|
اسطورة الامهات ابدية
فرهاد عزيز
الحوار المتمدن-العدد: 4324 - 2014 / 1 / 2 - 08:10
المحور:
الادب والفن
اسطورة الامهات ابدية 12
تحدثت أمي عن رحلتها هذه بأنها كانت تتأبط ذراعي وأنا صغير ، تسير بين الأشجار وتقطف الورود لتجمع منها باقة ، وتقطف من ثمار بستانهم في القرية ما لذ وطاب وهي مازالت تسير ، ومازالت تقهقه وحولها الفلاحين الذين كانوا يعملون عند أهلها ، تارة تتأبط ذراعي وتارة تضعني إلى جوارها متمددة وهي ترنو للبعد اللانهائي الامتداد حيث أفق الشمس وحيث لا نهائيات السماوات ، وخرير المياه الرقراقة . ونور السماء يغطي حولها كل شيء ، وبقت كذلك دهرا ، واختارت أن تعيدني إلى إخوتي ، لذلك عادت من هذه الرحلة من اجلي وتقول بان رحلتها هذه استغرقتها ثلاثة أيام بلياليها وهي تطير، لحين ما هبطت بي إلى حيث الأرض هنا . بعد آن تفرق الجمع وخلدنا للنوم استأذنتهم جميعا بأني أريد آن أنام بجوار أمي ، وكأني كنت أخشى فقدانها ، وفي داخلي رهبة بأنها ستأخذني معها هذه الليلة إلى حيث هي تريد في رحلتها ، ولا اعرف لماذا تصورت بان أمي ستختار رحلة أخرى هذه الليلة ، ولا اعرف لماذا كنت مطمئنا في ذات نفسي ، باني مهما يكن في أمان حين أكون بجوار أمي حتى لو اختارتني رفيق رحلتها ، بل حتى لو اختارت أن تكون رحلتنا الأبدية معا ، وارتضيت لنفسي هذه الرحلة مع أمي ، بل في ذات نفسي تمنيت رحلة كهذه ، حتى أكون متيقنا بأن أمي لا تتركني وحيدا وترحل ، اذ اضمن وجودي الأبدي معها حيثما تذهب ، وصرت أتمنى أن تعلمني فن الإغماء ، وفن الرحيل الجميل هذا . أمضينا ليلتنا بهدوء وأنا متمسك بأمي أحيط بها بذراعي وكأني وهي تضمني ذلك الطفل الأربعيني ، وجدت نفسي في حضنها صغيرا ، قبل أن تغفوا قالت لي : ـ أغمض عينيك وكرر ما أقول : بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ. صدق الله العظيم كنت اكرر بعدها ما تقول ، وكانت لا تحسن ملافظ الكلمات لأنها كانت أمية ، ولا اعرف أن كانت تعرف معناها ولم أشأ أن اسألها ، ثم أردفت قائلة ، اطلب من الله أن يوفقك بما تريد واطلب منه لهذه الليلة شيئا وأضمره لنفسك دون أن تبوح به وليكن ذلك سرا مع نفسك ما بقيت حيا ، وحتما ستوفق في الحصول عليه بإذنه تعالي . وقمت بما قالته أمي و توفقت في الحصول عل ما أضمرت ونويت ، وما زلت احمل سري مع نفسي . سألت أبي في اليوم الثاني إن كان يرى حالة أمي طبيعية أم يتطلب عرضها على طبيب ، أجابني بهدوء ، دعها وشأنها يأبني فهي امرأة صالحة ، وأم رائعة ، راقبها عن بعد في تلك الغرفة بالذات ليلة الخميس بعد العشاء ، لتجدها في أوج عرفانها وقوتها وستعرف لماذا أهيم بها مهما كبرنا ، وسأبقى أحبها وأتمنى أن لا أرى موتها ، بل أدعو الله أن يميتني قبلها ، وهو الحق المجيب. كنت أترقب حركات أمي بحذر وخوف كبيرين وكأني اكتشفها جديدا ، واكتشفت حماقتي لسنوات مضت دون ان اقترب فيها لامي كي أتعلم منها الكثير ، أو على الأقل لأكتشف عوالمها ، وهي الورعة التقية النقية ، وصرت أتوق شوقا لحلول ليلة الخميس إلى حيث ما نبهني أبي ، وكأني أترقب وأتخيل صحنا طائرا وكائنات قادمة من كوكب آخر، سينزل الأرض ليخطف أمي إلى هناك ، ولا اعرف لماذا تصورت بأن الكائنات الخرافية تلك هي خضراء اللون مشعة لا تقوى العين البشرية على النظر إليها ، وبأنها تشع نورا سماويا لا يقوى النور الأرضي على مقاومته . حل الخميس وكنت أترقب حركات أمي بعد العشاء ، حيث أدت صلواتها بجانب أبي ، لأن أبي كان يرفض أن تصلي خلفه ، وضعت كل شيء في مكانه ، وأفهمتها باني منشغل بكتابي ، وقد انشغل الآخرون بمشاهدة المسلسل ، انسلت أمي بهدوء لتذهب إلى غرفتها الخاصة ، تابعت خط سيرها من الصالون إلى غرفتها وهي تسير وسط باحة بيتنا الكبير ، لاحظت ضوء قنديل يتحرك داخل الغرفة ، مدت يدها إلى مقبض الباب لتفتحها بهدوء وهي تردد السلام عليكم يا ساكني عالمنا ورحمة الله وبركاته ، ومازالت تقرأ ما تحفظ من الكتاب الكريم ، وأغلقت الباب خلفها ، ذهبت مسرعا لأنظر من خلف الشباك ، وجدتها قد أشعلت الشموع والبخور وافترشت القرآن لتقرأ ، رغم معرفتي بامية ا مي ، فكيف بها وهي تقرأ القرآن ، واتضح لي بأنها كانت فقط تنظر إلى الكتاب وتردد صوتا يأتيها كما قالت يقرأ الكتاب ، وهي تتابع وتبقى في صومعتها ساعات ، ومن بعدها تتعرق وترتعش ويغمى عليها وتبقى كذلك لحين ما تصحو أيضا ، لكن إغماءتها طالت هذه المرة كل الليل في غرفتها ولأنها تغلق الباب من الداخل ، فلم يكن مسموحا لنا نحن الآخرين أن ندخل عليها وهي في هذه الحالة ، لأنها تكون قد اختارت الإغماءة بحريتها وكنا نعرف بأنها حين تدخل غرفتها تعود بعد رحلتها على عكس الحالات التي يختارها الإغماء بيننا ولم نكن مطمئنين من عودتها ، لان الإغماءة اختارتها ولم تختار هي الإغماءة ، وعرفت فيما بعد بأن الإغماء فن وطريقة بل هي طقوس تمارسها في غرفتها ، لذلك لم يقلقنا مطلقا وجودها داخل غرفتها ، لكن المقلق لنا أن تختارها الإغماءة خارج غرفتها ، وفي هذه الحالة لا نعرف إن كانت ستعود أم لا من رحلتها .
بغداد أوائل كانون الثاني عام 2014
#فرهاد_عزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأم الخيمة والعويل
-
الحب في رعاية زوار الفجر
-
حب ، وحب في زمن صعب
-
الثالوث جنس مقدس 8
-
صاحبة الصوت هنا
-
امي والله
-
الصوت حاجة هنا وهناك
-
ايهما ال(هنا) .. ام ال (هناك) ارحم
-
أين الخلل ، فينا أم منا
-
الحياة لمن يستحقها
-
نكسة الاتحاد الوطني في الانتخابات وللمرة الثانية مسئولية من
...
-
ديمقراطية رحم المجتمع
-
هل يتمكمن العراق ، ان يتحول الى مشروع حضاري ، لدولة مواطنة ،
...
-
الدولة الطائفية المسيسة والدروع البشرية
-
الفيليون قضية دولة العراق بعد قرارالمحكمة
-
الفيليون ليسوا ملفا على الرف
-
الدولة والدين
-
اسئلة بين سطور الخبر
-
العائدون لكن دون اشلاء
-
تفعيل عمل الجالية العراقية المشترك في الدنمارك مهمةاحزاب ام
...
المزيد.....
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|