أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - خطايا السَّيد المسيح - 2















المزيد.....


خطايا السَّيد المسيح - 2


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 4342 - 2014 / 1 / 22 - 23:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


[هذا المقال مُخصص للرد على بعض تعليقات المقال السَّابق]


في البدء يجب أن أشكر الصُّدفة الرَّائعة التي جمعتني مُجددًا بصديقي الأسفيري (حكيم العارف) والذي أراه الآن بعد غيبةٍ وانقطاعٍ طويلين، وأتذكر الآن بعض الصَّديقات والأصدقاء الأسفيريين الذين أفتقدهم بشدِّة، وأتمنى صادقًا أن يكونوا بخير، ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر:
* وجيدة
* حمزة البديري
* Nana Ameen
* ليندا كبرييل (قارئة الحوار المتمدن)
* Sir. Galahad
* المنسي القانع
* سرسبيندار السندي (س. السندي)
* عبد القادر أنيس
* عهد صوفان
* المترصد
* مكارم إبراهيم
وآخرون كُثر مازالوا عالقين في ذاكرتي التي أصابها الوهن على غير كِبَر.

والآن نعود إلى موضوع المقال الرئيسي، وقبل أن أبدأ باستعراض التعليقات والرَّد عليها، أرغب في إرساء قاعدة فلسفية أساسية، حتى لا يكون الحوار على أرضيةٍ رخوة، وكنتُ قد فكَّرت أن أبدأ مقالي هذا بتناول بعض المفاهيم العامة والمُتداخلة بغرض فك الالتباس بينها، مثل: الأخلاق، المبادئ، الآداب العامة، القانون، الدين، التربية، الأعراف والتقاليد. ثم عدلتُ عن ذلك لمَّا رأيتُ أنَّ مدخلًا كهذا، رغم أهميته البالغة، قد يتطلَّب عدَّة مقالات، ولكن أترك أمر البحث حول هذه المفاهيم للقراء، وأبدأ أنا حديثي بتناول مفهوم (المُطلق)، فهل نعرف ونفهم فعلًا ماذا يعني هذا المفهوم؟ منبع سؤالي، في الحقيقة، هو أنَّ غالبية التعليقات الواردة في المقال الأول إمَّا أنَّها تشي بعدم فهم حقيقي وواضح لمفهوم المُطلق، أو أنَّها تتغاضى عن هذا الفهم وهذه المعرفة وتتجاوزه. ولشرح هذه النقطة، دعوني أبدأ بهذه الأسئلة كرياضة ذهنية للإحماء فقط:
* هل الأخلاق مفهوم ثابت مُطلق أم مُتغير نسبي؟
* هل هنالك مصدر للأخلاق؟ وهل هذا المصدر (إن وُجد) ثابت مُطلق أم مُتغير نسبي؟

بعض المُتدينين، إن لم يكونوا كلهم، يرون أنَّ هنالك مصدرًا للأخلاق، وبالضرورة فإنَّ هذا المصدر هو (الله)، وبالضرورة فإنَّهم يعتقدون أنَّ هذا المصدر ثابتٌ ومُطلق، ورغم أنَّه من المُعيب أن نعتقد بمفاهيم ستاتيكية static بعد ما يقرب من مائةٍ وثلاثين عامًا على ظهور قوانين الجدل الماركسي dialectic ، وما يزيد من نصف قرنٍ على نظرية النِّسبية لألبيرت أينشتاين، التي حطمت أسطورة الثابت والمُطلق، وأطلقت عليهما رصاصة الرَّحمة، إلَّا أنَّني سأُناقش هذا الأمر، لأنَّ العلم والنَّظريات العلمية ليست بذات أهميةٍ تُذكر لدى كثيرٍ من المُتدينين، لاسيما إذا تعارضت مع "ثوابت" عَقدية dogmatic لديهم.

حسنًا، الله هو مصدر الأخلاق، وهو ثابتٌ ومُطلق! فإذا عرفنا أنَّ هنالك عشرات الآلهات اليوم، لأنَّ الإله اليهودي ليس هو الإله المسيحي، والإله المسيحي ليس هو الإله الإسلامي، والإله الإسلامي ليس هو الإله الهندوسي، والإله الهندوسي ليس هو الإله البوذي ... وهكذا، فإنَّنا سنجد أنَّ تعدد الآلهات يضرب في اعتقادنا بثبات المصدر، فكيف يكون المصدر ثابتًا ومُتعددًا في الوقت ذاته؟ وحتى إذا افترضنا أنَّ الأهم هنا هو اعتقاد المُتدينين بوجود مصدر فوقي واحد للأخلاق، بصرف النظر عن كينونة هذا المصدر أو اسمه أو حتى اختلاف تصوراتهم عنه، فإنَّ هذا الاعتقاد يضرب في كون هذا المصدر الثابت مُطلقًا، لأن التعاليم مُختلفة، فهل قد يعترف المسيحيون، مثلًا، بأخلاقية تعاليم الإسلامي؟ بالطبع لا. فالناتج أنَّ لدينا مصادر مُتعددة (وليست ثابتة) ولكل مصدر تعاليم مُختلفة (نسبية وليست مُطلقة)، وهذا يجعلنا نقول بأنَّ الأديان (من حيث هي الشكل المُؤسسي للعلاقة بين الإنسان والله) ليست مصدرًا للأخلاق. بالطبع لن أتطرق إلى وجود نماذج غير أخلاقية لرجال الدين أو المُتدينين، ولكن هل باستطاعتنا فعلًا أن نقول: "المُتدين لديه أخلاق وغير المُتدين بلا أخلاق"؟ بالطبع لا يُمكن. الواقع يقول إنَّ هنالك من المُتدينين من لديهم أخلاقٌ ومنهم من ليس لديهم أخلاق، وكذلك غير المُتدينين، منهم من لديهم أخلاقٌ ومنهم من ليس لديهم أخلاق أيضًا.

إلى هذا الحد يُمكننا أن نفهم تمامًا أنَّ التدين أو حتى عدمه لا علاقة له بالأخلاق ببساطة لأنَّ الأخلاق من المفاهيم المُجرَّدة أو المُجرَّدات Abstractions ومصدرها هو الإنسان نفسه (وليس الله). الإنسان من حيث هو كائنٌ مُتفاعلٌ مع بيئته ومع ما حوله من أشياء، وحيث أنَّ الإنسان (كأيَّ شيءٍ آخرٍ في الكون) نسبيٌ وغير ثابت، فكذلك الأخلاق نسبيةٌ وغير ثابتة، ولهذا تختلف عادات الشعوب وتقاليدها وقوانينها، وحتى المعايير الأخلاقية تختلف من فردٍ لآخر، وشعبٍ لآخر، ومن أتباع ديانة لأتباع ديانةٍ أخرى، لأنَّ الدين في أساسه واحدٌ من المكوِّنات الثقافية للإنسان، وبعبارةٍ أخرى: الدين صناعةٌ بشرية أملتكها الطبيعة البشرية، ولهذا تتعدد الأديان والمُعتقدات والتعاليم. ومن الطَّبيعي أن ترى كل مجموعة بشرية أو جماعة أو أتباع ديانة أو حزب سياسي أو قبيلة أنها على صواب والبقية على خطأ، ولهذا يرى المسيحيون عيوب مُحمَّد ولا يرون عيوب المسيح، ويُبررون لسلوكه وأقواله ولا يُبررون لسلوك وأقوال مُحمَّد.

عمومًا، أرى أنَّي قد أطلتُ في المقدمة، ولكن كان لابد منها على أيّ حال. هذا الجزء سوف أُخصصه للرد على تعليقات السَّيد شاكر شكور، بالإضافة إلى بعض التعليقات المُتفرِّقة التي رأيتُ أنَّها تستحق الرَّد، مع كامل احترامي لكل التعليقات، وسوف أبدأ بذكر التعليق أولًا ثم تعليقي أو ردِّي عليه.

يقول السَّيد شاكر شكور: "كلنا نعلم بأن السيد المسيح عاش حوالي مدة ثلاثة وثلاثون عام على الأرض خالط وعاصر فيها التشدد اليهودي ممن يعبدون الحرف التوراتي وشاهد ايضا ظلم الرومان في استعباد الشعب ومع هذه الفترة وجدنا ان ما مكتشف في هذه المقالة مما يعتقده الأخ الكاتب زلات في القياس البشري لهذا العصر لا يتعدى عدد هذه الزلات اصابع احدى اليدين"(انتهى الاقتباس)

هنالك ما يُسمَّى بالكُليَّات المُوجِبة the positive absolutes والحقيقة أنَّ نقد أو دحض أو حتى نسف الكُليَّات المُوجِبة لا يحتاج لأكثر من مثالٍ واحدٍ مُخالف لتسقط الكُليَّة المُوجِبة بأكملها، وتجعلها خاطئة أو غير كاملة أو دقيقة، وبمعنى تجعلها غير كُليَّة، هنا المسألة غير مُرتبطة بالعدد أو بالكم أبدًا، فمثلًا عندما يقول أحدهم: "الإوز أبيض" فهذه كُليَّة مُوجِبة لأنَّه يعتقد بأنَّ كل الإوز أبيض، وحتى تُصبح عبارته صحيحةً (وبالتالي اعتقاده صحيحًا كذلك) فيجب أن يكون فعلًا كل الإوز أبيضًا، وإلَّا فإنَّنا لو عثرنا على إوزٍ واحدٍ أسود مثلًا فإنَّ جُملته ستكون غير صحيحة، ولا يحتاج الأمر إيجاد فصيلةٍ كاملةٍ من الإوز الأسود حتى يُصبح نقدنا صحيحًا، لذا فإنَّ استخدامنا للكُليَّة المُوجِبة يُعتبر مُجازفةً حقيقية. علمًا بأنَّ الآراء الذَّاتية هنا ليست ذات اعتبار، كأن يرفض الشخص الاعتراف بوجود إوزٍ غير أبيض، أو يُجادل حول ما إذا الإوز الذي عثرنا عليه أسودًا فعلًا أم رماديًا، أو ما إذا أسودًا أصلًا أم، كما فعل السَّيد شاكر شكور عندما قال: "ولنرى هل كانت هذه الزلات غير اخلاقية فعلا"(انتهى الاقتباس)

يقول السَّيد شاكر شكور: "عندما يخاطب الأبن اباه ويقول له عبارة (يا رجل) فهل هذا يعني انه يقلل من احترام الأب؟ إذن لماذا تكون عبارة يا إمرأة بمثابة اهانه لها هل لأننا نحمل ثقافة شرقية؟ العوائل في الغرب ينادون بعضهم البعض بأسمائهم بدون اي كلفه بينهما فهل هذا هو قلة احترام الصغير للكبير ام هي ثقافة كل بلد ؟ بعض المفسرين يقولون ان في اللغات القديمة كالآرامية لم يكن هناك فرق بين كلمة إمرأة وكلمة سيدة"(انتهى الاقتباس)

الغريب أنَّني أوردتُ مثال الأب فعلًا حتى لا يُفهم أنَّ الأمر له علاقةٌ بالثقافة الشَّرقية الذكورية، وقلتُ نصًا: "مُخاطبة الأم أو الأب بالخطاب الجندري فهذا من قلَّة التأدب"(انتهى الاقتباس) وإلى هذا الحد فلا أظن أنَّ للأمر علاقةٌ بقضية ثقافة شرقية أو غربية، علمًا بأنَّ يسوعًا ينتمي إلى الثقافة الشَّرقية وليست الغربية، وعلى أيّ حال فحتى في الغرب فلا أحد يُنادي أحد الوالدين بخطابٍ جندري: "يا رجل" أو "يا امرأة"، فحسب ما أعلم فإنَّهم يُنادونهم بوصفهم البيولوجي الوظيفي:
"dad"، "mom"، "père"، "mère"، "papá-;-"، "mamá-;-"
هذا عندما يتعلَّق الأمر بمُخاطبة الوالدين، رغم أنَّهم ينسبون المرأة المتزوِّجة إلى اسم عائلة زوجها، وهذا موضوعٌ آخر، ولكن دعونا نُراجع السِّياق الذي وردت فيه عبارة "يا امرأة" لنرى ما إذا كان سياق احترام أم غير ذلك، سنجد أنَّ أوَّل التعابير التي استخدمها يسوع في الرَّد على أُمه كانت: "ما لي ولكِ" والتي تُقابلها في التَّرجمة الإنكليزية: "what have I to do with thee" هذه العبارة تحديدًا تُعطينا قرينة عدم التأدَّب، فهل من اللباقة أن نستخدم هذا التعبير مع شخصٍ تحترمه؟ ولنتخيَّل أنَّ مدير شركةٍ ما يسأل المدير المالي لشركته عن الميزانية الرُّبع سنوية، فهل إجابة مثل: "ما لي ولكَ" قد تُفهم على نحوٍ آخر غير قلِّة التأدب؟ لا أعتقد ذلك.

أمَّا فيما يتعلق بالقول إنَّ اللغة الآرامية واللغات القديمة لم تكن تفرِّق بين كلمة "امرأة" و "سيِّدة" فهذا مما لا يُقدِّم أو يُؤخر في شيء، لأنَّ المُطلوب هو المُقاربة بين كلمتي: "امرأة" و "أم" وليس: "امرأة" و "سيِّدة"، فحتى لو كان السَّيد المسيح قال: "ما لي ومالكِ يا سيِّدة" لبقي التَّساؤل قائمًا: "لماذا نادى المسيح أُمه بصيغة النكرة أو المجهول؟" لأنَّني لم أعترض على كلمة (امرأة) باعتبارها وصفًا مُعيبًا، ولذا قلتُ نصًا: "من البديهي أن نعترف بأنَّ الكلمة نفسها ليست معيبة أو مسيئة"(انتهى الاقتباس) على أنَّ الاستنجاد بالتَّاريخ واختلاف العصور في هذا المقام يُذكرني باستنجاد المُسلمين بالتَّاريخ ليُبرروا زواج نبيهم من طفلةٍ لأنَّ زواج الصَّغيرات كان شائعًا ومعروفًا في تلك الحقبة، ولم يكن ضد الأخلاق! فهل السّيد شاكر شكور (أو غيره من الأخوة المسيحيين) قد يُقنعهم هذا التبرير التَّاريخي لزواج مُحمَّد من عائشة وهي طفلة؟ لا أعتقد ذلك، فلماذا إذن يُقنعهم التبرير التَّاريخي لمُناداة أمه بصيغة النكرة أو المجهول؟

وأخيرًا حول هذه النقطة. في الترجمة شيء يُقال له: (الترجمة الثقافية) فلا يكفي أن تكون مُلمًا باللغة التي تترجم عنها، بل يجب أن تكون مُلمًا أيضًا بثقافة أهل تلك اللغة، هذا إن أردتَ أن تكون ترجمتكَ أمينةً ودقيقةً، وليست صحيحةً فحسب. ذكَّرني هذا بما قاله البروفيسور عبد الله الطَّيب1 عن الترجمة الثقافية، وضرب مثالًا بترجمة مقطع السُّوناتة الثامنة عشر لوليام شكسبير التي يقول فيها:
Shall I compare thee to a summer s day
والترجمة الصَّحيحة لهذا المقطع هي: "هل أُقارنكِ بيومٍ صيفي؟" ورغم صحة الترجمة اللغوية إلَّا أنَّها تظل ترجمةً غير دقيقة وغير أمينة، فشكسبير يُحاول أن يتغزَّل بمحبوبته، فما وجه الغزل بمقارنة الحبيبة بيومٍ صيفي؟ لأنَّ المقطع التالي يقول:
Thou art more lovely and more temperate
أي: "أنتٍ أكثر جمالًا واعتدالًا" فأين الجمال في اليوم الصيفي الحار؟ الإجابة سنجدها في ثقافة شكسبير وبيئته الباردة والضبابية على مدار العام تقريبًا، ففي بيئةٍ ذات مناخٍ باردٍ وقارس يكون فصل الصيف شيئًا جميلًا، على العكس من بلادنا الشرق أوسطية التي يكون فيها فصل الصيف حارًا ومُثيرًا للإزعاج، فعند ترجمة النص يجب مُراعاة هذه الفوارق حتى يصل إلينا المعنى كما أراده شكسبير، وعندها تكون الترجمة الأمينة والدقيقة: "هل أُشبِّهكِ بيومٍ ربيعي؟" فكان يجب على مُترجمي الكتاب المُسمى كتاب مُقدَّس مُراعاة هذه الفروق الثقافية، إذا كانت الحجة التَّاريخية صحيحةً فعلًا، وعلى أية حال فهذه نقطةٌ هامشيةٌ ليست لها قيمةٌ اعتباريةٌ في هذا المقام.

يقول السَّيد شاكر شكور: "من حق الخالق المتجسد ان يضع حد بينه وبين خلائقه حتى ان كان المنادى امه من جهة الناسوت وإن ناداها بإمرأة ليس هذا اقلال من احترامها بل تأكيد لها بأن الذي يتحدث هو اللاهوت الذي يعتبر اي إمرأة هي من خلائق لاهوته وهذا لم يحدث إلا عندما شرع المسيح بخدمته الاهوتية"(انتهى الاقتباس)

يسوع هو الله، والله يحق له أن يعتبر مريمًا وأن ينظر إليها كأحد خلائقه من جهة لاهوته لا من جهة ناسوته! حسنًا، دعونا نناقش هذه المسألة قليلًا لنفهم الأمر جيدًا. إذا كان يسوعٌ هو الله المُتجسِّد فهو كذلك منذ لحظة ولادته النَّاسوتية، وليس منذ بداية خدمته اللاهوتية كما جاء في رد السَّيد شاكر شكور، ولكن يسوعًا أظهر أو ظهرت ألوهيته ببشارة يوحنا المعمدان يوم أن عمَّده في نهر الأردن، وكان ذلك قبل العرس الذي في قانا بالجليل. ومن ناحيةٍ أخرى فإن قول السَّيد المسيح لأُمه: "لم تأت ساعتي بعد" يُوضِّح أنَّه حتى لحظة نُطقه بتلك الجُملة لم يكن قد بدأ بالخدمة اللاهوتية بعد، وعلى هذا فإنَّ مُناداته لأُمه بتلك الطريقة غير مُبررة لأنَّ خدمته اللاهوتية لم تبدأ إلَّا بعد الجُملة وليس قبلها. ومع معرفتنا بأنَّ اللاهوت والنَّاسوت مُتحدين باستمرار بلا انفصال فهذا يجعل كلاهُما حاضرًا في الوقت ذاته، فهو عندما قال جُملته تلك كان لاهوتًا وناسوتًا أيضًا، وعندها لا نستطيع أن نعتمد على تبريرٍ من مثل: "الذي يتحدث هو اللاهوت" لأنَّ ذلك يعني غياب النَّاسوت ولو جزئيًا. فهو عندما قال كلامه كان هو الله وكان هو ابن مريم في الوقت عينه. وعلى أي حال فحتى عندما خاطبها مرَّة أخرى بصفته ابنها النَّاسوت ناداها بصفة (امرأة) ونجد ذلك في الإصحاح التَّاسع من إنجيل يوحنا: "فلما رأى يسوع امه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لامه: يا امرأة هوذا ابنك"

يقول السَّيد شاكر شكور: "ومما يدل بأن المسيح لم يقصد اهانة امه قوله لأمه لم تأتي ساعتي بعد لكنه فعل ما طلبته امه وهذا هو اكبر تكريم واحترام وتقدير لأمه لأنه غيّر خطة خدمته لأجل ان يرضي ويطيع اوامر أمه؟"(انتهى الاقتباس)

هل فعلًا غيَّر (الله) خطة خدمته إرضاءً لأُم الإنسان، وهو الذي -حسب قولك- كان قبل لحظاتٍ من حقه أن يضع حدًا بينه وبين خلائقه، حتى وإن كانت أُمه؟ عمومًا، أنا أحيانًا حين تطلب منِّي أُمي أمرًا لا أرغب في فعله أتضجَّر وأتأفف، ولكني أرضخ لها دائمًا. هكذا نحن البشر نجمع التناقضات! فحين أتضجَّر وأتأفف أكون عاقًا، وحين أرضخ آخر الأمر أكون بارًا. ولكن فكرة أنَّ الله قد يُغيِّر خطته من أجل إنسان هذه فكرةٌ غريبة!

يقول السَّيد شاكر شكور: "في ما يخص الخمر في عرس قانا تشير احداث القصة ان رئيس المتكأ رغم سكره شعر بلذة الخمر الذي صنعه المسيح وهذا يدل الى انه صحى وعاد يشعر وهذا يثبت بأن الخمر الذي صنعه المسيح لم يكن خمرا أعتياديا"(انتهى الاقتباس)

لا أدري لم تذكرتُ خمر الجنة الإسلامية غير المُسكرة عندما قرأتُ هذا الكلام! أتدرون ما هي الخمر؟ ولماذا يُشرب الخمر؟ ولماذا سُمَّي الخمر خمرًا؟ أقول ذلك لأنَّه عندما يتكلَّم المُسلمون والمسيحيون عن الخمر فكأنَّما يتكلَّمون عن شيءٍ آخر غير الخمر التي نعرف. لا أعرف بماذا أرد على شخصٍ يقول لي بأنَّ سكرانًا أفاق عندما شرب خمرًا، بل إنَّه (عندما أفاق) ذهب ليشكر مُضيفه على الخمر الجيَّدة!! حقيقةَ هذا من الغرائب التي تواجهني في مُناقشاتي مع المُتدينين. يا سيَّدي المُحترم، القصة تقول إنَّ رئيس المُتكأ عندما (تذوَّق) طعم الخمر عرف أنَّها خمرٌ جيدة، ومعرفة الخمر الجيدة والسيئة لا علاقة له بحاسة التَّذوق، إلَّا إن كنتم تعتقدون أنَّ الخمر تُعطِّل حاسة التَّذوق فهذا أمر آخر! ولكن إذا كانت الخمر التي صنعها يسوع غير مُسكرة فماذا قصد رئيس المُتكأ عندما وصفها بأنَّها (جيدة)؟ هل كان يعني أنَّها (لذيذة) مثلًا؟!

يقول السَّيد شاكر شكور: "في ما يخص اقنوم الأبن لا يعرف الساعة ، السيد المسيح لم يقل إني لا اعرف الساعة بل قال حتى الأبن لا يعرفها وهنا كلمة الأبن خصّ بها ابن الأنسان لأن المسيح لم يقل ان ابن الله لا يعرفها فهو قد قال سابقا أنا والآب واحد فمن غير المعقول انه قصد ابن الله . والمسيح له طبيعة بشرية يأكل ويشرب ويبكي ويصلي الى لاهوته كأنسان ولاهوته المتحد بناسوته لم يعطي رخصة لناسوته ان يعرف الساعة لكي لا يعطي رخصة ايضا لكل البشر وبهذا حقق العدالة بين ناسوت المسيح وبقية البشر"(انتهى الاقتباس)

حسنًا، لدينا الآن (ابن الله) و (ابن الإنسان) ناسوتًا ولاهوتًا، وهما مُتحدين بلا انفصال ولا حتى لطرفة عين، وابن الله يعرف موعد السَّاعة، ولكن ابن الإنسان (المُتحد معه) لا يعرف!! علمًا بأنَّ ابن الله احتاج لابن الإنسان (أي جسده) كي يتكلَّم وينطق بهذه الجُملة!! لا بأس، لنحاول باستخدام منطق السَّيد شاكر نفسه: الذي تكلَّم وقال: "وأمّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب" هو ابن الله وكان يقصد بالابن هنا أي ابن الإنسان ولم يقصد ابن الله، ولكن في موضعٍ آخر يقول: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السموات إلَّا أبي وحده"(مت 24: 36) فقوله هنا: "إلَّا أبي" تعني ابن الله وليس ابن الإنسان! وعلى أيَّة حال فإنَّ القول بأنَّ ابن الله يعرف وابن الإنسان لا يعرف فهذا يطعن في اتحاد الطبيعتين: النَّاسوت واللاهوت.

يقول السَّيد شاكر شكور: "الأفعى في المسحية ترمز الى الشيطان ورؤساء كهنة اليهود كانوا مرائين كالأفاعي يقولون ما لا يفعلون ويثقلون احمالا على الناس فوصف المسيح لهم صحيح وإن لم يكن قد وصفهم بأولاد الأفاعي لأصبح حاشاه منافقا مثلهم"(انتهى الاقتباس)

أولًا اسمحوا لي، وليسمح لي عزيزي السَّيد شاكر شكور أن أتقدم باعتذارٍ عن خطأ غير مقصود ارتكبته بإيراد شاهدٍ في غير موضعه، فالآية (مت 3: 7) وكذلك (لو 3: 7) اللتان وردتا فيهما عبارة (أولاد الأفاعي) لا تخصان السَّيد المسيح، وإنَّما يوحنا المعمدان، فأعتذر عن ذلك. نأتي الآن للرد: الحقيقة أنَّ من تعاليم مُحمَّد (رسول الإسلام) الجيدة قوله: "عن أبي هريرة أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" أنا شخصيًا أعتبر هذه من التعاليم الأخلاقية الجيدة، فحتى إن كان الوصف صحيحًا، فليس من حُسن الخلق وصف الشخص بما يكره، فليس كل شيءٍ يُقال، ناهيك عن أن يكون وصفك هذا رأيًا شخصيًا يخصك أنت ويخص ما تُؤمن به، فهل ترى من الخُلق أن تنعتَ غير المسيحي بالكافر كما يفعل بعض المُسلمين؟ حتى رغم يقينك الكامل بأنَّهم كافرون فعلًا بما تُؤمن به؟ لا أعتقد أنَّ أخلاقك تسمح لك بذلك، رغم أنَّ الوصف في حد ذاته صحيح، فإذا كنت أنت (كإنسانٍ غير كامل) لن تسمح أخلاقك بذلك فكيف سمحت أخلاق يسوع (الإنسان الكامل) بذلك؟ وحتى تلك الحقائق الموضوعية (وليس فقط الآراء الشخصية) لا يُمكن أن تُصرِّح بها، فلا نقول للأعرج يا أعرج، ولا للأعمى يا أعمى، ولا للبدين يا بدين، ولا للدميم يا دميم. الأمر هنا ليس له علاقةٌ بالنفاق، وإنَّما بالحس الذوقي، فعندما تنعت الأعرج بالأعرج، فلا تتوقع أن يُصفِّق لك الآخرون، بل سوف يعتبون عليك ويُوبِّخونك على (قلَّة أدبك) لأنَّها مُعايرة ومسبَّة، رغم أنَّهم يعلمون أنَّك صادق. هكذا تُوزن الأمور عادةً في ميزان الأخلاق.

يقول السَّيد شاكر شكور: "بخصوص طرد الباعة من الهيكل فقد قال المسيح لقد جعلتم بيت ابي بيت لصوص ومعنى هذا اعتبر المسيح ان الهيكل بيته ومن حق صاحب الدار ان يمسك عصى ويطرد اللصوص من بيته فهذا عمل مشروع في كل الأعراف"(انتهى الاقتباس)

إذن فأنت قد تُؤيد مُحمَّدًا في تحطيمه لأصنام قريش بعد دخوله مكة فاتحًا، لأنَّهم كانوا يعبدون الأوثان في الكعبة (بيت الله)؟ بالضرورة أوافقك الرأي بأنَّ صاحب البيت من حقه أن يطرد الدُّخلاء واللصوص من بيته، ولكن أليس من البديهي أن نُثبت أولًا بأنَّه صاحب البيت فعلًا قبل أن نتكلَّم عن حقه في طردهم؟ أنتَ هنا تتكلَّم بأُحادية وكأنَّ فكرة أنَّ يسوع هو ابن الله وهو الدَّيان حقيقةٌ مُسلَّم بها إطلاقًا، وتنسى أنَّها حقيقةٌ فقط بالنسبة إليك، وبالنسبة إلى المسيحيين! هذه مُشكلتنا مع العقائد الشمولية التي لا ترى إلَّا نفسها، ولا تسمع إلَّا صوتها وتعتقد أنَّ الحق والحقيقة معها فقط. ثم دعني أتساءل: لماذا برأيك يحق ليسوع أن يدين أحدًا في الدنيا إذا كان هنالك دينونة؟

كان بودي أن أرد على بعضٍ من تعليقات الأخوة، ولكنني أُحس بالتعب، فأنا لا أمتلك لوحة مفاتيحٍ عربية، وأعتمد على موقع arabic-keyboard.org في الكتابة، ولكم أن تتخيَّلوا مدى صعوبة الكتابة حرفًا بحرف، لذا سأكتفي بهذا القدر شاكرًا العزيز شاكر شكور وكل الأخوة الذين شاركوا بالتعليق على المقال الأول.



-------------
1- البروفيسور عبد الله الطيب (1921 - 2003) تعلم بمدارس كسلا والدامر وبربر وكلية غردون التذكارية بالخرطوم والمدارس العليا ومعهد التربية ببخت الرضا وجامعة لندن بكلية التربية ومعهد الدراسات الشرقية والأفريقية. نال الدكتوراة من جامعة لندن (SOAS) سنة 1950 عمل بالتدريس بأم درمان الأهلية وكلية غردون وبخت الرضا وكلية الخرطوم الجامعية وجامعة الخرطوم وغيرها. تولى عمادة كلية الآداب بجامعة الخرطوم (1961 - 1974) كان مديراً لجامعة الخرطوم (1974 - 1975). أول مدير لجامعة جوبا (1975 - 1976). أسس كلية بايرو بكانو "نيجيريا"، وهى الآن جامعة مكتملة. حصل البروفيسر عبد الله الطيب على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب عام 2000



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطايا السَّيد المسيح
- فضائح السَّند والمتن في علم الحديث
- الالتفاتة الأخيرة لخلدون
- رَمَدُ العُيون في مقالة المدعو خلدون
- قراءةٌ في سِفر الوثنية
- محاولة لقراءة التاريخ الإسلامي بعينين
- زواج عتريس من فؤادة باطل
- هكذا تكلَّم يهوه 1
- يا فتيات العالم المختونات .. افتحوا
- لماذا الله غير موجود 2
- ما الغاية من حياتنا وما الهدف منها بلا دين؟
- هولي بايبل يحرق مراكب العودة - 2
- بين محمَّد ومُسيلمة الكذاب
- هولي بايبل يحرق مراكب العودة
- دردشة فقهية: حدّ الرِّدة في الإسلام
- عن العلمانية مرَّة أخرى
- الحواس التوأمية للإنسان
- انفجار .. فجأة .. صدفة .. تطوّر
- السَّببية مقبرةُ الإله
- فنتازيا التطوُّر


المزيد.....




- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي ...
- طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي ...
- ليبيا.. سيف الإسلام القذافي يعلن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - خطايا السَّيد المسيح - 2