زيد مظفر الحلي
الحوار المتمدن-العدد: 4323 - 2014 / 1 / 1 - 02:51
المحور:
الادب والفن
هو نتاج تراكم عدة أنواع اغترابية كالاجتماعي والعاطفي وسواهما , أن تعاقب الإخفاقات والاحباطات تؤدي بالإنسان إلى اعتزال واقعة اعتزالا كليا , أو هو شبه كلي وسعيه إلى بلوغ واقع آخر لا وجود له إلا في تصوره (1) .
بعدما اعتزلت نازك المجتمع ــــ الاغتراب الاجتماعي ــــ وفشلت في تجربتها العاطفية زهدت في هذه الحياة , واختل إيمانها , أصبحت تتطلع إلى مثل عليا . بعدما تركت كل شيء وملت مجتمعها , لذلك أصبحت تبحث :
عن الخيرِ , والحبِّ , والمُثلِ العالية
وحقّرتُ سعيي إلى عالمٍ مستحيلْ
فخلفَ انخداعيَ تنتظرُ الهاوية
وعفتُ جنوني القديمَ وعفتُ الجديدْ
وأودعتهُ في مكانٍ بعيدْ
دفنتُ به رَغَبَاتِ البشرْ
وسمّيتهُ جنة الواهمين (2)
ضاع عمرها وهي تبحث عن الخير والمثل العليا , وتحتقر طبائع البشر , بل دفنت رغباتهم , وتسخر منها , وهذا البحث قادها إلى أن تبحث عن معنى لطموحها , فهي ملّت من الناس الذين سخروا حتى من مثلها العليا :
مُثُلـــــــي العُلْيــــــــــا وحُلْمي وسَمَائي
كلَّهــــــــــــــا أوهامُ قلــــــــبٍ شــــــــاعريِّ
هكذا قالوا.. فما مَعْنى بَقائي؟! (3)
فالناس لم يدعوها وشانها وإنما سخروا من أحلامها ومثلها العليا , فهي عندهم مجرد أوهام , وهذا ما دعاها تصرخ بوجههم وتهرب إلى عالمها النقي , لذلك تنادي :
حبّــــــــــــي الإلهيُّ النقــــــــيُّ ظلمتَـــــه
ووفــــــــــاءُ روحــــــي الشاعريِّ العابدِ
قلبــي الرفيـقُ أسأتَ فهْمَ حنينِه (4)
فالشاعرة لا زالت تؤمن بمثلها العليا , تمنت رجوع حبيبها وان يكون حبها الهي نقي , فروحها العابدة وقلبها الرقيق يرفضا النزول إلى الماديات ـــ وقد جعل بعض الباحثين هذا هو السبب في عدم استمرار علاقتها العاطفية وفشلها ـــــ فأصبحت تطلب الرحلة إلى :
رحمـــــــةً لا تُنــــــــزليني من سَــــــــــمَائي
واتــــــــــــــركيني في خيــــــــالِ الشُـــــــعَراءِ
اتــــــــــركيني , لا تُعيدي لي الظُنونا
قـــــد ســـــــئمتُ الواقعَ المــــرَّ الممِـــلاَّ
ولقـــد عُـــــدْتُ خَيالاً مضــــــــــــــــــــمحلا
فـــــــــــاتركيني بخيـــــــــــــــالي أَتَســـــــــــــلّى,
لم يكـــــــــنْ حبّــــــــي سوى حُلْمٍ غريبِ
مـــــــــدَّهُ الوهْمُ على قلبي الكئيبِ (5)
فهي قد سئمت من الواقع الممل , وأرادت أن ترحل إلى عالم سمائي ملكوتي خالي من الشر والضغينة , وهذا ما دعاها إلى أن تبني مدينة شعرية خيالية (( يوتوبيا )) تشيدها من :
وشيِّدي يوتوبيا من قلوب
من كل قلبٍ لم تَطأهُ الحقودْ
ولم تدنسهُ اكفُّ الركودْ
من كلِّ قلبٍ شاعريٍّ عميقْ
لم يتمرَّغ بخطايا الوجودْ
من كلِّ قلبٍ رقيقْ
مستغرقٍ في حُلمه لا يُفيقْ
إلا على حُلمٍ بعيدِ المدى
ليس له حدودْ (6)
فهذه اليوتوبيا ثورة ضد الواقع وما يمثله من الحقد والدنس والركود وخطايا الوجود , لكن هذه الثورة الحالمة التي لا يحدّها مدى , قادتها الى العزلة التامة تحت وطأة الألم , والواقع المحزن الرافض لكل خيالات الشاعرة , وحتى هذه ثورتها لم تحقق لها شيء , بل قد سحقتها بأحلامها الوارفة مما جعلها تتمنى أن تخرج من هذه المدينة :
آه يا من ضاعتْ حياتك في الأحـــــ
ــــــــــلامِ ماذا جَنَيْـــــــــت غير المـــــــلالِ (7)
وهذا سببها في البحث عن الوجود وخيبة آمالها الكبيرة في البحث عن سر الحياة أو سر الوجود :
مــــاذا وراء الحيــــــاة ؟ ماذا ؟ أيُّ غُمــــــــوضٍ , وأيُّ سِــــــــــــــــــــــرِّ؟
وفيمَ جئنا ؟ وكيف نمضي؟ يا زورقـــــي , بل , لأيِّ بحرِ (8)
فبحثها عن الحياة وسرها قد أصابها بالغموض , لذلك تطلب من زورقها العودة , ولكن العودة إلى أين ؟
وتمضي بوجوديتها إلى ابعد من تساؤلاتها عن السر المغلق للحياة , هو الاستهزاء بهذه الحياة :
أهذا إذن ما لقّبوهُ الحياهْ ؟
خُطوطٌ نظَلُّ نخطِّطُها فوقَ وجهِ المياه ؟
وأصداءُ أغنيةٍ فظّةٍ لا تَمَسُّ الشِفاهْ ؟
وهذا إذنْ سرُّ الوجودْ ؟
ليال ممزّقةٌ لا تعودْ؟(9)
قادها الإلحاد إلى عالم سوداوي تضبب بالتشكيك , فأخرجها من دائرة الطمأنينة , وجعلها منكفئة على ذات مليئة بالتمزق والضياع والخوف , وهذا التشكيك جعلها تستهزئ بالحياة والوجود حتى أنها ملت من تكرار هذه الكلمة :
تضجُّ بسمعي فأصرخُ :آهْ !
أخيراً عرفتُ الحياه
فوا خيبتاه !(10)
بل حتى أحزانها القديمة وذكرياتها الأليمة شكّلا الثقل الاغترابي لديها , وهذا ما جعلها تطاردها من مكان إلى آخر فمرة سمكة كبيرة :
ومشينا لكـــنّ الحركه
ظلت تتبعنا, والسمكه
تكُبرُ تكُبرُ حتى عادت في حضن الموجة كالعملاقْ (11)
لو قرأنا القصيدة قراءة ثانية لأنبأتنا بان السمكة هي رمز الزمن , وهذا السبب الذي دعا البصري أن يقول : (( إن نازك عطب ولادي من الزمن )) (12) , فالزمن عند نازك هول عظيم لا يمكن تصوره . يمثل انسحاق ذكريات وآلام وأوجاع , وهذا يمكن أن نطلق عليه اغتراب زماني . ومرة سعلاة :
في المَعْبر سَعْــــــلاةٌ ترمُق طيفي بفُتُورْ
ووراءَ المُفْتَرقِ المتشــــــعّبِ بعــــــــض قبـــورْ
خــــــذْ بيدي ولنتركْ هذا الأْفقَ المهـــجورْ
لا تتركني روحاً صارخةً في الديجورْ(13)
الإحساس الجوهري الكامن وراء معظم رموز الشاعرة هو شعورها الخفي الملح بان هناك قوة مجهولة جبارة تتعقبها (14) , وهو وليد مخاوفها ورغباتها , وضياع أحلامها , ما دعاها إلى أن تطرق باب اللاوعي وترتدي لباس الرمز , لتستطيع التعبير عما يختلج في صدرها , والرمز في حد ذاته هو ضد , وهذا الضد هو وليد خوف من شيء مهول ( الواقع ) ولا شك أن تصورات الشاعرة هذه هي (( وليدة غربتها الروحية التي عزلتها جسدا وروحا عما حولها وعمن حولها ؛ ولكن ـــــــ التصورات ــــ إحدى علامات يقظة فكرها الحيوي الطامح إلى أن يتساوى مع الاغتراب فيحفظ توازنها ويحول بينها وبين الانهيار التام )) (15).
الهوامش
1- الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر ( مرحلـــــــــة الــــــرواد ) محمد راضي جعفر: 79
2- الاعمال الشعرية الكاملة , نازك الملائكة: 2/ 88
3- م_ن:1/ 372
4- م_ن:400
5- الاعمال الشعرية الكاملة : 1/ 459
6- م_ن
7- م_ن:2/ 111, 112
8- م_ن:1/22
9- م_ن:421
10- م_ن:2/73, 74
11- م_ن:75
12- الشعر والنظرية/ نازك الملائكة : عبد الجبار داود البصري، ، بغداد، 1971: 136
13- الاعمال الشعرية الكاملة:2/ 280
14- الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر, محمد فتوح احمد: 273
15- الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر:82
#زيد_مظفر_الحلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟