الحسين المحجوبي.
الحوار المتمدن-العدد: 4336 - 2014 / 1 / 16 - 18:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا شك أن الكثيرين يشكون في قيمة الفلسفة اليوم، أمام سيطرة التفكير المادي ، والخطاب العلمي ، خصوصا ما أصبح للعلم من مصداقية لإنسان اليوم لما له من منجزات ملموسة في مجال حياته اليومية، حيث أصبحت الفلسفة اليوم في نظره ، لا تصلح لأي شيء و أصبح ينظر إليها كخطاب يحلق في أمور غير منظورة، وممارسة وتأمل في قضايا لا يقوم بها إلا بعض الأشخاص في مدينة فاضلة لا توجد في الواقع،وأنها تعبر عن شيء غامض ومبهم لا نفع فيها، و أن الإشتغال بها مجرد مضيعة للوقت و إنهاك للعقل فيما لا طائل من ورائه. وهذا قد سبق ** لأفلاطون ** في القرن الخامس قبل الميلاد أن نبه إليه في إحدى محاوراته بقوله: "إن الجمهور ميال لاعتقاد أن الفلسفة عديمة النفع".
إن التشكك في قيمة الفلسفة اليوم وفي مهمتها الحقيقية التي أنيطت بها، إن دل على شيء فإنما يدل على عدم إدراك للفلسفة وجهل بها ، يقول **أزفلد كولبه**: "إن الأصوات التي نسمعها اليوم معلنة قرب انتهاء الفلسفة أو الزعم بأنها من الأمور الكمالية التي لا نفع فيها إن هب إلا أصوات تصدر عن جهل بماهية الفلسفة ومعناها ورسالتها التي اضطلعت بها في عصورها المختلفة."(2)
نعم، إن رفض الفلسفة والتفلسف بدعوى أنها ليست لها نتائج عملية ملموسة في الحياة ، وأنها لا تصلح لأي شيء ، و أنها لا تخدم المجتمع، ينم عن جهل كبير بماهية الفلسفة، وعن حكم جاهز في مادة رماضية يعلوها الغبار، غبار الجهل والعقم و الإنشداد إلى المألوف و المعتاد، وهذه أزمة جديدة تكابدها الفلسفة تنضاف إلى أزماتها إزاء الفكر الدوغمائي المتحجر الذي لا يستطيع تبرير وجوده خارج منطق المنفعة والربح السريع والأثر الملموس .
إن الذي يرفض الفلسفة ، استنادا إلى مبررات واهية تفتقد لأساس تقوم عليه، عقيم فكريا ، كالخادمات اللائي استهزئن من **طاليس**، وهذا قد صوره **أفلاطون** في محاورة "تياتيتوس" أبلغ تصوير، حينما ذكر كيف أن * طاليس* سقط في البئر عندما كان منشغلا بمراقبة الأفلاك و رأسه مرفوعا إلى السماء،عندما سخرت منه إحدى الخادمات بقولها :أن طاليس يضيع كل وقته لمعرفة ما يجري في السماء دون أن يكترث لما هو أمامه ، هذا الوضع التراجيدي المقلق الذي أصبحت توجد فيه الفلسفة في مجتمعنا اليوم قد سبق "لموريس ميرلوبونتي" أن عبر عن تخوفه منه قائلا " تمة ما يدعو إلى التخوف من أن ينكر زماننا أيضا الفيلسوف ، وأن لا تكون الفلسفة مرة أخرى سوى دخان في هذا الزمان" .
نعم لقد أصبحت الفلسفة اليوم دخانا و مجالا للدعاية و أصبح كل من يتفلسف غبيا و ساذجا ولا يصلح لأي شيء في أعين الناس الذين يحملون أفكارا متحجرة عن الفلسفة و الفيلسوف تكتسي ضربا من القداسة في أذهانهم .لقد صدق "ألبيركامو" عندما قال : " إن الشر الذي في العالم غالبا ما يتأتى من الجهل ".
صحيح أن الفلسفة كما قال "برتراند راسل" ليس بوسعها أن تحل المشاكل التي يعاني منها الإنسان في مختلف المجالات كما أنها لا تستخدم في مجال التقنبة ولا تحقق منفعة مادية مباشرة لكنها توسع أفاق تفكيرنا وتمنحنا مجالا واسعا لمساءلة هذا النوع من المعارف الإنسانية الذي يعتبر الفلسفة خيالا لا يقين فيه، لكن في حقيقة الأمر فحتى هذا النوع من المعارف يعتبر تفلسفا في حد ذاته و الذي يرفض الفلسفة و يعتبرها غير ذي قيمة يمارس هو نفسه التفلسف كما قال "كارل ياسبرز" بدون أن يكون على وعي بذلك. من هنا يمكن القول بأن الفلسفة سواء رفضناها أو إعتبرناها بدون فائدة أو هراء فإنها تبقى أمرا لا مفر منه يقول "كارل ياسبرز" :" إن الفلسفة ماثلة في مجتمع الناس ، وفي الأمثال المأثورة وفي الصيغ الفلسفية الجارية وفي الإقتناعات السائدة ، وفي التصورات السياسية ، وبوجه خاص في الأساطير منذ بداية التاريخ".
إن الفلسفة عكس ما يعتقد البعض ليست فكرا مثاليا أو متعاليا عن قضايا الناس كما يعتقد البعض بل هي ملتزمة دائما بقضايا الوجود الإنساني منذ ظهورها مع الإغريق إلى يومنا هذا وفي هذا إثبات لوجودها و تبرير لصلاحيتها يقول "ميرلوبونتي":" إننا لا نتفلسف بمغادرتنا للموقف الإجتماعي"
إن وراء الطابع التأملي للفلسفة ، يوجد فكر حي ويقظ، والفلسفة بأسلوبها القائم على النقد والمساءلة المستمرة لكل ما هو موروث وجاهز ومتداول، وبنظرتها الشاملة لكل مظاهر الكون والطبيعة و الإنسان، يجعلها حاضرة بقوة في صلب حياة الناس، إنها تهتم بمشاكل الناس وتعمل جاهدة على تحليل هذه المشكلات ومعرفة أصولها وجذورها، كالعدالة، الحرية ، السعادة ...إلخ.على سبيل المثال لا الحصر، يقول "فرويد"في كتابه "قلق في الحضارة":**ماذا يطلب الناس من الحياة؟وفيما يأملون؟ ليس تمة من احتمال في أن نخطىء لو أجبنا بالقول:إنهم يرمون إلى السعادة، الناس يريدون أن يكونوا سعداء وأن يستمروا كذلك**.
صحيح أن الإنسان يبحث عن السعادة، ويهدف إلى أن يكون سعيدا في حياته، مادامت السعادة قضية من قضاياه الوجودية ، تلتزم الفلسفة دائما بالبحث فيها ، ليس هذا وحسب، بل تعمل دائما على خدمت المجتمع ، مادامت فكرا وخطابا يخرج من رحمه ويرتد إليه. وتاريخ الفلسفة حافل بالنمادج، اللذين كانوا دائموا الإتصال بواقعهم الإجتماعي، ملتزمين بهموم الناس ومنشغلين بقضاياهم، ماداموا ( الفلاسفة) كما يقول "ماركس"**لا يخرجون من الأرض كالفطر بل هم ثمرة عصرهم وبيئته**.
إن الفلسفة منذ ميلادها مع اليونان كانت مرتبطة بالحياة الإجتماعية، ولعل خطاب "سقراط" *إعرف نفسك بنفسك* مثالا حيا للإلتحام بالناس، ذلك أن الغاية من الخطاب السقراطي، ليس تشييد وبناء خطاب نظري، بل الرغبة في تحرير الفكر من الأوهام وتوعية الجماهير. وبالتالي فحوار سقراط لأبناء مجتمعه كان موجه بقصدية، وهي النضال من أجل تأسيس قيم إنسانية عليا.لكن دفاع سقراط عن هده القيم كلفه حياته، حيث اتهمته السلطة اليونانية بإفساد الشباب والمس بالمعتقدات،من تم كان موته تجسيد لموقف فلسفي نضالي من أجل المثل الإنسانية النبيلة، لأنه فضل أن يموت على أن لا تموت الحقيقة في أذهان الناس.
ختاما يمكن القول، إن الفلسفة أبانت عبر تاريخها أنها في خدمة الإنسان،فهي تولي أهمية قصوى له، ولا تهتم بالقضايا إلا بقدر ما ترتبط به ، يقول "فيورباخ":**إن كل فلسفة تأسس خارج الإنسان و بمعزل عنه لا يمكن اعتبارها فلسفة**..
#الحسين_المحجوبي. (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟