|
الفتى صالح و السبحة الكهرب
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4324 - 2014 / 1 / 2 - 00:12
المحور:
الادب والفن
بيدين واثقتين ، سحب الفتى صالح بوابة التوتياء المتموج للمطعم بقوة ، و لبث لحظة يتسمّع رعدة إنزلاقها المنتهية بانطباق قفليها الضّخمين على كُلابّيهما الفولاذيين الناتئين من الرصيف الغرانيتي اللمّاع . إنحنى على القفل الأيمن ، و رتجه ، ثم الأيسر . إنتصب و هو يدسّ المفاتيح في جيب دشداشته الأيسر ، و يتحسّس بيده الثانية رُزمة النقود لدخل المطعم لذلك اليوم في الجيب الأيمن : مائتان و دينار و نصف . تحرك و هو ينظر إلى السماء . ما زال الوقت مبكراً . سُرَّ لأن آخر حُقّة من لحم الكباب المثروم الباقية قبل مغادرة والده المطعم للدار- للغداء و نومة القيلولة - قد نفدت بسرعة خلال أقل من ساعة و نصف ؛ و كل ذلك بفضل تقاطر زوّار مرقد الإمام الكاظم الجوعى على المطعم بعد صلات الظهر ليوم الخميس ذاك . لله كم يحب البشر إلتهام اللحم و الشحم المشوي ! إبتسم لنفسه و هو يفكّر : سيُفاجيء والده بمجيئه للدار مبكراً ليبشره بنفاد مثروم لحم الكباب كله لذلك اليوم دون الحاجة إلى حفظ ما تبقى منه في المجمدة لليوم التالي ؛ فيفقد نظارته ، و يدكن لونه ، و يتطلب المزج باللحم الطري مجدداً فجر اليوم التالي . نظر إلى ساعته : الثالثة إلا ربعاً من بعد الظهر . لا داعي للإستعجال بالذهاب إلى البيت مباشرة ، فلديه ما يكفي من الوقت للمرور على الشارع الأثير إلى نفسه : الشارع الضيق لمحال المصوغات الذهبية و الأحجار الكريمة و السِّبَح . فبإمكانه تزجية ربع ساعة في الفرجة ، و إمتاع عينيه ببريق لألاء الألوان البهيجة للمعروضات النفيسة التي تخطف الأنظار و تخلب الألباب من ذات اليمين و ذات الشمال ، و ذلك دون أن يشتري أي شيء . كانت تلك هي عادته في ممشاه ضحى كل يوم : التطلع بدقة و إندهاش في تفاصيل كل شيء حوله ؛ من شارع دارهم الكائن في محلة التل ، إلى مطعم والده الكائن في سوق الشريف الرضي . دلف إلى سوق الذهب و الأحجار الكريمة و السّبح ، فشاهد أمامه جمعاً من الرجال المتحلّقين حول رجل يعتمر طاقية بيضاء ، منتصباً على عربة دفع خشبية ، و هو يرفع بيده سبحة ذهبيّة برّاقة ، و يعدد أوصافها قبل بدء إفتتاحه المزاد عليها . هرول صالح نحو الجمع ، و لكن جذوع حلقة الرجال الطوال أمامه حجبت عنه رؤية السبحة . إنحنى ، و دسّ جسده من بين صفوف السيقان ، حتى أستطاع بعد لأيٍ مواجهه الرجل الملتحي صاحب المزاد وسط ضغط الأجساد حواليه . نظر إلى السبحة السحرية بعيون مزغللة ، فتذكر بيت ذي الرِّمّة الذي درّسهم إياه معلم اللغة العربية اﻷ-;-ستاذ عبد الغني المختار في الصف السادس الإبتدائي : وعَيْنان قال الله كُونَا فكانَتا **** فَعُولَانِ بالألبابِ ما تَفعَلُ الخمْرُ - هذه سبحة كهرب ألماني مغلَّف درجة ممتازة ، 33 خرزة كافورية فاخرة . الشاهدان و المنارة مشبَّكة بالذّهب الخالص عيار 21 قيراط . الكركوشة ثلاثية مصاغة من خيوط الذّهب الخالص عيار 21 قيراط . الـچرخ و النظم إسطمبولي عال العال . تمعنوا فيها جيداً بعيون تعرف قيمة النفائس الاثرية الحقيقية ؛ ها هي أمام أنظاركم : تحفة فريدة ، و رمز الوجاهة و الأناقة ؛ و هي مشتاقة للأنامل التي تليق بها لتجلّيها . الآن ، أفتتح المزاد بمائة دينار ... بحلق صالح بالكواكب الكروية للسبحة المعلقة من مئذنتها فوق رأسه ، فكادت تنبلج مقلتاه لتتوغلا في أعماق أسرار الكواكب الدريّة الراقصة أمامه دانية القطوف كالثريّا . يجب عليه أن يبتاعها لأبيه بأي ثمن كان ! نعم ، هكذا يتصرف الأولاد النجباء ! سمع أحد المزايدين يصيح : - مائة و عشرين . و بدون وعيٍ منه ، إكتشف صالح مدهوشاً روحاً ينبثق من صدره المضغوط ، ليصيح من مكانه : - مائة و خمس و عشرين ديناراً ! - هل تريد أن تضحك علينا أيها الولد الصغير ؟ ها ؟ إنك لا تحمل مثل هذا المبلغ الكبير ! صاح به صاحب المزاد ؛ فيما نظر إليه بقية المزايدين شزراً . تراقصت كواكب الذّهب الوهّاج أمام عيني صالح تحت زرقة السماء الصافية كالبنادل ، فتسارع وجيب قلبه . - بل و أملك أكثر منه ! دع الرجال حولي يتزحزحزن عني قليلاً كي أستطيع إخراج نقودي براحتي ! - إفسحوا المجال قليلاً للولد ، رجاءً ! إنفرج ضيق المكان قليلاً ، فتزايد إنتفاخ صدر صالح حتى كاد ينفجر و هو يخرج يده اليمنى بصعوبة من جيبه ، قابضاً بقوة على رزمة الدنانير الزرقاء و الخضراء و الحمراء ، ليرفعها عالياً ، و هو يلهث محمرَّ الوجنتين بالقول منتصراً : - هل صدَّقت الآن ؟ - عال ! مائة و خمس و عشرين ديناراً ! هل أبيع ؟ - مائة و ثلاثين ! قالها - بصوت رخيم هاديء - رجل متوسط العمر . رمق صالح بتحدٍ بذلته اللوزية الأنيقة ، و قميصه الأبيض ، و الرباط الأحمر ، و العوينات الذهبية ، و الشوارب الغابيّة المبتسمة . فار رأس الفتى صالح كالتنور ، و لم يعد يرى شيئاً ؛ فيما إزداد إنفراج الفسحة حواليه . نعم ! صاحب المال يفرض الإحترام على أكبر الرجال ! المال أبلغ الخطباء ! أعاد رزمة النقود إلى جيبه الأيمن ، و أبقى يده قابضة عليها خشية سرقتها من نشّال مندس . - مائة و ثلاثين ! مائة و ثلاثين ! أبيع ؟ أبيع ؟ - مائة و خمس و ثلاثين ! هتف الروح من الأعماق مرتجفة بحرارة . عندما رسي مزاد سبحة الكواكب السحرية على صالح أخيراً ، مع التهنئة : بـ " شايف خير " من لابس الطاقية البيضاء المتبسِّم ، تنفَّس صالح الصعداء ، و توجب عليه دفع مائتي دينار له ؛ و كل ذلك بسبب صاحب الشوارب الغابيّة المبتسمة . هل كان ذلك الملعون يتلاعب به عندما واصل منفرداً رفع سعر المزاد حتى بلغ مائتي دينار بالتمام و الكمال ؛ أم أن السبحة ثمينة حقاً ؟ إستلم السبحة بأصابع راجفة ، و راح يتشممها : إنها تئز برائحة أريج الغابات العاطر المدوِّخ للرؤوس ! ها هو يقبض بيديه المجرّدتين على روح عبق الحياة في هذه الأرض متجمِّداً بوهج أبريز الشجر المنبجس منذ آلاف السنين . يجب عليه الآن أن يسرع بالذهاب إلى الدار ليبعث الدهشة في نفس أبيه بشراءه له هذه التحفة الفريدة بثمن بخس : ثمن بيع حُقّة واحدة فقط من لحم الكباب المشوي ! دسَّ الكواكب اللألاءة بجيبه الإيمن ، و أبقى يده قابضة بحنوٍ و ثبات عليها كمن يُمسك كنزاً مجنحاً يخاف إنفلاته منه ، و حثّ خطاه الثابتة بنبض قوي إلى الدار . فتح أبوه له الباب ، ثم تراجع إلى غرفة " الدَّخلاني " ، و هو يقول له : - أغلق الباب وراءك . في غرفة " الدَّخلاني " ، إستفهم أبوه منه : - أراك عدت مبكّراً ؟ هل صرّفتم كل اللحم ؟ - نعم ، يا بابا . لقد هجم زوّار الإمام علينا ، و أشتروا الكباب كله خلال ساعة و نصف . الدخل مائتين و دينار و دينار و نصف . - خيرٌ ، إن شاء الله ؛ نحمده و نشكره . هات الدخل . - لقد إشتريت لك به أحسن سبحة بالعالم ! سبحة نفيسة تليق بمقامك الرفيع ، يا بابا . نعم ! إنها سبحة كهرب ألماني مغلف ، بكركوشة من الذهب عيار 21 ! أجاب صالح و هو يخرج السبحة من جيبه ، و يرفعها عالياً من شرابها بفخر و أنتصار أمام عيني أبيه . تفاجأ صالح بصفعة مدوية تهز رأسه هزاً ، و تحوّل خده إلى حبّات من الرمّان المتقد ، و تقلب كيانه ! - لا يا قشمر ! مَنْ الذي قال لك بأنني أريد شراء سبحة ؟ ها ؟ و بهذا الثمن الباهض ، ها ؟ إسمع : الآن تذهب لإرجاعها على ذاك الذي ضحك عليك ببيعها لك بهذا الثمن الباهض فوراً ، و تعيد لي مبلغها ! حمار ! كانت تلك هي المرة الأولى التي يصفعه والده فيها . تفجَّرت الدموع من عينيه كما لو كانتا ديمتين سكوبتين لهملٍ كسيرٍ لا نهاية له . خرج صالح من الدار و هو يشهق بالعبرات ، و قد لفّه إحساس ثقيل بالخذلان و الإندحار ، فنسي إغلاق الباب خلفه . كفكف دموعه عندما بلغ مكان المزاد ، و تلفت يمنة و يسرة ، لكنه لم يجد أحداً هناك ! ياله من مأزق عكر ! مالعمل ؟ أخذ طريق العودة للبيت مخذولاً ، و راح يقدم رجلاً و يؤخر أخرى ، و يضرب أخماساً بأسداس ، و رأسه يكاد ينفجر ، و هو على وشك التقيؤ . فجأة عنّت له فكرة الإستنجاد بملاذه الآمن الذي لم يخذله يوماً قط ! إستجمع قواه ، و دخل الدار ، و توجّه حالاً إلى غرفة جدَّته لأبيه : العلوية هاشمية ، حيث يجد دوماً الراحة و الأمان كلما شعر بالضيق . ألقاها جالسة على سريرها الخشبي الفاره ، و هي تسبَّح بوقار الملائكة المتبتلين بسبحتها السوداء الطويلة . تبسمت له بوجهها المأمون ، فتشجّع . تقدّم منها ، و قصَّ عليها حكاية السبحة بصوت متهدج و دمع مدرار ، و هو يريها السبحة . وضعت الجدّة سبحتها السوداء جانباً ، و تناولت منه السبحة الذهبية ، و هي تواصل بسمتها الملائكية ، و تمعَّنت فيها بعينين خبيرتين . ثم إتّسعت إبتسامتها ، و هي تقول له : - كفكف دموعك ، يا إبني النجيب ! يسلم ذوقك ! إنها تساوي ضعف المبلغ الذي دفعت ! إحتفظ بها كي تسبّح و تريح نفسك بها ، و سأعطيك المائتي دينار ، لتدفعها لوالدك ! و لكن ، إستبدل الشراب الذهب بشراب من الخيوط العادية ، خوف سقوطه من السبحة دون علمك ! عانق صالح جَدَّته ، و راح يشبعها لثماً و شمّاً و تقبيلاً ، و دموع السعادة تترقرق في عينيه ؛ و هو يحس بأن بعث المسرة و الأمان لا ينبثق في هذه الدنيا إلا من قلوب و عقول و ألسن و أنامل الجَدّات . إنهن البلسم لكل الجروح . في عصر اليوم التالي ، ذهب صالح إلى سوق الإسترابادي ، و شدَّ شراباً جديداً من الخيوط الذهبية المجدولة للسبحة ، بعد أن أودع شراب الذّهب عند جَدَته . ثم سار يتمخطر في السوق ، و هو يسبَّح بالسبحة بأنامل كلتا يديه ، مطقطقاً كراتها ، مرفوع الرأس . فجأة تقدّم منه رجل يرتدي العباءة و الزبون و العقال ، و سأله : - هل تبيع هذه السبحة ، يا ولدي ؟ - نعم ، و لكنها غالية جداً ! - دعني أراها ، لطفاً ! - تفضَّل ! - رائعة ! كهرب ألماني مغلف ! للأسف أن كركوشتها ليست من الذهب ! سأعطيك بها خمسين . - ماذا تقول ؟ - طيب ، أُزيدها لك إلى : مائة ألف دينار ! إنه ثمن جيد ! قُل لي : شايف خير ! - شايف الخير ! إستلم صالح المائة ألف دينار ، و أسرع بها إلى الدار لإيداعها عند جَدَّته بعد تسديد المائتي دينار لها . فجأة ، دخل والده غرفة الجَدّة ، فشاهده ولده صالحاً و هو يسلمها المبلغ الضخم ، فسأله : - مِنْ أين لك كل هذا المال ، يا ولدي ؟ ردَّ صالح بعينين بارقتين و إبتسامة عريضة : - إنه من صفعة البارحة ، يا والدي العزيز !
بغداد ، 1/1/14
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك /1
-
الحمار و عبد الكريم
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 7 - الأخيرة
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 6
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
ألحمار المناضل
-
طبيعة قوانين الديالكتيك و طريقة إستنباطها و فحصها و علاقتها
...
-
قصة البغل المتهوِّر
-
قصة العيد
-
رفسة إسطنبول
-
تخريفات إبراهامي و التشكيك بصدد طبيعة الصراع و قوانين الديال
...
-
تخريفات إبراهامي و التشكيك بصدد طبيعة الصراع و قوانين الديال
...
-
نَجْلاء
-
الخِطّة الأمنيّة العبقريّة
-
تطور الشعر الإنگليزي 1920- 1950 / 7 الأخيرة
-
مهرجان الصماخات
-
تطور الشعر الإنگليزي 1920 - 1950 / 6
-
خروف الطاقة و سيّده
-
شعشوع ، تائه الرأي
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|