الفصل الأول
دعوات قديمة تتجدد ....
أثارت الجماعات الإسلامية في السنوات الأخيرة ضجة كبيرة حول قوانين الأحوال الشخصية وحجاب المرأة وعملها...
هاجموا دعوات حركة تحرير المرأة وتاريخها ورموزها من النساء والرجال …
تحدثوا عن الأزمات والمصاعب التي تعاني منها النساء والضغوط التي تحاصر الرجال من فقر وبطالة وأعادوا طباعة كتب زعمائهم ومـُنظريهم الفكريين وعلى رأسها مؤلفات حسن البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي من المعاصرين...
كما استدعوا من التراث ابن تيمية وابن القيم الجوزية وأبا حامد الغزالي وغيرهم، بحجة أن أفكارهم الآتية إلينا من الزمن الغابر تحمل الحل لجميع مشاكلنا المعاصرة...
وبكل ما يملكون من وسائل إعلام وإمكانيات مادية وإصرار على فرض أفكارهم والدفاع عنها، نجحوا في تفجير النزعات العدوانية لدى بعض الفئات من الجمهور، وأثارت دعواتهم سحابة من القلق والتساؤل عن نوع الدور الاجتماعي الذي تريد الجماعات الإسلامية إسناده للنساء ...
وماذا تخفي دعايتهم الإنشائية ...؟
أي مصير ينتظر جموع النساء على أيديهم ... ؟
وإذا تتبعنا وضع المرأة في أدبياتهم التي يفوز الإخوان المسلمون بنصيب الأسد فيها لأنها الجماعة الأم التي لازالت تفرخ بالاختلاف والانشقاق جماعات إسلامية جديدة، فسنجد أن " حسن البنا " المرشد العام الأول والمؤسس والمنظر الفكري منذ بداية تكوين الجماعة في الإسماعيلية عام 1928م يشن الهجوم على حركة تحرير المرأة ومطالبة النساء بالمساواة ويهاجم الأفكار الداعية إلى استقلال النساء وخروجهن إلى الحياة العامة.
فسمى المشتركات في المظاهرات بالسافرات، كما سمى المدافعين عن حق المرأة في الانتخاب بدعاة التفرنج وأصحاب الهوى، وحارب مطلب حق الفتاة في التعليم المتساوي حتى المراحل العليا، كما نادى بوجوب التفريق بين مناهج تعليم البنات ومناهج تعليم الصبيان في المراحل الأولى.
وعبر بوضوح عن أن واجب النساء هو القيام بالأعمال التقليدية في تلبية رغبات الزوج ورعاية الأبناء، وإذا تعلمت المرأة يكوم ذلك في حدود، ولا تخرج إلى العمل إلا تحت ضغط الحاجة والفقر وبشروط تتحكم في مظهرها العام وسلوكها الاجتماعي.
وبسبب طبيعة الدعوة مضت السنوات الأولى دون أن يفلح " البنا " في تكوين فرع نسائي للأخوات، حتى استطاع ذلك في إبريل 1933م وهو زمن متأخر عن تكوين الإخوان المسلمين عام 1928، وسمي هذا القسم في أول الأمر : - " فرقة الأخوات المسلمات " ويتألف من زوجات وأخوات وبنات الإخوان، وتكونت فرقة أخرى عن طريق الاتصال الشخصي في بورسعيد، ثم فرقة في القاهرة برئاسة الحاجة " لبيبة أحمد " صاحبة جمعية النهضة النسائية، (وظلت الجمعية ومجلتها فترة من الزمن لا تعلن عن صلتها بجماعة الإخوان المسلمين، وساعدها على إخفاء تلك الصلة انحصار نشاط الجمعية في الأعمال الخيرية ) مع تجنب الحياة السياسية التي يحرم الإخوان على النساء الانخراط فيها... والملاحظة الغالبة على نشاط هذه الفرقة جميعاً أنها كانت من الضعف بحيث يمكن اعتبارها الملاحق العائلية لجماعة الإخوان، أنشئت بغرض إعداد أجيال تالية لهم عن طريق الدروس والمحاضرات والنصح الشخصي، كما كانت تعاني من الجمود وغلبة الطابع التلقيني على أسلوب الاجتماعيات برغم الجهد الضخم الذي بذله المرشد العام في تكوينها...
ويكشف محمود عبد الحليم – مؤرخ الإخوان – في نصه التالي ما كانت تعاني منه تلك الفرق النسائية : -
( ولما كانت فرص الاجتماعيات أمام الأخوات غير متاحة بالقدر الذي أتيحت به للإخوان فإن الأستاذ رحمه الله – يقصد حسن البنا – كان حريصاً على أن يجعل هذه الاجتماعيات خالصة للتثقيف والتربية دون أن يقتطع من وقتها قليلاً أو كثيراً في الانشغال بالشئون الإدارية، كما كان حريصاً على ألا يضيع جزء من جهود الأخوات في الالتفات إلى المناصب الإدارية والإعداد لها والتطلع إليها مما قد لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات النسائية ) .
ومن المضحك ألا تجد فرق الأخوات المسلمات الوقت الذي تخدم به قضيتها ويمكنها من إدارة نشاطها إن كان لها نشاط...!! وأن يكون الهدف الأعظم لتجمعهن هو الاستماع إلى دروس يلقيها البنا .. ثم تنصرف كل واحدة منهن إلى شئونها الخاصة .. !! ولكن ما ذنب هؤلاء النساء وتلك إرادة المرشد العام الذي يحرمهن من مجرد التطلع إلى مناصب الإدارية بحجة أنها لا تتناسب مع طبيعة المجتمعات النسائية ..!!
وحتى حينما نجح " البنا " في إقناع زينب الغزالي – سواء بالضغط أو بغيره – بضم جمعية السيدات المسلمات التي تكونت في القاهرة عام 1936م وظلت زمناً على استقلالها ، لتصبح رسمياً فرع الأخوات المسلمات، لم يحقق هذا الفرع نجاحاً كبيراً.
وتروي زينب الغزالي في مذكراتها كيفية ضم جمعيتها للإخوان فتقول : -
( حاولت في آخر لقاء لنا – البنا وهي – في دار السيدات المسلمات أن أخفف من غضبه بعهد أخذه على نفسي أن تكون السيدات المسلمات لبنة من لبنات الإخوان المسلمين، على أن تظل باسمها واستقلالها بما يعود على الدعوة بفائدة أكبر على أن هذا أيضاً لم يرضه عن الاندماج بديلاًً) .
وظلت دعوة البنا برغم جهوده الواضحة لا تجد رواجاً وسط النساء، في نفس الوقت الذي كانت دعوات تحرير المرأة تثير جدلاً واسعاً منذ انطلاقها مع بداية القرن العشرين، وتحتفظ بجاذبيتها وملاءمتها للنهضة التي استدعت الكثير من التغيير في بنية المجتمع المصري.
ففي عام 1928م – وهو نفس العام الذي شهد تكون جماعة الإخوان المسلمين – بدأ التحاق المرأة بالجامعة المصرية :-
( التحقت خمس فتيات بكلية الطب، وثماني فتيات بكلية العلوم، وأربع فتيات بكلية الآداب.) ثم اقتحمت البنات كليات الحقوق والتجارة والهندسة والزراعة وغيرها بأعداد أخذت في التزايد كل عام. واستمرت دعوات تحرير المرأة في جذب أعداد متزايدة من فتيات البرجوازية الكبيرة والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة طوال العشرينات والثلاثينيات وما بعدهما تحت شعار المطالبة في المساواة في التعليم والعمل والتخلص من أمراض الوضع المتخلف الذي ظل لزمن طويل ينهش مكانتهن الاجتماعية.
ومفهوم أن ترفض الفتاة التي حرمت طويلاً من كل الحقوق دعوة الحجاب والعودة إلى البيت، لأنها كانت محجبة فعلاً وقعيدة البيت منذ زمن طويل وليس لها أي حقوق وتعاني من سيادة الرجل المطلقة عليها.
فكان لابد من البحث عن منافذ للخلاص، لا الإقبال على دعوة تكرس نفس الوضع السيئ.
لقد كانت الفتاة المصرية تحلم بالتعليم ودخول الجامعة، وتحقيق ذاتها في العمل، واختيار الرجل الذي ترتبط به بنفسها كما تبشرها تلك الروح الجديدة السارية في المجتمع...
بينما كانت دعوة البنا تحرم كل ذلك وتهاجم البنات اللاتي كسرن التقاليد ودخلن الجامعة سافرات بحجة أن المرأة : -
( ليست في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة للمنزل أولاً وأخيراً .. وليست المرأة في حاجة إلى التبحر في دراسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس) .
ففي الوقت التي اكتشفت فيه المرأة قدراتها الذهنية، وبدأت تنهل من العلوم النظرية والعملية جاءت فتاوى البنا وكأنها أحجار الماضي تنزل مرة أخرى على رءوسهن، لقد احتملت نساء هذا العصر السباقات إلى ضراوة الهجوم الذي شنه الإخوان المسلمون ضد تعليمهن في المراحل العليا، وخصوصاً اللاتي رحن ينشدن المزيد من المعرفة مثل درية شفيق التي يقول عنها أحد كتابهم : -
( كانت من الرعيل الأول لطالبات الجامعة المصرية في أول عهدها بنظام اختلاط الجنسين الذي تبناه أستاذ التغريب – هكذا تسمي الجامعات لطفي السيد صاحب فكرة إنشاء الجامعة المصرية – مشاركة في التحدي لمشاعر الأساتذة والطلاب بإبراز فتنتها والمبالغة في الظهور أمام الرجال والشباب في الجامعة سافرة ... وبعد التخرج سافرت وحدها وعاشت دون محرم في فرنسا للحصول على الدكتوراه) .
فهم لا يتحدثون عن تفوقها واهتمامها بالعلم ورغبتها في النيل من المعارف الحديثة بل يتحدثون عن فتنتها الجسدية وإقامتها بمفردها في باريس...!! وزاد الهجوم على تلك المرأة الرائدة وعلى زميلاتها حينما راحت حركة تحرير المرأة تطالب بالمزيد من الحقوق المدنية والسياسية كحق الانتخاب ودخول البرلمان، والمطالبة بإلغاء تعدد الزوجات واستبدال قوانين الأحوال الشخصية بقوانين مدنية حديثة ...
لقد كانت حركة تحرير المرأة هي القادرة على التأثير بقوتها الفكرية ونفوذها الاجتماعي المستند على قاعدة جماهيرية حية فاستطاعت أن تنتزع المزيد من الحقوق للمرأة البرجوازية في مجالات كثيرة ومنها حق العمل في الطيران والبوليس فضلاً عن المحاماة ...
وظل جمهور حركة تحرير المرأة في الاتساع، حتى أصبح عدد المدارس الحكومية فقط دون الخاصة عام 1945م يصل إلى 232 مدرسة تضم 44319 طالبة وهو عدد كبير جداً بمقياس الزمن وطبيعة مجتمع لا يزال في بداية عهده بتطور الصناعة الحديثة.
وإذا كانت حركة تحرير المرأة قد حققت نجاحاً في الحدود الطبقية البرجوازية، فقد كانت دعوة " حسن البنا" في الثلاثينيات تحرث في البحر النسائي بالاتجاه إلى البرجوازية الصغيرة الأكثر عدداً والباحثة عن دور سياسي تحمي به مصالحها الاجتماعية وتغذي به حلم الصعود إلى مرتبة اجتماعية أعلى...
وكانت دعوة " البنا " تجسيداً للجانب المحافظ في تلك الحدود الطبقية، الذي لم يستوعب بعد التغيير المطلوب إحداثه في المجتمع، ويشعر بالعداء الخفي لتلك التيارات الحديثة ويخشى شطحاتها الفكرية لو تركت على امتدادها لأحدثت خلخلة عميقة في بنية المجتمع.
ولذلك كان حسن البنا يحاول أن يسحب البساط من تحت أقدام حركة تحرير المرأة، بتوجيه جهوده لطلبة الجامعة والموظفين والتجار، وكان يحاول من خلال أسرهم تكوين الرافد النسائي للإخوان المسلمين، وكانت دعوته لإنشاء مدارس غير مختلطة تدرس فيها للبنات مدرسات، وكان يركز جهوده للعناية بالبنات والمدرسات في تلك الحدود.
( وكان يتعهد هذه المجموعة بالدروس الأسبوعية يلقيها بنفسه ولم يكن يتخلف عن هذه الدروس حتى في حالة المرض ) وحتى حينما بلغ عدد لجان الأخوات المسلمات خمسين لجنة في عام 1948م، وعدد العضوات خمسة آلاف عضو – كما يدعون – فإن هذا العدد لا يعكس بصدق حجم حركة الأخوات المسلمات الفعلي.
لأن هناك فرقاً بين الأعداد الدفترية المسجلة على الورق وليس لها أي نشاط محسوس في الحياة العامة، وبين الأعداد الفاعلة المناضلة من أجل انتزاع حقوقها...
لقد كانت عندهم مشروعات كثيرة ورقية ومنها مشروع الحاجة لبيبة لمسح الأقاليم والأحياء وفتح عدد من المشاغل ودعوة نساء الأحياء الفقيرة للعمل فيها ... ولكن المشروع لم ينشط سوى في حي السيدة زينب حيث كانت الحاجة تشرف عليه بنفسها ، هذا بالإضافة إلى أن طبيعة هذا المشروع تهدف إلى تحقيق الربح ولا تتعلق بالجانب الفكري للجماعة، بحيث يمكن ادعاء أن المنضمات للمشغل هن عضوات جمعية الأخوات المسلمات ...
إن إخوان اليوم يستطيعون تضخيم عدد الأخوات المسلمات، ولكنهم لا يستطيعون ادعاء أي تأثير اجتماعي استطعن أن يحققنه طوال وجودهن في الثلاثينيات والأربعينيات وهو العصر الذهبي لجماعة الإخوان المسلمين ...
ومقارنة بسيطة يمكن أن تأتي بأسطع النتائج : ـ
فبرغم أن مطالب الاتحاد النسائي كانت جديدة على المجتمع ، إلا أنها استطاعت مثلاً انتزاع حق تعليم 44319 فتاة حتى التعليم الثانوي، وكانت وراء كسر الاحتكار الرجالي للتعليم الجامعي، والدفع بمئات البنات إلى الجامعة، والنضال من أجل دخول المرأة شتى التخصصات وإثارة الجدل حول قوانين الأحوال الشخصية والحقوق السياسية للنساء، وانتزاع ( حق تخصيص مقصورة للنساء في البرلمان عام 1925م، وأعقبتها الموافقة على تخصيص مقصورتين … ثم أعلن أن البرلمان سيناقش بالفعل حق المرأة في التصويت أثناء انعقاد جلساته . واحتجت – تقصد المجلات النسائية – بعنف لموقف الحكومة غير المشروع من حل البرلمان وإثارة الرعب بين طبقات الشعب باعتقالاتها السياسية الواسعة في البلاد )
إن حق دخول المرأة البرلمان ولو كمستمعة فقط دون ترشيح أو انتخاب أو أي مشاركة قانونية كما حدث في ذلك الحين كان حلماً بعيد المنال .. لكن قوة ساعد الحركة النسائية واصطدامها بالحياة السياسية وهجومها على من يقف عقبة في سبيل تحقيق ذلك، جعلها تدخل البرلمان كمستمعة .. وتظل تناضل في سبيل دخولها كنائبة، الأمر الذي لم يتحقق إلا في زمن متأخر كما سنرى فيما بعد، بينما دور جمعية الأخوات المسلمات ظل مقصورا على ما حدده البنا في : ـ
( المعاونة في حدود ظروف الأخوات المسلمات وجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة.) .
مع ملاحظة أن قوام جمعية الأخوات المسلمات كان يعتمد أساساً على زوجات الإخوان وبناتهم وأخواتهم، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى فاعلية هؤلاء النسوة في ظل النظام العقائدي الذي يؤكد تفوق الرجل على المرأة كما يتضح من حديث حسن البنا في تذكرة الداعي : ـ
( المسلم المسئول عن أسرته. ومن واجبه الحفاظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها، وأتعهد بأن تعاليم الإسلام في أفراد أسرتي ولا أدخل أبنائي مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم، وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تناوئ تعاليم الإسلام.) .
وإذا اعتبرنا البيت هو الخلية الأولى للمجتمع كما يقولون والرجل مسئولاً عن أسرته مسئولية مطلقة حتى يعين لها ماذا تقرأ وكيف تفكر وتتصرف ... وهذا الرجل يتلقى أفكاره عن المرشد العام يعتبر مسئولاً عن أفراد جماعته فيمنح ويحلل ويحرم وينظر لهم الشاردة والواردة ... فيمكن أن ندرك أي نسق يحكم أفراد تلك الجماعات كما لو كانوا يعيشون في دوائر مغلقة تحكمها عين الرجل الأب أو الزوج ، عين المرشد العام وسوطه وأوامره ونواهيه ...
ولا يذكر لنا التاريخ أي صلة نشأت بين الأخوات المسلمات وبين سائر الحركة النسائية على الرغم من فورانها في ذلك الحين واشتداد حركتها وتأثيرها الواضح في المجتمع – اللهم إلا إذا اعتبرنا الهجوم الشديد يمكن أن يشكل صلة – إن دور الجمعية لم تكن تحدده العضوات، بل كان دورا يرسمه المرشد العام للجماعة ويراه دائماً في حدود المعاونة في تحقيق البرنامج الأساسي للإخوان.
( مهمة الإشراف على لجان الأخوات المسلمات كانت مقصورة على المرشد العام حسن البنا بنفسه، وله وجده الحق في إرسال مندوب عنه يكون سكرتيراً للاتصال بين الأخوات وإدارة الإخوان المسلمين. ويضطلع أيضا بمسئولية تنظيم الأعمال الإدارية بالقسم ) .
( ويعين المركز العام للإخوان الوعاظ والدعاة والموظفات بناء على اقتراح لجنة الإرشاد العامة للأخوات بعد تصديق مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين ومن حق مكتب الإرشاد إضافة أي شرط يراه من أجل صالح الجماعة.)
وكانت قرارات البنا الإدارية لا يمكن مراجعتها أو الاعتراض عليها من جانب العضوات، حتى أن محمود الجوهري سكرتير الأخوات المسلمات يروي في كتابه : ـ
( وأذكر مرة أني قدمت لفضيلته مذكرة أرجو فيها إعفائي من العمل بقسم الأخوات المسلمات لأتفرغ لبعض النشاط الإخواني على اعتبار أن بقسم الأخوات المسلمات من العناصر ما يسد مكاني، فابتسم ابتسامته المشرقة وكتب على المذكرة بالمداد الأحمر هذه العبارة : ـ
الأستاذ محمود الجوهري سكرتير الأخوات المسلمات حتى الممات، ووقع بإمضائه وأعطاها لي، ولم أملك وقتها إلا التسليم والرضا وأجبته حاضر يافندم ..) .
وهذا النص يوضح مدى انعدام الديمقراطية في إدارة شئون الأخوات المسلمات وفي بنيتها التكوينية .. حيث القرارات لا تقبل النقاش والمناصب بالتعيين .. والمدى الزمني لشغل الوظيفة مدى الحياة كما في أشد النظم الأوتوقراطية رجعية .. وعلى الرغم من تأفف الرجل من العمل وسط الحريم، إلا أن الأمر يأتي من الزعيم فينتهي كل شيء بصرف النظر عن رغبته شخصياً أو رغبة العضوات. وربما تكشف رسالة زينب الغزالي أبرز الأخوات المسلمات وأنشطهن عن مدى الانسحاق الذي يصبغ علاقتها هي شخصياً وعلاقة الأخوات المسلمات أمام المرشد العام : ـ
( سيدي الإمام حسن البنا : ـ
زينب الغزالي الجبيلي تتقدم إليك اليوم وهي أمة عارية من كل شيء إلا من عبوديتها، وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله، وأنت اليوم الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يبيع هذه الأمة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالى، في انتظار أوامرك وتعليماتك سيدي الإمام ..)
وإذا كان هذا هو وضع أبرز سيدة في تاريخ الأخوات المسلمات، فإننا لا نعجب حين نكتشف أن الهيكل التنظيمي للجماعة كان مبنياً على أساس علاقات القرابة التي تربطهن بأعضاء مكتب الإرشاد – وهو بمثابة اللجنة المركزية لدى الإخوان المسلمين – إن زوجة حسن الهضيبي – المرشد العام الثاني – كانت تشغل منصب رئيسة قسم الأخوات أثناء زعامة زوجها للحركة.
وآمال العشماوي زوجة " منير دلة " – العضو البارز بمكتب الإرشاد وأحد أعيان الصعيد – تحتل موقعاً قيادياً أيضاً.
وأمينة علي الشهيرة بأمينة الجوهري زوجة محمود الجوهري الذي عينه البنا سكرتيراً للأخوات المسلمات مدى الحياة. والذي سبق أن شكا ضيقه من العمل وسط الحريم.
كما نجد زينب الشعشاعي زوجة الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي واعظ قسم الأخوات، وفاطمة عبد الهادي حرم يوسف هواش عضو مكتب الإرشاد، وحميدة قطب أخت سيد قطب وغيرهن كثيرات من أقارب الأعضاء القياديين بالجماعة اللاتي احتللن مكان الريادة والصدارة في الأخوات المسلمات بحكم وضعهن الأسري وليس بحكم قدراتهن أو معتقداتهن الخاصة. وتذكر كتب الإخوان ومذكراتهم جوانب غريبة عن علاقات هؤلاء الرائدات – بالقرابة – بأزواجهن، ففي حوار بين محمود الجوهري وحسن الهضيبي، يسأل فيه الأول الثاني عن مدى حفاوة أهله به – يقصد زوجته – أيام الشباب : ـ
( ابتدرني مازحاً بهذه العبارة : ـ
عين الحسود فيها عود، واستطرد يستشهد على مسارعتها فيما يرضيه ويرفع من رأسه : ـ فذكر أنها تعلمت الفرنسية إجادة وهي أم لأربعة أولاد، لمجرد أنها رأت صديقتها زوجة وكيل النيابة الذي كان يعمل معي في إحدى المحاكم القريبة من المنصورة تتقن الفرنسية وتتحدث مع عاملات المتاجر الكبيرة في عاصمة الدقهلية فأكبرت أن تكون لزوجة وكيل النيابة قدرة على التحدث بلغة لا تعرفها، وهي زوجة القاضي الذي يعلو في المرتبة على وكيل النيابة، وسرعان ما استأجرت مدرسة تختلي لحظات فراغها النادرة لتتلقى عنها الفرنسية ) .
فزوجة الهضيبى لم تتعلم الفرنسية حباً في العلم وشغفاً به ، بل من منطلق إحساسها بضرورة التميز الطبقي وكبرياء وغرور زوجة القاضي التي يجب أن تتعالى حسب قيمهم على زوجة وكيل النيابة ..
هذا فضلاً عما تكشف عنه الحكاية من إعلاء قيمه الحسد والغيرة في علاقات زعماء الإخوان المسلمين وأخيراً في نوع الوظائف الذي تفضله تلك الجماعة للنساء في المجتمع المعاصر " فهناك زوجة الزعيم المرفهة المنعمة، والمدرسة التي تقوم لها عملاً خدمياً استهلاكياً، بخلاف الوظائف النسائية الأدنى كما سنرى فيما بعد.
أما عمر التلمساني المرشد العام التالي للإخوان المسلمين " فكان متطرفاً في غيرته عليها – يقصد زوجة التلمساني – إلى درجة جعلته يمنعها من سماع أغنيات الموسيقار رياض السنباطي لشغفها بألحانه، بل وحرمها من أن تزوره في السجن (فيما بعد) عشر سنوات كاملة، حتى لا يراها ضباط السجن ورفاقه من المسجونين عند زيارتها له..."
وإذا كان هذا هو وضع زوجات الزعماء، أو زعيمات الزوجات كما وضعهن الترتيب القيادي للإخوان، فلنا أن نتخيل وضع القاعدة، ونوع العلاقات التي تحكم مختلف العلاقات الشخصية بالأزواج وباقي أفراد الأسرة.
وفي مقابل إشادة الجماعات الإسلامية بصفات الطاعة والخنوع والغيرة، وهي الصفات السلبية دائما في النفس الإنسانية، فإنهم يشددون على كل ما هو إيجابي في المرأة – قالبين بذلك الأمور على رأسها – فالمرأة إذا ناقشت في حقوقها فهي فاسقة، وإذا خرجت للعمل فهي منحلة.
وظل وقفهم من الوضوح والثبات في نشر الدعاية المضادة لحركة تحرير المرأة والتشهير بكل عضواتها والهجوم على أي حق تنتزعه المرأة المصرية في مسيرة تحررها ..
وفي كتاب الأخوات المسلمات لم تفلت امرأة من سهام القذف والطعن حتى في سمعتها الشخصية ولم يفلت رجل ذكر له التاريخ أنه شارك أو ساهم في تلك الرحلة بالفكر والجهد من القذف ..
فالطهطاوي ضعيف ومغفل " بسبب ابتعاده عن عقيدته الصافية . " وقاسم أمين والأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول جميعهم ماسونيون وعبيد لليهودية العالمية والاستعمار الغربي أما هدى شعراوي ونساء جيلها فهن منحلات...!! .
وسنجد تلك القذائف من السباب في جميع كتب الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية التي تناولت موضوع حركة تحرير المرأة ... ذلك لأنهم يفهمون حقوق النساء في المساواة السياسية على أنها فسق وفجور، وفي نداء عام للأخوات المسلمات وجهته الجماعة في الاحتفال بالعيد السنوي الأول للأخوات المسلمات في أمريكا نجد أن :
" التعاون بين قسم الأخوات المسلمات وبين الجمعيات النسائية الأخرى منعدم نظرا لاختلاف النظرتين والهدفين : - فالأخوات يعملن على صد غارات العدو عن حصون الأمة، والنسائيات يعملن مع العدو لدك حصون الأمة...." .
وهذا الحديث الدعائي الذي يطلقه الإخوان المسلمون من أحد معاقلهم بأمريكا ينسى أن تاريخ الأخوات المسلمات الذي يدعون أن هدفه هو صد غارات العدو، لم يشارك طوال تاريخ مصر النضالي من أجل الاستقرار وخروج الإنجليز سوى بمذكرة احتجاج مهذبة الأسلوب تقدم بها قسم الأخوات المسلمات إلى المندوب السامي البريطاني :
" في مارس سنة 1946 – تقدم – يقصد قسم الأخوات المسلمات إلى المندوب السامي البريطاني بالقاهرة بمذكرة احتجاج على اعتداءات جنود الجيش البريطاني المحتل على الآمنين من المصريين " .
مع ملاحظة أن أسلوب المذكرات كان الواقع المصري قد تجاوزه منذ زمن بالمظاهرات والإضرابات وغيرهما فهل يمكن تصور أن نساء حركة تحرير المرأة اللاتي خرجن ضد الاستعمار وشاركن في الإضراب، بل وحرضن عليه وساعدن في تنظيمه، حتى أن بعضهن كن يقفن أمام أبواب المصالح الحكومية، ويعرضن على كاسري الإضراب من الموظفين أن يقبلوا مصاغهن إذا كانوا في حاجة إلى المال، ويستمروا في إضرابهم ولا يخذلوا إخوانهم...لا يمكن تصور أن هؤلاء النساء اللاتي يضحين بما يملكن، يعملن في نفس الوقت مع العدو الذي يناهضه بهدف " دك حصون الأمة " ...!!!
إن الدعاية الإسلامية الإنشائية تلجأ في الحقيقة إلى أكبر قدر من الديماجوجية في مخاطبة جمهورها بهدف استثارته ضد المحولات العقلانية في التاريخ.
وقد يرى البعض أنه إذا كان فرع الأخوات المسلمات قد تكون من زوجات زعماء الإخوان وبناتهم، فإن قيادة حركة تحرير المرأة قد كانت مقصورة أيضاً على زوجات زعماء الوفد أمثال هدى شعراوي زوجة علي شعراوي أحد زعماء ثورة 1919م وصفية زغلول زوجة سعد زغلول، وإستر ويصا واصف زوجة ويصا واصف وغيرهن من الطبقة الراقية وأعيان حزب الوفد ... فهذا صحيح ...
ولكن هل يمكن أن نستنتج من ذلك أن حركة تحرير المرأة كانت مجرد جناح من أجنحة حزب الوفد، وأنها كانت ذيلاً تابعاً لحركته ومجرد منفذ لسياساته ... ؟
يذكر لنا التاريخ أن العلاقة بين لجنة الوفد للسيدات وباقي الحزب – وبالذات قيادته – لم تكن علاقة تبعية، فلقد حدث الكثير من الخلاف حول الرؤية السياسية والمواقف مما أحدث صدامات عنيفة بين الوفد وقيادات حركة تحرير المرأة، مما أدى بعد وقت قليل إلى انسحاب مؤسسات لجنة الوفد للسيدات وتكوينهن للاتحاد النسائي المصري المستقل ...
وكانت بداية الخلافات المعلنة أن أعلنت لجنة الوفد للسيدات احتجاجها على أعمال الوزارة الوفدية برئاسة سعد زغلول ، لأنها أغفلت مجهود المرأة وكفاحها فلم تشركها في البرلمان والحياة النيابية، وتطور الخلاف حتى هاجمت هدى شعراوي سعد زغلول – زعيم الأمة الذي تخرج الجماهير هاتفة بحياته – وأعلنت في الصحف أنه : -
( لا يوجد خطر على القضية المصرية أكبر من أن يتولى المفاوضات مع الإنجليز رجل يعترف علانية أمام هيئة نيابية بأنه عاجز عن تنفيذ ما عاهد به الأمة) . وكان عهد سعد زغلول الذي لم ينفذه خاصاً بدخول المرأة البرلمان وإشراكها في الحياة السياسية الرسمية، وخرجت مظاهرة بزعامة هدى شعراوي تطالب بدخول المرأة البرلمان في يوم افتتاحه.
ولم تفقد هدى شعراوي بعد ذلك ( زمام المبادرة في مواجهة سعد زغلول وشعبيته الكاسحة .. فقد اختلفت معه لموافقته على البند الخاص بالسودان والذي نادى بالملك فؤاد ملكاً على مصر دون السودان في بيان توفيق نسيم عند توليه الوزارة. وكان سعد زغلول قد أرسل يهنئه على بيانه، فثارت هدى شعراوي لكنه لم يعبأ بثورتها، بل إنه تجاهلها في الاحتفال السنوي للوفد في 13نوفمبر 1922، برغم أن العادة جرت على حضورها ولجنة الوفد المركزية للسيدات منذ ثورة 1919م فما كان من هدى شعراوي إلا أن أرسلت رسالة شخصية إليه تخطره فيها بالرغبة في عدم العمل معه في اللجنة السابقة كما قدمت استقالتها ) .
أحداث أخرى كثيرة تؤكد على الحس السياسي المستقل للحركة النسائية المصرية وزعيمتها هدى شعراوي حتى تخطت في ثوريتها مواقف حزب الوفد، وثورية زوجها في مواقف أخرى، كما حدث حينما عارضته بقوة وشجاعة في موقفه من قضية السودان التي يعلق عليها الدكتور محمد أنيس بقوله : -
( من الغريب أنه بينما تحتج لجنة السيدات التي ترأسها السيدة حرم شعراوي باشا على مشروعات ري السودان وغيرها، نراه هو لا يهتم بمثل ذلك ، وإذا قيل أن السيدات أرشدت لتقديم مثل هذا الاحتجاج ، فقد توجه إليه – يقصد شعراوي باشا – بعض المهتمين بالأمر وطلبوا منه أن يشترك معهم في العمل حيث اعتزم الكل على طلب عقد الجمعية التشريعية بصفة غير رسمية، فاعتذر سعادته عن ذلك.) .
وبلغ الخلاف بين هدى شعراوي وقيادة حزب الوفد حداً دفعها إلى تشكيل تنظيم نسائي آخر في مارس 1923م على أنقاض لجنة الوفد المركزية للسيدات .. عرف باسم الاتحاد النسائي المصري، الذي واصل نشاطه المستقل من أجل حرية النساء وحقوقهن، وحرية الوطن وحقوقه، ولذلك عرضت هدى شعراوي والاتحاد النسائي المصري معاهدة 1936م التي عقدها مصطفى النحاس – الزعيم الثاني للوفد – مع الإنجليز، ثم عارضت بشدة موقف الوفد من حادث 4 فبراير 1936م، ورفضت كل التبريرات التي قيلت في ذلك الحين، واستنكرت أن يتولى حزب الوفد رئاسة الوزارة تحت حماية الدبابات الإنجليزية .. مهما كانت الأسباب.
واستمر عداء هدى شعراوي للسلوك غير الثوري لحزب الوفد حتى قالت عنه : -
( إنه ميراث تبدد وثوب تهلهل..) . وتاريخ الحركة النسائية في ذلك الحين مشحون بالمواقف والمطالب التي اتفقت مع الوفد حيناً واختلفت معه أحياناً، واختلفت مع القصر والإنجليز والقوانين دائماً .. وكانت في كل الحالات تعبيراً عن حالة الغليان التي تسود تلك الفترة ...
وعلى قدر تكتل الحركة النسائية وقوتها استطاعت أن تنتزع بعض الحقوق الملائمة لمدى تطور المجتمع في ذلك الحين، وظلت هناك مجالات لم تستطع اقتحامها كحقل القضاء والنيابة والبرلمان وإدارة الدولة وغيرها، كما ظلت تقع تحت وطأة قوانين الأحوال الشخصية ذات الصبغة الدينية، وظل التعليم العالي حكراً على عدد محدود من نساء الطبقة العليا، على الرغم من انسياب أفكار تلك الحركة في شرايين المجتمع، وإحداثها لمجرى أكثر اتساعاً في الثلاثينيات، وفي الأربعينيات التي شهدت تعدد التيارات السياسية فكان جوار حزب الوفد وطليعته، الإخوان المسلمون، مصر الفتاة، وبعض التنظيمات الشيوعية.
تعددت أيضاً التنظيمات النسائية، وتأثرت برامجها وبعض أنشطتها بأفكار بعض التيارات السياسية ...
فإلى جوار الاتحاد النسائي المصري تكون الحزب النسائي الوطني عام 1942م .
( الذي أسسته فاطمة نعمت راشد من عضوات على درجة عالية من الثقافة، فوكيلته وسكرتيرته محاميتان، وكانت على رأس مطالبه قبول النساء في كافة وظائف الدولة، متى كانت لديهن المؤهلات، وإعطاء العاملات حق التمتع بكل قوانين العمال ومساواتهن بهم في العمل واشتراكهن في النقابات وضرورة العمل على منع تعدد الزوجات.) .
كما تكون اتحاد بنت النيل عام 1949م بزعامة الدكتورة درية شفيق وشاركت الحركة النسائية بتشكيلاتها السابقة الذكر وتحالفاتها مع التيارات السياسية في الأحداث السياسية : ( عندما هبت مظاهرات الشعب سنة 1946 ونظمت كافة الطبقات المظاهرات الشعبية ساهمت الفتيات العاملات والطالبات في " اللجنة الوطنية " ولكن هذا الاتساع الجماهيري لحركة تحرير المرأة لم يتخط الحدود الطبقة البرجوازية والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة التي تسعى في ركابها كما يتضح من مطالب وأفكار وشعارات تلك الحركة.
أما المرأة العاملة بالمصانع والتي سبق خروجها تاريخياً من البيت، تحت وطأة استغلال رأسمالي شديد وبأجر زهيد وساعات عمل طويلة وبأعداد لا يمكن تجاهلها في صناعات الغزل والنسيج وعصر الزيوت وغيرها من الصناعات الرئيسية في ذلك الحين، لم تجد من يتبنى مطالبها ويدافع عن حقوقها...
وقائدات حركة تحرير المرأة الوفديات واللاتي ينحدرن من أصول طبقية أرستقراطية ويطالبن بالحرية والاستقلال ويرفعن لواء الدعوة إلى الإضراب الشامل عن العمل ... لم يفطن إلى سوء وضع العاملة المصرية التي شاركت ليس في التظاهر والتصدي لرصاص الإنجليز بصدر عار، وفي اقتلاع قضبان السكك الحديدية حتى لا تمر عليها قوات قمع الثورة فقط، بل شاركت في الإضرابات الطويلة عن العمل وإلحاق شتى أصناف الخسائر الاقتصادية بالاستعمار الإنجليزي ومن يسانده من أصحاب المصالح ...
لقد كانت العاملات جزءاً من جسم الثورة الحيوي، وبعد انتهائها لم يجدن من قائدات الحركة سوى التجاهل .. وهذا ليس غريباً في ظل أفكار سياسية تنحاز لمصالح طبقية بعينها ولا تتجاوز الاستقلال والدعوة لإنشاء صناعة وطنية .
وظل اشتراك في كافة المظاهرات السياسية مستمراً .. بالإضافة إلى اشتراكهن العمالية وداخل المصانع شبرا الخيمة والزيتون في أعوام ( 45 ـ 46 ـ 47 ـ 50 )
واشتركت العاملات ضمن أعضاء لجنة مندوبي المصانع بشبرا الخيمة سنة1946، كما كان بين عمال مصنع السلوم بالزيتون سنة 1947م ثلاث مندوبات، وساهمت العاملات سنة 1946م في نشاط مؤتمر النقابات وكانت تمثلهن السيدة " حكمت الغزالي " )
وأياً كان الحال فهناك فقر شديد في المراجع التي توضح حال العاملة المصرية ونضالها ومطالبها ومدى علاقتها بالحركة الوطنية من جانب ... والحركة النسائية من جانب ثان ...
والنضال العمالي من جانب ثالث ...
وربما يكون تجاهل الدراسات التاريخية لوضع العاملات المصريات، امتداداً لنفس موقف البرجوازية من تجاهل النضال العمالي بوجه عام مما يحتاج إلى دراسة مستقلة ...
والجدير بالذكر أنه في وقت تحالف الحركة النسائية بالحركة الوطنية عام 1946م في اللجنة الوطنية للعمال والطلبة والتي خرجت فيها وفود النساء تطالب بالسلاح عند عودة رئيس الوزراء النقراشي وبينهن المناضلة حكمت الغزالي النقابية الشهيرة، واشتراكهن في المقاومة الشعبية وغيرها، كان الإخوان المسلمون بقيادة " حسن البنا " يهتفون للطاغية إسماعيل صدقي والملك ضد الحركة الوطنية...
فسجلوا بذلك تياراً مناوئاً ليس للحركة النسائية فقط، بل وللحركة الوطنية برمتها .. وشهدت ساحة الجامعة عدداً من الصدامات بين الإخوان المسلمين من الطلاب وزملائهم من أعضاء اللجنة الوطنية للعمال والطلبة ...
حتى كانت نهاية الأربعينيات، وحمل عام 1949م رياح الصدام الدامي بين الأصدقاء – الأعداء ( حسن البنا والسراي ) فصدرت الأوامر الحكومية بحل جماعة الإخوان، وإغلاق جميع فروعها ومؤسستها التي ساهمت نفس الأوامر في إنشائها من قبل...!!!
ومات حسن البنا وانتهت الحلقة الأولى في تاريخ الإخوان المسلمين دون أن تستطيع إيقاف تيار حركة تحرير المرأة الآخذ في الاتساع والقادر على جذب أعداد وقطاعات جديدة من النساء.. ..
*****
ومع الحلقة الثانية للإخوان المسلمين والتي جاءت بقيادة المرشد العام الثاني للمستشار حسن الهضيبي، كانت نفس المشاكل والموقف من قضية المرأة مطروحة عليهم، فيحكي الهضيبي أنه : -
( كان يتحدث إلى الإخوان في صيف 1952م حينما طرح عليه أحد الأعضاء مشكلة أنه لا يعرف كيف يتصرف في كثير من شئون حيلته مع زوجته هل يركب معها الترام أو يذهب معها إلى السينما وهل يدخل بناته الجامعة ؟ ) .
فأشار الهضيبي على " البهي الخولي " – أحد قيادات الإخوان المسلمين في ذلك الوقت – أن يضع رسالة موجزة تبين حقوق المرأة وواجباتها في البيت والمجتمع. ومن أهمية الرسالة كتب الهضيبي في مقدمتها :
( إننا إزاء نهضة مباركة ولذلك ينهض الإخوان إلى المساهمة في وضع أسس هذه النهضة ) .
لقد كان الهضيبي يعيش شهر العسل مع حركة 23يوليو ، وكان هو والإخوان جميعاً يظنون أنهم سيحكمون مصر عن طريق هؤلاء الضباط، ولذلك سمى هذه الفترة " بالنهضة المباركة "...
لكن شهر العسل لم يدم كثيراً، فسرعان ما دب الخلاف ....
وواجهت الجماعة محنة الحل الثانية والقمع في السجون الناصرية ... ووجدت نساء الإخوان أو ما يسمى بالأخوات المسلمات أنفسهن أمام ضرورة القيام بالدور الخدمي، فتألفت لجان الزيارات للسجون وأصبحت زوجات الزعماء هن حلقة الوصل بين الإخوان المعتقلين وبين العالم الخارجي، كما يتضح من رسالة زوجة الهضيبي إلى الملك سعود، التي تنشد فيها عطف الملك لكي يتدخل لدى عبد الناصر ( ويشفع في تخفيف الحكم على الزوج) .
وفي تلك الفترة دخلت بعض الأخوات المسلمات السجن مثل زينب الغزالي وحميدة قطب إمعاناً من عبد الناصر في التنكيل بخصومه السياسيين حتى النهاية ...
ولم يكن الإخوان المسلمون فقط هم من بني الآمال والأحلام على إمكانية تحقيق مطالبه في ظل النظام الجديد – وأن اختلفت أساليب المطالبة ...
فقد حاولت بعض الرائدات في حركة تحرير المرأة المطالبة ببعض الحقوق السياسية، ولكن ليس عن طريق المناشدة أو التحالف مع النظام بقصد استخدامه كما فعل الإخوان، ولكن بالتكتل ومحاولة انتزاع الحقوق، ففي أثناء أزمة مارس 1954م وحينما كانت قوى الديمقراطية تطالب بعودة الجيش وضباطه إلى ثكناتهم العسكرية وإجراء انتخابات ديمقراطية، في تلك الفترة التي كان الإخوان فيها يتحالفون مع الضباط ضد الديمقراطية.
( اعتصمت بعض السيدات في نقابة الصحفيين وأعلن الإضراب عن الطعام حتى الموت .. ولم يعدلن عن ذلك إلا بعد خطاب أرسلته لهن – الحديث على لسان محمد نجيب الرئيس السابق – واعدا بأن ينلن حقوقهن في الدستور. )
لكن أزمة مارس انتهت لصالح جمال عبد الناصر وقوى القمع والديكتاتورية ولم يعد محمد نجيب مـُطالباً بتنفيذ وعده، فماذا فعل عبد الناصر إزاء قضية المرأة بعد القضاء على خصومه السياسيين ؟
يذكر لنا التاريخ تلك الفترة أن بعض الحقوق قد أعطيت للنساء على المستوى القانوني، تلبية لحاجة الاتجاه إلى توسيع القاعدة الصناعية وما يلازمها من عمل النساء، فسمح لهن بتقليد بعض المناصب، وبالتمثيل في المجالس النيابية ولكن سطوة الدولة ومن خلالها اختياراتها …
ففي انتخابات عام 1957م رشح الاتحاد القومي خمس سيدات فقط وقع عليهن اختيار السلطة الناصرية، فتقدمن بأوراق الترشيح من خلال الاتحاد القومي الذي سبق واعترض على 1186مرشحاً من الرجال، لم تكن مواقفهم ترضى النظام الناصري ... وصحيح أنها كانت المرة الأولى التي تنزل المرأة المصرية فيها إلى ساحة الحياة السياسية كناخبة ومرشحة، إلا أنه ليس نزولاً مفتوحاً وحراً للحركة النسائية، وكانت النساء اللاتي نزلن الانتخابات هن : -
(1ـ زينب مراد وشهرتها سيزا نبراوي عن دائرة مصر القديمة بالقاهرة.
2ـ نظلة الحكيم عن دائرة بلقاس دقهلية.
3ـ زينات عابدين عن دائرة كرداسة بالجيزة.
4ـ أمينة شكري عن دائرة قسم باب شرق بالإسكندرية وقد انتخبت في الإعادة وحصلت على 9025صوتاً.
5ـ راوية عطية عن قسم ثان الجيزة وقد انتخبت وحصلت على 11807أصوات.) .
كما منحت السلطة الناصرية للنساء الناصرية للنساء حق المشاركة في مجلس الوزراء، وإن كانت مشاركة لا تتعدى حدود وزارة الشئون الاجتماعية. مع الاحتفاظ بقوانين الأحوال الشخصية كما هي بشكل يؤكد قوامة الرجل على المرأة وإعطاءه كل مفاتيح التحكم في البيت.
وراحت أجهزة الإعلام الناصرية تروج لهذا الوضع المزدوج بالسيطرة على الحركة النسائية واستيعاب منظماتها في الأجهزة الرسمية وإصدار قانون تبعية تلك الجمعيات لوزارة الشئون الاجتماعية وضرورة حصولها على موافقة رسمية في كل ما يخص نواحي النشاط، وذلك لمحاصرتها سياسياً واجتماعياً.
وظلت السلطة الناصرية تمسك العصا من المنتصف .. فإذا كانت حركة تحرير المرأة – التي لم تعد حركة الآن بل شراذم وفلولاً متناثرة – تطالب بالعمل والترقي في المناصب، فإن الدولة تسمح بإعطاء النساء – اللاتي يتمتعن برضا المسئولين – بعض المناصب وإن ظلت قليلة ( حيث عينت الدولة في عام 1961م أربع سيدات فقط – في مناصب إدارية عليا ) .
بالإضافة إلى استمرار الرقابة الشديدة على من تسري عليهن هبة التعيين، والإكثار من التقارير البيروقراطية الكفيلة بقتل البقية الباقية لروح الحركة النسائية.
ويظل وجود الوزيرة وعضوات مجلس الأمة وغيرهن من الصحفيات والإذاعيات مرهونا بإرادة جهاز الدولة ومصالحها الطبقية، ولذلك أصدرت قراراً بوقف جميع المجلات النسائية إلا واحدة فقط تصدر عن مؤسسة دار الهلال الصحفية، وتتبع إدارتها، وبذلك يتم تتويج انحسار حركة تحرير المرأة وتحويلها إلى حركة موظفات وجمعيات خيرية تشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعية، وتقيم من أجل ذلك بين الحين والآخر احتفالات، تلقي فيها السيدة الوزيرة خطاباً رسمياً عن إيمان الدولة وحماسها الطاغي لتحرير المرأة ...
وهكذا على الطريقة الناصرية يكون الحديث طناناً حتى تصدق النساء ويوافقهن على تعيين ممثلات لإرادة الدولة باسمهن وينمن مستكينات تحت مظلة النظام …
وبرغم ذلك فإن تلك الإجراءات وهذا الهامش الدعائي الشكلي لم يسلم من رفض وانتقاد الإخوان المسلمين وجماعة شباب سيدنا محمد المنشقة عن الإخوان ... حتى كان أول قرار تتخذه تلك الجماعة هو الإضراب عن الزواج بغير المحجبات. وكانت أول ندواتها : - قاسم أمين داعية التحلل والفساد.
وأول رسالة شهرية تصدر باسمها في سبتمبر 1926م : عن الجمعيات والهيئات الإسلامية في مصر واشتغال المرأة بالسياسة والأعمال العامة وهي تتضمن الأبحاث التي ألقيت في مؤتمر الجمعيات الإسلامية الذي انعقد في دار جمعية الإخوان المسلمين في أوائل سنة 1952م ، وكان سبب إصدار شباب سيدنا محمد لهذه الرسالة بالذات هو صدور قرار عبد الناصر بتعيين حكمت أبو زيد كأول وزيرة في تاريخ مصر – ولكن السلطة الناصرية بادرت إلى مصادرة الرسالة سريعاً .. وإلحاق شباب محمد بمصير زملائهم من الإخوان. الذين ظلوا على مبدأهم الرافض لمشاركة المرأة في الحقوق السياسية حتى أنهم وبعد الإفراج عنهم وعودتهم في السبعينيات يتهكمون ويستنكرون التاريخ الذي أعطى النساء تلك الحقوق فيقول خيال والجوهري في كتابهما : -
( أصبح من حق المرأة في مصر التصويت في الانتخابات والترشيح لعضوية المجالس النيابية والشعبية والجلوس على كرسي الوزارة، وصدرت القوانين التي تؤكد هذه الحقوق وتلتها قوانين أخرى : -
ـ قانون بفرض ثلاثين نائبة على الأقل في مجلس الشعب.
ـ قانون بفرض خمسة وعشرين في المائة من النساء على الأقل في عضوية جميع المجالس الشعبية والمحلية.
ـ قانون يجعل الانتخابات والتصويت إجباريا على كل أنثى تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، مع كونهما ليس بالإجبار على الرجال.
ـ قانون تعديل أحكام قانون الأحوال الشخصية.
إن اشتراك المرأة في الحكم في أي صورة من الصور مخالف للشريعة الإسلامية تماما، وهو بدعة مستوردة من الخارج عملت الثورة على اتباعها وتقليدها غير عابئة بأحكام الشريعة الغراء التي نصت على أنه لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
واشتراك المرأة في الوزارة وفي مجلس الشعب والمجالس المحلية والمجالس الشعبية هو اشتراك فعلي في الحكم والولاية وهو ما لا يرضاه الله ورسوله .) والنص السابق يحمل الكثير من المغالطات فليس صحيحا أن القانون جعل التصويت إجباريا على الإناث مع أنه ليس إجباريا على الرجال .. أو أن هناك قانوناً يفرض خمسة وعشرين بالمائة من مقاعد المجالس الشعبية للنساء .. وفي النهاية – وهذه هو المهم – يرفض أي اشتراك – ولو رمزي – للنساء في الحياة السياسية.
وبرغم الاستهجان الإخواني ، فلقد ظل الصوت الوحيد المتحدث باسم النساء والمانح لهن فتات الحقوق في محاولة استيعاب طاقتهن وتوظيفها لخدمة أهداف رأسمالية الدولة هو صوت السلطة الناصرية حتى انفجر الوضع عام 1968 أما عجز الدولة وفسادها الواضح وخرجت مظاهرات العمال والطلاب تطالب بمحاكمة المسئولين في تلك الخديعة الكبرى التي استغرقت شعباً بأكمله وكانت نتيجتها هزيمة 5 يونيو1967 وفضائح محاكمات الطيران ...
وشاركت الطالبات بقوة في هذا التمرد على جهاز الدولة ... وبدأت أسئلة جديدة تنفجر في رحم تلك الحركة عن وضع كل الطبقات والقوى الاجتماعية في مصر ...
ـ عن وضع الرأسمالية التي ما عادت قبضة الدولة القوية تلائمها ..
ـ عن وضع الطبقة العاملة من ناحية أخرى، واكتشافها أن صيغة تحالفها مع الطبقات الأخرى كانت أكذوبة طالما استغلتها واستنزفت قواها.
ـ وعن وضع البرجوازية الصغيرة التي راحت تبحث لنفسها مرة أخرى عن مكان وسط الصراع الدائر، يراودها في ذلك حلم الصعود السريع بينما الواقع يهددها بالإفقار واحتمال الهبوط إلى درجة اجتماعية أقل..
وبالطبع فإن التحليل الطبقي لتلك الفترة الزمنية يحتاج إلى دراسة مستقلة، لكن الواضح في هذا الصراع والخاص بموضوع دراستنا هو اشتراك عدد كبير من الطالبات في مظاهرات عام 1968، ونجاح اليسار في جذب قطاع كبير من جمهور الطالبات اللاتي تمردن على قيود السلطة الأسرية وسلطة الدولة وشاركن في الإضراب عن الدراسة والاعتصام ومناقشة القضايا الوطنية المطروحة، كضرورة الحرب والانتصار على العدو " الإسرائيلي ".
ودخل عدد كبير منهن السجن ليسجلن بذلك علامة اتساع النطاق الجماهيري لوجود المرأة السياسية.
لكن الحركة اليسارية الواسعة التي كانت تطرح على نفسها مهمة مناقشة القضية وطبيعة النظام القائم، لم تلق بالا إلى خصوصية وضع جمهورها من البنات من ناحية مناقشة وضعهن الاجتماعي وحقوقهن في المساواة الكاملة.
وإذا كانت الحركة الطلابية اليسارية قد انحسرت بشكل ملحوظ بسبب أخطاء ليس الآن مكان دراستها.
لكن الوضع لا يعني التسليم الكامل، فلقد خرجت من هذه المعركة فتيات لازلن يبحثن عن حل .. فاندرج بعضهن في صفوف حزب اليسار الرسمي الذي لا يستوعب طاقتهن للتفسيرات الإصلاحية السهلة والجاهزة.
وتكونت بعض الجمعيات المستقلة .. كما لم ينضم إلى أي تنظيم عدد لا يستهان به من بقايا جمهور حركة تحرير المرأة ..
وخلال رحلة التسعين عاماً الماضية من عمر البرجوازية المصرية نستطيع أن نرصد ببساطة أن جمهور حركة تحرير المرأة في البداية كان معتمداً أساساً على النساء من بنات الملاك وكبار رجال الدولة، ثم دخلت الحلقة بنات مثقفي البرجوازية الصغيرة، حتى اتسع نطاقها الجماهيري بين طالبات الجامعة وشرائح البرجوازية الصغيرة ..
والآن نجد أن نفس هذا القطاع من الطالبات وصغار الموظفات وبعض ربات البيوت هن الجمهور النسائي للجماعات الإسلامية ويرصد البحث الذي أعده المركز القومي للبحوث الاجتماعية عن ظاهرة الحجاب : -
ـ أن الظاهرة اتضحت في البيئات الحضرية بشكل رئيسي، بمعنى أنها انتشرت في المدن الرئيسية أكثر من انتشارها في قرى الريف.
ـ أن هذه الظاهرة شملت معظم فئات العمر بين الإناث إلا أن الانتشار لظاهرة الحجاب كان بالأساس بين الشابات خاصة طالبات الجامعة حيث من الجامعات الرئيسية : - (القاهرة – عين شمس – الإسكندرية ) إلى ما عداها.
ـ أن الظاهرة قد انتشرت بين مختلف المستويات الثقافية المتباينة بحيث تجد أن انطلاقها الرئيسي كان من المستويات الثقافية العليا والمتوسطة، ثم انتشر منها إلى مختلف المستويات الثقافية الأدنى من ذلك .
ويخلص البحث إلى أن الطبقة المثقفة المقيمة بالمدينة والتي عملت على إنجاح دعوات قاسم أمين، خرجت منها بعد أكثر من نصف قرن الدعوة إلى ارتداء الحجاب مرة ثانية.
أما موقف عينة البحث من التعليم والعمل فكانت إجابة 76,5%من عينة المحجبات أن أهمية التعليم تنحصر في أنه يعد الفتاة لتكون زوجة صالحة.
والمحجبات أقل إيماناً بحق المرأة في العمل والترقي لأعلى المناصب الممكنة، فالمرأة في نظرهن مكانها البيت أما العمل فخلق أساساً من أجل الرجل. والموافقات منهن على مبدأ عمل المرأة يحطن هذه الموافقة بشروط منها أن يكون عملها في مهن معينة بالذات كالطب أو التدريس أو أن تكون المرأة في حالة عوز اقتصادي، إذن فالصراع الذي كان يقوده مثقفو ومثقفات البرجوازية المصرية من أجل خروج المرأة للعمل، تقوده نفس الشرائح الطبقية للعودة مرة أخرى إلى البيت والحجاب.
وبين الدعوة للتحرر والدعوة للتحجب حوالي تسعين عاماً، حققت فيها البرجوازية بعض مهامها ومنيت الكثير من الهزائم ليعلن لسان حالها أنها لا تستطيع إنجاز بقية المهام .. فانكفأت على ذاتها مرة أخرى وراحت تبحث عن حل يخرجها من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تطبق على صدر جمهورها من الموظفين والموظفات والتكنوقراط وصغار التجار والحرفيين وزوجاتهم ... راحت تبحث عن حل ينفي عنها العجز.. ووجد هذا الجمهور المتعب والمثقل بالهزائم في أشد الدعوات عنصرية وديماجوجية ما يظن أنه الحل ....