أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هاملت القسم الرابع والأخير الرواية الجديدة لأفنان القاسم















المزيد.....



هاملت القسم الرابع والأخير الرواية الجديدة لأفنان القاسم


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4324 - 2014 / 1 / 3 - 15:11
المحور: الادب والفن
    




لم تكن ورشةُ محطة ساكرامنتو في مَضْرِب الهنود الحمر ورشةً عادية، كانت مكانًا للقطار الذي سيغير وجه العالم: أخطبوط من آلاف العمال الصينيين، يحرك أطرافه الممتدة إلى ما لا نهاية واصلاً الأرض بالغيم، الشمس باليم، النجوم بالعيون، الأنهار بالحقول، الوديان بالجبال، السهول بالرمال، الثلوج بالنيران، الرياح بالزوابع، الأمطار بالزلازل، الأثداء بالعقارب، الشفاه بالنيازك، الأعناق بالسلاسل، الأهداف الدنية لهذا العمل الجبار بالأحلام القصية، بالخيالات العصية، بالكائنات الماورائية، بالجنيات، بالمُغويات، بالمستحيلات، بالأمازونات، بالكاشفات عن أسرار الأنبياء، بالعاصيات من بنات الشياطين والملائكة، بالصانعات لأقدار الآلهة. كان حجر الرص أكوامًا على أكوام، واللِجافات أهرامات لا تعد ولا تحصى، وقضبان الحديد أهرامات أخرى وأخرى. لم تكن الناقلات الحديدية تتوقف عن الحركة، ولا القبعات البيضاوية، ولا الفساتين أو السراويل الفضفاضة، وكانت عشرات السواعد تلزم لرفع قضيب حديدي، تثبته عشرات الأيادي ببراغٍ طويلة، وتجعل منه إلى جانب غيره سكة الحديد المرتجاة. أضف إلى ذلك، الخيمات البيضاء، والعربات المتنقلة، والطناجر الضخمة التي يتصاعد منها بخار المدينيّة. فجأة، كان يحصل انفجار لتحطيم صخرة أو لفتح جبل، فتهرع القفف لرفع الحجارة. وفجأة، كانت تبرز الأحصنة الجارة لقنطرةٍ أو جزءٍ من قنطرة، فتغطس الظلال في الوادي غطس السمك في الطمي. كان كل شيء يجري في الورشة بدقة الكم، التناظر إيقاع القدمين، إبداع الثديين، اتفاق الذراعين، انسجام الفخذين، توافق الساقين، تجانس الأصابع، تآلف الأظافر، توازن الخطوط، فالمهندسون يتابعون كل شيء بعقلٍ هو عقل كل شيء، ورؤساء الورشة يسهرون على كل شيء بعينٍ هي عين كل شيء. وكانت الشمس ذهبًا يلظى، وغضبًا يطغى، وكأنها اليد الخفية للتقنية. وبعد الغروب، كانت تنشأ تشاينا تاون صغيرة لا تلبث أن تزول مع الشروق، فيُهرق كحول الأرز، وتُسمع قهقهات العاهرات، وتدور لعبة الديوك، لعبة ديوك ليست كغيرها، فقطع الذهب رهاناتها، والكاسبون جُناتها. وتهيمن الذهنية القبلية، فتمتد المافيا الصفراء قليلاً قليلاً، وتتسع الروحية القتالية، فتتطور مصانع الأسلحة أكثر فأكثر. كانت للشر متعته، وللمتعة اسم: منغوليا. وبالمقابل، كانت ترتفع أصوات ضد الحرب، ضد التمييز العنصري، ضد التمييز الاجتماعي، ضد التمييز الاقتصادي، ضد الرق، إلى آخر الضدات في فن أشجار البلوط: المساواة تعاسة في الجذور، تعاسة لقوتها تطغى على السعادة، تغدو سعادة. كان هَمّ الجميع كيف يكون الواحد غنيًا، كيف يجمع أكبر قدر من النقود في أقل وقت، كيف يرجع إلى بلده بثروة ترفع من قدر ذويه، أو كيف يأتي بذويه إلى قدر اختار عنهم. كانت الشروط لحركة اجتماعية تقوم مقام الأحزاب من شروطِ غربٍ ماديّ شمسُهُ في انزياح دائم عن مركزها، يعني من شروط متعة الشر، وكالتعاسة تغدو سعادة، الشر يغدو خيرًا.
- يا الله! يا الله! ابتهل أحدهم دونما حاجة إلى برهان وجود الله، وهو يرجو خيرًا، مكسيكي بين قليل القلة من غير الصينيين، يحمل على ظهره قفة من الحجارة.
- شاب مثلك، ويبتهل، احتج صيني بنبرة شريرة فيها كل الضمير الخلقي، أقوى من الصخر كن!
- ليس كما تعتقد، أجاب المكسيكي، وهو يرسم ابتسامة دميمة على فمه.
- لماذا الله إذن؟ استوضح الصيني، وهو يرسم كالمكسيكي ابتسامة دميمة على فمه.
- لأجل الكثير من النقود، أوضح المكسيكي .
- إذن هو أنت، ألقى الصيني بشكل تأكيدي.
- إذن أنا ماذا؟ أبدى المكسيكي دون أن يفهم.
- أمس كان الله عندي، قال الصيني جادًا جِدّية الشيطان، وترك لك مائة ألف دولار.
- مائة ألف فقط؟ احتج المكسيكي، طلبته مائتي ألف!
- قال إن خزينته فرغت، وهذا المبلغ بانتظار أن يملأها.
- فرغت كيف وهو الله؟
- لا تسأل الله عما يفعل وكيف يفعل.
- مثلي إذن كثيرون، أكثر من عواهر البيْسونات في العالم الجديد.
- عميان كلهم يجدون في الله دليلهم، وهم أمام أبوابه بالصفوف.
- عميان نحن نرى ولا نرى. كيف ترى أنت، يا عاهر الخراء؟
- بحس الشر لديّ.
- أنت غريب بينا.
- ما ألذ الشر لغريب بينكم وأزكاه! العالم لي هذا الصخر الذي نحطمه، وهذا الحديد الذي نطرقه، وهذا الرمل الذي ننقله من مكان إلى مكان، فيغدو كل منها غيره كما غدا الشر لديكم غيره. نافستُ الله في صنعه، فغضب عليّ، وحرمنى مما لديه، وَقَسَمًا لديه الكثير. أعطاكم ولم يعطني، جعلكم أحرارًا واسترقني، نصّبكم على عروش من ذهب وعروش من تنك ورماني في مراحيض الكلاب، كجرو رماني، كجرذ رماني، كخراء، كبصاق، كقذارة. قال لي ليس هذا زمانك، وكان زماني، ليس هذا مكانك، وكان مكاني، ليس هذا عِلْمك وفقهك ومعرفتك ودرايتك وباقي أسباب وجودك، وكان علمي وفقهي ومعرفتي ودرايتي وباقي أسباب وجودي.
- ولماذا لا تفقأ عينيك مثلنا بالخير فتهنأ حياتك؟
- ليس الله غبيًا، سيعرف أنني لست من صحب الذين غَشِيَت عيونهم، وأنني أحتال عليه.
- أنا أحتال عليه وهو لا يعرف.
- كيف تحتال عليه؟
- هل أكون غبيًا كي أقول لك؟
- بالله عليك أن تقول لي.
- ادفع أولاً المائة ألف دولار التي تركها الله لي عندك، فأقول لك.

* * *

جاء هاملت راكبًا الزين، ذلك الحصان الأسود، ومسدس أبيه يتدلى على خاصرته، وقَطَعَ ورشة الخط الحديدي الضخمة ليوغل في أرض كانت للشمس مملكةً وللنَّسر موطنًا، الظل فيها قاسٍ قسوة الحديد، والصخر المعلق الرجاء الوحيد. كان الموتُ الحيَّ الأوحدَ، أشقرَ كان الموت، ومخالبُ النسورِ كانت شفواته. يقبّل بها العدم، فيسيل قوس السحاب شفًا، يترقرق كنهر في مرآة. كان هاملت كمن يدخل في مرآة، في الذاكرة، فذاكرة البشرية مرآة تمتد شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، والبشرية ذاكرة، مستقبلها ذاكرة كحاضرها. السكة الحديدية، وهي في صدد البناء، لهي في المرآة ذاكرة من ذكريات البشرية. الذاكرة قدرنا، قدر العدم. إلى العدم نذهب، وإلى العدم نذهب. نذهب في المرآة، وفي المرآة نتوهم، نظننا خارجها، فنشم رائحة العفن، ونتذكر واجباتنا. لهذا كان هاملت هنا، لواجبه نحو أبيه المغتال، المغدور، ليقول له أنا لم أنس الشر الذي أُلْحِقَ بك، ذاكرة الشر لهي الأقوى. لن أعامل الشر بالشر، سأكون الشر. سأرتكب من أجلك أكبر المعاصي، وكل المعاصي من أجلك ستكون تمتعي. سأتمتع بفظاظة، فأستحق فظاظة هذه الطبيعة المومس، المومس ابنة المومس!
طبطب هاملت على عنق حصانه، كانت طريقته في الكشف عن نواياه.
- سنرقص فيما بعد، قال هاملت للزين، كما ترقص الشمس على إيقاع طبول الجحيم، عندما أتقن الرماية تمام الإتقان.
لكن الحصان سطا، ورقص.
- لن ترقص وحدك، انتهره الفارس، سنرقص أنا وأنت، عندما أنتهي من التمرن، ستكون رقصتنا قبل رقصة الموت، رقصة الموت سأرقصها وحدي، فالقضية ليست قضية حياة أو موت، القضية قضية رقص أو رقص.
إلا أن الحصان عاد يرقص، فنزل هاملت عنه، وسدد ضربة قوية في بطنه، جعلته يصهل، ويشب.
- سنرقص معًا فيما بعد، أيها الماخور! ألا تفهم لغتي الحيوانية؟
تراجع الزين، وراح ينقر بحوافره الأرض، ويرقص، وراح يدور بهاملت، ويحمحم، وكأنه يريد مناكدته، إلا أن الفارس سحب مسدسه، وبدأ يطلق النار بين حوافر الحصان، فهاج الحصان وماج، وفي الأخير هدأ وأذعن.
- نعم، هكذا، أيها الماخور!
- أنا أرقص لموتك القريب، تخيل هاملتُ الزينَ يقول.
- تقول هذا لأني وضعت حدًا لرقصك.
- أقول هذا لأنك لا تفهم معنى الرقص.
- الرقص على جثتي تريد القول.
- الرقص، فقط الرقص.
- إذن اتركني أرقص على ظهرك.
- بأيمن الطالع.
انحنى الزين، وأوقفه على السرج. تركه يقفز، وبجزمته يضرب، وإذا بالرصاص يصب عليه، فسارع هاملت إلى النزول، وذهب بالحصان من وراء صخرة.
- أيها الشرير! هل هذا هو أيمن الطالع؟ نبر هاملت، قتلي؟
- أردت فقط أن أنذرك.
- أن تبلغ من السخافة إلى حد أقصى؟
- إنهم أصحاب بولونيوس.
- رجال البحث والتقصي؟
- بعد أن عجزوا عن إرسالك إلى خالتك...
- إلى خالتي؟
- إلى السجن، أيها الماخور!
- نَكْدُ السوء.
- بعد أن عجزوا... هذر وثرثرة، هذر وثرثرة، هذر وثرثرة! ها هم يريدون قتلك.
- السماء أقرب إليهم من قتلي.
- في السماء يرقصون جيدًا لو تعلم.
- لن تقول لي إنك ترقص فوق في الليل بينما أنا نائم.
- في السماء يغنون جيدًا لو تعلم.
- وفي طول الأرض وعرضها.
أخذ هاملت يغني، فأوقفه الزين.
- أفضل رقصك على غنائك.
- أنا كذلك، قال هاملت ضاحكًا.
- أفضل صمتك على كلامك.
- أنا كذلك.
- أفضل ضحكك على بكائك.
- أنا كذلك.
- لكنك لا تضحك.
- الضحك فيما بعد.
- عندما تقتل عمك.
- البكاء فيما بعد.
- عندما تقتل أمك.
- عندما أقتل أمي سأضحك، وعندما أقتل عمي سأبكي.
أخذ الحصان يضحك، فأخرسه هاملت.
- لا تضحك!
- أنت ذو مزاج بارد.
- عندما أقتل أمي سأبكي، وعندما أقتل عمي سأضحك.
- ومتقلب الطبع.
- ابتعدنا كثيرًا عن الرقص.
- لماذا لا تجد لك قاتلاً مهنته إرسال الأرواح إلى السماء؟
- السماء من جديد؟
- أنت لا تتقن القتل.
- سأتدرب على الرمي.
- طرأت على بالي فكرة!
- أصل من الحقيقة؟
- جِدْ لك قاطع طريق.
- يجب أن يتم الثأر لأبي على يدي.
- حتى. هكذا لن تنتظر طويلاً.
- يجب أن يرضى الشر عني.
- حتى. هكذا لن تخاطر بحياتك.
- يجب أن أداهن الشيطان.
- حتى. هكذا لن تصيب طريدتين بطلقة.
- ارفع يديك!
- يُطْلِق.
- على أي حال.
- كما تقول.
- ارفع يديك!
- لن يقول ارفع يديك مرتين.
- لن يقول ارفع يديك على الإطلاق.
- أنت متقلب الطبع بالفعل.
- سيقتل قاطع الطريق عمي غيلة.
- كما فعل عمك مع أبيك.
- ولكن...
- ولكن؟ شيء طبيعي من شخص متقلب الطبع.
- أبي بَدَّلَ رأيه، أبي عدل عن قراره.
- لم أكن أعرف، عين العقل، إلا أنني أخشى أن تعيش عيشة متشابهة.
- ولكن...
- ولكن؟
- لن أسمع له.
- لماذا؟ العدل الإلهي موجود.
- العدل بلا زيادة غير موجود.
- لا تَسْدُدْ عليَّ بابَ الكلام!
- عدل السماء استغواء، وعدل الإنسان أكثر. لهذا السبب أريد عدلي.
- لهذا السبب أريد عدله.
- من هو هذا السيد البائع للعدل في سوق البراغيث؟
- هو هو.
- وأنا أنا.
- لماذا عمك لا يقتل نفسه فيريحك ويريح العالم؟
- كيلا يرتاح مني.
- يا ظالم! اترك الغدر يرتاح، فينام في فراش جيرترود.
- لا أريد أن أقتل نفسي.
- لماذا لم تولد قاطع طريق بدلاً من هاملت؟
- كان من الواجب أن أطرح السؤال على أبي قبل مصرعه.
- لو وُلِدْتَ قاطعَ طريق، يا هاملت، لما مات أبوك قتلاً بيد أخيه، ولمات أخوه قتلاً بيدك.
- ولكنتُ أولَ قاطعِ طريقٍ عادلاً في العالم.
- هل يحب العدلُ الظلمَ إلى هذه الدرجة؟
- الظلمُ عدلٌ في مملكة الدانمرك.
- الظلم ثدي.
- وبطن وفرج.
- لهذا السبب ترك أبوك نفسه يُقْتَلُ بيد أخيه.
- ما أعدل الظلم!
- ما أظلم اليوم!
- قَتْلُ عمي معركةُ واترلو بالنسبة لي.
- ستقتله غيلة.
- ارفع يديك!
- إذا ما فهمت جيدًا ستقتله غيلة.
- مبارزة.
- عند المبارزة ليس ارفع يديك هناك.
- لن أحسن التدرب على استعمال المسدس.
- اقتله غيلة.
- في مملكة الدانمرك، طلقة من مسدسي ستقضي على جيشٍ مِنَ الثعابين.
- وفي مملكة الكون؟
- على ثعبان.
- لهذا السبب، في مملكة الدانمرك، لا تهرب الثعابين منك إلى أوكارها، تتآخى مع طلقاتك، فلا تغدر بها، ولا تغدر بك.
- سأبعث بقاطع طريق.
- أحسن الحلول.
- من اللازم أن أتدرب.
- على الرقص؟
- أتقن الرقص ولا أتقن القتل.
- القتل أسهل من الرقص، القتل رقص.
- سأقتله غيلة.
- الخطر أقل.
- سيقتلني غيلة.
- الخطر أكثر.
- تعال نرقص.
- تعال نقتل.
- تعال نركض.
- تعال نرقد.
اتجه الزين بهاملت متهاديَا إلى اللامكان، فأغمض ابن العظيم هانس عينيه، وأغفى. راح يدخل في حلم، ويدخل في حلم: رأى نفسه في ثوب نابليون المخضع للكون، وفي ثوب راعي بقر على ظهر ثور في حلبة رودِيُو، وفي ثوب الشيطان المضاجع لأمه. لم ينجح في عناق أمه، وهو العاجز، فانهار، وراح يرعى أبقار لذة العجز رعي الفنون، ولم ينجح في عرض براعته، وهو العاطل، فرماه الثور أرضًا، وراح يلهث من متعة السقوط، ولم ينجح في معركته الحاسمة، وهو العاظل، فمات قتلاً، وراح يحلق في الفضاء كالكلمات. مات هاملت، قال هاملت لهاملت، حرٌّ أخيرًا.

* * *

كانت أوفيليا تعرف أن من غير الحِذْقِ الدفاع عن شرف فتيات الملذات، لكنها لم تكن في وضع يسمح لها بغير ما تفعل، كان ذلك لديها كغير المؤمن في بحثه عن برهان وجود الله. لقد فقدت كل شيء أوفيليا، حبها، شرفها، طهارتها، براءتها، جمالها، شبابها، شبابها وهي لما تزل في ريعان الشباب، شبقها، نزقها، عبقها، عواطفها، انفعالاتها، غرائزها، وكل اندفاعاتها، لهذا اختلف عليها الأمر، وتاهت في اعتبارات ميتافيزيقية. كان الماخور أنظف مكان في مملكة الدانمرك، ولهذا السبب. لم تعد تذكر أن شخصًا هامًا في حياتها كان اسمه هاملت، أو أن أخًا غاليًا على قلبها كان اسمه لائِرتس، أو أن أبًا قويًا أحسن تربيتها كان اسمه بولونيوس، لم تعد تتذكر، كل ما كانت تريده هو الدفاع عن شرف مومسات الصالون اللواتي استقبلنها في البداية أحسن استقبال، احتضنّها، وأخذن بيدها في محنتها كأخوات، لكنهن بعد ذلك، سرعان ما عملن، بشتى الطرق، على إقصائها، مقابل أن يحتفظن بالزبائن، وغدون كلهن للشر أخوات. لم تجد أوفيليا صدرًا تلجأ إليه غير صدر القمر في الليل، تجعله بذراعيه يلفها، وتترك نفسها كذلك دون أن تغفو عينٌ لها، فكل المومسات يعملن من حولها، حتى الصباح يعملن، وهي تفكر فيهن، وفي الطريقة التي تمكّنها من حمايتهن، حمايتهن من الوحوش الضارية، ومن أنفسهن، ولم تكن تصل إلى أية طريقة. أعياها ثقل ضميرها الخلقي، بثقل الشمس في النيفادا كان ضميرها الخلقي، وعذبها، وراح يكلمها، راح يتحدث بلسانها قائلاً إنه ابن مومس، وإن كل هذه المومسات أشرف منه، وهو لا مكان له في حضن القمر، وفي حضن الشمس هو كلب ابن كلب أجرب مطرود مشرد يستحق رصاصة في جبينه تضع حدًا لحياته، حياة أقذر حياة. أمام عجزها عن الحفاظ على شرف المومسات، أخذت أوفيليا تعوي في الليل، فتخرج فتيات الليل إليها، ليخرسنها، يضربنها، ويرغمنها على النوم بينا هي لا تستطيع النوم طالما أخواتها يواصلن العمل، وطالما القمر في سماء ساكرامنتو أسود اللون أو أزرق اللون أو أحمر اللون أو أصفر اللون أو بنفسجيّ اللون أو بنيّ اللون أو فستقيّ اللون أو بطيخيّ اللون أو شماميّ اللون... يضغطها على صدره ضغط الزوج تارة والأخ أو الأب تارة، ولا تجد غير مضغ أوراق كوكا تجعل منها مِكْناز زمنها: ذاك القزم الذي يرد ذكره في الأساطير، والذي يحافظ على كنوز الأرض.
- لن أتركك تغطس فيّ، خاطبت أوفيليا القمر شبه غائبة عن الوعي كمن لا تبالي بالنجوم إذا كان القمر معها، أنا لست عاهرتك، أنا عاهرة الشيطان، قلب قلبي، أنا عاهرة وفية، أنا عاهرة ذات قلب بكر لم تهزه العواطف، أمي من قبلي كانت عاهرة ذات قلب بكر لم تهزه العواطف، فلنقل لم تهزه العواطف إلى أن هزته أعتى هز في اليوم الذي ولدتني فيه بين ذراعي الحياة، وولدت نفسها بين ذراعي الموت، لأننا لما نموت نلد أنفسنا في العدم، لنعيش الموت كل واحد على طريقته. أنا أختك، يا قمر، أنا ابنتك، أنا أمك، أنا فضة تسيل بين فخذيك، فخذاك العالم، كل أخواتي العاهرات فخذاك، أنا كل ما توحي إلى السكارى بصور دون حياء، إلى رعاة البقر، إلى ظمأى الذهب، كل ما توحي إلى عاشقي العار، إلى مجرمي النهود، إلى عابدي البطون، أنا قصيدة تنثر كلماتها على بطنك، فتكون قصائد، ويكون شعراء، شعراء الدنس يكونون، فالعفة دنس للكلمة الشاعرة، والكلمة الشاعرة كفر، الكلمة الشاعرة جلادة لأنها كافرة كأولئك الجلادين، فالجلادون وحدهم هم الكفرة، ولا علاقة للكافرين بتؤمن أو لا تؤمن، الكلمة الجلادة شاعرة، أنا الكلمة الجلادة، وأنت الإلهام الجلاد، يا قمر! الديوان الذي لن يشربه ظامئ، وكل العالم ظامئ! الخنجر الذي لن يطعمه جائع، وكل العالم جائع! الفرج الذي لن يخترقه ضالع، وكل العالم ضالع! سأشربك أنا، وسأطعمك أنا، وسأخترقك أنا، فأنت أنا، وأنا هذه الكلبة التي تريد كل الزبائن لنفسها دون غيرها تحت ذرائع عن الشرف بالية، فالشرف ماخور، يا قمر! العفة، البكارة، الاستقامة! مُرْنِي أُعْطِيني للذئاب، أمرك مطلق، فأنا ذئبة ابنة ذئبة، أنا طين العفة، وصديد البكارة، وبصاق الاستقامة، فهل هناك من بين البشر واحدة أكثر مني نظافة؟ أنا النظافة القذرة، يا قمر! كن أنا، وامخر العُباب! ليس من أجل النقاء، من أجل أن أزداد قذارة، فالعُباب قذارة، الفضاء قذارة، الزمان قذارة، وقذارةٌ الحبُّ، الكلفُ، الغرامُ، قذارةٌ الصداقةُ، الوفاءُ، الإخلاصُ، قذارةٌ العزةُ، المالُ، الجاهُ، قذارةٌ الأملُ، الأمنيةُ، الرجاءُ، كل شيء قذارة، قذارة على قذارة، قذارة على قذارة على قذارة!

* * *

في محكمة الجنايات، بينما يلعب المحاميان الشطرنج، والمحلفون البوكر، أصدر القاضي الجديد حكمه:
- بالنظر إلى وقوع أراضي السيد فولتِماند داخل حدود أراضي صاحب المقام الرفيع كلوديوس كييركغارد، وبالنظر إلى غياب وريث بالغ لهذه الأراضي من أبنائه وبناته، فالوريث البالغ في عرفنا لديه من العمر إحدى وعشرون سنة، تَقَرَّرَ أن يضع السنيّ كلوديوس كييركغارد يده عليها، وذلك بما يعود على هذه المحكمة من صلاحيات. رُفعت الجلسة.
نهض كلوديوس كييركغارد ليعبر عن طيبِ سوءِ اهتمامه بالورثة الصغار: خمسة فتيان أعمارهم تتراوح بين أحد عشر عامًا وخمسة عشر، وخمس فتيات أعمارهن تتراوح بين ستة عشر عامًا وعشرين. رفضوا، وعبسوا، وغادروا مع محاميهم، والمحامي الآخر يشير إلى رقعة الشطرنج، ويقول بمرارة: "لم ننه اللعبة بعد!". وعلى العكس، هنأ بولونيوس سيده بحرارة، وكذلك فعل الشريف مارسيلوس وأعوانه.
- قبل أن أرسل رجالي، أمر صاحبُ المقام الرفيع الشريفَ مارسيلوس، نظف لي كل هذا!
- كما لو كان كل شيء قد تم، يا صاحب المقام الرفيع، أطاع رجل الأمن والنظام.
- هيا! تدخل بولونيوس، ماذا تنتظر؟ افعل ما تؤمر به!
- إرادة الملك، إرادة القانون، دوى الشريف مارسيلوس.
غادر رجل الأمن والنظام وأعوانه القاعة بقدم عاجلة، وكلوديوس يقول ليده اليمنى:
- مناجم الحديد في هذه الأراضي لن تجعلنا نتوقف على المكسيك إلى ما لا نهاية.
- التنقيب يؤكد ذلك، أجاب بولونيوس.
- أولاد وبنات القحبة كأبيهم لا يريدون أن يفهموا!
- لائِرتس سيهتم بهم.
- لائِرتس يُلهبه حب الوطن!
- لائِرتس خط الوصل، سنرسلهم إلى لوس أنجلس عنده، وسيجعل منهم أولاد وبنات قحبة عن حق وحقيق، سَتُنعم عليهم الطبيعة بمزايا عظيمة، يا الطبيعة القحبة! أشهد السماء على كل ما أقول!
- أيها الرجل الأبيض، لست بحاجة إلى شهادة السماء، نبر كلوديوس في وجه بولونيوس، والدنيا قد احمرت في وجهه، ليس هذا لأني أثق بما تقول، بل لأني سيدك، وصدقك كطاعتك أمر مفروغ منه، وإلا فلا أكون من أكون !
- المعذرة، يا سيدي ومولاي، إذا خدشتُ بكلامي البحر، همهم والد لائِرتس مضطربًا، وهو يحاول أن يركز أسلوبه، بللتُ بأنفاسي أجنحة الصقور، رميتُ بسهامي الشموس والأقمار والنجوم، فشهادتي عبارةٌ للتأكيد على شهادة، وهل هناك غيرها من شهادة: أشهد كلوديوس على كل ما أقول!
- كفى! انتهره سيده، وهو يبدي عن نواجذه، خذ حذرك المرة القادمة! إياك أن تنسى شرطي الواجب!
- تحت أمرك، يا صاحب المقام الرفيع. أنا خنزيرك البريّ!
- الخنازير البرية كبرياء كاليفورنيا، وأنت لن تكون كبريائي.
- أن أكون فقط خنزيرك البريّ كل كبريائي!
- ثرثرت كثيرًا، يا يدنا اليمنى! دوى كلوديوس، وقد نفد معين صبره، إلى العمل، أنت وشريفك! بادلا الشر بالشر، وكونا على مستوى المهمة التي أكلفكما بها!
- ليس لدينا من خيار آخر سوى أن نكون، وسنكون كما كان دأبنا دومًا.
- كثير الكارات قليل البارات.
- مُسَبِّع الكارات أنا، لكني ربها!

* * *

من عقر دارهم، أراد الشريف مارسيلوس أن يُصْعِدَهم، أولاد بنات، في عربة، فقاوموا مقاومة عنيفة اضطرت مسئول الأمن والنظام ومعاونيه إلى إشهار مسدساتهم آخر صيحة، ذات الأنابيب المتعددة. لم يتحكموا بها، وعملت على هواها، وهي تختار أهدافها كما يحلو لها: روبو حديدي ارتداه أصغر الأبناء، مخترعه، أطلقوا الرصاص عليه، وأطلق الرصاص عليهم، فأسقط بعضهم، ولم يسقطوه، إلا أنهم استطاعوا رميه أرضًا، وسيطروا عليه. مصعد امتطاه رابع الأبناء حتى أعالي شجرة سامقة، مما اضطرهم إلى تسلق أغصانها إليه، لكنه هبط بآلته في اللحظة التي وصلوا فيها إلى مستواه ليتوقف عند منتصف الشجرة، ومن جديد اضطرهم إلى الهبوط والأغصان تتكسر تحت ثقل أجسادهم، فالصعود من جديد، وهكذا دواليك، البعض سقط على الأرض، وهو يصرخ، والبعض امتلأ جسده بالجروح. وفي الأخير، ربطوا المصعد بحبالهم، وبقوة خيولهم، تمكنوا من جذبه. دبابة صندوقية اخترعها ثالث الأبناء لم تعمل كما يجب، تعثرت بحجر، وانقلبت عدة مرات، قبل أن تستقر على ظهرها. طائرة من اختراع ثاني الأبناء أشبه بكوندور ممزق الأرياش، رموا عليها عُقَدَ حبالهم، مما اضطر ربانها إلى النزول. سيارة بدائية حاول كبير الأبناء، مخترعها، الهرب بها، إلا أنهم بأحصنتهم الأكثر سرعة، تجاوزوها، وأوقفوها. أما البنات، فشيء آخر. أصغر البنات ارتدت ثوب الشريف، وامتطت جواد الراحل أبيها، فحلمها أن تكون أول امرأة للأمن والنظام، وقاتلت ببسالة. رابع البنات ارتدت ثوب البابا، فحلمها أن تكون أول ماما في العالم، لأن المسيح في رأيها امرأة، حوله المجتمع البطريركي إلى رجل، للسيطرة على الرجل وعلى المرأة. ثالث البنات ظهرت لأعوان الشريف، وهي ترتدي مايو بيكيني، أول مايو بقطعتين ترتديه امرأة، فتدلت كالكلاب ألسنتهم، وحاروا في أمرهم. ثاني البنات خطبت فيهم بوصفها أول رئيسة للولايات المتحدة، ولايات متحدة لم تكن موجودة، فأرادت أن تجعل من الحلم حقيقة واقعة. أولى البنات وأكبرهن جاءت بسماعة الطبيبة لتفحص الجرحى، وتداويهم، كأول طبيبة امرأة في كل أمريكا.
في الأخير، قادوا الجميع إلى الدِليجنس الذاهبة إلى لوس أنجلس.
في اليوم التالي، حضرت الماكينات، وبدأت في الحفر.

* * *

أطلق هاملت طلقة لم تصب القلب من جسد المرأة المرسوم على صخرة، أزت الطلقة أزيزًا حادًا، وارتدّت بعد أن خدشت جلد الزمن. كان ذلك بمثابة كَلْمٍ أحدثه مِخلب النَّسر، والكَلْم بمثابة حكاية. ومن جديد، أرسل هاملت طلقة ثانية، ضاعت في الفراغ، فلم يلتقط المنتقم ما يلتقطه النحات، ولم يقطع اللحم الحي قطع مناقير الكواسر. هربت من بين أصابعه المأساة، وعقد العزم، أكثر من أي شخص كان، على صنعها، فالمأساة ليست قدر الورد بشوكه، ليست مصير راعي البقر بغدره، ليست مآل شخص بغيره، المأساة إرادة الطبيعة، تلك التي تلهو بدمنا، وهاملت يريد شيئًا من هذا، أن يكون إرادة الطبيعة، أن يلهو بدمه. وأطلق هاملت، وأطلق، وأطلق، فنعقت العُقبان نعيق الغربان، ليعرف أن طلقاته أصابت قدم المرأة. ابتسم، وزاده ذلك عزمًا على عزم. قدم المرأة الآن، وبعد ذلك فخذها، فبطنها، فصدرها. كان ذلك نحته للموت على جسد أبيض، ينادي بثأر الشهوات مذ كانت هناك شهوات، بانتقام الانحصارات مذ كانت هناك انحصارات، بعقوبة الجاذبيات الجنسية مذ كانت هناك جاذبيات جنسية. ليكون التصور القسريّ، والتسلط الفكريّ، فبفضل التسلط والقسر تقيم العُقبان وليمتها. لهذا أطلق هاملت من جديد، فأصاب المرأةَ في رأسِهَا، وأصاب الطيورَ الجارحةَ الرعبُ، غادرت مواقعها بين العملاق من أشجار الصَّبار، وراحت تحلق كالكائنات المسخوطة فوق رأسه، وهي تضرب بأجنحتها ضرب الممسوس في عقله، مما اضطره إلى إطلاق النار عليها، وَقَتْلِ بعضِهَا، دون أن ينجح في إبعادها عنه كلها. سقط عليه عُقاب، ونقره من كتفه، فصرخ هاملت، وبدافع وجعه، راح يطلق النار على الشمس. عادت الطيور الكاسرة إلى أماكنها، وعادت تنظر، وتنتظر، كانت تلك وليمتها، ولن يمنعها أحد عن نحت الجسد الهالك على طريقتها: أن تصنع من البطن بطنًا أمضى من مخالبها، ومن الردف ردفًا أعتى من مناقيرها، ومن النهد نهدًا أقسى من طباعها.

* * *

كانت العربة الناقلة لصندوق بيت مال الحكومة الفيدرالية محروسة من طرف بعض فوارس جيش الشمال، فهي تنقل من الدولارات آلافها لعمال الخط الحديدي، لما فجأة أحاط بها بعض الخارجين على القانون الملثمون الذين راحوا يطلقون النار، فنشبت معركة حامية الوطيس، انتهت بانتصار هؤلاء الأخيرين.
- في كل مرة يحدث الشيء نفسه، صاح كلوديوس بيده اليمنى، وهو يستشيط غضبًا، وفي كل مرة لا تفعل شيئًا، فإلى متى سنبقى ضعافًا في مملكتنا؟ كأن ساكرامنتو ليست عاصمة الشيطان الذي هو لنا، وكأن كاليفورنيا ليست فردوس ملائكة الشر التي هي لنا!
أخذ بولونيوس يرسل إلى الأجواء الأقراص الخزفية من ماكينة دافعة كجواب بسرعة أكثر فأكثر، وسيده يصوب إليها مسدسه، ويفجرها، واحدًا تلو آخر، حتى أتى عليها كلها.
- لم أخطئ واحدًا منها، هتف كلوديوس في وجه يده اليمنى، أما أنت، فتخطئ بعدم الجواب على سؤال أنت من يعرف أكثر من كل الناس أبعاده.
- أبعاده التوليدية أم الدلالية؟ تلعثم بولونيوس.
- الخرائية، خراء! نرفز كلوديوس.
- سنتقاسم مع الباحثين عن الذهب ما يجدون بانتظار...
- هذا شيء ومال الحكومة الفيدرالية شيء آخر! سنتقاسم، وسيكون لنا من المال ما يعود علينا. خذ كل القوى التي يريدها رينالدو، كل الإمكانيات، كل ما يلزم.
- تحت أمرك، يا صاحب المقام الرفيع، ولكن...
- قل! كيف أُعاوِدُكَ وهذا أثرُ فأسِكَ!
- لن يجدي ذلك نفعًا كبيرًا.
- أوضح، ما الذي تريد أن نفعله؟
فك بولونيوس حصانًا يركبه فارس خشبي، وضربه على كفله ضربة جعلته يعدو عدوًا دائريًا من حول كلوديوس، وكلوديوس يصوب إلى الفارس مسدسه، ويصيبه كل مرة في صدره حتى لم تعد لديه أية طلقة، والحصان يداوم على الدوران بتحد مغيظ.
- كان علي أن أدقق مسدسي تدقيق حساباتي، نبر كلوديوس حانقًا، لم تكن فيه من الطلقات ما يكفي!
- على النظام كله أن يُدَقَّقَ تدقيق حساباتك، يا صاحب المقام الرفيع، أوضح بولونيوس، وهو يوقف الحصان، ويعيد لجمه، الحرب الأهلية بدلت نظام الدفع في كل مكان إلا عندنا.
- تقصد الصكوك؟ استفهم كلوديوس، وهو يعيد تعبئة مسدسه بأصابع عصبية قبل أن يعلقه على خصره.
- والأسهم. من الواجب تعميم الأسهم، يا صاحب المقام الرفيع. حقًا الأسهم لم يجر بعد العمل بها على نطاق واسع، ولكنها الطريقة الوحيدة التي ستحمي أموالك، أيها السنيّ كلوديوس، وتضمن لك بناء اليونيون باسيفيك ريلرود من غربه إلى شماله دون أي إشكال. الأسهم تعادل النقود، تعادل الديون، تعادل المضاربة، تعادل النقود على النقود التي ستملأ جيوبك بها. قطارك سيصبح قطارات، شركات، أسواق، اقتصاد أمريكا، اقتصاد العالم، العالم مملكة الدانمرك. كل هذا سيكون واقعًا بلا رَيْب، ولا علاقة لهذا بتوالد الألفاظ، بتوالد الأفكار ربما، الأفكار الخلاقة.
أحضر اليد اليمنى إنسانًا آليًا، فراح كلوديوس يشهر مسدسه بسرعة البرق، كلما حرك الإنسان الآلي يده ليباغت صاحب المقام الرفيع، ويطلق مصيبًا إياه في أماكن عديدة من صدره.
- سنفكر في الأمر، قال كلوديوس، وهو يلمس بأصابعه الثقوب التي أحدثها في صدر الإنسان الآلي، من هنا إلى هناك، اجمع من حولك عددًا كبيرًا من رجالنا، واذهب بنفسك لاقتسام الذهب مع من يجده، وفوق ذلك، إلزام الجميع على دفع ضريبة البحث عنه في أراضينا. كلب اعْتَسَّ خيرٌ من أسدٍ رَبَضَ!
وهذا ما كان: من استجاب تركه بولونيوس في حاله، من لم يستجب التقطه رعاة البقر بالحبال، واغتصبوه، رجلاً كان أم امرأة، تحت سمع الرجل القوي الثاني وبصره، وهو في هذا، جمع الكفاءة من أطرافها. كان بولونيوس ينتقم من مغتصبيه، من مغتصبي زوجته، من مغتصبي كِيانه، ممن لم يغتصبوه، لم يغتصبوا زوجه، لم يغتصبوا كِيانه، ككل مظلوم قُدّ قلبُهُ من حجر، وها هو على هذا الكِيان المحطم يقيم كِيانات محطمة، فيبتسم، ويظن أن عالمًا كِياناتُهُ محطمةٌ لهو أقوى عالم.
- ابعد عني، يا بولونيوس، نفرت منه زوجه سعيًا وراء قَضْبِ الأسباب بينها وبينه، فأنا بعد كل ما فعلوا فيّ أكره رائحة الرجال، أكره أنفاسهم، أكره أصواتهم، أكره أفكارهم، أكره ظلالهم، أكره صورهم في المرآة. إنهم ها هنا، أيها الرجل الخائن، يخرجون كل مساء من انعكاسات الضوء ليعبثوا في جسدي، فلا تفعل شيئًا، مثل أول مرة، تتركهم يقطعونني بأسنانهم، وأنت تنظر إليهم، وكأنك تحسدهم على ذلك، فتأخذهم كلهم في حضنك، أيها الرجل الجبان، أيها الزوج الذليل، أيها القلبُ المنتهَكُ الذي هزته العواطف أعظم هز!
- ولكنك حبلى منهم، احتج بولونيوس مستعمِلاً لكلمة "حبلى" استعمالاً تعسفيًا، حبلى منهم، حبلى منهم، حبلى، حبلى، حبلى منهم، ولكنك حبلى منهم، حبلى منهم، حبلى منهم، حبلى، حبلى، حبلى منهم، حبلى، حبلى، حبلى، فاتركيني أفعل كما فعلوا، ليقول الجنين إني أبوه.
- لن يعرف الجنين من هو أبوه، ولن يعرف أحد، لن يشي الجنين بك.
- ستسقطينه، حرام أن تسقطيه.
- الحرام كلمة محرمة بعد كل ما جرى لي.
- لن أحرضكِ على الفجور.
- أما أنا فأحرضكَ، على الفجور أحرضك، على العنف، على التمرد، على الاضطرابات، على الموبقات، على الشر، على الحرب...
جرجر رعاة بقر بولونيوس أبناء الذهب الفقراء، وهم يسقون بتوتهم الحجارة والرمال. فجّروا المكان الذي يحتلونه بالديناميت، وأعطوهم مهلة يومين ليرحلوا. ولكن ما حصل، بعد مغادرة بولونيوس ورجاله، شيء لا يصدقه العقل، إذ بينا كان بعض المنقضين على الذهب في أقصى ضيق وأشد يأس، لا يعرفون ما يفعلون، ولا يميزون ما يرون، كمطايا البؤس كانوا، وبصاق الحياة، كالمنتظرين دَفعةً من يدٍ رحيمة على حواف قبورهم، اكتشفوا ما فعله الديناميت من معجزة ما كانوا أبدًا يحلمون بوقوعها: قِطَعٌ من الذهب كثيرة كانت بين الأنقاض.

* * *

تصارع الطوف مع أمواج ساكرامنتو، وهو ينقل المساجين المسلسلين إلى ورشة السكة الحديدية. اختاروا السماء سقفًا على سقف زنازينهم، والحرية ما تحت المراقبة. ألقاهم الطوف، وذهب ليأتي بغيرهم، القَرِفين من الحرب الأهلية، فالعاهرات، فالأطفال، فالجذوع، فالزنبقات، فالخنازير، فاليائسين من البحث عن الذهب، ومن بين هؤلاء كان علي وعامي، ابنا عم شقيقان وفرنسيان من مدينة ليون. لم يقولا لِتِبْرِ كاليفورنيا "كان ذلك حسبنا!"، فهما هنا للوقوع على آني. كل واحد يقول منه، ابنتها أوفيلي.
حملا رسمها، ودارا بين العمال، آلاف العمال، بين مخالب شمس لا ترحم:
- هل تعرفها؟
- لا أعرفها، اسأل ذلك، هو قبلي بكثير في هذا الماخور، أجاب الرجل بالإسبانية.
- هل تعرفها؟
- دعني أنظر، مع كوني أعرف الكل، اسأل تلك، أجاب الرجل بالإيطالية.
- هل تعرفينها؟
- لا أريد أن أعرفها، أجابت المرأة بالبورتوريكية.
- انظروا إلى هذا الرسم، طلب علي إلى مجموعة من الصينيين.
- هل تعرفونها؟ سأل عامي.
- نعرفها؟ لا نعرفها؟ لا نعرفها، قال أصغرهم سنًا بأمريكية مكسرة، اذهبا إلى الناحية الأخرى من السكة، ربما وجدتم أحدًا يعرفها.
- حظكم هناك أكبر في الوقوع عليها، قال أكبرهم سنًا بأمريكية مكسرة.
- هل تعرفنها؟ سأل عامي مجموعة من العاملات دون أن يتفضلن بالنظر.
- اسمع! نادى علي، هل تعرف هذه القحبة؟
- أعرف كل القحبات إلاها، أجاب الشاب بأمريكية كاملة.
- هو لا يقصد، أوضح عامي.
- ليست قحبة؟ إذن لا أعرفها.
- سنسأل تلك، اقترح علي. مس قفاي!
- لستُ قحبة، قالت الفتاة بالفرنسية مع ابتسامة واسعة.
- هو لا يقصد، قال عامي.
- من أين أنتما؟ سألت الفرنسية باهتمام.
- من قفاي، أجاب علي.
- لا، بجد.
- من قفاه، قال عامي.
- وأنا من قفا من؟ رمت الفتاة، وهي تقهقه، فتركاها إلى أسودين.
- هل تعرفانها؟ سأل علي وعامي بصوت واحد.
- نحن لا نفهم ما تقولان، قالا بالسنغالية.
- لستم من هنا، يا دين الرب؟ نرفز عامي.
- أقدم لكما أطيب تمنياتي، قال بالسنغالية أحد الأسودين.
- لنسأل ذاك القصير، قال علي، وهو يشير إلى قزم يقترب منهما.
- قصير قفاك، علق عامي.
- هل من خدمة أقدمها لكما؟ سأل القزم، ويده تمتد إلى الرسم.
- اسمها آني، هل تعرفها؟ سأل عامي.
- هل تحب خراءها؟ رد القزم على السؤال بسؤال.
- لا تسأل، يا ثقب قفاي! انتهره علي.
- هل تعرفها؟ عاد عامي يسأل.
- لا أعرفها، أجاب الرجل القصير مع ابتسامة واسعة، اسألوا في الناحية الأخرى من السكة، حظكم هناك...
- أنت تخريني، نرفز عامي.
- ...أكبر في الوقوع عليها.
سار علي وعامي باتجاه صبي، والقزم لا يحيد عن النظر إليهما.
- هل تعرف هذه المرأة، يا شاطر؟ سأل علي.
- يمّا، تعي شوفي ايش بدهم هادو؟ صاح الصغير بالعربية الدارجة.
أطلت امرأة جميلة العبوس من خيمتها، وهي تقول بعربيتها الدارجة:
- أنا إم برهوم، وهادا الحلاق التعبان الهبيان أبو برهوم، والولد اللي ناداني ابني برهوم. شو بدكم؟ إحنا بنقول ألله ألله، ويا ألله السِّتِر، لا حدا بإذينا، ولا إحنا بنإذي حدا.
- أنت تتكلمين الصيني؟ سأل عامي.
- إيش بتقول؟
- صيني؟
- آه! صيني. لأ، عربي. ما بتحكي عربي؟
- هل تعرفينها؟ عاد عامي يسأل، وهو يُغْضي على القذى.
اختطفت المرأة من يده الرسم، وسارعت إلى القول بالعربية الدارجة:
- بعرفها، روحوا من هون.
- خراء! قال عامي صاحنًا أسنانه، وذهب مع ابن عمه في الاتجاه المضاد.
- شفت، يا أبو برهوم؟ قالت المرأة لزوجها، وهو يقص لصيني شعر سكسوكته الرفيعة الطويلة، تحت القبة الزرقاء، ما سمعوا لي.
- خليهم ياكلوا خرا! جمجم الرجل دون أن يبدي أدنى اهتمام، والصيني ينظر إلى سكسوكته في مرآة يد، ويشير بإصبعه إلى هذه الشعرة أو تلك قائلاً: "هذه، هذه، هذه...". لوى أبو برهوم رأسه بعصبية، وراح بملقطه يلتقط شعر أذنه، فصاح الصيني: "آي! انتبه، يا قحبة بوذا".
حث القزم خطاه حتى خيمة تقيم فيها آني مع ابنتها. دخل، وهو يعيد غلقها، بعد أن أخرج رأسه، وتلفت حوله عدة مرات.
- كلاهما هنا، ألقى القزم.
- علي وعامي؟ ارتعشت المرأة.
- وهما يبحثان عنك، ارتعش الرجل القصير.
- جاكي، احمل البنت، واذهب، كما اتفقنا، في الحال، نبرت آني، وهي ترمي أوفيلي بين ذراعي القزم.
- لست سافلاً، يا آني، كي أتركك، عاند الرجل القصير، دائمًا ما كنت عند حسن الظن بي.
- كن سافلاً، يا جاكي، أرجوك!
- وإذا وقع لك مكروه؟
- تقول وإذا؟
- آني، تعالي من أجل البنت.
دفعته، والبنت تصرخ باكية.
- آني، لا تنسي أني وعدت بالزواج منك.
- فّكْ يو!
- آني، يا دين الرب!
- كما لا يبرئ عليلاً ولا يشفي غليلاً!
طردته، وأوفيلي تبكي بقوة أكثر فأكثر. جلست المرأة حيرى، لا تدري ما تفعل. بضع ثوان، وإذا بعلي وعامي يفتحان الخيمة، ويدخلان.
- أين ابنتي؟ سأل علي، وهو يبحث عنها في كل الزوايا.
- أين ابنتي؟ سأل عامي، وهو يبحث عنها كعلي في كل الزوايا.
- أوفيلي ليست منكما، همهمت آني، ودموعها تنط على خديها.
- ممن إذن، أيتها القحبة؟ سأل الاثنان، وهما يشهران موسيهما.
- لا تلحقا بي الأذى.
- ممن؟
- الرحمة!
- قولي ممن؟ نبر عامي طاعنًا إياها.
- من قفاي؟ نبر علي طاعنًا كعامي إياها.
سقطت صريعة، وهما يداومان على طعنها في كل مكان من جسدها، ويلهثان لهاث من لم يضاجع منذ أحوال، منذ قرون، منذ آلاف السنين، منذ فجر التاريخ، منذ البغ بانغ. غسلا يديهما في طشت ماء، فهما لا يحبان التوت، وأحدهما يقول للآخر:
- سأبحث عن ابنتي إلى أن أجدها.
- أنا أيضًا سأبحث عن ابنتي إلى أن أجدها.
- الأول الذي يجدها له.
- بلا زمر ولا طبل.
- بلا ضجيج ولا إلحاح.
- بلا رقص...
- ولا غناء.
غادرا الخيمة، كل واحد من ناحيته.

* * *

تميل المنايا حيث مالت الأكف!
استثمر لائِرتس مواهب أطفال فولتِماند أحسن استثمار، وهم بدورهم قدموا أحسن ما في أنفسهم، في بيئة ليس للمستحيل مكان. افتُتِح في لوس أنجلس أول مصنع للسيارات، وأول مصنع للطائرات، وأول مصنع للدبابات. كانت البداية التي لن تعرف النهاية أبدًا، ربما ستعرفها عند نهاية الأزمان، والأزمان لا نهاية لها. لم تكن السيارات كما نعرف اليوم، كانت أشبه بالحناطير، والطائرات بطائرات الورق، والدبابات بالصناديق. استعملت هذه الأخيرة في الحرب الأهلية، وهي على علاتها كانت من وراء صمود الشماليين. لكن ما قرر مصير الحرب، وبالتالي مصير الإنسان، الروبوات الحديدية، الدروع المتحركة، كما كانت تُدعى. وبعد ذلك، دخلت الروبوات إلى كل بيت: أدوات منزلية، أدوات كهربائية، أدوات إلكترونية، أدوات أدواتية. أما النهضة المعمارية الكبرى، فكان سببها المصعد، البنايات أخذت تذهب بالطول أكثر فأكثر، وما من أي ضير في أن تكون مساحة الأرض أقلها، كانت تذهب بالارتفاع أكثر فأكثر، فتناطح السحاب: في لوس أنجلس، في سان فرانسيسكو، في ميامي، في إنديانابوليس، في واشنطن، في شيكاغو، في دالاس، في... في... في... وخاصة في نيويورك. أما عن بنات فولتِماند فحدّث: الموضة والأنوثة غدتا أختين للمرأة لا ثالثة لهما، فضاهت لوس أنجلس بمجونها باريس، وربما من هذه الناحية طغت عليها، وفي لوس أنجلس تم بناء أول مستشفى للعيون – بعد انتحار "كوني" كما سنرى - واستحداث أول كنيسة ماموية، كما غدت أول امرأة شريفة، وفي الانتخابات التي قامت غداة مصرع أبراهام لنكولن ترشحت إحدى البنات فولتِماند لتكون أول رئيسة للولايات الشمالية، فالولايات المتحدة لم تكن توجد بعد، والحدث في حد ذاته كان مؤشرًا هامًا في هذا الاتجاه.
كانت تلك بانوراما الأحداث العامة التي ارتبطت بالشخصيات في علاقتها بالبلد، ونهضة البلد، وحضارة أمريكا التي طبعت العالم بطابعها، لكن بانوراما الأحداث الشخصية للشخصيات شيء آخر. كوني مثلاً، كبيرة البنات فولتِماند، وقعت في غرام لائِرتس أول ما وقعت عليه عيناها. صعقة الحب هذه كانت متبادلة، إلا أن مشكل لائرتس المعروف كان اشتهاء المماثل، كهاملت، إلى جانب اشتهاء المغاير، ومن هذه الناحية، يظل غير راضٍ، فأحب في الوقت ذاته جوفري، كبير الأبناء فولتِماند، تطبيقًا لما دأبت عليه نفسه: مثلهم ينبغي ألا تكون.
- خمس بنات الواحدة تلو الأخرى هكذا وخمسة أولاد الواحد تلو الآخر أمر محير، قال لائِرتس خلال لقائه الأول بكوني، الابنة فولتِماند الكبرى.
- هذا لأن البنات من أم والأولاد من أم، أوضحت كوني، وهي تكركر ضاحكة.
- عذبة ضحكتك، يا كوني!
- وكأن أبانا كان يوصي على بضاعة لا يريد غيرها، فكانت الكل بنات من زوجته الأولى، وكان الكل أولاد من زوجته الثانية.
- بضاعة كهذه يوصي عليها كل عام شيء خارق للعادة!
- والآن لماذا لا تُقَبّلني؟ ألقت كوني، وهي تكركر ضاحكة من جديد.
- يا له من طلب أقبله بكل سرور.
وما أن طبع شفتيه على شفتيها حتى سمع صوتًا يأتي من ورائه.
- طاب يومك، مستر شْمِدْت!
كانت المسز ريتشارد، جارته. من عادتها أن تقطع الحديقة مع كلبها في تلك الساعة.
- طاب يومك، مسز ريتشارد!
وهذه تلقي عليهما نظرات الاستنكار، وهي تبتعد، بينما كوني ترسل في الأجواء أندى ضحكاتها. ونكاية بالمسز ريتشارد، تقفز في ثغر لائِرتس، وتذهب معه في قبلة لاهبة لاعبة.

قبليني أو أَقْتُلُكِ
شفتاي مخضلتان
زهوري نزق

في اليوم التالي، ولائِرتس يصطحب جوفري إلى نفس الحديقة، ويجلس وإياه على نفس المقعد، عَبَّرَ ابن بولونيوس عن حبه للفتى، وهو يخشى أن يكون رد فعله عنيفًا لا كما يتمنى، وأن تَخُطَّ الرياحُ على الرمل، فكانت المفاجأة أن تناول كبير أولاد فولتِماند يد لائِرتس لتضيع بين يديه.

قبليني أو أُغْضِبُكِ
حبي انتهاك
حقدي شبق

- لم أكن أعلم أنك... تلعثم لائِرتس.
- قبل موت ماما، حكى جوفري، كنت أفرك لها ظهرها، في الحمام.
- تفرك ظهر أمك في الحمام؟ عَبَّرَ لائِرتس عن استغرابه، وباقي أخواتك؟
- لم تكن تطيق أية واحدة منهن لغيرتها من أمهن.
- من الطبيعي أن تغير من سلفتها.
- ليس من الطبيعي أن تغير من سلفتها الميتة.
- أوه!
- كنت في الثامنة أو التاسعة من العمر. ماما، أكره أن أفعل ما تريدين، كنت أقول لها، ابحثي عن واحد غيري. أنا لا أريد أي واحد غيرك، أريدك أنت. ماما... ثم إخوتك صغار، هم لا يعرفون فرك ظهري، أنت تعرف. ماما... تعال، يا جوفري، في الحال! ماما... قلت لك تعال! أضطر إلى الذهاب، فأراها كلها عارية. كم كانت جميلة، ماما. تدير لي ظهرها، وهي جالسة في المَغْطَس، فأفرك كتفيها المدورتين، وأمسد ظهرها الممتلئ، وأمسد هذا الشلال، وهذا الشلال، وهي صامتة لا تنبس ببنت شفة، فأضاعف من ضغط أصابعي، فقط لتقول شيئًا، لتأمرني بالتوقف، فلا تقول شيئًا، ولا تأمرني بالتوقف، لكنها تئن قليلاً. كانت تئن. قليلاً.
- جوفري، لماذا تقول لي كل هذا؟
- لا لشيء.
- إذن لا شيء يجبرك على قوله.
- في الليل، كنت أحلم.
- بأمك؟ يا للهول!
- كنت أحلم، فقط كنت أحلم، كنت لا أدري بم أحلم، بمن أحلم، كنت أحلم. كان كل شيء يختلط في رأسي، كانت أحلامي.
- ما قَدَّمَتْ يداك.
- ماما، متى تأخذين حمامك؟ ليست لي رغبة في ذلك. ماما، سآخذ أنا حمامًا. هل تريدني أن أفرك لك ظهرك؟ في الليل، كنت أحلم. لم أكن أحلم بأمي، كنت أحلم، فقط، كنت أحلم، أحلام مختلطة، كثيرة، كنت أحلم. بقيت أحلم كل ليلة، وأنا أكبر، وكأن ذلك كان شرط تقدم السنين عليّ. شيئًا فشيئًا، أخذت أحلامي تتضح، وأنا ألهث كالعدّاء بين أصابع غُلْمَتي مغتصبًا رجولتي.

قبليني أو أُلْغِمُكِ
حزني ميموزا
شيطاني حَبَق

لم يجد لائِرتس ما يفعل سوى طبع شفتيه على شفتي الشاب الغِرّ، وهذا الصوت الذي يأتي من ورائه:
- طاب يومك، مستر شْمِدْت!
- طاب يومك، مسز ريتشارد!
رد ابن بولونيوس، وهو ينظر إلى ساعته، ونهض دفعة واحدة مغادرًا مع جوفري الحديقة بأقصى سرعة.

قبليني أو أَخُطُّكِ
فوضاي تَرابُط
توافقي شَطَط

مدفوعًا بشطط السلوك، تزوج لائِرتس من كوني. كان يرى في نفسه هاملت، وفهم الوضع الذي يعاني منه مجنون ساكرامنتو معاناة من يرتكب جريمة على الرغم منه في أناس يحبهم لا يكرههم. كان الغرام مقلوبًا، الحب يمشي على يديه، القبل للظلال الواطئة، وكل لوس أنجلس ثدي امرأة على صدر رجل. كان يسعى في قلب تجربة جديدة لم تعرفها طبيعته من قبل، لها نكهة لاذعة كطعم الفلفل الأسود. لم يكن سعيدًا كما كان يتوقع، ولم يكن تعيسًا كما لم يكن يتوقع. قال لنفسه: سأترك نفسي للحب يفعل فيّ ما تفعل السهام في المعارك الخاسرة. كان جبنه اللذيذ. ومع ذلك، فاجأته كوني ذات يوم:
- اعترفَ لي جوفري بكل شيء.
- كوني، أرجوك، اغفري لي، فما هي سوى غلطة، لن أعود إلى ارتكابها ثانية.
- لهذا طلبتُ من جوفري أن يجيء بمتاعه، وأن يسكن معنا.
- أوه!
- هل يسعدك الأمر؟
- إذا كان يسعدك.

قبليني أو أُعْديكِ
أمراضي هزليات
أدويتي وَشَق

كان كل شيء لا طبيعي يمضي بشكل طبيعي بين لائِرتس وكوني وجوفري، وشكل الأخت الكبرى يتبدل من ضاحك إلى عابس، ومن جميل إلى دميم. من شيطاني لذيذ إلى ملائكي سقيم. غدا لها شكل الأرملة. شكل الميموزا الصفراء. تتقلص حين لمسها. تستسلم حين تداعبها الأشعة. كانت فريسة الوساوس. الوساوس فريسة الجنس. الجنس فريسة الجنس. الجنس كما يشاء، كما يجيء، كما يكون. الجنس مكانًا للعبادة، ماخورًا للتقوى. الجنس وقد حل محل الحياة، وقد حل محل الموت، وقد غدا الحياة، وقد غدا الموت. الجنس الهذيان. الهذيان العالم. العواء. أسنان الكلاب الكَلِبَة، ولا يهم من يكون موضوع التمزيق.
في أحد الأيام، عاد لائِرتس من عمله مبكرًا، وسمع حوارًا يدور بين الأخ والأخت في الحمام.
- هلا فركتني كلي، يا جوفري؟ طلبت كوني.
- طيب، يا ماما، أجاب الفتى.
- لا تنادني ماما.
- طيب، يا ماما.
- ماذا قلت لك؟
- قلت طيب، يا ماما.
- يا كوني.
- يا كوني.
- نعم، هنا... هنا. لك أصابع سحرية، يا جوفري. كمان، كمان. هنا أيضًا، هنا. أوه، جوفري! لماذا لا تأخذ حمامًا معي؟
- سيحضر زوجك.
- يضجرني هذا الرجل.
- تزوجتِهِ من أجل أن أسكن معك؟
- أوه، جوفري!
- ليست غلطتي.
- غلطته.
- أحتاج إلى عدة ثوان لأخلع ثيابي... هاءَنَذا!
- حبيبي!
دفع لائِرتس باب الحمام، ودخل، وهو ينتظر تفسيرًا.
- جوفري ليس أخي، يا لائِرتس، أكدت كوني، فاحمل ذلك على مَحْمَل حسن.
- ليس أخاك من أمك، رد ابن بولونيوس.
- أمه، الكل يعرف من كانت، أوضحت الابنة الكبرى فولتِماند.
- لا تتكلمي بسوء عن أمي، كوني، أرجوك، طلب جوفري.
- إنها الحقيقة. قل له، يا جوفري.
- صحيح ما تقوله كوني، ولهذا قتلها أبي. وضع المخدة على وجهها، وهي نائمة، وقتلها خنقًا.
- وباقي إخوتك؟
- إخوتي من أبي.
- من عشيقات أبي، قالت كوني، وهم لهذا يتقاربون في أعمارهم.
- كما تتقارب أخواتك في أعمارهن.
- من يدري؟ ربما كنا من عدة أمهات.

قبليني أو أُوَارِيكِ
روحي رمل
جسدي أَرَق

في عرض الأزياء الذي أقامته كيم، لم تترك هذه الأخيرة لائِرتس لحظة واحدة. كان لائِرتس سلطتها، وكان النجاح كبيرًا، كل لوس أنجلس الثروة والمجد كانت حاضرة، والعقود المقترحة كانت أكثر من مغرية، فهل ثمة ما هو أحسن؟ فضلت كوني القعود مع جوفري في البيت بعد أن سمح لائِرتس لهما بعلاقة طبيعية بينهما. ثملت كيم بعد العرض في إحدى العُلَب، وثمل لائِرتس، ومن العلبة ذهبا إلى الفراش في الشقة التي تسكنها أخت كوني. في صباح اليوم التالي، فاجأتهما الأخت الكبيرة، والبندقية بيدها. اعتقدا أن نهايتهما قد دنت، فراحا يتوسلان، ويعتذران، ويبكيان، وإذا بالمفاجأة المذهلة عندما قتلت كوني نفسها. بسبب الغيرة. ليس فقط الغيرة. لأن في جسد كل واحد يسكن شيطان، هذا الشيطان يمكن أن يكون ماخورًا، ويمكن أن يكون وطنًا، ويمكن أن يكون تاريخًا، أو عقيدةً، أو فلسفةً، أو أي شيء آخر، ولأن المرأة التي نام معها زوجها لم تكن أية امرأة.
قبل أن تنتهي فترة الحداد على كوني، تزوج لائِرتس من كيم. بالنسبة له كان من الطبيعي أن يتزوج من كيم، كان من الطبيعي أن تشاركه كيم أحلامه، كان من الطبيعي أن تغدو كيم حلمًا من هذه الأحلام. كانت كيم كشيء يستحقه، لقيمة فيه، لقدرته على ذلك، كشيء يمتلكه، ككل شيء امتلكه. كان شرطه أن تجيء إلى جنته، وكان شرطها أن يذهب جوفري إلى الجحيم. لم يحتمل الشاب الغِرّ قرار أخته، فرمى المرمى القصيّ. هدد بقتلها في ليلة عرسها، وَقَتَلَها في ليلة عرسها، ليدخل السجن، ويبقى فيه بانتطار تنفيذ الحكم عليه بالكرسي الكهربائي، بعد أن غدا الشنق موضة قديمة. حقًا من استطاع القليل أمكنه الكثير!
الأخوات الثلاث الباقيات على قيد الحياة أتين لائِرتس لينبهنه: الأخوة الأربعة يرسمون خطة جهنمية لقتل حاميهم انتقامًا لجوفري، فقط انتقامًا لأخيهم، فكل البنات لم يكن لهم أخوات، هذا ما يعرفه القاصي والداني. وعلى أي حال، قصتهم بنين وبنات تُروى كل مساء في أضخم كابريه في لوس أنجلس. لم تعد المشكلة مقصورة على روي الرواة، فما سيترتب عنها سيدفع لائِرتس ثمنه أغلى ثمن. لاتقاء شر أخوة جوفري، وقبل فوات الأوان، كان عليه أن يتنافس والشر في آلهته أو يتحالف معها، وكم كان الشر جميلا! هل هناك أجمل من طفل يَقْتُلُ؟ يَقْتُلُ الطفل لا ليكبر، يَقْتُلُ الطفل ليظل طفلاً. لم يقتل لائِرتس هاملت عندما كانا طفلين، فكبر على الرغم منه. كان عليه أن يفعل من أجل أوفيليا. أوفيليا. آه! أوفيليا. أُخَيَّتي. عض لائِرتس أصابعه ندمًا كمن عاد بيد فارغة والأخرى لا شيء فيها. خسرت حياتها أوفيليا بسببه لا بسبب هاملت. سيظل هاملت بريئًا، سيظل سخيفًا، سيظل لئيمًا. لأنه لم يقتله، فيريحه. أرسل لائِرتس مجرمين قاموا بتصفية الإخوة الأربعة. وما أن تم ذلك، اعترفت الأخوات الثلاث لابن بولونيوس بتلفيق التهمة، وذلك لحقدهن على أبيهن، فانهار الرجل الحائر في أمره.
- يا للمصيبة! صاح لائِرتس من شدة الغضب، ليس هذا لأني عملت على قتلتهم، لأني لم أعمل على قتلهم بشكل إنساني! فعل كهذا فعل ضد الطبيعة، يتنافى مع طبيعتي، طبيعة قحبة طبيعتي.
- هل تريان الحقد إلى أين يودي؟ قالت كيت لأختيها موبخة، أنا لم أكن على اتفاق معهما تمامًا.
- كانوا يستحقون الموت على أي حال، قالت كاثرين، وبهذه الطريقة أم تلك، القتل لم يكن يومًا إنسانيًا.
- بلى! صاح لائِرتس من جديد، أن أرسل المحترفين من القتلة ليفرغوا أسلحتهم في صدور إخوتكن غير أن أُقَطِّرَ السُّم في آذانهم.
- لم يكونوا إخوتنا، قالت كامرون.
- توقفن عن قول لم يكونوا إخوتنا، يا دين الرب! نرفز لائِرتس، ثم لنفسه: حكاية كباريه صدقنها هؤلاء الغبيات! يا دين الرب! يا دين الرب! عملت على قتلتهم أبشع قتل! أشعر بألم حاد في صدري، قلبي ينتفخ، يكاد ينفجر!
- إنها الحقيقة، عادت كامرون إلى القول، نفايات التقطها بابا من الطريق.
- إنها الحقيقة، أيدتها كاثرين.
- الحقيقة التي أعرفها أنهم كانوا إخوتنا، نبرت كيت.
- بابا، لماذا تُشبع "لو" ضربًا؟ همهمت كامرون، لماذا تحبسه في صندوق؟ ارفق بصغيرك. النفايات ترفق ببعضها، وأنا لست نفاية، كان يقول بابا.
- هذا لا يعني أنهم كانوا لقطاء، ردت كيت.
- بابا، ماذا فعل لك "جو" لترغمه على النوم في أعلى الشجرة؟ همهمت كاثرين، أعطه غطاءً على الأقل. أريده أن ينفق من البرد، أن تمص دمه الوطاويط، كان يقول بابا.
- هذا لأنه كان شديد القسوة، ردت كيت.
- بابا، "جيمي" يود لو يطير في السماء كالعصافير لئلا تمسكه، عادت كامرون تهمهم. فليطر، أينما ذهب ستصله يداي، كان يقول بابا.
- هذا لأنه كان يدفع جيمي إلى تحقيق المستحيل، ردت كيت.
- بابا، "دان" يصنع درعًا من الحديد يحميه من سوطك، عادت كاثرين تهمهم. فليصنع، مهما صنع سأطعمه نصيبه، كان يقول بابا.
- هذا لا يعني أنهم كانوا خيرًا من بابا، ردت كيت.
- بفضل إرادة الشر نحن ما نحن عليه، همهمت كامرون وكاثرين، بفضل إرادة الشر اليسير يجني الكثير.
- يا لها من إرادة، إرادة الشر لدى بابا! ردت كيت، فما أن كان غضبه يزول حتى يأخذ الجميع بين ذراعيه، هم ونحن، يأخذنا كلنا بين ذراعيه، وتسمع كل ساكرامنتو ضَحِكَنا.
- كعادتك تدافعين عن أبيك، قالت الأختان.
- أدافع عن أبي ربما، ردت كيت، وأدافع عن إخوتنا عندما لا يكون ذنبهم.
- لم يكونوا إخوتنا، قالت الأختان.
- كانوا إخوتنا، أكدت كيت.
- لم يكونوا إخوتنا.
- كانوا إخوتنا.
- لم يكونوا إخوتنا.
- كانوا إخوتنا.
- اخرسن، أنتن الثلاث، يا دين الرب! انفجر لائِرتس صائحًا، وهو يلوح بكلتا يديه، ولا تتكلمن بأيديكن، عيب عليكن! أبوكن لم يحسن تربيتكن، التومئة للمسرح، ونحن لسنا في مسرح.
ثم لنفسه:
- عملت على قتلتهم أبشع قتل، أولئك الصبيان المساكين، أنا من له قلب نبيل، وهذا يتنافى مع طبيعتي القحبة وما في الشعر من خيال، عندما يكون الشعر موج البحر الهائج والخيال سفن الموت!
لم يفعل لائِرتس ضد الأخوات فولتِماند أي شيء، أعطاهن مالاً كثيرًا، وتركهن يخترن المدينة والولاية اللتين يرغبن في العيش فيها. غادرت كاثرين وكامرون لوس أنجلس، وكيت وعدت بمغادرتها. كانت صغيرة فولتِماند، وكان حلمها كشريفة على قاب قوسين. بالمقابل، لم يهدأ بال لائِرتس إلا بعد أن عمل على تصفية منفذي أمره بمعونة رينالدو. بالنسبة له: كي تعرف الناس، يجب أن تعرف الناس. ظل يتألم، أكبر ألم، أكثر من ألم كتفه، أكثر من ألم قلبه، أكثر من ألم عضوه، أكثر من أي ألم. تألم كثيرًا لما عمل على قتل الإخوان فولتِماند، وتألم قليلاً، هذا صحيح، لكنه تألم، لما عمل على قتل الجناة الذين قتلوا الإخوان فولتِماند. كانت آلامه تتنوع تنوع مواقفه، وفي كل مرة كان ينجح في إيجاد العلاج المناسب اللامناسب: اِمْأَنْ مَأْنَكَ واَشْأَنْ شَأْنَكَ. طلب رينالدو البقاء وبيرل إلى جانبه. سيترك مهنة راعي البقر نهائيًا، هكذا قرر رينالدو. سيرتدي بذلة كلائِرتس، ويعمل في مكتبه. اقترح لائِرتس أن يتكلف رينالدو وبيرل بمخيطة الأزياء محل كيم، فوافق راعي البقر القديم في الحال. في أحد الأيام، حضرت بيرل بين يدي الرجلين، وهي تتزيا تزيي الغربيات، وهي تتزين تزينهن، وهي تميل بجسدها ميلان الغض من الأعراف، فسمرتهما بجرمها.
همهم لائِرتس:
- كيم سعيدة الآن في جدثها، كيم الآن عروس الماء!
انقض رينالدو على بيرل، واختطف من ثغرها قبلة أرادها طويلة، طويلة، جِدّ طويلة، أطول من نهر المسيسبي.

* * *

أرسل هاملت عدة طلقات تحت أعين عُقبانه، فأصاب رسم المرأة في أماكن قريبة من قلبها. آهَ، وجعل ذراعه تتدلى. لم يكن تعبًا، كان قرفًا. العدم من حوله، وهو يسعى إلى العدم في صميم العدم. كما لو كان ينتزع منه الرغبة في الإعادة! كان طعم العبث، فللعبث طعم العدم. حتى في صميم الحياة، للعبث طعم العدم. رفع مسدسه ليطلق، ولكنه لم يطلق. اتجه بمسدسه نحو طيوره، فنعقت، وطارت. ونحو حصانه، فصهل، وتوارى. ونحو نفسه، فتراخى، واستهان. ترك السلاح يسقط من يده، وأخذ يخلع ثيابه. وقف تحت الشمس عاريًا، والشمس تلعق ظله القصير. قبض على لسانها، وانتقل به إلى كل مكان من جسده. قبض على عضوه، وصرخ. كأنه يقبض على قطعة لحم ميت! حدق في الشمس، وبقي كذلك عدة ثوان. أعمته الأشعة، فرأى المرأة تتحرك في مرايا الأشعة، وتبتسم. احتضن الصخرة، والمرأة تئن، فصاح بها لتسكت. ضربها بقدمه، فتوجع، وصرخ: يا قحبة الخراء! نظر إلى عضوه الميت، وبصقت عينه دمعة. عجل الذهاب إلى مسدسه، ونقله بين أصابعه. سدد رجولته، ولم يجرؤ على تفجيرها. انهار. سقط في الرمل، وراح يتلوى. حفر بيدين مجنونتين حفرة وصل فيها إلى خاصرته، وطمر نصفه السفلي. بقي هكذا زهاء ساعة أو ساعتين، وهو لا يفكر في شيء، وكأن نصفه العلوي مدفون في الفضاء. الفضاء عدم، ونصفه العلوي مدفون في العدم. لهذا كان لا يفكر برأسه، كان يفكر بعضوه، وكان عضوه لا يحسن التفكير، دون رجولة لا يحسن التفكير. أغمض عينيه زهاء ساعة أو ساعتين. عندما فتحهما، وجد مرؤوسَيْ رينالدو يجلسان كالشيطانين أحدهما على يمينه والآخر على يساره.
- صاحبة المقام الرفيع والدتك مريضة، قال الأول.
- صاحبة المقام الرفيع والدتك تريد أن تراك قبل موتها، قال الثاني.
لم يَعْدُ هاملت في حياته أسرع مما عدا، وكأن العالم يعدو معه، ويعينه على قطع المسافة الفاصلة بينه وبين أمه في أقصر مدة. كانت الحوافر تضرب بالأرض، والأرض تضرب بالحوافر، السماء تحلق بجناحين، وتساعد الأرض على الانتقال مع الحوافر. وفي لحظة من اللحظات، سبقت الأرض الحصان. عندما رأته خلفها، أبطأت إلى أن لحق الزين بها. عاجله هاملت بعقوبة العدو أكثر من طاقته، وعاجل نفسه بِدَيْنِهِ نحو أمه. كانت أمه تموت، فلم يقصّر عن الضرب. مات أبوه، والآن تموت أمه. لم يحتمل موت أبيه، ولن يحتمل موت أمه. موت الأم شيء آخر، موت الأم شيء آخر غير موت الوجود، موت الأم موت التوت.
- ماما! همس هاملت، وهو يبكي على صدر أمه.
- هاملت! همست جيرترود، وهي تبكي مخللة أصابعها في شعر ابنها.
- ماما، لماذا؟
- لا لشيء.
- لا لشيء، ماما؟
- عشت لا لشيء، وسأموت لا لشيء.
- أموت بدلاً منك، ماما.
- لا تقل هذا، يا هاملت.
- ماما، لن أترك البيت الكبير ابتداء من اليوم.
- لقضاءِ أيامٍ هانئة.
- سنموت معًا، ماما. سنلحق ببابا.
- سألحق وحدي ببابا.
- سنلحق ببابا، سنكون معًا.
- سأدفعك على الأرجوحة.
- ستدفعينني على الأرجوحة، فيأتي بابا، ويدفعني معكِ، مرة هو، ومرة أنتِ.
- سنسمعك تضحك، لم تضحك منذ مدة طويلة، يا هاملت. سنسمعك تضحك، فنضحك.
- لم أعد أضحك.
- لم تعد تضحك.
- لم أعد أضحك. كنت أضحك، ولم أعد أضحك.
- سيحملك بابا، ويقول لك أحبك. ثم سيكون دوري، فأحملك، وأقول لك أحبك. تقول لبابا أحبك ولا تقول لي أحبك.
- أحبك، يا ماما.
- أدغدغك لتضحك، فتضحك كثيرُا.
- أحبك، يا ماما.
- وأنا أيضًا أحبك.
- كم؟
- أكثر من اللازم.
- بهذيان.
- خلافًا للصواب.
- بخبل.
- بوجه غير معقول.
- باستئثار.
- تجريديًا.
- لزومًا.
- مطلقًا.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنصعد الرابية، هانس يمسكك بيد، وأنا أمسكك بيد.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، ستركض على الرابية، وتكاد تقع، فأصيح بهانس "انتبه على الولد، يا هانس!"
- لا تخافي عليّ، ماما.
- انتبه على هاملت!
- لماذا تخافي عليّ، ماما؟
- انتبه على هاملت، قلت لك!
- لماذا تحبينني إلى هذه الدرجة، ماما؟
- انتبه على الولد، انتبه على الولد!
- ماما!
- انتبه على الولد!
- وبعد ذلك؟
- هانس لا يحتمل صياحي.
- وبعد ذلك؟
- هانس دومًا ما كان هكذا، كان يخاف عليّ من القلق، فيذعن. كان يلبي كل طلباتي لأنه كان يخاف عليّ.
- وبعد ذلك؟
- كان يخاف عليّ، هانس.
- وبعد ذلك؟
- كان يخاف عليّ لئلا أمرض.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سننظر إلى الأفق الأزرق.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سننزل الرابية، هانس يمسكك بيد، وأنا أمسكك بيد.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنعود إلى البيت الكبير.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنتعشى.
- وبعد ذلك؟
- حمام بالبطاطا، إنه طبقك المفضل.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنقضي قسمًا من المساء، كل واحد منا على طريقته، أنا في حبك كنزة لك، بابا في إنجاز رسم لك، أنت في اللعب مع لائِرتس وأوفيليا.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سننام معًا نحن الثلاثة، أنا في حضن هانس، وأنت في حضن ماما.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنحلم حلمًا واحدًا.
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك، سنبقى في الحلم.

* * *

- أبو برهوم، مش هادا اللي سأل مرة عن المسكينة آني؟ استفسرت أم برهوم بعربيتها الدارجة.
- والله ما أنا عارف، أجاب الزوج بكسل.
- بقولك هوه.
- هوه، هوه، أكد برهوم.
تظاهرت المرأة بالانشغال في فتح علبة فاصوليا بيضاء وثانية حمراء، وأخذت تخلطهما في وعاء.
- ابنة آني، أوفيلي، تأوه عامي من الضنى، والقرف، وشدة الحرارة، بلحيته الكثة، وثيابه المغبرة، وتجاعيد جبين سنيه الأربعين.
- شو بتبرم إنت، يا عمي، والله ما أنا فاهمة، سألت المرأة بعربيتها الدارجة.
أمسك عامي بخناق أبي برهوم، المتظاهر بقراءة الجريدة على كرسي حلاقته، فصاحت أم برهوم، وصاح برهوم، ولَسَنَت المرأةُ الإنجليزيةَ بطلاقة.
- سأقول لك كل شيء عن ابنة آني، سارعت أم برهوم إلى القول، وهي ترتعد، فلا تلحق بزوجي الأذى.
- كنت أعرف أنك تقرأين شكسبير، يا ابنة الشياطين!
- افلت زوجي! تضرعت المرأة.
- افلت بابا! تضرع الصبي بإنكليزية دون لكنة.
- أَفْلَتُّهُ، استجاب عامي.
- الصغيرة أوفيلي مع القزم، كشفت أم برهوم.
- مع القزم؟
- خطيب المسكينة آني، وهو ممثل في المسرح المتنقل.
- في المسرح المتنقل؟
- يأتون على الساعة السادسة.
- يا قحبة الخراء!
- ماذا؟ ارتعدت المرأة، وهي تحيط زوجها وابنها بذراعيها. أنت لا تصدقني!
- بحثت عن... هذا القزم المُفْلِس حتى أبعد مكان في خراء كاليفورنيا هذه، وهو أقرب ما يكون إليّ.
- لهذا السبب طال غيابك؟
- لهذا السبب.
- ولهذا السبب لم تجد الدابة ظِلْفَها؟
- ولهذا السبب.
- يا ليت ما كانت السكة الحديدية على الرغم من أنها كَسْبُ رزقنا، فنحن نلحقها أينما ذهبت، حتى إلى الجحيم.
- طيب، كما تقول لك أم برهوم، هذا هو الخراء الذي لنا، قال الحلاق بإنجليزية كالإنجليز ليصرفه، وذاك هو الخراء الذي لك.
- إيجازًا للكلام، عد على الساعة السادسة، طنت المرأة بنبرة آمرة.
حك عامي ذقنه، وجلس على كرسي الحلاقة، فاستجاب الرجل على مضض منه. خلال ذلك، سخنت أم برهوم الفاصوليا، وسكبتها في أربعة صحون. أمام مقاومة اللحية الكثة، وصراع أبي برهوم معها، اختطف عامي من يده الموسى.
- ما حكَّ جلدك مثلُ ظُفْرك، همهم الفرنسيّ.
بدأت العائلة الصغيرة في الأكل، وهي تلقي نظرات الارتياب على عامي. لما انتهى، ابتسم لوجهه الناعم في المرآة المعلقة في الهواء. دفعت المرأة صحن الفاصوليا في صدره، وَعَنَّفَتْهُ مع بريقٍ في العينين:
- كي تستعيد قواك لأجل قتل جاكي كما قتلت المسكينة آني.
- لا معنى لما تقولين، كذب عامي بَرِمًا، والبرهان على ذلك أني خارج السجن كما ترين.
- في وَجْهِ مالِك تُرَى إمْرَتُهُ.
أنهى صحنه بسرعة، كمن لم يتناول شيئًا منذ أمس، وزربع من فوهة إبريق فخار.
- سأعود على الساعة السادسة، همهم عامي.
- خذ قطعة الخبز هذه، عجلت أم برهوم القول، وهي تدفعها في صدره، فلم يزل هناك وقت طويل حتى الساعة السادسة. إنها الساعة التي تدق في الجحيم مرة واحدة كل يوم، فيتوقف معذبو الأرض عن أشغالهم. هذا هو اندماج الفرد في الجماعة الذي لنا، على نحو غير معقول.
- لكل يوم ما يكفيه من العناء، همهم عامي، وهو يضع قطعة الخبز في كيسه، ويسير خطوتين، ثم يلتفت قائلاً: حذار!، وهو يضع إصبعًا على فمه.
جمعت أم برهوم برهوم بين ذراعيها، وعبس أبو برهوم بشكل لم يعبس فيه أبدًا مذ وضع القدم في...
- هذه المخرأة التي اسمها أمريكا! صاح من وراء عامي الذي استدار، وأرسل إلى الجميع ابتسامة مطمئنة.
حضر الفرنسي على تمام الساعة السادسة، والمشاهدون يحيطون بالمسرح المتنقل غير بعيد من "دكان" الحلاق. أرسلت أم برهوم إلى عامي نظرة تعني "بعد لحظات ستقع على صيدك!". وبالفعل، دوت الضربات المؤذنة ببدء العرض، وشاهد الجميع على الخشبة قزمًا في ثوب الملك.
- سأفعل أول ما أفعل من أجل أخي المرحوم، قال الممثل في ثوب الملك، تشييدَ قبرٍ عظيمٍ بقدر العظمة التي كانت له، سأرفعه مترين، على قاعدة مساحتها عشرة أمتار مربعة، وأنحت له تمثالاً، أعظم تمثال، بل تمثالين، أضعهما على يمين ضريحه وعلى يساره، فينظر الزائر إليهما قبل أن ينظر إليه، ويخال الناظر أن الأول يضحك عليه، والثاني يضحك منه، ولا يجد من بد سوى الابتسام.
- بين يدي الأموات نبكي ولا نبتسم، ردت الممثلة في ثوب العاهرة.
- أيتها الجاهلة! الابتسام في حالة المرحوم أخي أكثر حرارة من كل الدموع، الابتسام من ماض كان عظيمًا، وعلى ماض كان يمكن أن يكون أعظم.
- وهل سيقبل المرحوم أخوك استغراق زائريه في الابتسام بدل التأمل؟ سألت الممثلة.
- ليس هو من يقول أقبل أو لا أقبل وهو لم يعد ملكًا.
- على أي حال، أخوك مات، والموتى يقبلون بكل شيء.
- هذا ما لم أفكر فيه.
- لكنهم لا ينسون كل شيء.
- وهذا ما لم أفكر...
لما وقع على عامي، توقف عن الكلام بشكل مفاجئ أثار استغراب كل من كان هناك، الممثلة أولاهم.
- وهذا ما لم تفكر... أعادت حائرة.
- وهذا ما لم أفكر... تلعثم القزم.
- وهذا ما لم تفكر... رددت الممثلة، وهي تفتح عينيها على سعتهما، هذا ما لم تفكر...
- وهذا ما لم أفكر...
وما وجد أية غضاضة في القفز على صيحات الاحتجاج.
تبعه عامي حتى خيمته، فوجد علي قد سبقه إليها، المسدس بيد، وأوفيلي بيد. هدد ابن قفاه بوابل من الطلقات، والطفلة يبدو عليها الاطمئنان، في ظل "أبيها". أملس علي ذقنه الحليقة، وابتسم لعامي، ثم بأمر منه، ربطه القزم بحبل، وبالسرير. قبل أن يغادر وأوفيلي المكان، رمى القزم أرضًا بضربة قوية من مسدسه، وعامي يصيح قبل أن يحشو فمه بجريدة:
- هذا كله ما معناه؟
- قفاي! معناه قفاي!
- سأستعيد ابنتي.
- ستستعيد قفاي!
- ولن أدع الأمور تجري في أعنتها.

* * *

كان كازينو بيفيرلي هِلز الأول من نوعه في كل لوس أنجلس، لأنه الأول في بيفيرلي هِلز التي لم تكن تطأها قدم، ولأنه الأول بمستخدميه الفرنسيين وألعابه الفرنسية، الروليت في مقدمتها. حضر لائِرتس، وبصحبته رينالدو وبيرل. بدافع الفُضول، ليس إلا. فاستقبلتهم جميلات الكازينو الفرنسيات أحسن استقبال، وهن يتكلمن بالفرنسية. كان لائِرتس يضحك كلما قال كلمة أو كلمتين بلغة موليير، لا للكنته، ولكن لأن الفرنسية لغة الحب، تدغدغ حتى الغائط في الأمعاء. عامل الكل بيرل كأميرة: "مدام! وي مدام! جو فو زمبري، مدام! كما تريدين، مدام! تحت أمرك، مدام!"، وجرب ثلاثتهم كل الألعاب، لا ليربحوا، ليتسلوا. كانت للائِرتس متعة الخسارة أكثر بكثير من متعة الكسب. وكذلك الأمر مع رينالدو وبيرل. حتى وهم في أكثر لحظاتهم إحباطًا، كانوا سعيدين. سعادة الكآبة. فرح الحزن. انتشاء الهزيمة. "شانيل" البراز. سكوتش البول. كُسْكُسُ القيء. في عالم منسوخ عن العالم: الكازينو. الكازينو: الشر. الشر بكل متعته. الأحاسيس بكل صدقها. عارية. خالصة. بكل انتمائها للإنسان. بكل تعبيرها عن كونه إنسانًا. إنسانًا حيوانًا. لاحظ لائِرتس شابًا يشبه هاملت، فلم يرفع عنه عينيه. ابتسم للشاب، وابتسم الشاب له. ابتسامة الواله، ابتسامة الخاسر، ابتسامة الفاسد، لم يكن يعلم. لا الواحد ولا الآخر كان يعلم. لم يكن الأمر مطروحًا. لم يكن الحال مرهونًا. لم يكن رد الفعل منوطًا. كان على كل ما يقع أن يقع، دون تمهيد، دون قَبل، دون بَعد. كل العمر تختزله ابتسامة. كل التاريخ، دون تدوين، دون عقارب. قبل أن يغادر الشاب، تطلع إلى ابن بولونيوس طويلاً، فلحق هذا به. لم تكن عادته. كان يشعر بطعم الخراء على لسانه، فلحق به. في الخارج، لم يقع عليه. نظر في كل الأنحاء دون أن يقع عليه. اشتاق لهاملت، حن إليه. ركض في ظلام بيفيرلي هِلز، فجاءه أنين الشاب. كان يغرق في محيط ما بعد المتعة، ما بعد تمزيق الجسد، ما بعد تمزيق الروح. رفعه، وهو يسأل عمن فعل هذا، فأشار الشاب إلى ناحية من النواحي، وهو يلفظ التوت.
- النجدة! صاح لائِرتس، وهو لا يدري ما يفعل.
حمل الشاب، وخطا عدة خطوات، فإذا برينالدو يجيء جاريًا.
- إنه هاملت، فاطلب من ينجده، نبر لائِرتس.
- هاملت!
- هاملت يفقد دمه!
- ليس هاملت!
- اطلب من ينجده!
عاد رينالدو من حيث جاء، بينما الشاب يلفظ نفسه الأخير. بكى لائِرتس، وشده إلى صدره. "هاملت!"، صاح غير مصدق. اشتعل ماء ساكرامنتو، وسمع أوفيليا تصيح: لائِرتس، تعال بسرعة، هاملت يحترق، هاملت يحرقه الماء! أحضر رينالدو رجال الشرطة، فأرادوا توقيف لائِرتس، فهددهم رينالدو، لما فجأة سمعوا صوتًا نسائيًا يأمر:
- دعوهما وشأنهما!
كانت كيت في ثوب الشريف.
- هذه عائلتي، أوضحت كيت.
- تحت أمرك، مس كيت.
- كيت! صاح لائِرتس للمفاجأة.
- أحسنتُ صنعًا بعدم مغادرتي لوس أنجلس، قالت كيت بنبرة جادة.
- لم أكن أعلم أنك...
- وهذا، قالت مشيرة إلى الشاب الميت، ليس أنت.
- ليس أنا، كيت.
- هذا لا يَدَعُ مجالاً لأي شك.
ثم أمرته:
- اذهب أنت وصديقك، وسأفعل ما تقتضيه الظروف.
- كيت...
- اذهبا، يا دين الرب!
تقدم لائِرتس من كيت، وضمها، كباقة من الزنبقات والحُرُمات المدنسة ضمها، كجملة من الحكايات والدرامات المنتَظَرَة، كموجة من الإحساسات والنزوات المتناقضة. همس في أذنها ما لم يسمعه أحد، وذهب مع رينالدو، فصاحت كيت من ورائه:
- تعرف أين تجدني، أيها العرّاب.

* * *

ومضت الأيام، وهي تجاري إيقاع بناء السكة الحديدية، فهل تمضي الأيام تلو الأيام لأن هذا متعة الزمن في التلاشي والاندثار؟ هل الأيام أقوى من الأقدار؟ هل تقوى الأيام على كل شيء حتى على الأيام؟ هل تعرف الأيام شيئًا آخر غير عقارب الوقت؟ وعقارب الوقت غير أثداء الفضاء؟ النافرة، المتنافرة، الصارخة على صدور الآلهة، والتي لا تشيخ أبدًا؟ كانت الأيام تمضي نشوى على بطن الحياة، ففخذيها، فساقيها، لهذا كانت تحبل بنا، ويجعل كل واحد من حياته قطرة مطر تسقي الأزمان. هكذا كانت الأزمان، من مطر حياتاتنا، في شتاء لا تنقشع غيومه. هكذا كانت الفضاءات، من أتوم هُتاماتنا، في بر لا تتحطم صخوره. أخذ هاملت يصيب المرأة المرسومة في قلبها، فتنهار صخور عمرها عشرات ملايين الأعوام، وكلما انهارت صخرة كلما نعقت العُقبان نعيق الغربان، وهي في منتهى الغبطة. كيف لا تكون في منتهى الغبطة براثن الموت الأحمر؟ كيف لا ترى في انهيار الزمن تحرقه شوقًا إليها؟ كيف لا تعبر الأجنحة الدموية عن إخلاصها للتوت؟ وهل التوت شيء آخر غير شفاه أجمل النساء في العالم؟ العالم عندما ينهار، والتوت عندما يصنع الكون من عض وقُبَل؟ كان سِحْرُ الثأر على هاملت يزداد شيئًا فشيئًا، وكانت عجرفته تتضخم أكثر فأكثر، لم يكن الكبرياء النبيل، كان الغرور الأحمق. بالنسبة له، حُسْنُ استعمالِ القوةِ يكفي القوة قدرتها على تحقيق المعجزات، عند ذلك تغدو القوة إلهية، والقوي إلهًا، لا شيء يقف في طريقه، وكل شيء من السهل تحقيقه: مصرع عمه ما هو سوى مسألة وقت، وهو واقع لا محالة. إنه العُجْبُ في ثوب الإعجاب، والإعجابُ في ثوب الابتذال، والابتذالُ في ثوب أباطيل العالم. كان سَحَرُ ثأر هاملت لأبيه يقترب يومًا عن يوم دون أن يميز ألوانَ السَّحَرِ على حواف هاوية العُجْبِ، وكانت سكة الحديد تمتد أكثر فأكثر، فما طال عليها الأمد، محققة الأحلام التي لم يكن حلم هاملت بالثأر لأبيه واحدًا منها، الأحلام الصعبة الإرضاء، اللاعلاقة لها بالإنسان الإله، المقاومة لسلطة النوم، المضاجعة للأرق، لفخذٍ تُقمع بالخطأ، لثديٍ يلهث، يتوسل، يَتَعَرَّص، يريد أن تمزقه البراثن، أن يكونَ بعد أن كان حلمًا، ككل الأحلام أن يكون، وأن يركض في سباق الخيل، لا كعدّاء، كحصان، أن يركض، أن يؤكد فكرة الفيلسوف، فيخلد. ما عدا هاملت، كان كل شيء يسعى على طريقته في طلب الخلود: وسعت الزراعة، وعظمت الصناعة، وبسطت التجارة. وثب العلم، ووثب الفن، ووثبت الموسيقى. لم يكن الجاز، ولا الروك، ولا البوب، كانت البادرة، إشارة إلى شيء آت، ودلالة على شيء غادر. كانت الموسيقى هوية الرجل الأسود وروح عصر يرقص على الأنغام، ومن قال الموسيقى السوداء لا ينسى الأغنية السوداء:

هل تعرف أن الغد بعيد،
يا أخي؟
وأن البحر عميق،
يا أخي؟
وأن السمك وحيد،
يا أخي؟

هل تعرف أن الأمس قريب،
يا أخي؟
وأن اليأس شديد،
يا أخي؟
وأن القمر غريب،
يا أخي؟

هل تعرف أن الآخرينْ
نَ
يعملون أيضًا من أجلك
دون أن يعلموا،
يا أخي؟
وأن الزمان لأخيكْ
كَ،
يا أخي؟
وأن المكان لم يعد جلدك الأسود،
كل أمريكا جلدك الأسود،
يا أخي؟

كانت الإيقاعات إيقاعات كل التضحيات التي جسمتها عجلات قطار تدور إلى الأبد دون أن تعرف الكلل، ولا الملل، ولا القناعة، فاللا قناعة كانت أُمَّ كل ابتكار. وكانت المسارح أبناء خيال كل يوم، حلمًا من الأحلام الكبرى، الأخرى، ولم تكن أكبرها، فَوُلِدَ مسرح العرائس. كان الصينيون آباء هذا المسرح، جلبوه جلبهم لشجر البرتقال، وجلبوا معه أساطيرهم التي جذبت الجمهور إليها، وأكبر هذه الأساطير حكاية الإمبراطور الذي قتله أخوه، فعاد من مملكة الموت شبحًا قتل بدوره أخاه، وكل من شاركه في الجريمة، فأهرق الدماء، ولشد ما أهرق الدماء، سور الصين العظيم غرق في أقلام الحُمرة. وبعد ذلك، وُلِدَ صندوق العجائب، وبعد بعد ذلك، في هوليود، السينما الخرساء. لعل في يوم قادم يولد هاملت من ضوء الهَزْل، يسلب القلوب بعد أن سلب العقول، يداعب النفوس بعد أن داعب الصخور، ينادي على الغائب في الإنسان بعد أن نادى على الغياب حتى نسيان الذات، حتى نسيان الوقت، حتى نسيان الكون. أما عن مشروع انتقامه، مشروع حياته، فحدّث. في يوم التنفيذ، كان هاملت سعيدًا كملك، يخب على جواده، والصور تخب في رأسه: كيف يبارز عمه، وكيف يَسُلُّ بسرعة البرق سلاحه، وكيف يجندله بطلقة في قلبه. تلاقى والسكة الحديدية، وافترق، ثم تلاقى، وافترق. صفر القطار ثلاث مرات، فأنشد الفار ويست نشيد الموت والحياة. أوغل في طريق الانتقام، وأمه تتبدى عارية بدل الرسم تحت طلقاته، عارية، كلها عارية، عارية كلها، كما كان عليها أن تكون حواء. تبدت أمه عارية كالموت، فذة الثدي، فذة الفخذ، فذة الفرج، عارية ككل أم ليست زائفة، عارية لأنها أم، ولأنها بغيّ، رائحتها رائحة القذارة والدعارة، رقتها رقة التوحش والتخلف، صلاتها صلاة مواخير العفاف والكستناء. رجته أمه عظيم الرجاء، لأجل تحضير القمر، كعاهرة من الضوء. حبًا في أوفيليا. لم يفكر طوال الوقت في أوفيليا، وها هو يفكر فيها، تحت إملاء القوى العظمى الثلاث: الأمومية، الشهوانية، والإباحية، فما أحبَّ الخيرَ لهُ ألا يفكرَ في أوفيليا. حبلى كانت أوفيليا. لم يكن يعرف ممن، ولكنه قال لنفسه "هذا لا يهم ممن تكون حبلى أوفيليا"، فالحب ليس مثلثًا متساوي الأضلاع، إنه دائرة الصراع، والانتقام زاوية قائمة في كل الأشكال الرياضية، ثلاثي الأبعاد: شيزوفرينيّة فيثاغورية، شيطانية أفلاطونية، جهنمية بروموثية، إنه التحول الميتافيزيقي للكائن والفكرة. وعزم على الزواج منها، المغفل الذي كانه سيتزوج من المغفلة التي كانتها، فهما جُبِلا على طين واحد، والمرأة واحدة أيًا كانت، هي وجيرترود على سبيل المثال واحدة، الملاكة والشيطانة واحدة، في طريقة التعبير ليست واحدة، وفي التفاصيل ليست واحدة، في التفاصيل المرأة هي شأنها، وفي طريقة التعبير، من هنا يأتي التعارض بين جيرترود وأوفيليا. إلا أن ما جرى لأوفيليا لم يكن بالحسبان، عندما نزلت العاهرات إلى الشارع العام في أول مظاهرة نسائية في تاريخ الغرب، وليس فقط في تاريخ أمريكا، في التاريخ، مظاهرة للنساء، وللقذرات منهن، يطالبن فيها بتساوي الحقوق بينهن وبين كل نساء العالم. كان ذلك ما لم تتوقع أوفيليا حدوثه أبدًا، فلعبت الدور الجدير بها. لكنها لن تعرف أبدًا أن أباها ومكتب البحث والتقصي كانا من وراء ذلك، لهدف بسيط: أن يغسل بولونيوس عاره. أصاب رجال الأمن والنظام أوفيليا برصاصهم من بين من أصابوا، وفي المستوصف لفظت نفسها الأخير دون أن يتمكنوا من إنقاذ وليدها، ملاكها اليهوديّ. أما عن الصغيرة أوفيلي، فقد طالت ضراوة ابني العم عليها، مرة كانت تذهب مع هذا، ومرة مع هذا. مرة الأول يصيب الثاني بطلقة في كتفه، ومرة الثاني يصيب الأول بطلقة في ساقه، وهكذا دواليك. كانا يتلاكمان إلى حد العجز عن بذل أقل حركة، وكانا يتنافسان إلى حد تلبية أكثر الرغبات بعدًا عن المنال. "بابا!"، فيهب كلاهما لجلب القمر والشمس وباقي النجوم. نهبا البنوك في طول البلاد وعرضها، وكانت فرصتهما للتعرف على كل الولايات الأمريكية. لم يقتل أحدهما الآخر، وقتلا من أجل البنت. قتلا رجال الأمن، ورجال الجيش، فَغَدَوَا إرهابيين إضافة إلى كونهما قاطعي طريق. تناقلت قصصهما الألسن، وتندر بمآثرهما الناس. علي وعامي الشريران، أسطورة اتخذت من الصدور مسكنا.
لاحظ هاملت أن العُقبان المولعة باللحم الميت تتبعه عن مقربة، فابتسم للطبيعة في أحسن صورها، الطبيعة أخيرًا في أصدق صورها، والحياة في أقبح معانيها. فكر في هوراتيو وفي لائِرتس، فحزن من أجل الاثنين، الأول مات كالمسيح، والثاني سيموت كحاكم لكاليفورنيا، كنهر ساكرامنتو الملوث بسموم المنتجات الكيميائية، كذهب ساكرامنتو المنسيّ في ذاكرة الحجارة، كأهل ساكرامنتو المغرمين بأحدث الأسلحة، بأحدث الألبسة، بأحدث الأبنية، بأحدث الأجهزة، بأحدث الأغذية، بأحدث، بأحدث، بأحدث، بأحدث الأحدث، بأحدث أحدث الأحدث، بأحدث أحدث أحدث الأحدث، فالكل سواسية في تعميم ثروة الأسهم عن طريق القروض، وسواسية في تعميم حمل أعبائها، وسيكون خَلَفُهُ كَسَلفِهِ بيدقًا بالمناوبة في لعبة شطرنج الحزبين. في لحظة يقرر المرء فيها مصيره، كان الخيال موطن كل الحقائق: صعد هاملت على صخرة، وأراد حملها، فحملته الصخرة، نام هوراتيو، والنوم صخرة تسحقه، فلم يصعد النهار، هطلت على لائِرتس الدولارات بغزارة، ففرغت خزائن البنوك. تكهنات ثلاثة وثلاث صور مستقبلية للبطالة والبؤس والأزمة، وثلاث حالات متطورة في نص سَيُكتب. كان تقدم الإنسان بالنسبة له يبعد الإنسان عن إنسانيته، هذا لا يعني أنه مع تخلفه، وكان جديد الإنسان بالنسبة له يدني الإنسان من وهميته، هذا لا يعني أنه مع قديمه. ضد الإنسان الجديد كان، الرجل الأبيض، مع قدر للأرض كان، أقدار الأرض. أَغَذَّ الزين السير، والأرض تسفوها الرياح، فأحس هاملت بنفسه كمن يحلق على براق ذي جناحين. كان العالم كله من تحت أبيض كالموت، أحمق كالحياة، وكان الوقت على المكان منطبقًا. لم تكن هناك بداية ولا نهاية، كان هاملت نفس هاملت، كان هاملت نفسه، وحده، الوحيد بين أرض وسماء، وكان الاحتفال على شرف "برياب" إله القوة التناسلية عند الذكور. في تلك اللحظة الاستثنائية، في استثناء اللحظة المبدعة، ككل لحظة من لحظات الجحيم، نطحه القطار بقرنه، فسحق حصانه، وألقاه في أعماق الزمن اللانهائي، فوق صخرةٍ جعلَ الرسمُ عليها من جسده، ومن جسده وليمةً للكواسر.


الجمعة 2014.01.03
باريس.



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هاملت القسم الثالث الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- هاملت القسم الثاني الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- علي الخليلي ابن صفي ابن بلدياتي
- هاملت القسم الأول الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- قرصنوا إيميلي واغتصبوا اسمي
- كوابيس المجموعة القصصية
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس العاشر: الأحمر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس التاسع: الأصفر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثامن: الأسود
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السابع: الدولة
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السادس: النفق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الخامس: القَرض
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الرابع: المسجد
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثالث: القطب
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثاني: الطوابق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الأول: الرصيف
- أفنان القاسم - اديب ومفكر - في حوار مفتوح مع القارئات والقرا ...
- موسم الهجرة إلى الشمال أو وهم العلاقة شرق-غرب
- موسم الهجرة إلى الشمال دور مصطفى سعيد
- موسم الهجرة إلى الشمال الراوي كيف يرى العالم؟


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هاملت القسم الرابع والأخير الرواية الجديدة لأفنان القاسم