أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - ملحمة جلجامش - الحلم















المزيد.....


ملحمة جلجامش - الحلم


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4336 - 2014 / 1 / 16 - 20:51
المحور: الادب والفن
    



لقد ترك موت انكيدو أثرا كبيرا في نفس جلجامش، الجثة التي دبت فيها الديدان جعلته يعود ليتحدى قدر الآلهة مرة أخرى، فلم تكن عادلة أبدا عندما اتخذت قرارها بموت صديقه الذي أحب، ومن هنا يقرر السعي وراء حلم الإنسان ـ حلم الخلود ـ فيشد رحاله إلى اوتنبشتم الخالد البعيد يسأله عن سر الحياة والخلود
" سأخذ دربي إلى اوتنبشتم، أبن أبار ـ توتو
سأجد في السير إليه" فريحة ص52
" وصلت ليلا مسالك الجبال
رأيت الأسود داخلني الخوف" السواح ص176
"أخيرا وصل جلجامش إلى ماشو
الجبال العظيمة التي سمع عنها الكثير
الجبال التي تحرس الشروق والغروب
قممها ترتفع مثل جدار السماء
وجذورها تغوص عميقا حتى العالم السفلي" بشور ص230
هذا الجبل موطن البشر ـ العقرب
جلالهم مرعب يخيم على الجبال
النظر إليهم موت
رأى جلجامش الرجل العقرب فارتعب
لكنه تشجع، نظر في وجهه
نادى الرجل العقرب زوجته
جاءنا رجل جسمه جسم إله
ما الذي جاء بك ما الذي دعاك للسفر الطويل؟
كيف جئت تعبر المسافات
ما قصدك؟ ما بغيتك؟"فريحة ص53و54،
بداية الدرب الذي سار فيه جلجامش وعر وصعب، ويتطلب جهدا مضاعفا لاجتيازه، ومع هذا استطاع أن يقطع جزءا لا بأس به من هذا الدرب، فرغم وجود الجبال الشاهقة وما يتبعها من وديان سحيقة، استطاع تجاوزها والاستمرار في دربه، لكن لم تقتصر الصعوبات على طبيعة الطريق وحسب بل كان هناك عوائق أخرى تتمثل بوجود الأسود المنتشرة في الطريق، فيشعر بالخوف ـ وهنا إشارة إلى إنسانية جلجامش، وأيضا على الوحدانية التي يعيشها ـ ، إلا انه يتخلص من خوفه ويقضي عليها ويستمر في مسيره إلى أن يصل إلى جبل ماشو، وهذه الجبال عظيمة ليست كباقي الجبال، فهي التي تحجب الشمس في غروبها وشروقها عن العالم، ـ وهنا يعطينا النص الملحمي فكرة الشروق والغروب التي كانت سائدة في العصور الرافدية القديمة ـ ومن هنا نجد جلجامش استطاع الوصول إلى بوابة الشمس ونهاية الأرض، ويستنتج من ذلك قدرة الإنسان إلى الوصول إلى أي مكان يريد، إذا امتلك الإرادة والعزيمة.
جاء وصف الجبال "التي تحرس الشروق والغروب، قممها ترتفع مثل جدار السماء، جذورها تغوص عميقا حتى العالم السفلي" ليعطي الهيبة لها، فهي شاهقة جدا تلتقي مع قمة السماء، وتمتد جذورها إلى "العالم السفلي" كناية على رسوخها عميقا في باطن الأرض، وهنا نجد صورتين لهذه الجبال واحدةً قبل الصعود إليها، والثانية بعد الوصول إلى قمتها، وهذا يدل على اهتمام كاتب الملحمة بأدق تفاصيل المكان، وأيضا على اهتمامه برسم صور جمالية تحمل الخيال نحو آفاق أسطورية، كما يستدل منها على المجهود الذي استطاع جلجامش أن يبذله للوصول إلى مبتغاه.
وهناك يشاهد مخلوقات مخيفة وغريبة لم يعرفها من قبل، نصفها إنسان والنصف الآخر عقرب، وهي توقع الرعب والهلع في من يشاهدها، "فنظر إليهم موت" كما أن حضورهم ـ الإحساس بوجودهم ـ "يخيم على الجبال" وهنا يشعر جلجامش مرة أخر بالرعب والخوف، وسنحاول هنا نوضح حالة جلجامش، التعب والإجهاد والجوع والعطش والوحدة، طبيعة الطريق شاق وصعب، مخلوقات أسطورية لم يشاهدها من قبل، يتجاوز كل هذا و"نظر في وجهه" فنجد الإصرار، والقدرة على السيطرة على الذات وإبداء مظاهر تنم على الإقدام رغم هول الموقف، وأيضا المقدرة على التفكير ـ الايجابي ـ وضع أسوء الاحتمالات ـ الموت ـ.
وهذا التصرف من جلجامش جعل الحيرة والاندهاش والاستغراب يقع برجل العقرب، فيندفع منادياً زوجته "جاءنا رجل جسمه جسم إله" ثم يتبع كلامه بمجموعة من الأسئلة " ما الذي جاء بك؟ كيف جئت تعبر المسافات؟ ما قصدك؟ما بغيتك؟" وهذا دليل على التعجب والاندهاش والحيرة والإعجاب الذي تركه جلجامش على رجل العقرب، فقد تخطى حواجز وموانع طبيعية وتجاوز مخلوقات مرعبة من الأسود الذي نجح في القضاء عليها، ومن ثم الاستمرار في طريق أكثر صعوبة ووعورة ومشاهدة المخلوقات صاحبة الجلالة المرعبة، وهنا يتبين لنا حجم الإرادة والقوة التي يتمتع بها جلجامش.
يجيب جلجامش على سيل الأسئلة التي دفعها رجل العقرب دفعة واحدة بكلمات بسيطة تعبر عن فلسفته الرافضة للتسليم بالموت الذي قدر على البشر
"بسب أنكيدو الذي أحببت كثيرا
بسبب قدر كل البشر، الذي أخذه" بشور ص230
"لأجل اوتنابشيتم أبي قد أتيت
أسأله عن سر الحياة والموت" السواح ص179
كلمات واضحة ومختصرة ومكثفة، تعبر عن رفض جلجامش بقدر الإنسان الذي وضع من قبل الإلهة، وكذلك يظهر رفضه الانصياع لهذا القدر والتسليم بما هو كائن، فيبحث عن شيء لم يفكر به احد من قبل، لكي يبقى حيا لا يفنى كالإلهة الخالدة، فيكون جواب جلجامش أكثر إثارة للاستغراب والاندهاش والاستحسان عند رجل العقرب، فكان يتوقع منه الإسهاب في الحديث لكنه أوجز وأوضح في ذات الوقت، فيرد رجل العقرب عليه بما يعرف عن الطريق المؤدي إلى اوتنبشيتم،
"قال رجل العقرب: لا عهد لي برجل قطع المسافات
عبر هذه المسالك
الظلام دامس، الشمس لا تشرق أبدا"فريحة ص54
كلام رجل العقرب محبط للعزيمة، ولا يحمل شيئا من التفاؤل، ولكن عزيمة جلجامش وإرادته لا تتزحزح قيد أنملة، فرغم قسوة المعلومة عليه، ونفيها واستحالتها للوصول للهدف الذي ينشد، وإعطاء وصف محبط للطريق، فهو مظلم كما انه طويل ووعر وشاهق، فيرد جلجامش ردا حازما صارما قاطعا
"أنا ذاهب مهما يكن الشقاء
لا أبالي بالحزن والألم، لا يؤذيني الحر والبرد
إن تحسرت إن تأوهت أنا ذاهب
فأفتح لي الباب" فريحة ص54
رده كان يحمل العزيمة والإصرار والصلابة، وكذلك أللامبالاة اتجاه الصعوبات مهما بلغت شدتها، الموقف المبدئي جاء ليكون أنموذجاً لمن يفكر بالتراجع عن مواقفه، فنجد جلجامش يحث كل إنسان على الاستمرار وبذل الجهد ليحقق مبتغاه ـ حتى لو كان ذلك شبه مستحيل، أو (شاذ) فعليه التقدم إلى الأمام ولو كانت الصعوبات مضطردة ومتصاعدة.
فاستخدام جلجامش لكلمة "أنا ذاهب" في نهاية كلامه لم يرد منها التأكيد على موقفه وحسب بل يراد منها إنهاء النقاش مع رجل العقرب بفتح الباب له لينتقل إلى موقع متقدم في الطريق الذي سلك، يفتح الباب ويدخل جلجامش في دهاليز الظلام وحيدا
"مشى جلجامش في الظلام
ظلام دامس وما من شعاع
لا يرى من أمامه ولا من خلفه
اجتاز ثماني ساعات مضاعفة، علا صراخه
ظلام دامس وما من شعاع
لا يرى أمامه ولا من خلفه
اجتاز تسع ساعات مضاعفة فأحس بريح الشمال
ظلام دامس ولا من شعاع
اجتاز عشر ساعات مضاعفة
صار قريبا
بعد أن قطع إحدى عشرة ساعة مضاعفة
وصلت بشائر النور
وبعد أن قطع اثنتي عشرة ساعة مضاعفة عم الضياء" السواح ص182و183
تفاصيل دقيقة لكل (عشرة ساعات مضاعفة) تعداها جلجامش تعطينا حجم المشقة والتعب والوحشة التي عانى منها، المسافة طويلة جدا تقدر ب130 كيلومتر حسب النص الملحمي، وهو طريق مظلم تماما، ويترك الوحشة في نفس الإنسان، من هنا كان صراخ جلجامش في منتصف الطريق، تذكاراً لنا بأنه إنسان مثلنا تماما يبدي الانفعال اتجاه المواقف التي تؤثر عليه وفيه، فكانت صرخاته كأنها تعطيه دفعة لإكمال النصف المتبقي من الطريق.
وقد استطاع عبد الحق فاضل أن يرسم لنا هذا المشهد بدقة متناهية وبفنية عالية تكاد أن تجعلنا نندمج مع الأحداث تماما.
"فاجتاز باب الشمس
ببأسي
وسار في طريقها
رحلة ساعة مضاعفة
كان الظلام دامسا
ولم يكن ضياء
لم يستطع رؤية ما أمامهو
اوما وراءهو
وسار ساعتين بعدها
بهمة مضاعفة
ثم مشى ثلاث ساعات مضاعفة
كان الظلام دامسا
ولم يكن ضياء
لم ير ما أمامهو
أو ما وراءهو
ما أكثر ال
أحزان وال
أوجاع وال
عناء
ثم مشى
أربع ساعات مضاعفة
كان الظلام دامسا
القر كان قارصا
الحر كان حامسا
ولم يكن ضياء
ولم ير ما أمامهو
أو ما وراءهو
وسار، سار خمس ساعات
مضاعفة
وسار، سار ست ساعات
مضاعفة
وسبع ساعات مضاعفة
ثم مشى ثمانيا
تواليا
ولم يزل ثم الظلام دامسا
والرعب دامسا
وكان في الحر وفي القر
أنين وبكاء
ولم يكن ضياء
يريه ما أمامهو
أو ما وراءهو
سار، ثم سار غير عابئ
بأي شيء صادفه
وبعد سير تسع ساعات مضاعفة
أحس بالريح الشمالية
تمسح خده طرية
لكنما الظلام لا يزال دامسا
والرعب دامسا
ولم يستطع رؤية ما امامهو
أو ما وراءهو
وسار، سار عشر ساعات
مضاعفة
وبعد إحدى عشرة
توهج الفجر بدأ من المدى
لعينه المنتظرة
وبعد أن
سار اثنتي
عشرة سا
عة مضا
عفة ..
شاع الضياء" عبد الحق فاضل ص327-330
فهنا استطاع هذا العاشق للنص الملحمي أن يشكل لنا صورة ما حدث مع جلجامش في الطريق المظلم والطويل، ومن يرد أن يتماهي مع النص الملحمي عليه قراءة "هو الذي رأى" للشاعر .
نعود إلى الملحمة فبعد انقشاع الظلام يظهر النور الخافت ثم يعم الضياء منتصرا على الظلمة، وهنا نجد الرمزية التي يحملها النص، فيكون بروز الإشعاع بداية الانتصار لجلجامش وتحقيقه للهدف الذي سعى إليه.
تستمر الموانع والمعيقات أمام جلجامش لكن بطريق وأشكال جديدة، فمع انقشاع الظلام وبروز النور يظهر أمام جلجامش مشهد بديع مذهل، بستان من الأشجار التي تحمل الجواهر والأحجار الكريمة
" كان شجر العقيق يحمل ثمارا
عنبا مدلى، فتنة للناظرين
وشجر ألازورد يحمل...
ينوء بثمره، فتنة للناظرين"السواح ص183
المشاهد الجميلة التي يشاهدها جلجامش قد توحي للقارئ بانتهاء المعيقات والصعاب، وهنا ينتهي مشواره الطويل، وقد آن الأوان لكي يستريح من عناء السفر والترحال، لكن في حقيقة الأمر تم تغير أساليب وأشكال الصعاب والمعيقات ليس أكثر، فهنا نجد تذكير جلجامش بمباهج الحياة وعليه أن يستمتع بها، متخليا عن هدفه المجنون ـ الخلود ـ فيظهر له الإله شمس محدثا
"جلجامش أين تهيم على وجهك
الحياة التي تنشدها لن تجدها
لم يسلك احد الفانين هذا الطريق
ولن يفعل ما دامت الريح تهب على البحر" السواح ص186
الإله شمس صديق جلجامش يخاطبه مؤكدا استحالة التخلص من قدر البشر ـ الفناء ـ وناصحا إياه العودة إلى الديار، فكان سؤال الإله شمس في بداية حديثه يحمل العتب والاستغراب لإقدام جلجامش على تحمل هذا الكم من التعب والإرهاق والإجهاد وراء غاية لن تدرك أبدا، ويحمل كلامه أيضا عدم رضاه على هذا الفعل، وكانت كلمة " الحياة التي تنشدها لن تجدها" تحمل الإحباط مضاعفا بالنسبة لجلجامش الذي تربطه المحبة به، فكان الإله شمس في كافة المواقف الأنفة إلى جانبه وهو من قدم له المساعدة والعون في أكثر من موقف، وهذا ما جعل كلامه ذو تأثير خاص على جلجامش.
يستمر الإله شمس في حديثه حول قدر البشر وإنهم لا بد أن يكونوا فانين ما دام هناك حياة على الأرض، وهنا حسم شمس كلامه بإغلاق الطريق أمام جلجامش، ومع كل هذا الكلام من إله محبوب وقريب من القلب إلا أن الإنسان جلجامش جاء رده يحمل شيئا من اللين والهدوء، ولكن ما زال مصرا على الاستمرار في الدرب الذي سلك
"أجابه جلجامش، أجاب شمش العظيم قائلا
بعد ما مشيت وهمت على وجهي في البراري
أأضع رأسي في باطن الأرض" فريحة ص56
"أنام السنين الآتية؟
لا دع عيني تصافحان الشمس، أعيش في النور
الظلمة تتراجع أمام النور المنتشر" السواح ص186
رد جلجامش جاء مختلف بأسلوبه وحدته عما سبقه من ردود مع رجل العقرب، فهنا نستنتج من كلام جلجامش بأنه على يقين باستحالة تحقيق مسعاه، وبصعوبة الطريق، إلا أن ذلك لن يكون حائلا دون متابعة الطريق، وكان سؤاله "بعد ما مشيت وهمت على وجهي في البراري، أأضع رأسي في باطن الأرض؟" فالسؤال المنطقي الذي طرحه كان بمثابة رد مقنع على الإله شمس، فالجواب على سؤاله يكون ضمنا بعدم التوقف وإكمال المسير، ونجد أيضا فيها التبرير لما يسعى إليه وكأنه يطلب الصفح والمساعدة من شمس، وبعد هذا يطرح جلجامش فلسفته وفكرته عن قدر الإنسان التي يجب أن يتغير ويتبدل، ليكون الإنسان كالآلهة خالدا وينعم بما تنعم به من خلود ونعيم. فكانت كلماته عن الشمس " لا دع عيني تصافحان الشمس، أعيش في النور" بمثابة تأكيد على الحب والارتباط بالإله شمس ولكن بطريقة غير مباشرة. وهنا يقنع شمس بضرورة استمرار جلجامش في طريقه، وهذا ما يستنتج من النص الذي ينقطع هنا، لنجده أمام سابتيم صاحبة الحانة المقدسة ويكون معها هذا الحوار
" عد إلى موطنك أيها الملك
وتقبل المحتوم بطيب خاطر
تذكر هبات الآلهة التي أمطرتها عليك
وكن شكورا من كل ذلك
وفكر أن تتمتع نهارك وليلك
عش في قصرك المنيف
وخض حروبك الكبرى
وكل واشرب بفرح
اتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها
إنها تجد المسرة في أحضانك
ونظر إلى الصغير على يدك
هكذا ستقضي كل أيامك
وتقبل طير الموت"بشور ص235
استخدمت سابتيم أو سيدوري ذات الكلمات التي قيلت لجلجامش من قبل، كلمات التسليم بالقدر وبما هو محتوم على البشر، كلماتها تحمل الترغيب وليس الترهيب كما كانت في السابق، فتذكره بكل نعم ورفاهية الحياة، من لذة الطعام وفرحة الرقص ورفاهية المكان ونشوة النصر على الأعداء، وشهوة الجنس ومتعة النساء،وهنا تقول له كامرأة تعلم هذا الأمر جيدا "إنها تجد المسرة في أحضانك" كتأكيد وإثارته كرجل بطبيعته يميل ويحب مثل هذا الكلام، وأخيرا تقول له عن المتعة والسعادة التي تواكب فعل الجنس، وهو إنجاب الأولاد فتقول "ونظر إلى الصغير على يديك" كناية عن استمرار حياة جلجامش من خلال هذا الصغير، وأيضا دعوة مبطنة منها ليوقف مسيرته ويعود أدراجه إلى مدينته، ثم تكمل حديثها ليتقبل القدر بطيب خاطر "وتقبل طائر الموت" ولا ندري لماذا تم تقديم "كن شكورا من كل ذلك" ولم تأخرها إلى نهاية حديثها، جلجامش بطبيعته رافضاً كل ما يصدر من الآلهة وهو في صراع معها منذ أن قرر مع صديقه انكيدو التوجه إلى غابة الأرز، واستمر هذا الصراع بعد اهانة الربة عشتار ثم قتل ثور السماء والحكم على انكيدو بالموت من قبل الإله انليل.
حديث سيدوري جاء بعدما فشلت عملية الترهيب، فكانت المرأة اللطيفة الناعمة التي يتدفق منها الحب والحنان وسيلة اخرى لثني جلجامش عن الطريق الذي سلك، وكانت كلماتها منسجمة مع حالتها كأنثى، من هنا كانت لها الوقع الأكبر في نفس الرجل جلجامش، لكن دوافع جلجامش اكبر من أن تقف في وجهها كافة اللذات والشهوات، فيرد عليها
" كيف اقدر أن اسكن كيف أستريح
وأنا سأموت وادفن في الأرض
بينما انكيدو الحبيب بات ترابا" بشور ص 235
لقد جعل جلجامش من نفسه مسؤولا عن إرجاع انكيدو إلى الحياة، وهذا العبء ثقيل جدا على جلجامش، لعدم وجود أي مساعدة له، ووجود العديد من الكلمات المثبطة والمحبطة ومن أشخاص كثيرين منهم الصديق وغير الصديق، والمتمعن لمسيرة جلجامش يجد المعيقات والصعوبات منها الطبيعي، الجبال والوديان والأسود ورجل العقرب، ومنها نفسي، الكلام الذي سمعه من كل من قابلهم، من هنا نجده يحمل طاقات جسدية يستطيع من خلالها تجاوز الصعوبات والعوائق الطبيعية، وطاقات معنوية هائلة تمكنه من عدم التراجع أمام أي كلمات مهما كان مصدرها ومصدرها، ومع هذا يستمر في طريقه الذي سلك متجاهلا كل ما سمع وعازما على مواصلة الطريق إلى اوتنابشتيم الخالد.
أمام إصرار جلجامش تستسلم سيدوري وتتركه ليكمل ما بدأه، وتخبره عن مكان الملاح أورشنابي الموجود في الغابة، والذي بدوره سيرشده إلى مكان تواجد أوتنبشتم، يذهب إلى الغابة ويشاهد الشخص المعني، فيستغرب الملاح من هيئة جلجامش ويكون حوار طويل بينهما، يطرح جلجامش فلسفته الرافضة للموت
" لماذا شحب وجهك، امتقع لون خديك
امتلأ قلبك بالحزن
لماذا هذا الشقاء داخلك؟
لماذا صار وجهك كمن أنهكه السفر البعيد
بالبرد والحر تجعدت ملامحك
وكالباحث عن نسمة ريح
تهيم في البراري
فأجاب جلجامش اورشنابي:
لماذا يا اورشنابي لا يمتلئ داخلي بالشقاء
ووجهي يشبه المسافر من مكان بعيد
وملامحي تتجعد من البرد والحر
وكالباحث عن نسمة ريح أهيم في البراري؟
صديقي الأصغر مني سنا
الذي طارد وحوش التلال واسود الغاب
الذي أنا وإياه غلبنا كل شيء، تسلقنا الجبال
امسكنا بثور السماء، ذبحناه
أنزلنا الويل بخمبابا، الساكن في غابة الأرز
صديقي الذي أحببت كثيرا
الذي قاسى معي جميع الشدائد
انكيدو، صديقي الذي أحببت كثيرا
أدركه المصير الذي من نصيب البشر
ستة أيام وسبع ليالي بكيت عليه
حتى سقطت الدودة من انفه
وخوفا من الموت، رحت أجوب القفار
الدروب البعيدة أجوب القفار
فمصير صديقي يجثم ثقيلا علي
كيف ألزم الصمت، كيف اخلد إلى السكينة
صديقي الذي أحببت صار طينا
أأضطجع أنا مثله هكذا فلا انهض إلى الأبد؟" فريحة ص59-61
أطول كلام لجلجامش مع كل من قابل، وهذا يعني انه أصبح اقرب إلى هدفه، من هنا كان الاسترسال في الكلام، لكي يدفع بالشخص المقابل إلى التعاطف مع الهدف الذي يسعى إليه، وهذا ما حدث فعلا، إذ يطلب الملاح من جلجامش أن يقوم بالاستعداد لرحلة ليوصله إلى مبتغاه ـ اوتنبشتيم ـ
" أرفع الفأس يا جلجامش بيدك
انزل إلى الغابة أقطع ستين وستين ساق شجرة
حجم كل منها ستون بوصه
اطلها بالقار
اجلبها إلي
هبط الغاب قطع ستين وستين ساق شجرة
جلبها إليه" فريحة ص62و63
نجد جلجامش لأول مرة في رحلته يكون مطيعا وينفذ ما يطلب منه، فرغم أن الطلب فيه من الاستعلاء وفية من المشقة الجسدية الشيء الكثير، إلا انه ينفذه بكل سرعة وإتقان ودون تلكؤ، فما طلب منه سيكون أدوات مهمة جدا لكي يصل إلى مبتغاه،
" فركب جلجامش واورشنابي السفينة
دفعاها على وجه الأمواج، أبحرا
وفي اليوم الثالث كانا قد قطعا
مسافة شهر وخمسة عشر يوما
حتى بلغ اورشنابي، هكذا، مياه الموت
قال اورشنابي لجلجامش
تقدم الآن، يا جلجامش، وجدف
ثم وصل اورشنابي إلى مياه الموت
تقدم الآن يا جلجامش وجدف
لكن احذر لا تلامس بيدك مياه الموت
خذ مجدافا، وثانيا وثالثا يا جلجامش"فريحة ص 63
" مع الدفعة العشرين بعد المئة استنفذ جلجامش مجاذيفه
حل حزامه
ثم نزع جلجامش رداءه
وبيديه رفع شراعا
ولما اقترب من شاطئ الجزيرة" السواح ص199
بدأت الرحلة بركوب السفينة، تتقاذفهم الأمواج، لكن إصرار جلجامش يمكنه من تجاوزها ويستطيع أن يقطع رحلة شهراً ونصف في ثلاثة أيام، يصل مياه الموت فيتم استخدام المجاديف، وبعد نفاذها يستخدم جلجامش رداءه كشراع، إلى أن يتمكن من وصول الشاطئ، وهكذا يصل جلجامش إلى مكان تواجد الخالد اوتنبشتم.
يتعرض لامتحان صعب جدا ـ خاصة لرجل أنهكه التعب وطول السفر ومشاقه ـ امتحان النوم، ويقرر اوتنبشتم أن يعود جلجامش خالي اليدين، إلا أن زوجته تحثه على إعطاء شيء لجلجامش نظير المجهود الهائل الذي بذله، فيحدثه اوتنبشتم قائلا
"جئتنا يا جلجامش وقد أعياك السفر
ماذا أعطيك فتعود إلى وطنك
سأفضي إليك، يا جلجامش بشيء خفي
فأخبرك عن نبة
أشواكها تخز يديك كما تفعل الوردة
إن وقعت يدك عليها نلت الحياة الأبدية
فما أن سمع جلجامش هذا الكلام
حتى فتح أنبوب الماء
ربط رجله بحجارة ثقيلة
شدت به إلى القاع وإذ رأى النبتة
اقتلعها مع أنها وخزت يديه
ثم نزع الحجارة عن قدمه
فقذفته الأمواج إلى الشاطئ" فريحة ص82و83
"سآخذها إلى أوراك ذات الأسوار المنيعة
هناك سأعطيها للشيوخ ليأكلوا
وأخيرا سأكل منها فاستعيد شبابي الضائع" بشور ص248
أن اعتراف اوتنبشتم بأهمية العمل الذي قام به جلجامش يأتي كتأكيد على انه استطاع انتزاع الاحترام من الآلهة رغم خلافه معها، فانتزاع الاحترام من الخصم يمثل قمة الانتصار، فكانت الهدية التي منحت لجلجامش ـ عشبه الخلود أو عشبه إعادة الشيخ إلى صباه ـ تمثل الغاية التي سعى إليها، فكان أول ما فكره فيه جلجامش شد الرحال إليها، ورغم وجودها في مكان خطر وصعوبة اقتلاعها إلا انه فعل ذلك واستطاع الحصول على مبتغاه ـ عشبه الخلود ـ
بعد امتلاكه لعشبه الخلود يبدأ جلجامش ـ بالتخطيط لكيفية التصرف بهذا الكنز، وهنا يتبين لنا بأننا أمام شخص يتفانى في إنكار الذات لصالح المجموع، كالتأكيد على عظمة تلك الشخصية، وأيضا على مسؤوليته اتجاه الشعب الذي يحكم، وهذا الأمر ـ توزيع ألعشبه ـ جاء ليؤكد على تفاهة أي هدف يحصل عليه الإنسان، وكأي شخص يحصل على مبتغاه، فعل جلجامش واخذ يفكر بطريقة جديدة ـ تقديم هذا الكنز لأهل أوراك ـ وهنا نجده قد تمرد أكثر على الإلهة فهو لم يعد يطلب الخلود لشخصه فقط بل يريد ذلك لمجمل الشعب في أوراك ولكل الناس، أي حصول الإنسان أيا كان على الخلود، وهنا سيكون بالتأكيد ثورة كبرى ضد الآلهة وقدرها على البشر.
ونستطيع القول أن مجلس الآلهة الذي اجتمع مرتين بسبب جلجامش، مرة ليخلق ندا له ومرة لينتقم منه وإرجاعه إلى عهده السابق ـ مقارعة أهل أوراك ـ هو تأكيد على الأهمية والخطورة التي يسببها لها، ونعتقد بان جلجامش لو أراد الحصول على الخلود لذاته لفعل، إلى انه سعى إلى "قلب نظام الأشياء" من خلال تجاوز القدر المحتوم على الإنسان.
ولكن نهاية الرحلة التي بدأها جلجامش لا تكون كما يريد، يعود مع اورشنابي إلى أوراك وفي طريق يشاهد بئرا، ينزل ليشرب منها، وعندئذ تأتي الحية وتأكل ألعشبه ويعود جلجامش خالي اليدين فيقول كلمات تحمل الحزن واليأس والحسرة معا
" لمن يا اورشنابي تعبت يداي
لمن سفحت دم قلبي
بل لحية الأرض فزت بالنعمة" فريحة ص84



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محلمة جلجامش -الثور السماوي-
- ملحمة جلجامش -غابة الأرز-
- ملحمة جلجامش -انكيدو في اوراك-
- ما هو المطلوب في سوريا
- محلمة جلجامش -البغي والوحش انكيدو-
- ملحمة جلجامش والجنس
- ملحمة جلجامش والآلهة
- الملعون لبدر عبد الحق
- حاجتنا إلى الإمام علي
- نزف القلوب لجهاد دويكات
- ملحمة جلجامش والمقدس
- ملحمة جلجامش
- عودة الوعي لتوفيق الحكيم
- غالي شكري واسرار الارشيف الثقافي السري
- اعمدة الحكمة السبعة
- ( النص القرآني) السحر والدين
- جزر منعزلة أم جغرافيا واحدة
- النص القرآني) يعقوب واولاده عليهم السلام
- النص القرآني (اول الكتب السماوية)
- ( النص القرآني ) عدم نضوج علم الكتابة


المزيد.....




- استقبلها الآن.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على نايل سات بأق ...
- “نزلها وشوف أولاد رزق 3”.. تنزيل تردد قناة روتانا سينما الجد ...
- ” مبروك النجاح بالدبلوم” دلوقت متاح رابط نتيجة الدبلومات الف ...
- أمين عام حزب الله: أخطر ما تواجهه إسرائيل في ساحات الاشتباك ...
- ” عبر الموقع الرسمي ” رابط استخراج نتيجة الدبلومات الفنية 20 ...
- أغان روسية في حفل موسيقي تكريما لبوتين بكوريا الشمالية
- -رائحة الكتب-.. سيرة ذاتية وفكرية للقراءة
- بجودة عالية hd.. شاهد مسلسل قيامة عثمان الحلقة 165 مترجمة ع ...
- فاطمة المحب.. فنانة تشكيلية مقدسية تفوقت في أميركا
- أم كلثوم تحيي حفلا على مسرح مهرجان -موازين- في المغرب


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - ملحمة جلجامش - الحلم