|
حكايات من برشلونة (2)
باسم النبريص
الحوار المتمدن-العدد: 4331 - 2014 / 1 / 10 - 12:15
المحور:
الادب والفن
[البغل] لقبي ويروق لي. لقبي أيامَ قرية الجبل. كنا في السادسة، ونلهو في الوادي بين الشجر. وكانت هوايتي الأولى أن أخلع الغصون وأكوّمها وأحزمها بحبل، ثم أرجع بها لأبي المشلول، فيفرح الشيخ بمسئوليتي المبكّرة. لقبي وأطلقه عليّ أترابي. لقبي ومازلت معتزّاً به. ليس به فحسب، إنما بمن أطلقه عليّ: الرفيق سانتوس، الأشرم. سانتوس، الذي صار حين كبر، شيوعياً في الحزب، وله، كما لحزبه العظيم، قصص بطولة في زمن فرانكو. الآن، الأجيال الجديدة لا تُعنى. منطقة الرمبلاس هذه، كانت ميدان مواجهات عدّة مع قوات الجنرال. كان الرفيق سانتوس، يجيد نصب الكمائن لهم. ضرباته دائماً موجعة. لقد نسي الرامبلاسيون هذا التاريخ المجيد، وذلك البطل المغدور. صارت عيونهم وعقولهم مركّزة فقط على السيّاح. أنا البغل، لم أنسَ. وكيف يا أعزائي ينسى المرءُ أنصع أيامه؟ الرامبلاسيون فقدوا ذاكرتهم. ليتهم هم وحدهم، بل كل الأهالي. أنا البغل، أذهب إلى بار ميغيل وأشرب كبغل وأتذكّر. لأنه يجب أن يتذكّر أحدٌ ما، خاصةً إذا كان شاهدَ عيانٍ مثلي. أنا البغل، أقعد في مكاني المفضّل، في آخر الزاوية اليمنى من البار، وأشرب كبغل، لكي أتذكّر كبغلٍ أيضاً. لا ينفع أن تتذكّر كعصفور. العصافيركائنات لطيفة حقاً، بيد أنها خفيفة الجأش، رشفةُ بيرة وتغفو. إن تذكّرتَ فلتتذكّر كبغل. لا يوجد خيار آخر. أجلس وأتذكرهم رفاقي: من قضى في المكسيك إبّان الهجرة الكبرى. من اعتلّ. من تزوج خمس مرات. من أصر أن يمشي الرحلة وحيداً. من حصل على أعلى الشهادات. من صار مدير شركة كبيرة. من خان. من انقلب .. وكلهم أحبهم. كلهم أفتقدهم بشدّة. إنهم جيلي الذي يتداعى، ويمتصّه شفقُ الغروب. قبل شهر نعى الناعي الرفيق لويس في قرية نائية بالبرازيل. لويس الطالب الأول في دفعة الطب عام 68. كرمّته جامعة برشلونة باحتفال لا يُنسى. حتى أنّ صحف تلك الأيام لم تستطع تجاهل الخبر. مات الدكتور مريضاً بسرطان البروستات، هو الذي عالج عشرات الآلاف من فقراء قرى شرق البرازيل. لو كان في أهل برشلونة ذاكرة، لكتب أحدهم عنه في جرائد هذه الأيام. ابني المجنون بميسي والبرسا، يوبّخني ولا يخجل: كف عن هذه النوستالجيا الكريهة. زمنك مضى وانقضى. دعنا نعيش أيامنا. يا ولدي يا حبيبي، فليبارك الربُ أيامكم. عيشوا ولكن لا تنسوا. قليل من التذكّر يفرح القلب وينعش الروح. أم أنني غلطان؟ والله الواحد صار لا يعرف، خاصة إذا أفرط في الشرب. ومع ذلك بوصلتي ترافقني دائماً. وتدلني دائماً. أين سأجد في آخر العمر صحبة كصحبتهم؟ لا أجمل ولا أنبل من وفائهم. قصصهم وحكاياهم. آه كم أشيل على كتفيّ، أنا البغل. رحم الله سانتوس الأشرم. كان صاحب بصيرة حتى وهو في السادسة. البغل. أجل! إنها كلمة عمري. تلخيص مكثف وفريد ولا أصدق منه لوصف مسيرتي وسيرتي. أنا البغل، منذ السادسة، حتى السادسة والسبعين. لم أتغيّر ولم أتبدّل قيد أُنملة. لكنني الآن البغل الذي ينتظر تلك اللحظة الاستثناء: أن يحمله الناس، بدل أن يحمل هو الناس!
[المتوحّد] فيما يجلس خيسوس على طاولة العشاء، يرى فجأة طيف أبيه. خيسوس يشعر بعدم ارتياح لهذا الحدث. إنه في شقته وحيداً، كما كان منذ ثلاثين سنة. وحيداً إلا من كتبه ومطبخه وتمثال الفتاتين الأفريقيتين. خيسوس، بخلاف عائلته، متوحّد جداً. لو سأله عابرُ طريق عن عنوان، لشعر فوراً بأنّ خصوصيته المقدّسة أُقتحمت. خيسوس يعيش في برشلونة على راتب يأتيه من نيكاراغوا. لذا لا حاجة له عند أي بشر. ولمَ يعني أُخالطهم، وهم على ماهُم عليه؟ كلا. البشر لا يروقون لعينَيّ مطلقاً. يكلّم ذاته- ولا أبي. كان، لتحفّه الملائكة بالنور، زيرَ نساء، ونذلاً مع أمي. أنا أحب أمي عميقاً. ومنذ وعيت الدنيا وبي خوف من لحظة رحيلها. وهي رحلت - يقول خيسوس لحائط المطبخ الأيسر. ورحل إخوتي - يستدير ويحدّث الحائط الأيمن. وحبيبتي روسا البيضاء، هزمتها الحياة، فماتت شابة. ليرحمهم ملاكُ الربّ جميعاً. ينزل عن الكرسي ويتمدّد بطوله على أرضية المطبخ. والرب ليس طيباً كما يُتوقّع عادةً من رب. يوجّه كلامه لنقطة معيّنة في السقف. وأنت أيها العنكبوت، طيب وتعِس مثلي. يقول لخيوط سوداء خفيفة. ثم ينهض، ويجلس على الكنبة في الغرفة. ينظر إلى شمس الشارع. يرتعش. يُنَهْنِه. ثم يفعل ما يفعله منذ ثلاثين سنة: يقوم ويُرجع الطعام للثلاجة.
[أرخبيل الدمّ] كفَّ الرجلان عن التقبيل بالفم. السوري نزار يرقبهما منذ قعد على ناصية الكايشا. لم يعد نزار يُصدم، إنما فضوله لا يزال قوياً. نزار هنا أتمّ الماجستير في الكيمياء الحيوية، ومع اندلاع الثورة في سوريا، توقف الأهل عن إرسال النقود. نزار أخذها من قصيرها وعمل واعتمد على نفسه. باتت الدكتوراه خلف ظهره. وبات الحصول على سقف، أهم عنده من اللقمة. أسابيع نام في الشارع. وأخيراً حصل على فرصة عمل تؤمّن له السقف واللقمة معاً. نزار يسكن في "البورن"، في بناية عتيقة ذات واجهة جميلة جداً. ونزار لاحظ بفطنته، أنّ جاره المُلاصق ألبارو يواعد الفتيان من نيبال وباكستان. يأتونه في شقته ليلاً، ثم يخرجون متسحّبين، خجالى، ولكنْ ظافرين. نزار قام عن الكرسي الخشبي، وذهب للبيت. نام على السرير الأرضي، وسمع، لدهشته، تأوهات ألبارو في عزّ الظهيرة. نزار سرح في السقف، وأحسّ بوطأة الغربة. شيءٌ ما نبَتَ له كالعود في حلقه. يتابع أخبار شعبه المنكوب، ويكبر العود. يسمع إندلاعات ألبارو، ويصبح للعود حراشف. يسترجع جشع ربّته في العمل، ويتحوّل العود إلى قنفذ. وتحت ظلال القنفذ، يغفو نزار. فيما يعود الرجلان إلى التقبيل، ربّة عمله إلى جشعها، ألبارو إلى جولة أخرى، ألله إلى لامبالاته، وسوريا إلى أرخبيل دمها.
[تعب] "يا شفيعة البحّارة، إشفعي لنا نحن أيضاً". يهمسها خوسيه لنفْسه، بنفَس رفاقي نبيل، وهو يئن من تخشبّ عظم الساعد المرفوع والكفّ الممدودة نصف المغلقة. ثلاث ساعات ونصف الساعة، وما دخل جيب قميصه، غير نصف يورو. والحال مشابه مع مواطنه لويس ورفيقه الروماني والثالث الباكستاني. فإذا كان هو "الأحد"، فما بالكم بالأيام الأخرى؟ لم يوفر جهداً: غيّر بابه المعتاد، ووقف على الباب الجنوبي بدرجه المرتفع. نفس الحال ونفس المآل. فإذا كان هو الأحد، فكيف بالأيام الأخرى؟ "يا شفيعة البحّارة، إشفعي لنا نحن أيضاً". وقت طويل دخن فيه 8 سغائر. وهاهو يعود للبيت وقد خسر 3 يورو وستين سنتاً. ثمن السغائر والمواصلات. إييه يا خوسيه. تأتي أيام زاهية فيمتلىء الجيب العلوي، حتى لتُسقطُ الغلّة الإضافية في جيب البنطلون. أخرى تجف فيها ينابيع الخير، مثل هذا الأحد، فتعود خائباً، متثاقل الخطى. أيها السبعيني النشط! رفاقك اكتفوا بالجلوس على بوابات عماراتهم، ومتابعة الناس. أما أنت، مازلت تعارك وتغالب الدنيا، حتى غلبتك. ليس هذا الأحد وحده. فمنذ سنة، كثُرت الآحاد الشحيحة. لم يعد في شغلتك ورقات زرقاء، إلا فيما ندر. حتى الإثنان يورو الفضية، ذات الثقل المحبب في اليد والجيب، ندُرت. بل حتى اليورو. صار الجميع يعطيك الكسور والفكّة. الأهالي الكرام رانت على أيديهم الأزمة، فرانت على جيبك. وداعاً ماريا دل مار. لن آتيك يومياً كعادتي، بل حسب الصحة والمزاج. ومنذ اليوم، لن أمرّ على مداخلك الأربعة، وإنما سأكتفي بمدخل الشعلة، وأنتظر: إذا لم أُنفح في ساعة وقوفي الأولى 2 يورو كحد أدنى، لن أمكث. لقد تعبت يا قديسة الجهات الأربع. أنا خوسيه أقول تعبت. وحتماً أنكِ تسمعينني في عليائك.
#باسم_النبريص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات من برشلونة (1)
-
أيّام في لشبونة
-
أيام في كراكوف
-
قراءة عبر زنزانة
-
حارة ماركس
-
زفرات سورية
-
إلى نلسون منديلا
-
سركون بولص: البوهيمي, الرائي والحقيقي
-
إدريس: الصخب نهاراً, والاكتئاب ليلاً
-
محفوظ: المجامل على حساب الحقيقة!
-
محمد خضيّر .. النبيل في سبعينِه!
-
احتفلال الكتلان ب -إستيل-: لستم وحدكم أيها الفلسطينيون
-
جبرا إبراهيم جبرا: كتابتي نقش على الهواء!
-
نوماً هادئاً يا عزيزي خوان!
-
ساعات مع خوسيه ساراماغو
-
ست زفرات صغيرة
-
لقاء وحيد مع توفيق الحكيم
-
احتفالية فلسطين للأدب: أدباء عرب في غزة!
-
قصائد جديدة
-
غونتر غراس ولسعات الدبابير!
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|