الى حسني مبارك في مصر، وكذلك كل من القذافي في ليبيا، وبنعلي في تونس، وفشل أوفقير في المغرب، ونجاح صدام في العراق. لم تكن هذه الثورات مثمرة على مستوى التقدم نحو الديموقراطية، لأنها لم تكن شعبية. وهذا ما أخر ظهور الجماهير في الساحة العربية.
اذا كانت أوروبا شهدت صعود الجماهير بشكل قوي منذ الثورة الفرنسية، فإن ظهورها في البلدان العربية تأخر الى سنة 2011 م، وهذا يعكس التأخر التاريخي للدول العربية بحوالي قرنين عن التجربة الثورية للدول الغربية، هذه الحركة الجماهيرية في حاجة الى التحليل والدراسة ويظهر منذ البداية أن لوبون لم يسيء فهمه للجماهير أبدا.
لم يكن أحدا يتوقع صعود الجماهير الى المشهد السياسي العربي، لكن العفوية التي تتميز بها الجماهير وسرعة انفعالاها، لا يسمح دائما بتوقع حركاتها. وهذا ما حدث في تونس في لحظة وجيزة تحول الحشد الى جمهور لأن الجمهور يتطلب بالضرورة وحدة ذهنية فالجماهير دائما في حاجة الى ما يوحدها، ووجدت الجماهير التونسية في انتحار البوعزيزي ما يوحدها، فانتفضت في وجه بن علي وأجبرته على الرحيل قصرا الى خارج الحدود، ومن أهم الأسباب التي أدت الى اندلاع الثورة بقوة هي وسائل الاعلام التي وظفت صورة احراق البوعزيزي وكانت هذه الصور أكثر فاعلية في قلوب الثوار.
كما تأثرت الجماهير في تونس بصورة احراق البوعزيزي لذاته، تأثرت الجماهير العربية في الدول المجاورة بصورة الجماهير التونسية وهي تحتفل بانتصارها وطردها للديكتاتور بن علي. كان من الصعب جدا منذ سنوات السبعينات التي شهدت صعود فكر اليساري اقناع الجماهير العربية عقليا بقيام ثورة اجتماعية لكن من السهل جدا التأثير في الجماهير بالصور وهذا بالفعل ما حدث، فالتغطية اليومية لأحداث الجماهير في تونس أدى مباشرة الى خروج الجماهير في المغرب وليبيا ومصر وجزائر واليمن والكويت ومن بعد سوريا، وهذا الحدث يذكرنا كيف استطاع جورح بوش كسب تأييد جماهيري كبير انطلاقا من الصورة التي تجسد اختراق الطائرات لبرج التجارة العالمية، بما أن التجارة هي عصب الدولة فإن هدم ابراج التجارة ولد في نفسية الجماهير حقدا شديدا، وبدون وعي أيدت جورج بوش في حربه على الارهاب. كذلك انتظرت الجماهير" الأمريكية" كثيرا لكي تفهم أن الطائرات لم تكن طائرات اسامة بلادن، بل فقط قادمة من جنوب فلوريدا دمرت وسط أمريكا وعصبها الحضاري.
أكثر الجماهير تأثرا بأحداث تونس هي الأقرب إليها، ونقصد ليبيا لقد تحركت الجماهير في ليبيا بطريقة أكثر عفوية لكن أكثر دموية وعنف، لقد خرجت الجماهير من أجل تحقيق الديموقراطية والمساواة. وهذا مطلب انساني وكوني لكن الجماهير تفقد نزعتها الأخلاقية بمجرد ما تتحرك بشكل جماعي. فقتل القذافي بطريقة وحشية يعكس عدم وعي الجماهير بقيم التي أصلا خرجت من أجلها، ففعل القتل غير إنساني ومحزن لكن قتل القذافي يشكل مصدرا للفرح والسرور والرقص لقد رقص الليبيون على قطرات دم القدافي، وهذا يعكس لاوعي الجماهير وعنفها. ونفس المشهد كان قد تكرر مرارا في المغرب في عهد الاستعمار ومن قرأ رواية محمد شكري "زمن الأخطاء" و "الشطار" يعرف كيف اقتات الجماهير من عبد باشا العرائش الذي أجج غضب الفلاحين لنزعته الاسبانية، رغم فرار الباشا الى اسبانيا قتلت الجماهير عبده ومثلت بجثته وزغردت النساء احتفالا بموت عبد لم يساهم لا في تخلف المغرب ولا تقدمه ولا في استعماره.
لقد نجحت على الأقل الثورة في تغيير اسم الحاكم في كل من تونس وليبيا، وهذا ما نجحت فيه مصر كذلك، لقد سقط حسني مبارك وفتح المجال للصراع السياسي الذي كان قد غاب بفعل الجلوس الدائم على العرش، هذا المصير كان قدر الرئيس اليمني" علي عبدالله صالح" ولازال أمل الجماهير في أن لا يحيد مصير بشار الأسد عن هؤلاء.
خرجت الجماهير في الدول العربية دون تخطيط، بل بشكل عفوي وتلقائي ناتج عن تأثر الجماهير بالصور اليومية التي كانت لا تفارق قنوات الاعلام الدولية، فقد كان من السهل تحريك الجماهير من خلال رفع شعارات دينية أو اشتراكية فلقد وجدت الجماهير الحالمة في هذه الشعارات أملا للحياة، حتى لو كانت واهمة أو زائفة، فلا يهم لكنها تظل شعارات مؤثرة وأكبر شعار مؤثر هو "الربيع العربي"، فالربيع دليل على الحياة، وعلى النضج والانفتاح، وعلى الأمل. هذا الاسم الرنان خلف أثرا في قلوب الجماهير فخرجت الى الشارع للاحتجاج مثلما تخرج للاستمتاع بربيع أبريل، لكن الربيع لم يزهر في عقول الجماهير بل كان الربيع رومانسيا وبما أن للعشق زمن سيكولوجي قصير كذلك كان عمر الربيع العربي في بعض البلدان كذلك.
لقد خرجت الجماهير من أجل الحرية والديموقراطية، وهو مطلب إنساني وقانوني، وكان هذا من المفروض أن يقود الى صعود الحركات العلمانية والمد الاشتراكي الى الحكم، لكن كل هذا لم يحدث، فالجماهير على المستوى الذهني مسكونة بهاجس ديني. وربما النزعة الدينية للجماهير هي سبب الرئيسي في فشل الحركات اليسارية في الدول العربية ما بعد مرحلة "الاستعمار". فكان كافي جدا أن يتم احلال "الحزب الشيوعي المغربي"من خلال اتهامه لتبنيه أفكارا لا دينية وخصوصا أن من قادته يهودي معروف هو "ابراهام السرفاتي"، فبدلا من أن ينتهي المطاف بقيادي الحركات اليسارية في المغرب وباقي الدول العربية في سدة الحكم انتهي بهم الأمر في السجن، دون أن يثير غضب الجماهير لأنهم في نظرها مخلوقات لا دينية تستحق الموت.
الشعار الذي ساد في مرحلة الاستعمار من شرق الوطن العربي الى مغربه هو "مبغيناش يحكمونا النصارى" لم يكن يعرف المواطن العربي كلمة مستعمر أو فرنسي أو أجنبي أو مقيم، فكل هؤلاء يختزلهم في كلمة واحدة هم "النصارى" وللنصارى معنى قدحي في مخيلة الجمهور العربي، فهم اعداء الله والرسل ولذلك وجب طردهم، فأحسن رجل سياسة وحتى وإن كان لا يوجد إن كان نصرانيا فلن يرضى به المواطن العربي، حتى لو كان قادرا على ضمان الحرية والكرامة التي فشل الحكام العرب في تحقيقها.
لقد وجدت الجماهير في الحركات الإسلامية أملها، وخاب ظن الحركات اليسارية في الجماهير‘وهذه نتجية منطقية في نظر لوبون. فصعود الحركات الاسلامية الى الحكم عادي جدا نظرا للتركيبة الدينية والعرقية للجماهير، فاستثمار الشعارات الدينية كان كافي جدا لتحريك الجماهير التي كانت ترى في حكامها السابقين رجال "مطيعون للغرب ويهود.."، ووجدوا في أصحاب اللحي الطويلة المهدي المنتظر. فالجماهير في حاجة دائما الى حاكم يؤمن بدينها، هذا ما يفسر البروتوكول الصارم للحكام العرب عبر التاريخهم، فالتزامهم الديني وحرصهم على عقيدة شعوبهم على المستوى الاعلامي يشكل مفتاحا لضمان حياتهم السياسية المشبعة بالترف. فالجماهير لا تميز بين الحاكم المحنك العالم بشئون السياسة، ورجل يلبس عمامة ويحفظ آيات من الذكر الحكيم، فالثاني في نظرها أفضل للحكم من الأول. وهذا الأساس الديني قامت عليه حركة الإخوان المسلمين في مصر فهي لم تكف في كل خطاباتها عن القول أن مرسي أول رئيس مصري حافظ للقرآن، لكن كان ينبغي عليه أولا أن يحفظ كتاب "الأمير".
مهما يكن جاء الربيع وجاءت الرياح، لكن رياح الجماهير تفتقد الى الاستمرارية نظرا لضعف قدرتها، ففشل الجماهير في بلدان مثل المغرب والجزائر والكويت يعود بالدرجة الأولى الى التركيبة الذهنية المعقدة، بالإضافة الى ذلك افتقدت الجماهير في هذا البلدان الى شعارات رسمية ممكن تبينها. لقد خرج عشرات من الناس ولكن بأفكار مختلفة، ومطالب مختلفة، وقيادات مختلفة وغير مؤثرة. هذا الشتات لم يسمح بظهور جماهير متجانسة في هذا البلدان عندما تفتقد الجماهير الى الوحدة الذهنية والعرقية يضعف عملها وهذا ما عجل بذبول الحركة الجماهيرية في هذه البلدان، كما أجج من جهة أخرى الصراع داخل مصر بعد رحيل مبارك فالتعدد العرقي والديني في صفوف الجماهير يضعف عملها، فبدلا من أن تتوحد الجماهير للعمل أكثر والدفاع عن الثورة، فإنها وجدت نفسها ممزقة ومتعددة الاختيارات على المستوى السياسي. قبل الثورة كان يوحدها هاجس اسقاط مبارك وبعد مبارك فرقها من يجب أن يحكم بعده.
يبقى للجماهير الحق في الاختيار بعد أن اكتسبت القدرة على التمرد، وإذا ما انطلقنا من وضع مصر ما بعد الثورة، فإننا نكشف عن الوجه الحقيقي لعمل الجماهير، فالجماهير التي خرجت مطالبة بإسقاط حسني صعدت بمرسي، فهي انتقلت من النقيض الى النقيض والآن تبحث عن نقيض آخر لمرسي وقد تجد في الحركات اليسارية أو الجيش أي نقيض مرسي، فعادي جدا في نظر لوبون أن ترتد الجماهير عن ثوراتها فهي الآن كما هو مسجل في مصر الثورة على الثورة وهذا يفسر الطابع المحافظ للجماهير.
تعمل الجماهير كما تعمل الرياح، فهي عندما تهب لا تمييز بين الأشياء والأشخاص، خرجت فدمرت وقتلت وسلبت وندمت على ذلك أحيانا وهذا ما حدث في عهد صدام، لقد أعدم صدام وشكل اعدامه ميلادا جديدا للعراق هذا على الأقل ما اعتقدت في الجماهير وفرحت بذلك أي فرح وتحالفت مع أمريكا التي أوهمت الجماهير العراقية بحرية أبدية. لكن فجأة غابت الحرية والديموقراطية والأمن والتعليم والصحة، فأصبحت الجماهير اليوم تبحث عن صدام جديد ولو تطلب شراءه ذهبا، فعلى الأقل ديكتاتور جلب للعراق الاحترام الدولي ولا عراق ممزق يستحيل أن يولد من جديد لقد تحققت نبوءة حافظ الأسد لما قال يوما ما لبوش الأب ناصحا إياه بعدم احتلال العراق من أجل الدفاع عن الكويت " إن دخلتم الى العراق يستحيل الخروج منها". لقد خرجت أمريكا من العرقية ولم تخرج من العراق لأن العراق لم تعد موجودة بعد موت صدام، حاجة الجماهير الى العراق يفسر حنينهم الى صدام حتى ولو كان ديكتاتورا فغالبا ما تندم الجماهير وتكشف أن أفعالها في الغالب هي مجرد مراهقة سياسية تخسر فيها حبيبها الأول.
لم تخسر الجماهير العربية أي شيء كما لم تكسب سوى قدرتها على الاحتجاج، هذه القدرة التي افتقدتها خصوصا في السنوات الأخيرة، قدرتها على الاحتجاج يعكس عدم قدرتها على صبر فهي لم تصبر لا على مرسي ولا على أي رئيس الجديد فهي ثائرة ومرتدة عن الثورة، لكن ثوراتها لم تكن عنيفة الى حد ممكن أن يسمح بميلاد ديموقراطية جذرية، ستبقى الجماهير العربية في حاجة الى ثورات عنيفة لكي تتعلم منها درس الحرية والديموقراطية، ما يمكن أن تسفر عنه الثورة السورية في المستقبل سواء نجح بشار أو المعارضة ديموقراطية أكثر من أي ديموقراطية صاعدة في الدول السابقة في نظري المتواضع. فكلما كانت الثورات عنيفة تتولد منها ديموقراطية واعية، من قلب الحربين عالميتين مدمرتين خرج لنا اتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وعسكرية، يستحيل أن تدخل أوروبا في حرب جديدة لأنها تعلمت جيدا من درس الحربين.
ما يمكن أن نخلص إليه هو أن جماهير قوة فعالة في الاطاحة بالأنظمة، ومنفعلة في اختيار البدائل، وغير قادرة على الصبر فحاجتها الى تغيير المؤسسات لا يخفي عقليتها المحافظة، كما أن تغيير المؤسسات غير كافي للوصول الى ديموقراطية حقيقة فالبرلمان يوجد في الدول المتخلفة كما يوجد في الدول المتقدمة لكن عملها ووعيها يختلف، فتغيير الدستور في المغرب ومصر وليبيا غير كافي لإنشاء ديموقراطية حقيقية لأن الجماهير غير مؤهلة سيكولوجيا للتغير في لحظة وجيزة، لا يمكن أن ننتقل من الاستبداد الى الحرية بتغيير اسم مؤسسة أو اسم حاكم دون تغيير عقلية الجماهير، تغيير عقلية الجماهير هذا هو أمل كل عربي في المستقبل القريب أو أن تكون الجماهير واعية بدورها التاريخي ومسؤولة عن تصرفاتها غير المسؤولة والمدمرة ونزعتها المحافظة والاعتقادية.
يستطيع القارئ أن يجد في كتاب "سيكولوجيا الجماهير" مرجعا أصيلا لفهم حركات التمرد العربية والعالمية، لقد استطاع لوبون النفاذ الى البنية النفسية والذهنية للجماهير والكشف عن أفكارها وعقائدها غير الواعية، وعن نفسيتها الهشة والمنفعلة. فبقدر ما تشكل الجماهير قوة فعالة تشكل قوة منفعلة قابلة للترويض" إن الجماهير ثور ولكن قابل للترويض والتلاعب به" وهذا ما حدث على مر التاريخ. بهذا يكون لوبون قد كشف لنا عن نفسية الجماهير وعن نقاط ضعفها وقوتها، وقدم للحكام مفاتيح للتلاعب بالشعوب والتحكم فيها، وهذا ما قاله لوبون نفسه يوما ما " لقد أصبح الفكر السياسي لميكيافيللي كلاسيكيا لكن لم يحاول أحد تطوريه" لذك حاول أن يطوره ورأى في نفسه مكيافيللي جديد وحاول تجديد فكره السياسي وقدم لنا نظرية "سيكوسياسية" في القرن العشرين، لكن والى الأبد لا ذنب للعنب بما فعله النبيذ ولا ذنب لميكيافيللي بما فعل الحكام بشعوبهم.




عبدالحق رحيوي مدرس الفلسفة تاونات المغرب






























الثورات العربية على ضوء كتاب جوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير".
لم يحظى عالم النفس الاجتماعي " غوستاف لوبون "1841 ـ 1931" بتقدير اكاديمي يسمح له بالتدريس داخل أسوار الجامعات الفرنسية، هذا الحظ السيئ كان يطارد كبار العلماء في عصره وخصوصا انشتاين، فإذا كان انشتاين قد جدد فهمنا للعالم، فإن لوبون قدم لنا علما جديدا وفهما جديدا للجماهير من خلال تحليل سيكولوجيتها، انطلاقا من الأحداث الكبرى التي شهدتها الساحة الفرنسية والأروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر.
إن تاريخ الجماهير حديث بحداثة الثورة الفرنسية، لم يكن للجماهير أثرا يذكر في تغير المشهد السياسي المحلي أو العالمي، فعلى مر العصور لم تقوى الجماهير على صنع تاريخ لنفسها، لقد ظلت دائما على الهامش، مطيعة لأميرها كما هي مطيعة لربها، فهما في نظرها مقدسان إذا نقل أنهما شيء واحد في مخيلتها .لقد أسرفت الجماهير كثيرا في عبادة أميرها لكي تدرك في الأخير أن "الأمير الإله" لم يكن سوى خدعة، وأن هذه الطاعة العمياء لابد أن يكتب لها تاريخ الوفاة بوفاتها تكون الجماهير قد عبرت عن نفسها سياسيا. هذا الوعي السياسي الجديد المتمرد والمتولد من روح الفلسفة الأنوارية، انفجر في وجه الاستبداد السياسي بثورتين هزت أركان القصور الأوروبية، وخصوصا الثورة الفرنسية التي كانت أكثر شعبية وجماهيرية وعنفا من الثورة الانجليزية التي لم تأخذ طابعا كونيا في شعاراتها أوأهدافها.
إن ولادة الجماهير مرتبطة بالثورات الشعبية التي شهدتها أوروبا في القرن 18م، لقد أدركت الجماهير بعد الثورة الفرنسية أنها ليست مدشنة لحداثة سياسية وإنما وريثة "لسلطة" كانت متمركزة في يد حاكم مطلق، وبمجرد ما ورثت الجماهير السلطة أصبحت فاعلة في التاريخ السياسي إذ لم نقل صانعته. هذا الدور التاريخي للجماهير، واندفاعها القاتل، وانخداعها المتجدد، دفعت بالعديد من المفكرين والمحللين النفسيين الى الاهتمام بهذه الفئة وبحياتها السيكولوجية، ويعد كتاب "سيكولوجيا الجماهير" الى حد اليوم مفتاحا منيرا لفهم ثقافتها وعقيدتها وكيف تتأثر عاطفيا وتفشل في الفهم عقليا.
إن محاولة فهم سيكولوجية الجماهير بدأت قبل لوبون مع بعض الباحثين الاطاليين، لكن هؤلاء لم يقووا على فهم سيكولوجيتها بقدر ما وصفوا سلوكها فقط، لذلك وصفوهم بالبرابرة الجدد، مادامت ثوراتهم عنيفة ومدمرة.هذا الفهم المحدود للجماهير هو الذي دفع لوبون لبلورة فهم جديد للجماهير ولسيكولوجيتها، باعتبارها جماهير تمتلك وحدة ذهنية " أفكار ومعتقدات..." توحدها، بحيث يختفي مفهوم اختلاف داخل الجماهير، ويصبح الفلاح والمفكر سيان، والغريب في الأمر أن الانضواء داخل الجماهير يفقد المفكر ذاته قواه العقلية، ويتحرك بطريقة لاواعية لأن الوعي دائما فردي. فالجماهير ثائرة ومدمرة وجاهلة، وفي نفس الوقت طيعة وقابلة للترويض والتحكم، سذاجة الجماهير هذه هي التي دفعت لوبون الى طرح سؤال أساسي والذي عمل على تحليله في كتابه هو كيف استطاع الحكام الكبار ترويض الجماهير بهذا الحجم؟.
لو افترضنا أن مفهوم الجماهير حديث الولادة كما يعتقد كل من لوبون وفوكو، فإننا نجد في التاريخ القديم الصورة الأولى للجماهير ويجسدها مفهوم "العامة"، فالعامة هم "كائنات تشترك مع الإنسان في الشكل وتشبه الحيوان في السلوك ونمط الحياة"، وهذا المعنى الذي كان يحمله مفهوم العامة هو نفس المعنى الذي يقدمه لوبون لمفهوم الجماهير. إلا أن الفرق بين العامة والجماهير هو أن الجماهير تتشكل من العامة والخاصة، فالمفكر والعالم ذاته بمجرد ما ينخرط في العمل الجماهيري يفقد خصوصيته ووعيه، فمن خصائص الجماهير أنها لا تفكر، وبمجرد ما ينخرط الفرد تحت رايتها يجد نفسه مثل حبة رمل تتقاذفها الرياح. فعدم قدرة الجماهير على التفكير هو سبب عجزها عن الفهم العقلاني، لذلك وعبر التاريخ الطويل لا نصادف فيلسوفا، أو عالم رياضيات، أو فيزياء كان مصدر إلهام للجماهير وأستطاع أن حاكمها، فقدرها أنها لا تعقل ابدا. من هذا المنطلق يكون من الخطأ أن يحاول السياسي اقناع الجماهير بالوسائل العقلانية لكونها تتأثر فقط بالصور والأحداث الكبرى، فالجماهير تقتنع بالصور والإيحاءات والشعارات والأوامر المفروضة من فوق، حاجة الجماهير الى الأوامر يفسر حاجتها الى زعيم وقائد يدعي قدرته على تحقيق افكارها الطوباوية.
إن فشل الجماهير في الفهم العقلاني للأحداث يجعل منها كائنات سريعة الغضب، مبالغة في العواطف والمشاعر، عاجزة عن النقد وإبداء الرأي. هذا الضعف هو الذي يفسر لنا كيف تتحول الجماهير من النقيض الى النقيض بسرعة البرق تحت تأثير المحرك أو القائد، فهي في أي لحظة ممكن أن تتحول الى جلاد، لكونها صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان، فبمجرد ما يتحرك الحشد يفقد نزعته الأخلاقية. وهذا ما حدث بالضبط مع نابليون في حربه المفتوحة التي حولت كل عشاق فتوحاته الى شهداء في رمشة عين، وتحول نابليون من إمبراطور يبجل ومن بطل خالد الى مجرم في نظر الفرنسين. لكن لكي تفهم الجماهير الفرنسية أن نابليون مجرم قاد ثلاثة مليون جندي للموت المحقق احتاجت الى وقت كبير كان نابليون قد ودع الحياة، لذلك فالجماهير لا تفهم سوى متأخرة عن العلماء والفلاسفة والمفكريين.
هذا الفهم المتأخر للجماهير يكشف عن ضعف قواها العقلية وفي نفس الوقت عن نزعتها الإيمانية، وهذا ما يجعل منها في الغالب جماهير محافظة اكثر مما هي ثورية، فهي بمجرد ما تطيح بديكتاتور تصعد بديكتاتور جديد، فرغبتها في تغيير اسم المؤسسات يخفي رغبتها في الحفاظ على جلاديها، فالحقيقة الثابتة في نظر لوبون هي أن "الجماهير مؤمنة وليس مفكرة، محافظة وليست ثورية".
هذا الضعف الذي يسكن الجماهير فكريا،سياسيا،إراديا، لكونها تفتقد الى الإرادة القوية والدائمة، يجعل منها ضحية قابلة للتحكم فيها، ومن يريد التحكم فيها ينبغي أن يهيج عواطفها الجياشة والعزف على وترها الديني والإنصات الى دقات قلبها، فالخالدون في التاريخ هم الرسل والأنبياء "محمد، عيسى، موسى.." أو من يدعي كذلك أو يدعي أنه يحقق رسالة الله في الأرض التي نصح بها أنبياءه " حملات التبشير المسيحية في القرنين 15 و 16 وقبلها الحركات التوسعية للدولة العباسية والعثمانية" هؤلاء قادوا قطيعا من البشر الى اعدام نصف سكان الكرة الأرضية لكي يؤمن النصف الآخر، جماهير مؤمنة تقتل لكي يؤمن الآخرون بعقيدتهم، سواء كانت العقيدة دينية او اشتراكية كما حدث في بعض البلدان في القرن العشرين.
إن الحاكم الحقيقي في نظر لوبون هو العارف بسيكولوجية الجماهير، هو الذي بإمكانه إقناع الناس لخوض حرب يربحها ويسجلها في التاريخ باسمه، وهذا الإقناع لن يتحصل له إلا من خلال استثمار الدين أو المفاهيم القوية مثل "الحرية، المساواة، والديموقراطية" كشعار للتمكن من قلوب الجماهير. فإذا تملكت قلبها تجدها مستعدة للموت من أجلك وهذا ما قاله نابليون يوما ما " لم استطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت أني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في ايطاليا ولو اتيح لي لكي أحكم شعبا من اليهود لأعدت من جديد بناء معبد سليمان" هذا التدين الظاهري كان كافي ليقاتل الجميع من أجله. لهذا نلاحظ عبر التاريخ تمت الغزوات والحروب باسم الدين وليس باسم الاقتصاد او المال. من هذا المنطلق يكون كل من نابليون، وكينجرخان" قائد المغول"،واسكندر المقدوني، علماء نفس غير واعون ولكن هم كذلك.
كتب لوبون هذا الكتاب في تاريخ لم يسجل التاريخ بعد اسم هتلر أو الحرب العالمية الأولى والثانية، لكن هذا الكتاب يمكن أن يشكل منطلقا ومرجعا لفهم كيف صوت العمال على هتلر وكيف قام هتلر في ظرف وجيز بإعادة بناء ألمانيا واكتساح أوروبا، ما كان لهتلر أن يحقق هذا الإنجاز لولا قدرته على تهييج الجماهير ومن الوسائل التي وظفها هتلر لكسب وجدان الجماهير هي حقده على اليهود باعتبارهم سبب مشاكل اوروبا وألمانيا، اعادة تأسيس ألمانيا على أسس نقية أي دولة تقوم على "بيولوجية العرق"، بالإضافة الى التعريف بفرنسا كأكبر عدو تاريخي لفرنسا ووسائل أخرى كثيرة لا يمكن حصرها .
يبقى الأهم هو أن هتلر مراسل جندية بسيط تحول الى مصدر إلهام لكل الشعب الألماني، فلقد قال يوما ما "أنا نمساوي لكن الدم الذي يجري في عروقي ألماني"، افتخاره بالعرق الألماني وشعار القومية الألمانية، وتأسيسها على أسس عرقية صافية، كانت كافية للنفاذ الى قلب كل ألماني مؤمن بأصالة عرقه وتفوقه التاريخي، ليتحول كل ألماني الى هتلر صغير وهذه النزعة الهتلرية لم ينجى منها حتى كبار المفكرين الألمان سواء عن وعي أو غير وعي ونقصد هنا "هايدغر" المتهم بكونه نازيا على الرغم من أن كل مجلداته لا تضم كلمة تحيل الى انتماءه أو دفاعه عن النازية. مهما يكن الأمر فإن الطبقة العاملة والتي تشكل قاعدة جماهيرية خيبت ظن كل المحللين والمفكرين والمنظرين الماركسيين، لقد صوتت الجماهير والعمال والكادحين بكل تلقائية وعفوية لصالح رجل يفكر في القومية والعقيدة الألمانية، وليس الى حزب اشتراكي يتغنى بالمساواة الاجتماعية ويدعي أنه الأمل الوحيد للطبقة العاملة ومفتاح خلاصها.
هذا التأييد الجماهيري الذي حضي به هتلر ليس أبديا، فالجماهير وبعد نهاية الحرب العالمية، وهزيمة ألمانيا، أدركت أنها مجرد كائنات حالمة في لحظة اللاوعي راودها عن نفسها رجل مؤمن بقضية أكبر منه، فبمجرد ما اشرقت الدبابات الفرنسية، والطائرات الأمريكية، على سماء وأزقة برلين، حتى بدأت الجماهير تستيقظ من كبوتها لتعلن بعد سقوط برلين عن حقدها لهتلر بل أصبحت تتحاشى ذكر هذا الاسم، لكنها لم تستيقظ ولم تفهم سوى متأخرة وهذا قدر الجماهير دائما.
قدرة تحريض الجماهير وتهييجها أمر سهل على من يفهم عقليتها ويخاطب عاطفتها، فالتأييد الجماهيري الذي حظي به " جمال عبدالناصر" كان في أساسه قائم على شعارات كبيرة جدا تبناها والتي كانت تشكل في الأصل شعارات الجماهير في تلك المرحلة، تتمثل في تأسيس القومية العربية، وتدمير اسرائيل والحقد على أمريكا والغرب. وهذه الشعارات كلها تستمد جذورها من الدين الإسلامي، تطابق شعارات عبدالناصر والدين الاسلامي، كان كافيا ليكسب قلوب كل الجماهير المتعطشة للقومية العربية والعداء لإسرائيل. وفي الحقيقة هذين المطلبين غير معقولين نظرا للإمكانات المحدودة للمصر والتخلف التاريخي للأمة العربية عن الحضارة الغربية وترسانتها العسكرية ومخططاتها الإستخباراتية.
لقد كانت لعبد الناصر قدرة كبير على كسب قلوب الفقراء مصر رغم ديكتاتوريته، فإنه كان يوفر لهم شعارات كبيرة جدا قادرة على تغذية مخيلتهم على أمد بعيد، رغبة جمال عبدالناصر في توحيد الأمة العربية يكون هو زعيمها، زرع الرعب في كل الأنظمة العربية، لقد كانت سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات السنوات الأكثر عاصفة لكل القصور العربية حيث بدأت تشعر بخطر داخلي وخارجي يسعى للإطاحة بها، لكن هذا المخطط لم يكن جماهيريا بل كان فرديا قاده رجال الجيش من داخل الكتائب العسكرية وهذا السيناريو من الجيش الى السلطة، عرفته دول كثيرة، ورجال كبار، من عبدالناصر مرورا بأنور السادات، وصولا الى حسني مبارك في مصر، وكذلك كل من القذافي في ليبيا، وبنعلي في تونس، وفشل أوفقير في المغرب، ونجاح صدام في العراق. لم تكن هذه الثورات مثمرة على مستوى التقدم نحو الديموقراطية، لأنها لم تكن شعبية. وهذا ما أخر ظهور الجماهير في الساحة العربية.
اذا كانت أوروبا شهدت صعود الجماهير بشكل قوي منذ الثورة الفرنسية، فإن ظهورها في البلدان العربية تأخر الى سنة 2011 م، وهذا يعكس التأخر التاريخي للدول العربية بحوالي قرنين عن التجربة الثورية للدول الغربية، هذه الحركة الجماهيرية في حاجة الى التحليل والدراسة ويظهر منذ البداية أن لوبون لم يسيء فهمه للجماهير أبدا.
لم يكن أحدا يتوقع صعود الجماهير الى المشهد السياسي العربي، لكن العفوية التي تتميز بها الجماهير وسرعة انفعالاها، لا يسمح دائما بتوقع حركاتها. وهذا ما حدث في تونس في لحظة وجيزة تحول الحشد الى جمهور لأن الجمهور يتطلب بالضرورة وحدة ذهنية فالجماهير دائما في حاجة الى ما يوحدها، ووجدت الجماهير التونسية في انتحار البوعزيزي ما يوحدها، فانتفضت في وجه بن علي وأجبرته على الرحيل قصرا الى خارج الحدود، ومن أهم الأسباب التي أدت الى اندلاع الثورة بقوة هي وسائل الاعلام التي وظفت صورة احراق البوعزيزي وكانت هذه الصور أكثر فاعلية في قلوب الثوار.
كما تأثرت الجماهير في تونس بصورة احراق البوعزيزي لذاته، تأثرت الجماهير العربية في الدول المجاورة بصورة الجماهير التونسية وهي تحتفل بانتصارها وطردها للديكتاتور بن علي. كان من الصعب جدا منذ سنوات السبعينات التي شهدت صعود فكر اليساري اقناع الجماهير العربية عقليا بقيام ثورة اجتماعية لكن من السهل جدا التأثير في الجماهير بالصور وهذا بالفعل ما حدث، فالتغطية اليومية لأحداث الجماهير في تونس أدى مباشرة الى خروج الجماهير في المغرب وليبيا ومصر وجزائر واليمن والكويت ومن بعد سوريا، وهذا الحدث يذكرنا كيف استطاع جورح بوش كسب تأييد جماهيري كبير انطلاقا من الصورة التي تجسد اختراق الطائرات لبرج التجارة العالمية، بما أن التجارة هي عصب الدولة فإن هدم ابراج التجارة ولد في نفسية الجماهير حقدا شديدا، وبدون وعي أيدت جورج بوش في حربه على الارهاب. كذلك انتظرت الجماهير" الأمريكية" كثيرا لكي تفهم أن الطائرات لم تكن طائرات اسامة بلادن، بل فقط قادمة من جنوب فلوريدا دمرت وسط أمريكا وعصبها الحضاري.
أكثر الجماهير تأثرا بأحداث تونس هي الأقرب إليها، ونقصد ليبيا لقد تحركت الجماهير في ليبيا بطريقة أكثر عفوية لكن أكثر دموية وعنف، لقد خرجت الجماهير من أجل تحقيق الديموقراطية والمساواة. وهذا مطلب انساني وكوني لكن الجماهير تفقد نزعتها الأخلاقية بمجرد ما تتحرك بشكل جماعي. فقتل القذافي بطريقة وحشية يعكس عدم وعي الجماهير بقيم التي أصلا خرجت من أجلها، ففعل القتل غير إنساني ومحزن لكن قتل القذافي يشكل مصدرا للفرح والسرور والرقص لقد رقص الليبيون على قطرات دم القدافي، وهذا يعكس لاوعي الجماهير وعنفها. ونفس المشهد كان قد تكرر مرارا في المغرب في عهد الاستعمار ومن قرأ رواية محمد شكري "زمن الأخطاء" و "الشطار" يعرف كيف اقتات الجماهير من عبد باشا العرائش الذي أجج غضب الفلاحين لنزعته الاسبانية، رغم فرار الباشا الى اسبانيا قتلت الجماهير عبده ومثلت بجثته وزغردت النساء احتفالا بموت عبد لم يساهم لا في تخلف المغرب ولا تقدمه ولا في استعماره.
لقد نجحت على الأقل الثورة في تغيير اسم الحاكم في كل من تونس وليبيا، وهذا ما نجحت فيه مصر كذلك، لقد سقط حسني مبارك وفتح المجال للصراع السياسي الذي كان قد غاب بفعل الجلوس الدائم على العرش، هذا المصير كان قدر الرئيس اليمني" علي عبدالله صالح" ولازال أمل الجماهير في أن لا يحيد مصير بشار الأسد عن هؤلاء.
خرجت الجماهير في الدول العربية دون تخطيط، بل بشكل عفوي وتلقائي ناتج عن تأثر الجماهير بالصور اليومية التي كانت لا تفارق قنوات الاعلام الدولية، فقد كان من السهل تحريك الجماهير من خلال رفع شعارات دينية أو اشتراكية فلقد وجدت الجماهير الحالمة في هذه الشعارات أملا للحياة، حتى لو كانت واهمة أو زائفة، فلا يهم لكنها تظل شعارات مؤثرة وأكبر شعار مؤثر هو "الربيع العربي"، فالربيع دليل على الحياة، وعلى النضج والانفتاح، وعلى الأمل. هذا الاسم الرنان خلف أثرا في قلوب الجماهير فخرجت الى الشارع للاحتجاج مثلما تخرج للاستمتاع بربيع أبريل، لكن الربيع لم يزهر في عقول الجماهير بل كان الربيع رومانسيا وبما أن للعشق زمن سيكولوجي قصير كذلك كان عمر الربيع العربي في بعض البلدان كذلك.
لقد خرجت الجماهير من أجل الحرية والديموقراطية، وهو مطلب إنساني وقانوني، وكان هذا من المفروض أن يقود الى صعود الحركات العلمانية والمد الاشتراكي الى الحكم، لكن كل هذا لم يحدث، فالجماهير على المستوى الذهني مسكونة بهاجس ديني. وربما النزعة الدينية للجماهير هي سبب الرئيسي في فشل الحركات اليسارية في الدول العربية ما بعد مرحلة "الاستعمار". فكان كافي جدا أن يتم احلال "الحزب الشيوعي المغربي"من خلال اتهامه لتبنيه أفكارا لا دينية وخصوصا أن من قادته يهودي معروف هو "ابراهام السرفاتي"، فبدلا من أن ينتهي المطاف بقيادي الحركات اليسارية في المغرب وباقي الدول العربية في سدة الحكم انتهي بهم الأمر في السجن، دون أن يثير غضب الجماهير لأنهم في نظرها مخلوقات لا دينية تستحق الموت.
الشعار الذي ساد في مرحلة الاستعمار من شرق الوطن العربي الى مغربه هو "مبغيناش يحكمونا النصارى" لم يكن يعرف المواطن العربي كلمة مستعمر أو فرنسي أو أجنبي أو مقيم، فكل هؤلاء يختزلهم في كلمة واحدة هم "النصارى" وللنصارى معنى قدحي في مخيلة الجمهور العربي، فهم اعداء الله والرسل ولذلك وجب طردهم، فأحسن رجل سياسة وحتى وإن كان لا يوجد إن كان نصرانيا فلن يرضى به المواطن العربي، حتى لو كان قادرا على ضمان الحرية والكرامة التي فشل الحكام العرب في تحقيقها.
لقد وجدت الجماهير في الحركات الإسلامية أملها، وخاب ظن الحركات اليسارية في الجماهير‘وهذه نتجية منطقية في نظر لوبون. فصعود الحركات الاسلامية الى الحكم عادي جدا نظرا للتركيبة الدينية والعرقية للجماهير، فاستثمار الشعارات الدينية كان كافي جدا لتحريك الجماهير التي كانت ترى في حكامها السابقين رجال "مطيعون للغرب ويهود.."، ووجدوا في أصحاب اللحي الطويلة المهدي المنتظر. فالجماهير في حاجة دائما الى حاكم يؤمن بدينها، هذا ما يفسر البروتوكول الصارم للحكام العرب عبر التاريخهم، فالتزامهم الديني وحرصهم على عقيدة شعوبهم على المستوى الاعلامي يشكل مفتاحا لضمان حياتهم السياسية المشبعة بالترف. فالجماهير لا تميز بين الحاكم المحنك العالم بشئون السياسة، ورجل يلبس عمامة ويحفظ آيات من الذكر الحكيم، فالثاني في نظرها أفضل للحكم من الأول. وهذا الأساس الديني قامت عليه حركة الإخوان المسلمين في مصر فهي لم تكف في كل خطاباتها عن القول أن مرسي أول رئيس مصري حافظ للقرآن، لكن كان ينبغي عليه أولا أن يحفظ كتاب "الأمير".
مهما يكن جاء الربيع وجاءت الرياح، لكن رياح الجماهير تفتقد الى الاستمرارية نظرا لضعف قدرتها، ففشل الجماهير في بلدان مثل المغرب والجزائر والكويت يعود بالدرجة الأولى الى التركيبة الذهنية المعقدة، بالإضافة الى ذلك افتقدت الجماهير في هذا البلدان الى شعارات رسمية ممكن تبينها. لقد خرج عشرات من الناس ولكن بأفكار مختلفة، ومطالب مختلفة، وقيادات مختلفة وغير مؤثرة. هذا الشتات لم يسمح بظهور جماهير متجانسة في هذا البلدان عندما تفتقد الجماهير الى الوحدة الذهنية والعرقية يضعف عملها وهذا ما عجل بذبول الحركة الجماهيرية في هذه البلدان، كما أجج من جهة أخرى الصراع داخل مصر بعد رحيل مبارك فالتعدد العرقي والديني في صفوف الجماهير يضعف عملها، فبدلا من أن تتوحد الجماهير للعمل أكثر والدفاع عن الثورة، فإنها وجدت نفسها ممزقة ومتعددة الاختيارات على المستوى السياسي. قبل الثورة كان يوحدها هاجس اسقاط مبارك وبعد مبارك فرقها من يجب أن يحكم بعده.
يبقى للجماهير الحق في الاختيار بعد أن اكتسبت القدرة على التمرد، وإذا ما انطلقنا من وضع مصر ما بعد الثورة، فإننا نكشف عن الوجه الحقيقي لعمل الجماهير، فالجماهير التي خرجت مطالبة بإسقاط حسني صعدت بمرسي، فهي انتقلت من النقيض الى النقيض والآن تبحث عن نقيض آخر لمرسي وقد تجد في الحركات اليسارية أو الجيش أي نقيض مرسي، فعادي جدا في نظر لوبون أن ترتد الجماهير عن ثوراتها فهي الآن كما هو مسجل في مصر الثورة على الثورة وهذا يفسر الطابع المحافظ للجماهير.
تعمل الجماهير كما تعمل الرياح، فهي عندما تهب لا تمييز بين الأشياء والأشخاص، خرجت فدمرت وقتلت وسلبت وندمت على ذلك أحيانا وهذا ما حدث في عهد صدام، لقد أعدم صدام وشكل اعدامه ميلادا جديدا للعراق هذا على الأقل ما اعتقدت في الجماهير وفرحت بذلك أي فرح وتحالفت مع أمريكا التي أوهمت الجماهير العراقية بحرية أبدية. لكن فجأة غابت الحرية والديموقراطية والأمن والتعليم والصحة، فأصبحت الجماهير اليوم تبحث عن صدام جديد ولو تطلب شراءه ذهبا، فعلى الأقل ديكتاتور جلب للعراق الاحترام الدولي ولا عراق ممزق يستحيل أن يولد من جديد لقد تحققت نبوءة حافظ الأسد لما قال يوما ما لبوش الأب ناصحا إياه بعدم احتلال العراق من أجل الدفاع عن الكويت " إن دخلتم الى العراق يستحيل الخروج منها". لقد خرجت أمريكا من العرقية ولم تخرج من العراق لأن العراق لم تعد موجودة بعد موت صدام، حاجة الجماهير الى العراق يفسر حنينهم الى صدام حتى ولو كان ديكتاتورا فغالبا ما تندم الجماهير وتكشف أن أفعالها في الغالب هي مجرد مراهقة سياسية تخسر فيها حبيبها الأول.
لم تخسر الجماهير العربية أي شيء كما لم تكسب سوى قدرتها على الاحتجاج، هذه القدرة التي افتقدتها خصوصا في السنوات الأخيرة، قدرتها على الاحتجاج يعكس عدم قدرتها على صبر فهي لم تصبر لا على مرسي ولا على أي رئيس الجديد فهي ثائرة ومرتدة عن الثورة، لكن ثوراتها لم تكن عنيفة الى حد ممكن أن يسمح بميلاد ديموقراطية جذرية، ستبقى الجماهير العربية في حاجة الى ثورات عنيفة لكي تتعلم منها درس الحرية والديموقراطية، ما يمكن أن تسفر عنه الثورة السورية في المستقبل سواء نجح بشار أو المعارضة ديموقراطية أكثر من أي ديموقراطية صاعدة في الدول السابقة في نظري المتواضع. فكلما كانت الثورات عنيفة تتولد منها ديموقراطية واعية، من قلب الحربين عالميتين مدمرتين خرج لنا اتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وعسكرية، يستحيل أن تدخل أوروبا في حرب جديدة لأنها تعلمت جيدا من درس الحربين.
ما يمكن أن نخلص إليه هو أن جماهير قوة فعالة في الاطاحة بالأنظمة، ومنفعلة في اختيار البدائل، وغير قادرة على الصبر فحاجتها الى تغيير المؤسسات لا يخفي عقليتها المحافظة، كما أن تغيير المؤسسات غير كافي للوصول الى ديموقراطية حقيقة فالبرلمان يوجد في الدول المتخلفة كما يوجد في الدول المتقدمة لكن عملها ووعيها يختلف، فتغيير الدستور في المغرب ومصر وليبيا غير كافي لإنشاء ديموقراطية حقيقية لأن الجماهير غير مؤهلة سيكولوجيا للتغير في لحظة وجيزة، لا يمكن أن ننتقل من الاستبداد الى الحرية بتغيير اسم مؤسسة أو اسم حاكم دون تغيير عقلية الجماهير، تغيير عقلية الجماهير هذا هو أمل كل عربي في المستقبل القريب أو أن تكون الجماهير واعية بدورها التاريخي ومسؤولة عن تصرفاتها غير المسؤولة والمدمرة ونزعتها المحافظة والاعتقادية.
يستطيع القارئ أن يجد في كتاب "سيكولوجيا الجماهير" مرجعا أصيلا لفهم حركات التمرد العربية والعالمية، لقد استطاع لوبون النفاذ الى البنية النفسية والذهنية للجماهير والكشف عن أفكارها وعقائدها غير الواعية، وعن نفسيتها الهشة والمنفعلة. فبقدر ما تشكل الجماهير قوة فعالة تشكل قوة منفعلة قابلة للترويض" إن الجماهير ثور ولكن قابل للترويض والتلاعب به" وهذا ما حدث على مر التاريخ. بهذا يكون لوبون قد كشف لنا عن نفسية الجماهير وعن نقاط ضعفها وقوتها، وقدم للحكام مفاتيح للتلاعب بالشعوب والتحكم فيها، وهذا ما قاله لوبون نفسه يوما ما " لقد أصبح الفكر السياسي لميكيافيللي كلاسيكيا لكن لم يحاول أحد تطوريه" لذك حاول أن يطوره ورأى في نفسه مكيافيللي جديد وحاول تجديد فكره السياسي وقدم لنا نظرية "سيكوسياسية" في القرن العشرين، لكن والى الأبد لا ذنب للعنب بما فعله النبيذ ولا ذنب لميكيافيللي بما فعل الحكام بشعوبهم.




عبدالحق رحيوي مدرس الفلسفة تاونات المغرب







































الثورات العربية على ضوء كتاب جوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير".
لم يحظى عالم النفس الاجتماعي " غوستاف لوبون "1841 ـ 1931" بتقدير اكاديمي يسمح له بالتدريس داخل أسوار الجامعات الفرنسية، هذا الحظ السيئ كان يطارد كبار العلماء في عصره وخصوصا انشتاين، فإذا كان انشتاين قد جدد فهمنا للعالم، فإن لوبون قدم لنا علما جديدا وفهما جديدا للجماهير من خلال تحليل سيكولوجيتها، انطلاقا من الأحداث الكبرى التي شهدتها الساحة الفرنسية والأروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر.
إن تاريخ الجماهير حديث بحداثة الثورة الفرنسية، لم يكن للجماهير أثرا يذكر في تغير المشهد السياسي المحلي أو العالمي، فعلى مر العصور لم تقوى الجماهير على صنع تاريخ لنفسها، لقد ظلت دائما على الهامش، مطيعة لأميرها كما هي مطيعة لربها، فهما في نظرها مقدسان إذا نقل أنهما شيء واحد في مخيلتها .لقد أسرفت الجماهير كثيرا في عبادة أميرها لكي تدرك في الأخير أن "الأمير الإله" لم يكن سوى خدعة، وأن هذه الطاعة العمياء لابد أن يكتب لها تاريخ الوفاة بوفاتها تكون الجماهير قد عبرت عن نفسها سياسيا. هذا الوعي السياسي الجديد المتمرد والمتولد من روح الفلسفة الأنوارية، انفجر في وجه الاستبداد السياسي بثورتين هزت أركان القصور الأوروبية، وخصوصا الثورة الفرنسية التي كانت أكثر شعبية وجماهيرية وعنفا من الثورة الانجليزية التي لم تأخذ طابعا كونيا في شعاراتها أوأهدافها.
إن ولادة الجماهير مرتبطة بالثورات الشعبية التي شهدتها أوروبا في القرن 18م، لقد أدركت الجماهير بعد الثورة الفرنسية أنها ليست مدشنة لحداثة سياسية وإنما وريثة "لسلطة" كانت متمركزة في يد حاكم مطلق، وبمجرد ما ورثت الجماهير السلطة أصبحت فاعلة في التاريخ السياسي إذ لم نقل صانعته. هذا الدور التاريخي للجماهير، واندفاعها القاتل، وانخداعها المتجدد، دفعت بالعديد من المفكرين والمحللين النفسيين الى الاهتمام بهذه الفئة وبحياتها السيكولوجية، ويعد كتاب "سيكولوجيا الجماهير" الى حد اليوم مفتاحا منيرا لفهم ثقافتها وعقيدتها وكيف تتأثر عاطفيا وتفشل في الفهم عقليا.
إن محاولة فهم سيكولوجية الجماهير بدأت قبل لوبون مع بعض الباحثين الاطاليين، لكن هؤلاء لم يقووا على فهم سيكولوجيتها بقدر ما وصفوا سلوكها فقط، لذلك وصفوهم بالبرابرة الجدد، مادامت ثوراتهم عنيفة ومدمرة.هذا الفهم المحدود للجماهير هو الذي دفع لوبون لبلورة فهم جديد للجماهير ولسيكولوجيتها، باعتبارها جماهير تمتلك وحدة ذهنية " أفكار ومعتقدات..." توحدها، بحيث يختفي مفهوم اختلاف داخل الجماهير، ويصبح الفلاح والمفكر سيان، والغريب في الأمر أن الانضواء داخل الجماهير يفقد المفكر ذاته قواه العقلية، ويتحرك بطريقة لاواعية لأن الوعي دائما فردي. فالجماهير ثائرة ومدمرة وجاهلة، وفي نفس الوقت طيعة وقابلة للترويض والتحكم، سذاجة الجماهير هذه هي التي دفعت لوبون الى طرح سؤال أساسي والذي عمل على تحليله في كتابه هو كيف استطاع الحكام الكبار ترويض الجماهير بهذا الحجم؟.
لو افترضنا أن مفهوم الجماهير حديث الولادة كما يعتقد كل من لوبون وفوكو، فإننا نجد في التاريخ القديم الصورة الأولى للجماهير ويجسدها مفهوم "العامة"، فالعامة هم "كائنات تشترك مع الإنسان في الشكل وتشبه الحيوان في السلوك ونمط الحياة"، وهذا المعنى الذي كان يحمله مفهوم العامة هو نفس المعنى الذي يقدمه لوبون لمفهوم الجماهير. إلا أن الفرق بين العامة والجماهير هو أن الجماهير تتشكل من العامة والخاصة، فالمفكر والعالم ذاته بمجرد ما ينخرط في العمل الجماهيري يفقد خصوصيته ووعيه، فمن خصائص الجماهير أنها لا تفكر، وبمجرد ما ينخرط الفرد تحت رايتها يجد نفسه مثل حبة رمل تتقاذفها الرياح. فعدم قدرة الجماهير على التفكير هو سبب عجزها عن الفهم العقلاني، لذلك وعبر التاريخ الطويل لا نصادف فيلسوفا، أو عالم رياضيات، أو فيزياء كان مصدر إلهام للجماهير وأستطاع أن حاكمها، فقدرها أنها لا تعقل ابدا. من هذا المنطلق يكون من الخطأ أن يحاول السياسي اقناع الجماهير بالوسائل العقلانية لكونها تتأثر فقط بالصور والأحداث الكبرى، فالجماهير تقتنع بالصور والإيحاءات والشعارات والأوامر المفروضة من فوق، حاجة الجماهير الى الأوامر يفسر حاجتها الى زعيم وقائد يدعي قدرته على تحقيق افكارها الطوباوية.
إن فشل الجماهير في الفهم العقلاني للأحداث يجعل منها كائنات سريعة الغضب، مبالغة في العواطف والمشاعر، عاجزة عن النقد وإبداء الرأي. هذا الضعف هو الذي يفسر لنا كيف تتحول الجماهير من النقيض الى النقيض بسرعة البرق تحت تأثير المحرك أو القائد، فهي في أي لحظة ممكن أن تتحول الى جلاد، لكونها صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان، فبمجرد ما يتحرك الحشد يفقد نزعته الأخلاقية. وهذا ما حدث بالضبط مع نابليون في حربه المفتوحة التي حولت كل عشاق فتوحاته الى شهداء في رمشة عين، وتحول نابليون من إمبراطور يبجل ومن بطل خالد الى مجرم في نظر الفرنسين. لكن لكي تفهم الجماهير الفرنسية أن نابليون مجرم قاد ثلاثة مليون جندي للموت المحقق احتاجت الى وقت كبير كان نابليون قد ودع الحياة، لذلك فالجماهير لا تفهم سوى متأخرة عن العلماء والفلاسفة والمفكريين.
هذا الفهم المتأخر للجماهير يكشف عن ضعف قواها العقلية وفي نفس الوقت عن نزعتها الإيمانية، وهذا ما يجعل منها في الغالب جماهير محافظة اكثر مما هي ثورية، فهي بمجرد ما تطيح بديكتاتور تصعد بديكتاتور جديد، فرغبتها في تغيير اسم المؤسسات يخفي رغبتها في الحفاظ على جلاديها، فالحقيقة الثابتة في نظر لوبون هي أن "الجماهير مؤمنة وليس مفكرة، محافظة وليست ثورية".
هذا الضعف الذي يسكن الجماهير فكريا،سياسيا،إراديا، لكونها تفتقد الى الإرادة القوية والدائمة، يجعل منها ضحية قابلة للتحكم فيها، ومن يريد التحكم فيها ينبغي أن يهيج عواطفها الجياشة والعزف على وترها الديني والإنصات الى دقات قلبها، فالخالدون في التاريخ هم الرسل والأنبياء "محمد، عيسى، موسى.." أو من يدعي كذلك أو يدعي أنه يحقق رسالة الله في الأرض التي نصح بها أنبياءه " حملات التبشير المسيحية في القرنين 15 و 16 وقبلها الحركات التوسعية للدولة العباسية والعثمانية" هؤلاء قادوا قطيعا من البشر الى اعدام نصف سكان الكرة الأرضية لكي يؤمن النصف الآخر، جماهير مؤمنة تقتل لكي يؤمن الآخرون بعقيدتهم، سواء كانت العقيدة دينية او اشتراكية كما حدث في بعض البلدان في القرن العشرين.
إن الحاكم الحقيقي في نظر لوبون هو العارف بسيكولوجية الجماهير، هو الذي بإمكانه إقناع الناس لخوض حرب يربحها ويسجلها في التاريخ باسمه، وهذا الإقناع لن يتحصل له إلا من خلال استثمار الدين أو المفاهيم القوية مثل "الحرية، المساواة، والديموقراطية" كشعار للتمكن من قلوب الجماهير. فإذا تملكت قلبها تجدها مستعدة للموت من أجلك وهذا ما قاله نابليون يوما ما " لم استطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت أني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في ايطاليا ولو اتيح لي لكي أحكم شعبا من اليهود لأعدت من جديد بناء معبد سليمان" هذا التدين الظاهري كان كافي ليقاتل الجميع من أجله. لهذا نلاحظ عبر التاريخ تمت الغزوات والحروب باسم الدين وليس باسم الاقتصاد او المال. من هذا المنطلق يكون كل من نابليون، وكينجرخان" قائد المغول"،واسكندر المقدوني، علماء نفس غير واعون ولكن هم كذلك.
كتب لوبون هذا الكتاب في تاريخ لم يسجل التاريخ بعد اسم هتلر أو الحرب العالمية الأولى والثانية، لكن هذا الكتاب يمكن أن يشكل منطلقا ومرجعا لفهم كيف صوت العمال على هتلر وكيف قام هتلر في ظرف وجيز بإعادة بناء ألمانيا واكتساح أوروبا، ما كان لهتلر أن يحقق هذا الإنجاز لولا قدرته على تهييج الجماهير ومن الوسائل التي وظفها هتلر لكسب وجدان الجماهير هي حقده على اليهود باعتبارهم سبب مشاكل اوروبا وألمانيا، اعادة تأسيس ألمانيا على أسس نقية أي دولة تقوم على "بيولوجية العرق"، بالإضافة الى التعريف بفرنسا كأكبر عدو تاريخي لفرنسا ووسائل أخرى كثيرة لا يمكن حصرها .
يبقى الأهم هو أن هتلر مراسل جندية بسيط تحول الى مصدر إلهام لكل الشعب الألماني، فلقد قال يوما ما "أنا نمساوي لكن الدم الذي يجري في عروقي ألماني"، افتخاره بالعرق الألماني وشعار القومية الألمانية، وتأسيسها على أسس عرقية صافية، كانت كافية للنفاذ الى قلب كل ألماني مؤمن بأصالة عرقه وتفوقه التاريخي، ليتحول كل ألماني الى هتلر صغير وهذه النزعة الهتلرية لم ينجى منها حتى كبار المفكرين الألمان سواء عن وعي أو غير وعي ونقصد هنا "هايدغر" المتهم بكونه نازيا على الرغم من أن كل مجلداته لا تضم كلمة تحيل الى انتماءه أو دفاعه عن النازية. مهما يكن الأمر فإن الطبقة العاملة والتي تشكل قاعدة جماهيرية خيبت ظن كل المحللين والمفكرين والمنظرين الماركسيين، لقد صوتت الجماهير والعمال والكادحين بكل تلقائية وعفوية لصالح رجل يفكر في القومية والعقيدة الألمانية، وليس الى حزب اشتراكي يتغنى بالمساواة الاجتماعية ويدعي أنه الأمل الوحيد للطبقة العاملة ومفتاح خلاصها.
هذا التأييد الجماهيري الذي حضي به هتلر ليس أبديا، فالجماهير وبعد نهاية الحرب العالمية، وهزيمة ألمانيا، أدركت أنها مجرد كائنات حالمة في لحظة اللاوعي راودها عن نفسها رجل مؤمن بقضية أكبر منه، فبمجرد ما اشرقت الدبابات الفرنسية، والطائرات الأمريكية، على سماء وأزقة برلين، حتى بدأت الجماهير تستيقظ من كبوتها لتعلن بعد سقوط برلين عن حقدها لهتلر بل أصبحت تتحاشى ذكر هذا الاسم، لكنها لم تستيقظ ولم تفهم سوى متأخرة وهذا قدر الجماهير دائما.
قدرة تحريض الجماهير وتهييجها أمر سهل على من يفهم عقليتها ويخاطب عاطفتها، فالتأييد الجماهيري الذي حظي به " جمال عبدالناصر" كان في أساسه قائم على شعارات كبيرة جدا تبناها والتي كانت تشكل في الأصل شعارات الجماهير في تلك المرحلة، تتمثل في تأسيس القومية العربية، وتدمير اسرائيل والحقد على أمريكا والغرب. وهذه الشعارات كلها تستمد جذورها من الدين الإسلامي، تطابق شعارات عبدالناصر والدين الاسلامي، كان كافيا ليكسب قلوب كل الجماهير المتعطشة للقومية العربية والعداء لإسرائيل. وفي الحقيقة هذين المطلبين غير معقولين نظرا للإمكانات المحدودة للمصر والتخلف التاريخي للأمة العربية عن الحضارة الغربية وترسانتها العسكرية ومخططاتها الإستخباراتية.
لقد كانت لعبد الناصر قدرة كبير على كسب قلوب الفقراء مصر رغم ديكتاتوريته، فإنه كان يوفر لهم شعارات كبيرة جدا قادرة على تغذية مخيلتهم على أمد بعيد، رغبة جمال عبدالناصر في توحيد الأمة العربية يكون هو زعيمها، زرع الرعب في كل الأنظمة العربية، لقد كانت سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات السنوات الأكثر عاصفة لكل القصور العربية حيث بدأت تشعر بخطر داخلي وخارجي يسعى للإطاحة بها، لكن هذا المخطط لم يكن جماهيريا بل كان فرديا قاده رجال الجيش من داخل الكتائب العسكرية وهذا السيناريو من الجيش الى السلطة، عرفته دول كثيرة، ورجال كبار، من عبدالناصر مرورا بأنور السادات، وصولا الى حسني مبارك في مصر، وكذلك كل من القذافي في ليبيا، وبنعلي في تونس، وفشل أوفقير في المغرب، ونجاح صدام في العراق. لم تكن هذه الثورات مثمرة على مستوى التقدم نحو الديموقراطية، لأنها لم تكن شعبية. وهذا ما أخر ظهور الجماهير في الساحة العربية.
اذا كانت أوروبا شهدت صعود الجماهير بشكل قوي منذ الثورة الفرنسية، فإن ظهورها في البلدان العربية تأخر الى سنة 2011 م، وهذا يعكس التأخر التاريخي للدول العربية بحوالي قرنين عن التجربة الثورية للدول الغربية، هذه الحركة الجماهيرية في حاجة الى التحليل والدراسة ويظهر منذ البداية أن لوبون لم يسيء فهمه للجماهير أبدا.
لم يكن أحدا يتوقع صعود الجماهير الى المشهد السياسي العربي، لكن العفوية التي تتميز بها الجماهير وسرعة انفعالاها، لا يسمح دائما بتوقع حركاتها. وهذا ما حدث في تونس في لحظة وجيزة تحول الحشد الى جمهور لأن الجمهور يتطلب بالضرورة وحدة ذهنية فالجماهير دائما في حاجة الى ما يوحدها، ووجدت الجماهير التونسية في انتحار البوعزيزي ما يوحدها، فانتفضت في وجه بن علي وأجبرته على الرحيل قصرا الى خارج الحدود، ومن أهم الأسباب التي أدت الى اندلاع الثورة بقوة هي وسائل الاعلام التي وظفت صورة احراق البوعزيزي وكانت هذه الصور أكثر فاعلية في قلوب الثوار.
كما تأثرت الجماهير في تونس بصورة احراق البوعزيزي لذاته، تأثرت الجماهير العربية في الدول المجاورة بصورة الجماهير التونسية وهي تحتفل بانتصارها وطردها للديكتاتور بن علي. كان من الصعب جدا منذ سنوات السبعينات التي شهدت صعود فكر اليساري اقناع الجماهير العربية عقليا بقيام ثورة اجتماعية لكن من السهل جدا التأثير في الجماهير بالصور وهذا بالفعل ما حدث، فالتغطية اليومية لأحداث الجماهير في تونس أدى مباشرة الى خروج الجماهير في المغرب وليبيا ومصر وجزائر واليمن والكويت ومن بعد سوريا، وهذا الحدث يذكرنا كيف استطاع جورح بوش كسب تأييد جماهيري كبير انطلاقا من الصورة التي تجسد اختراق الطائرات لبرج التجارة العالمية، بما أن التجارة هي عصب الدولة فإن هدم ابراج التجارة ولد في نفسية الجماهير حقدا شديدا، وبدون وعي أيدت جورج بوش في حربه على الارهاب. كذلك انتظرت الجماهير" الأمريكية" كثيرا لكي تفهم أن الطائرات لم تكن طائرات اسامة بلادن، بل فقط قادمة من جنوب فلوريدا دمرت وسط أمريكا وعصبها الحضاري.
أكثر الجماهير تأثرا بأحداث تونس هي الأقرب إليها، ونقصد ليبيا لقد تحركت الجماهير في ليبيا بطريقة أكثر عفوية لكن أكثر دموية وعنف، لقد خرجت الجماهير من أجل تحقيق الديموقراطية والمساواة. وهذا مطلب انساني وكوني لكن الجماهير تفقد نزعتها الأخلاقية بمجرد ما تتحرك بشكل جماعي. فقتل القذافي بطريقة وحشية يعكس عدم وعي الجماهير بقيم التي أصلا خرجت من أجلها، ففعل القتل غير إنساني ومحزن لكن قتل القذافي يشكل مصدرا للفرح والسرور والرقص لقد رقص الليبيون على قطرات دم القدافي، وهذا يعكس لاوعي الجماهير وعنفها. ونفس المشهد كان قد تكرر مرارا في المغرب في عهد الاستعمار ومن قرأ رواية محمد شكري "زمن الأخطاء" و "الشطار" يعرف كيف اقتات الجماهير من عبد باشا العرائش الذي أجج غضب الفلاحين لنزعته الاسبانية، رغم فرار الباشا الى اسبانيا قتلت الجماهير عبده ومثلت بجثته وزغردت النساء احتفالا بموت عبد لم يساهم لا في تخلف المغرب ولا تقدمه ولا في استعماره.
لقد نجحت على الأقل الثورة في تغيير اسم الحاكم في كل من تونس وليبيا، وهذا ما نجحت فيه مصر كذلك، لقد سقط حسني مبارك وفتح المجال للصراع السياسي الذي كان قد غاب بفعل الجلوس الدائم على العرش، هذا المصير كان قدر الرئيس اليمني" علي عبدالله صالح" ولازال أمل الجماهير في أن لا يحيد مصير بشار الأسد عن هؤلاء.
خرجت الجماهير في الدول العربية دون تخطيط، بل بشكل عفوي وتلقائي ناتج عن تأثر الجماهير بالصور اليومية التي كانت لا تفارق قنوات الاعلام الدولية، فقد كان من السهل تحريك الجماهير من خلال رفع شعارات دينية أو اشتراكية فلقد وجدت الجماهير الحالمة في هذه الشعارات أملا للحياة، حتى لو كانت واهمة أو زائفة، فلا يهم لكنها تظل شعارات مؤثرة وأكبر شعار مؤثر هو "الربيع العربي"، فالربيع دليل على الحياة، وعلى النضج والانفتاح، وعلى الأمل. هذا الاسم الرنان خلف أثرا في قلوب الجماهير فخرجت الى الشارع للاحتجاج مثلما تخرج للاستمتاع بربيع أبريل، لكن الربيع لم يزهر في عقول الجماهير بل كان الربيع رومانسيا وبما أن للعشق زمن سيكولوجي قصير كذلك كان عمر الربيع العربي في بعض البلدان كذلك.
لقد خرجت الجماهير من أجل الحرية والديموقراطية، وهو مطلب إنساني وقانوني، وكان هذا من المفروض أن يقود الى صعود الحركات العلمانية والمد الاشتراكي الى الحكم، لكن كل هذا لم يحدث، فالجماهير على المستوى الذهني مسكونة بهاجس ديني. وربما النزعة الدينية للجماهير هي سبب الرئيسي في فشل الحركات اليسارية في الدول العربية ما بعد مرحلة "الاستعمار". فكان كافي جدا أن يتم احلال "الحزب الشيوعي المغربي"من خلال اتهامه لتبنيه أفكارا لا دينية وخصوصا أن من قادته يهودي معروف هو "ابراهام السرفاتي"، فبدلا من أن ينتهي المطاف بقيادي الحركات اليسارية في المغرب وباقي الدول العربية في سدة الحكم انتهي بهم الأمر في السجن، دون أن يثير غضب الجماهير لأنهم في نظرها مخلوقات لا دينية تستحق الموت.
الشعار الذي ساد في مرحلة الاستعمار من شرق الوطن العربي الى مغربه هو "مبغيناش يحكمونا النصارى" لم يكن يعرف المواطن العربي كلمة مستعمر أو فرنسي أو أجنبي أو مقيم، فكل هؤلاء يختزلهم في كلمة واحدة هم "النصارى" وللنصارى معنى قدحي في مخيلة الجمهور العربي، فهم اعداء الله والرسل ولذلك وجب طردهم، فأحسن رجل سياسة وحتى وإن كان لا يوجد إن كان نصرانيا فلن يرضى به المواطن العربي، حتى لو كان قادرا على ضمان الحرية والكرامة التي فشل الحكام العرب في تحقيقها.
لقد وجدت الجماهير في الحركات الإسلامية أملها، وخاب ظن الحركات اليسارية في الجماهير‘وهذه نتجية منطقية في نظر لوبون. فصعود الحركات الاسلامية الى الحكم عادي جدا نظرا للتركيبة الدينية والعرقية للجماهير، فاستثمار الشعارات الدينية كان كافي جدا لتحريك الجماهير التي كانت ترى في حكامها السابقين رجال "مطيعون للغرب ويهود.."، ووجدوا في أصحاب اللحي الطويلة المهدي المنتظر. فالجماهير في حاجة دائما الى حاكم يؤمن بدينها، هذا ما يفسر البروتوكول الصارم للحكام العرب عبر التاريخهم، فالتزامهم الديني وحرصهم على عقيدة شعوبهم على المستوى الاعلامي يشكل مفتاحا لضمان حياتهم السياسية المشبعة بالترف. فالجماهير لا تميز بين الحاكم المحنك العالم بشئون السياسة، ورجل يلبس عمامة ويحفظ آيات من الذكر الحكيم، فالثاني في نظرها أفضل للحكم من الأول. وهذا الأساس الديني قامت عليه حركة الإخوان المسلمين في مصر فهي لم تكف في كل خطاباتها عن القول أن مرسي أول رئيس مصري حافظ للقرآن، لكن كان ينبغي عليه أولا أن يحفظ كتاب "الأمير".
مهما يكن جاء الربيع وجاءت الرياح، لكن رياح الجماهير تفتقد الى الاستمرارية نظرا لضعف قدرتها، ففشل الجماهير في بلدان مثل المغرب والجزائر والكويت يعود بالدرجة الأولى الى التركيبة الذهنية المعقدة، بالإضافة الى ذلك افتقدت الجماهير في هذا البلدان الى شعارات رسمية ممكن تبينها. لقد خرج عشرات من الناس ولكن بأفكار مختلفة، ومطالب مختلفة، وقيادات مختلفة وغير مؤثرة. هذا الشتات لم يسمح بظهور جماهير متجانسة في هذا البلدان عندما تفتقد الجماهير الى الوحدة الذهنية والعرقية يضعف عملها وهذا ما عجل بذبول الحركة الجماهيرية في هذه البلدان، كما أجج من جهة أخرى الصراع داخل مصر بعد رحيل مبارك فالتعدد العرقي والديني في صفوف الجماهير يضعف عملها، فبدلا من أن تتوحد الجماهير للعمل أكثر والدفاع عن الثورة، فإنها وجدت نفسها ممزقة ومتعددة الاختيارات على المستوى السياسي. قبل الثورة كان يوحدها هاجس اسقاط مبارك وبعد مبارك فرقها من يجب أن يحكم بعده.
يبقى للجماهير الحق في الاختيار بعد أن اكتسبت القدرة على التمرد، وإذا ما انطلقنا من وضع مصر ما بعد الثورة، فإننا نكشف عن الوجه الحقيقي لعمل الجماهير، فالجماهير التي خرجت مطالبة بإسقاط حسني صعدت بمرسي، فهي انتقلت من النقيض الى النقيض والآن تبحث عن نقيض آخر لمرسي وقد تجد في الحركات اليسارية أو الجيش أي نقيض مرسي، فعادي جدا في نظر لوبون أن ترتد الجماهير عن ثوراتها فهي الآن كما هو مسجل في مصر الثورة على الثورة وهذا يفسر الطابع المحافظ للجماهير.
تعمل الجماهير كما تعمل الرياح، فهي عندما تهب لا تمييز بين الأشياء والأشخاص، خرجت فدمرت وقتلت وسلبت وندمت على ذلك أحيانا وهذا ما حدث في عهد صدام، لقد أعدم صدام وشكل اعدامه ميلادا جديدا للعراق هذا على الأقل ما اعتقدت في الجماهير وفرحت بذلك أي فرح وتحالفت مع أمريكا التي أوهمت الجماهير العراقية بحرية أبدية. لكن فجأة غابت الحرية والديموقراطية والأمن والتعليم والصحة، فأصبحت الجماهير اليوم تبحث عن صدام جديد ولو تطلب شراءه ذهبا، فعلى الأقل ديكتاتور جلب للعراق الاحترام الدولي ولا عراق ممزق يستحيل أن يولد من جديد لقد تحققت نبوءة حافظ الأسد لما قال يوما ما لبوش الأب ناصحا إياه بعدم احتلال العراق من أجل الدفاع عن الكويت " إن دخلتم الى العراق يستحيل الخروج منها". لقد خرجت أمريكا من العرقية ولم تخرج من العراق لأن العراق لم تعد موجودة بعد موت صدام، حاجة الجماهير الى العراق يفسر حنينهم الى صدام حتى ولو كان ديكتاتورا فغالبا ما تندم الجماهير وتكشف أن أفعالها في الغالب هي مجرد مراهقة سياسية تخسر فيها حبيبها الأول.
لم تخسر الجماهير العربية أي شيء كما لم تكسب سوى قدرتها على الاحتجاج، هذه القدرة التي افتقدتها خصوصا في السنوات الأخيرة، قدرتها على الاحتجاج يعكس عدم قدرتها على صبر فهي لم تصبر لا على مرسي ولا على أي رئيس الجديد فهي ثائرة ومرتدة عن الثورة، لكن ثوراتها لم تكن عنيفة الى حد ممكن أن يسمح بميلاد ديموقراطية جذرية، ستبقى الجماهير العربية في حاجة الى ثورات عنيفة لكي تتعلم منها درس الحرية والديموقراطية، ما يمكن أن تسفر عنه الثورة السورية في المستقبل سواء نجح بشار أو المعارضة ديموقراطية أكثر من أي ديموقراطية صاعدة في الدول السابقة في نظري المتواضع. فكلما كانت الثورات عنيفة تتولد منها ديموقراطية واعية، من قلب الحربين عالميتين مدمرتين خرج لنا اتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وعسكرية، يستحيل أن تدخل أوروبا في حرب جديدة لأنها تعلمت جيدا من درس الحربين.
ما يمكن أن نخلص إليه هو أن جماهير قوة فعالة في الاطاحة بالأنظمة، ومنفعلة في اختيار البدائل، وغير قادرة على الصبر فحاجتها الى تغيير المؤسسات لا يخفي عقليتها المحافظة، كما أن تغيير المؤسسات غير كافي للوصول الى ديموقراطية حقيقة فالبرلمان يوجد في الدول المتخلفة كما يوجد في الدول المتقدمة لكن عملها ووعيها يختلف، فتغيير الدستور في المغرب ومصر وليبيا غير كافي لإنشاء ديموقراطية حقيقية لأن الجماهير غير مؤهلة سيكولوجيا للتغير في لحظة وجيزة، لا يمكن أن ننتقل من الاستبداد الى الحرية بتغيير اسم مؤسسة أو اسم حاكم دون تغيير عقلية الجماهير، تغيير عقلية الجماهير هذا هو أمل كل عربي في المستقبل القريب أو أن تكون الجماهير واعية بدورها التاريخي ومسؤولة عن تصرفاتها غير المسؤولة والمدمرة ونزعتها المحافظة والاعتقادية.
يستطيع القارئ أن يجد في كتاب "سيكولوجيا الجماهير" مرجعا أصيلا لفهم حركات التمرد العربية والعالمية، لقد استطاع لوبون النفاذ الى البنية النفسية والذهنية للجماهير والكشف عن أفكارها وعقائدها غير الواعية، وعن نفسيتها الهشة والمنفعلة. فبقدر ما تشكل الجماهير قوة فعالة تشكل قوة منفعلة قابلة للترويض" إن الجماهير ثور ولكن قابل للترويض والتلاعب به" وهذا ما حدث على مر التاريخ. بهذا يكون لوبون قد كشف لنا عن نفسية الجماهير وعن نقاط ضعفها وقوتها، وقدم للحكام مفاتيح للتلاعب بالشعوب والتحكم فيها، وهذا ما قاله لوبون نفسه يوما ما " لقد أصبح الفكر السياسي لميكيافيللي كلاسيكيا لكن لم يحاول أحد تطوريه" لذك حاول أن يطوره ورأى في نفسه مكيافيللي جديد وحاول تجديد فكره السياسي وقدم لنا نظرية "سيكوسياسية" في القرن العشرين، لكن والى الأبد لا ذنب للعنب بما فعله النبيذ ولا ذنب لميكيافيللي بما فعل الحكام بشعوبهم.




عبدالحق رحيوي مدرس الفلسفة تاونات المغرب




































الثورات العربية على ضوء كتاب جوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير".
لم يحظى عالم النفس الاجتماعي " غوستاف لوبون "1841 ـ 1931" بتقدير اكاديمي يسمح له بالتدريس داخل أسوار الجامعات الفرنسية، هذا الحظ السيئ كان يطارد كبار العلماء في عصره وخصوصا انشتاين، فإذا كان انشتاين قد جدد فهمنا للعالم، فإن لوبون قدم لنا علما جديدا وفهما جديدا للجماهير من خلال تحليل سيكولوجيتها، انطلاقا من الأحداث الكبرى التي شهدتها الساحة الفرنسية والأروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر.
إن تاريخ الجماهير حديث بحداثة الثورة الفرنسية، لم يكن للجماهير أثرا يذكر في تغير المشهد السياسي المحلي أو العالمي، فعلى مر العصور لم تقوى الجماهير على صنع تاريخ لنفسها، لقد ظلت دائما على الهامش، مطيعة لأميرها كما هي مطيعة لربها، فهما في نظرها مقدسان إذا نقل أنهما شيء واحد في مخيلتها .لقد أسرفت الجماهير كثيرا في عبادة أميرها لكي تدرك في الأخير أن "الأمير الإله" لم يكن سوى خدعة، وأن هذه الطاعة العمياء لابد أن يكتب لها تاريخ الوفاة بوفاتها تكون الجماهير قد عبرت عن نفسها سياسيا. هذا الوعي السياسي الجديد المتمرد والمتولد من روح الفلسفة الأنوارية، انفجر في وجه الاستبداد السياسي بثورتين هزت أركان القصور الأوروبية، وخصوصا الثورة الفرنسية التي كانت أكثر شعبية وجماهيرية وعنفا من الثورة الانجليزية التي لم تأخذ طابعا كونيا في شعاراتها أوأهدافها.
إن ولادة الجماهير مرتبطة بالثورات الشعبية التي شهدتها أوروبا في القرن 18م، لقد أدركت الجماهير بعد الثورة الفرنسية أنها ليست مدشنة لحداثة سياسية وإنما وريثة "لسلطة" كانت متمركزة في يد حاكم مطلق، وبمجرد ما ورثت الجماهير السلطة أصبحت فاعلة في التاريخ السياسي إذ لم نقل صانعته. هذا الدور التاريخي للجماهير، واندفاعها القاتل، وانخداعها المتجدد، دفعت بالعديد من المفكرين والمحللين النفسيين الى الاهتمام بهذه الفئة وبحياتها السيكولوجية، ويعد كتاب "سيكولوجيا الجماهير" الى حد اليوم مفتاحا منيرا لفهم ثقافتها وعقيدتها وكيف تتأثر عاطفيا وتفشل في الفهم عقليا.
إن محاولة فهم سيكولوجية الجماهير بدأت قبل لوبون مع بعض الباحثين الاطاليين، لكن هؤلاء لم يقووا على فهم سيكولوجيتها بقدر ما وصفوا سلوكها فقط، لذلك وصفوهم بالبرابرة الجدد، مادامت ثوراتهم عنيفة ومدمرة.هذا الفهم المحدود للجماهير هو الذي دفع لوبون لبلورة فهم جديد للجماهير ولسيكولوجيتها، باعتبارها جماهير تمتلك وحدة ذهنية " أفكار ومعتقدات..." توحدها، بحيث يختفي مفهوم اختلاف داخل الجماهير، ويصبح الفلاح والمفكر سيان، والغريب في الأمر أن الانضواء داخل الجماهير يفقد المفكر ذاته قواه العقلية، ويتحرك بطريقة لاواعية لأن الوعي دائما فردي. فالجماهير ثائرة ومدمرة وجاهلة، وفي نفس الوقت طيعة وقابلة للترويض والتحكم، سذاجة الجماهير هذه هي التي دفعت لوبون الى طرح سؤال أساسي والذي عمل على تحليله في كتابه هو كيف استطاع الحكام الكبار ترويض الجماهير بهذا الحجم؟.
لو افترضنا أن مفهوم الجماهير حديث الولادة كما يعتقد كل من لوبون وفوكو، فإننا نجد في التاريخ القديم الصورة الأولى للجماهير ويجسدها مفهوم "العامة"، فالعامة هم "كائنات تشترك مع الإنسان في الشكل وتشبه الحيوان في السلوك ونمط الحياة"، وهذا المعنى الذي كان يحمله مفهوم العامة هو نفس المعنى الذي يقدمه لوبون لمفهوم الجماهير. إلا أن الفرق بين العامة والجماهير هو أن الجماهير تتشكل من العامة والخاصة، فالمفكر والعالم ذاته بمجرد ما ينخرط في العمل الجماهيري يفقد خصوصيته ووعيه، فمن خصائص الجماهير أنها لا تفكر، وبمجرد ما ينخرط الفرد تحت رايتها يجد نفسه مثل حبة رمل تتقاذفها الرياح. فعدم قدرة الجماهير على التفكير هو سبب عجزها عن الفهم العقلاني، لذلك وعبر التاريخ الطويل لا نصادف فيلسوفا، أو عالم رياضيات، أو فيزياء كان مصدر إلهام للجماهير وأستطاع أن حاكمها، فقدرها أنها لا تعقل ابدا. من هذا المنطلق يكون من الخطأ أن يحاول السياسي اقناع الجماهير بالوسائل العقلانية لكونها تتأثر فقط بالصور والأحداث الكبرى، فالجماهير تقتنع بالصور والإيحاءات والشعارات والأوامر المفروضة من فوق، حاجة الجماهير الى الأوامر يفسر حاجتها الى زعيم وقائد يدعي قدرته على تحقيق افكارها الطوباوية.
إن فشل الجماهير في الفهم العقلاني للأحداث يجعل منها كائنات سريعة الغضب، مبالغة في العواطف والمشاعر، عاجزة عن النقد وإبداء الرأي. هذا الضعف هو الذي يفسر لنا كيف تتحول الجماهير من النقيض الى النقيض بسرعة البرق تحت تأثير المحرك أو القائد، فهي في أي لحظة ممكن أن تتحول الى جلاد، لكونها صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان، فبمجرد ما يتحرك الحشد يفقد نزعته الأخلاقية. وهذا ما حدث بالضبط مع نابليون في حربه المفتوحة التي حولت كل عشاق فتوحاته الى شهداء في رمشة عين، وتحول نابليون من إمبراطور يبجل ومن بطل خالد الى مجرم في نظر الفرنسين. لكن لكي تفهم الجماهير الفرنسية أن نابليون مجرم قاد ثلاثة مليون جندي للموت المحقق احتاجت الى وقت كبير كان نابليون قد ودع الحياة، لذلك فالجماهير لا تفهم سوى متأخرة عن العلماء والفلاسفة والمفكريين.
هذا الفهم المتأخر للجماهير يكشف عن ضعف قواها العقلية وفي نفس الوقت عن نزعتها الإيمانية، وهذا ما يجعل منها في الغالب جماهير محافظة اكثر مما هي ثورية، فهي بمجرد ما تطيح بديكتاتور تصعد بديكتاتور جديد، فرغبتها في تغيير اسم المؤسسات يخفي رغبتها في الحفاظ على جلاديها، فالحقيقة الثابتة في نظر لوبون هي أن "الجماهير مؤمنة وليس مفكرة، محافظة وليست ثورية".
هذا الضعف الذي يسكن الجماهير فكريا،سياسيا،إراديا، لكونها تفتقد الى الإرادة القوية والدائمة، يجعل منها ضحية قابلة للتحكم فيها، ومن يريد التحكم فيها ينبغي أن يهيج عواطفها الجياشة والعزف على وترها الديني والإنصات الى دقات قلبها، فالخالدون في التاريخ هم الرسل والأنبياء "محمد، عيسى، موسى.." أو من يدعي كذلك أو يدعي أنه يحقق رسالة الله في الأرض التي نصح بها أنبياءه " حملات التبشير المسيحية في القرنين 15 و 16 وقبلها الحركات التوسعية للدولة العباسية والعثمانية" هؤلاء قادوا قطيعا من البشر الى اعدام نصف سكان الكرة الأرضية لكي يؤمن النصف الآخر، جماهير مؤمنة تقتل لكي يؤمن الآخرون بعقيدتهم، سواء كانت العقيدة دينية او اشتراكية كما حدث في بعض البلدان في القرن العشرين.
إن الحاكم الحقيقي في نظر لوبون هو العارف بسيكولوجية الجماهير، هو الذي بإمكانه إقناع الناس لخوض حرب يربحها ويسجلها في التاريخ باسمه، وهذا الإقناع لن يتحصل له إلا من خلال استثمار الدين أو المفاهيم القوية مثل "الحرية، المساواة، والديموقراطية" كشعار للتمكن من قلوب الجماهير. فإذا تملكت قلبها تجدها مستعدة للموت من أجلك وهذا ما قاله نابليون يوما ما " لم استطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت أني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في ايطاليا ولو اتيح لي لكي أحكم شعبا من اليهود لأعدت من جديد بناء معبد سليمان" هذا التدين الظاهري كان كافي ليقاتل الجميع من أجله. لهذا نلاحظ عبر التاريخ تمت الغزوات والحروب باسم الدين وليس باسم الاقتصاد او المال. من هذا المنطلق يكون كل من نابليون، وكينجرخان" قائد المغول"،واسكندر المقدوني، علماء نفس غير واعون ولكن هم كذلك.
كتب لوبون هذا الكتاب في تاريخ لم يسجل التاريخ بعد اسم هتلر أو الحرب العالمية الأولى والثانية، لكن هذا الكتاب يمكن أن يشكل منطلقا ومرجعا لفهم كيف صوت العمال على هتلر وكيف قام هتلر في ظرف وجيز بإعادة بناء ألمانيا واكتساح أوروبا، ما كان لهتلر أن يحقق هذا الإنجاز لولا قدرته على تهييج الجماهير ومن الوسائل التي وظفها هتلر لكسب وجدان الجماهير هي حقده على اليهود باعتبارهم سبب مشاكل اوروبا وألمانيا، اعادة تأسيس ألمانيا على أسس نقية أي دولة تقوم على "بيولوجية العرق"، بالإضافة الى التعريف بفرنسا كأكبر عدو تاريخي لفرنسا ووسائل أخرى كثيرة لا يمكن حصرها .
يبقى الأهم هو أن هتلر مراسل جندية بسيط تحول الى مصدر إلهام لكل الشعب الألماني، فلقد قال يوما ما "أنا نمساوي لكن الدم الذي يجري في عروقي ألماني"، افتخاره بالعرق الألماني وشعار القومية الألمانية، وتأسيسها على أسس عرقية صافية، كانت كافية للنفاذ الى قلب كل ألماني مؤمن بأصالة عرقه وتفوقه التاريخي، ليتحول كل ألماني الى هتلر صغير وهذه النزعة الهتلرية لم ينجى منها حتى كبار المفكرين الألمان سواء عن وعي أو غير وعي ونقصد هنا "هايدغر" المتهم بكونه نازيا على الرغم من أن كل مجلداته لا تضم كلمة تحيل الى انتماءه أو دفاعه عن النازية. مهما يكن الأمر فإن الطبقة العاملة والتي تشكل قاعدة جماهيرية خيبت ظن كل المحللين والمفكرين والمنظرين الماركسيين، لقد صوتت الجماهير والعمال والكادحين بكل تلقائية وعفوية لصالح رجل يفكر في القومية والعقيدة الألمانية، وليس الى حزب اشتراكي يتغنى بالمساواة الاجتماعية ويدعي أنه الأمل الوحيد للطبقة العاملة ومفتاح خلاصها.
هذا التأييد الجماهيري الذي حضي به هتلر ليس أبديا، فالجماهير وبعد نهاية الحرب العالمية، وهزيمة ألمانيا، أدركت أنها مجرد كائنات حالمة في لحظة اللاوعي راودها عن نفسها رجل مؤمن بقضية أكبر منه، فبمجرد ما اشرقت الدبابات الفرنسية، والطائرات الأمريكية، على سماء وأزقة برلين، حتى بدأت الجماهير تستيقظ من كبوتها لتعلن بعد سقوط برلين عن حقدها لهتلر بل أصبحت تتحاشى ذكر هذا الاسم، لكنها لم تستيقظ ولم تفهم سوى متأخرة وهذا قدر الجماهير دائما.
قدرة تحريض الجماهير وتهييجها أمر سهل على من يفهم عقليتها ويخاطب عاطفتها، فالتأييد الجماهيري الذي حظي به " جمال عبدالناصر" كان في أساسه قائم على شعارات كبيرة جدا تبناها والتي كانت تشكل في الأصل شعارات الجماهير في تلك المرحلة، تتمثل في تأسيس القومية العربية، وتدمير اسرائيل والحقد على أمريكا والغرب. وهذه الشعارات كلها تستمد جذورها من الدين الإسلامي، تطابق شعارات عبدالناصر والدين الاسلامي، كان كافيا ليكسب قلوب كل الجماهير المتعطشة للقومية العربية والعداء لإسرائيل. وفي الحقيقة هذين المطلبين غير معقولين نظرا للإمكانات المحدودة للمصر والتخلف التاريخي للأمة العربية عن الحضارة الغربية وترسانتها العسكرية ومخططاتها الإستخباراتية.
لقد كانت لعبد الناصر قدرة كبير على كسب قلوب الفقراء مصر رغم ديكتاتوريته، فإنه كان يوفر لهم شعارات كبيرة جدا قادرة على تغذية مخيلتهم على أمد بعيد، رغبة جمال عبدالناصر في توحيد الأمة العربية يكون هو زعيمها، زرع الرعب في كل الأنظمة العربية، لقد كانت سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات السنوات الأكثر عاصفة لكل القصور العربية حيث بدأت تشعر بخطر داخلي وخارجي يسعى للإطاحة بها، لكن هذا المخطط لم يكن جماهيريا بل كان فرديا قاده رجال الجيش من داخل الكتائب العسكرية وهذا السيناريو من الجيش الى السلطة، عرفته دول كثيرة، ورجال كبار، من عبدالناصر مرورا بأنور السادات، وصولا الى حسني مبارك في مصر، وكذلك كل من القذافي في ليبيا، وبنعلي في تونس، وفشل أوفقير في المغرب، ونجاح صدام في العراق. لم تكن هذه الثورات مثمرة على مستوى التقدم نحو الديموقراطية، لأنها لم تكن شعبية. وهذا ما أخر ظهور الجماهير في الساحة العربية.
اذا كانت أوروبا شهدت صعود الجماهير بشكل قوي منذ الثورة الفرنسية، فإن ظهورها في البلدان العربية تأخر الى سنة 2011 م، وهذا يعكس التأخر التاريخي للدول العربية بحوالي قرنين عن التجربة الثورية للدول الغربية، هذه الحركة الجماهيرية في حاجة الى التحليل والدراسة ويظهر منذ البداية أن لوبون لم يسيء فهمه للجماهير أبدا.
لم يكن أحدا يتوقع صعود الجماهير الى المشهد السياسي العربي، لكن العفوية التي تتميز بها الجماهير وسرعة انفعالاها، لا يسمح دائما بتوقع حركاتها. وهذا ما حدث في تونس في لحظة وجيزة تحول الحشد الى جمهور لأن الجمهور يتطلب بالضرورة وحدة ذهنية فالجماهير دائما في حاجة الى ما يوحدها، ووجدت الجماهير التونسية في انتحار البوعزيزي ما يوحدها، فانتفضت في وجه بن علي وأجبرته على الرحيل قصرا الى خارج الحدود، ومن أهم الأسباب التي أدت الى اندلاع الثورة بقوة هي وسائل الاعلام التي وظفت صورة احراق البوعزيزي وكانت هذه الصور أكثر فاعلية في قلوب الثوار.
كما تأثرت الجماهير في تونس بصورة احراق البوعزيزي لذاته، تأثرت الجماهير العربية في الدول المجاورة بصورة الجماهير التونسية وهي تحتفل بانتصارها وطردها للديكتاتور بن علي. كان من الصعب جدا منذ سنوات السبعينات التي شهدت صعود فكر اليساري اقناع الجماهير العربية عقليا بقيام ثورة اجتماعية لكن من السهل جدا التأثير في الجماهير بالصور وهذا بالفعل ما حدث، فالتغطية اليومية لأحداث الجماهير في تونس أدى مباشرة الى خروج الجماهير في المغرب وليبيا ومصر وجزائر واليمن والكويت ومن بعد سوريا، وهذا الحدث يذكرنا كيف استطاع جورح بوش كسب تأييد جماهيري كبير انطلاقا من الصورة التي تجسد اختراق الطائرات لبرج التجارة العالمية، بما أن التجارة هي عصب الدولة فإن هدم ابراج التجارة ولد في نفسية الجماهير حقدا شديدا، وبدون وعي أيدت جورج بوش في حربه على الارهاب. كذلك انتظرت الجماهير" الأمريكية" كثيرا لكي تفهم أن الطائرات لم تكن طائرات اسامة بلادن، بل فقط قادمة من جنوب فلوريدا دمرت وسط أمريكا وعصبها الحضاري.
أكثر الجماهير تأثرا بأحداث تونس هي الأقرب إليها، ونقصد ليبيا لقد تحركت الجماهير في ليبيا بطريقة أكثر عفوية لكن أكثر دموية وعنف، لقد خرجت الجماهير من أجل تحقيق الديموقراطية والمساواة. وهذا مطلب انساني وكوني لكن الجماهير تفقد نزعتها الأخلاقية بمجرد ما تتحرك بشكل جماعي. فقتل القذافي بطريقة وحشية يعكس عدم وعي الجماهير بقيم التي أصلا خرجت من أجلها، ففعل القتل غير إنساني ومحزن لكن قتل القذافي يشكل مصدرا للفرح والسرور والرقص لقد رقص الليبيون على قطرات دم القدافي، وهذا يعكس لاوعي الجماهير وعنفها. ونفس المشهد كان قد تكرر مرارا في المغرب في عهد الاستعمار ومن قرأ رواية محمد شكري "زمن الأخطاء" و "الشطار" يعرف كيف اقتات الجماهير من عبد باشا العرائش الذي أجج غضب الفلاحين لنزعته الاسبانية، رغم فرار الباشا الى اسبانيا قتلت الجماهير عبده ومثلت بجثته وزغردت النساء احتفالا بموت عبد لم يساهم لا في تخلف المغرب ولا تقدمه ولا في استعماره.
لقد نجحت على الأقل الثورة في تغيير اسم الحاكم في كل من تونس وليبيا، وهذا ما نجحت فيه مصر كذلك، لقد سقط حسني مبارك وفتح المجال للصراع السياسي الذي كان قد غاب بفعل الجلوس الدائم على العرش، هذا المصير كان قدر الرئيس اليمني" علي عبدالله صالح" ولازال أمل الجماهير في أن لا يحيد مصير بشار الأسد عن هؤلاء.
خرجت الجماهير في الدول العربية دون تخطيط، بل بشكل عفوي وتلقائي ناتج عن تأثر الجماهير بالصور اليومية التي كانت لا تفارق قنوات الاعلام الدولية، فقد كان من السهل تحريك الجماهير من خلال رفع شعارات دينية أو اشتراكية فلقد وجدت الجماهير الحالمة في هذه الشعارات أملا للحياة، حتى لو كانت واهمة أو زائفة، فلا يهم لكنها تظل شعارات مؤثرة وأكبر شعار مؤثر هو "الربيع العربي"، فالربيع دليل على الحياة، وعلى النضج والانفتاح، وعلى الأمل. هذا الاسم الرنان خلف أثرا في قلوب الجماهير فخرجت الى الشارع للاحتجاج مثلما تخرج للاستمتاع بربيع أبريل، لكن الربيع لم يزهر في عقول الجماهير بل كان الربيع رومانسيا وبما أن للعشق زمن سيكولوجي قصير كذلك كان عمر الربيع العربي في بعض البلدان كذلك.
لقد خرجت الجماهير من أجل الحرية والديموقراطية، وهو مطلب إنساني وقانوني، وكان هذا من المفروض أن يقود الى صعود الحركات العلمانية والمد الاشتراكي الى الحكم، لكن كل هذا لم يحدث، فالجماهير على المستوى الذهني مسكونة بهاجس ديني. وربما النزعة الدينية للجماهير هي سبب الرئيسي في فشل الحركات اليسارية في الدول العربية ما بعد مرحلة "الاستعمار". فكان كافي جدا أن يتم احلال "الحزب الشيوعي المغربي"من خلال اتهامه لتبنيه أفكارا لا دينية وخصوصا أن من قادته يهودي معروف هو "ابراهام السرفاتي"، فبدلا من أن ينتهي المطاف بقيادي الحركات اليسارية في المغرب وباقي الدول العربية في سدة الحكم انتهي بهم الأمر في السجن، دون أن يثير غضب الجماهير لأنهم في نظرها مخلوقات لا دينية تستحق الموت.
الشعار الذي ساد في مرحلة الاستعمار من شرق الوطن العربي الى مغربه هو "مبغيناش يحكمونا النصارى" لم يكن يعرف المواطن العربي كلمة مستعمر أو فرنسي أو أجنبي أو مقيم، فكل هؤلاء يختزلهم في كلمة واحدة هم "النصارى" وللنصارى معنى قدحي في مخيلة الجمهور العربي، فهم اعداء الله والرسل ولذلك وجب طردهم، فأحسن رجل سياسة وحتى وإن كان لا يوجد إن كان نصرانيا فلن يرضى به المواطن العربي، حتى لو كان قادرا على ضمان الحرية والكرامة التي فشل الحكام العرب في تحقيقها.
لقد وجدت الجماهير في الحركات الإسلامية أملها، وخاب ظن الحركات اليسارية في الجماهير‘وهذه نتجية منطقية في نظر لوبون. فصعود الحركات الاسلامية الى الحكم عادي جدا نظرا للتركيبة الدينية والعرقية للجماهير، فاستثمار الشعارات الدينية كان كافي جدا لتحريك الجماهير التي كانت ترى في حكامها السابقين رجال "مطيعون للغرب ويهود.."، ووجدوا في أصحاب اللحي الطويلة المهدي المنتظر. فالجماهير في حاجة دائما الى حاكم يؤمن بدينها، هذا ما يفسر البروتوكول الصارم للحكام العرب عبر التاريخهم، فالتزامهم الديني وحرصهم على عقيدة شعوبهم على المستوى الاعلامي يشكل مفتاحا لضمان حياتهم السياسية المشبعة بالترف. فالجماهير لا تميز بين الحاكم المحنك العالم بشئون السياسة، ورجل يلبس عمامة ويحفظ آيات من الذكر الحكيم، فالثاني في نظرها أفضل للحكم من الأول. وهذا الأساس الديني قامت عليه حركة الإخوان المسلمين في مصر فهي لم تكف في كل خطاباتها عن القول أن مرسي أول رئيس مصري حافظ للقرآن، لكن كان ينبغي عليه أولا أن يحفظ كتاب "الأمير".
مهما يكن جاء الربيع وجاءت الرياح، لكن رياح الجماهير تفتقد الى الاستمرارية نظرا لضعف قدرتها، ففشل الجماهير في بلدان مثل المغرب والجزائر والكويت يعود بالدرجة الأولى الى التركيبة الذهنية المعقدة، بالإضافة الى ذلك افتقدت الجماهير في هذا البلدان الى شعارات رسمية ممكن تبينها. لقد خرج عشرات من الناس ولكن بأفكار مختلفة، ومطالب مختلفة، وقيادات مختلفة وغير مؤثرة. هذا الشتات لم يسمح بظهور جماهير متجانسة في هذا البلدان عندما تفتقد الجماهير الى الوحدة الذهنية والعرقية يضعف عملها وهذا ما عجل بذبول الحركة الجماهيرية في هذه البلدان، كما أجج من جهة أخرى الصراع داخل مصر بعد رحيل مبارك فالتعدد العرقي والديني في صفوف الجماهير يضعف عملها، فبدلا من أن تتوحد الجماهير للعمل أكثر والدفاع عن الثورة، فإنها وجدت نفسها ممزقة ومتعددة الاختيارات على المستوى السياسي. قبل الثورة كان يوحدها هاجس اسقاط مبارك وبعد مبارك فرقها من يجب أن يحكم بعده.
يبقى للجماهير الحق في الاختيار بعد أن اكتسبت القدرة على التمرد، وإذا ما انطلقنا من وضع مصر ما بعد الثورة، فإننا نكشف عن الوجه الحقيقي لعمل الجماهير، فالجماهير التي خرجت مطالبة بإسقاط حسني صعدت بمرسي، فهي انتقلت من النقيض الى النقيض والآن تبحث عن نقيض آخر لمرسي وقد تجد في الحركات اليسارية أو الجيش أي نقيض مرسي، فعادي جدا في نظر لوبون أن ترتد الجماهير عن ثوراتها فهي الآن كما هو مسجل في مصر الثورة على الثورة وهذا يفسر الطابع المحافظ للجماهير.
تعمل الجماهير كما تعمل الرياح، فهي عندما تهب لا تمييز بين الأشياء والأشخاص، خرجت فدمرت وقتلت وسلبت وندمت على ذلك أحيانا وهذا ما حدث في عهد صدام، لقد أعدم صدام وشكل اعدامه ميلادا جديدا للعراق هذا على الأقل ما اعتقدت في الجماهير وفرحت بذلك أي فرح وتحالفت مع أمريكا التي أوهمت الجماهير العراقية بحرية أبدية. لكن فجأة غابت الحرية والديموقراطية والأمن والتعليم والصحة، فأصبحت الجماهير اليوم تبحث عن صدام جديد ولو تطلب شراءه ذهبا، فعلى الأقل ديكتاتور جلب للعراق الاحترام الدولي ولا عراق ممزق يستحيل أن يولد من جديد لقد تحققت نبوءة حافظ الأسد لما قال يوما ما لبوش الأب ناصحا إياه بعدم احتلال العراق من أجل الدفاع عن الكويت " إن دخلتم الى العراق يستحيل الخروج منها". لقد خرجت أمريكا من العرقية ولم تخرج من العراق لأن العراق لم تعد موجودة بعد موت صدام، حاجة الجماهير الى العراق يفسر حنينهم الى صدام حتى ولو كان ديكتاتورا فغالبا ما تندم الجماهير وتكشف أن أفعالها في الغالب هي مجرد مراهقة سياسية تخسر فيها حبيبها الأول.
لم تخسر الجماهير العربية أي شيء كما لم تكسب سوى قدرتها على الاحتجاج، هذه القدرة التي افتقدتها خصوصا في السنوات الأخيرة، قدرتها على الاحتجاج يعكس عدم قدرتها على صبر فهي لم تصبر لا على مرسي ولا على أي رئيس الجديد فهي ثائرة ومرتدة عن الثورة، لكن ثوراتها لم تكن عنيفة الى حد ممكن أن يسمح بميلاد ديموقراطية جذرية، ستبقى الجماهير العربية في حاجة الى ثورات عنيفة لكي تتعلم منها درس الحرية والديموقراطية، ما يمكن أن تسفر عنه الثورة السورية في المستقبل سواء نجح بشار أو المعارضة ديموقراطية أكثر من أي ديموقراطية صاعدة في الدول السابقة في نظري المتواضع. فكلما كانت الثورات عنيفة تتولد منها ديموقراطية واعية، من قلب الحربين عالميتين مدمرتين خرج لنا اتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وعسكرية، يستحيل أن تدخل أوروبا في حرب جديدة لأنها تعلمت جيدا من درس الحربين.
ما يمكن أن نخلص إليه هو أن جماهير قوة فعالة في الاطاحة بالأنظمة، ومنفعلة في اختيار البدائل، وغير قادرة على الصبر فحاجتها الى تغيير المؤسسات لا يخفي عقليتها المحافظة، كما أن تغيير المؤسسات غير كافي للوصول الى ديموقراطية حقيقة فالبرلمان يوجد في الدول المتخلفة كما يوجد في الدول المتقدمة لكن عملها ووعيها يختلف، فتغيير الدستور في المغرب ومصر وليبيا غير كافي لإنشاء ديموقراطية حقيقية لأن الجماهير غير مؤهلة سيكولوجيا للتغير في لحظة وجيزة، لا يمكن أن ننتقل من الاستبداد الى الحرية بتغيير اسم مؤسسة أو اسم حاكم دون تغيير عقلية الجماهير، تغيير عقلية الجماهير هذا هو أمل كل عربي في المستقبل القريب أو أن تكون الجماهير واعية بدورها التاريخي ومسؤولة عن تصرفاتها غير المسؤولة والمدمرة ونزعتها المحافظة والاعتقادية.
يستطيع القارئ أن يجد في كتاب "سيكولوجيا الجماهير" مرجعا أصيلا لفهم حركات التمرد العربية والعالمية، لقد استطاع لوبون النفاذ الى البنية النفسية والذهنية للجماهير والكشف عن أفكارها وعقائدها غير الواعية، وعن نفسيتها الهشة والمنفعلة. فبقدر ما تشكل الجماهير قوة فعالة تشكل قوة منفعلة قابلة للترويض" إن الجماهير ثور ولكن قابل للترويض والتلاعب به" وهذا ما حدث على مر التاريخ. بهذا يكون لوبون قد كشف لنا عن نفسية الجماهير وعن نقاط ضعفها وقوتها، وقدم للحكام مفاتيح للتلاعب بالشعوب والتحكم فيها، وهذا ما قاله لوبون نفسه يوما ما " لقد أصبح الفكر السياسي لميكيافيللي كلاسيكيا لكن لم يحاول أحد تطوريه" لذك حاول أن يطوره ورأى في نفسه مكيافيللي جديد وحاول تجديد فكره السياسي وقدم لنا نظرية "سيكوسياسية" في القرن العشرين، لكن والى الأبد لا ذنب للعنب بما فعله النبيذ ولا ذنب لميكيافيللي بما فعل الحكام بشعوبهم.




عبدالحق رحيوي مدرس الفلسفة تاونات المغرب



#عبدالحق_رحيوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدرس السقراطي والمدرسة الخصوصية
- الجنس والجنسانية من وجهة نظر تاريخية


المزيد.....




- أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن ...
- -سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا ...
- -الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل ...
- صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
- هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ ...
- بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
- مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ ...
- الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم ...
- البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
- قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحق رحيوي - الثورات العربية على ضوء كتاب -سيكولوجية الجماهير- جوستاف لوبون.