شاكر حمد
الحوار المتمدن-العدد: 4316 - 2013 / 12 / 25 - 22:22
المحور:
الادب والفن
[ جان دمّو .....إشكالية التمرد]
قدم الباحث ياسين عاشور مداخلتهِ عن نصوص الشاعر جان دموّ والتي لم يُشر لها ولم ينشر منها ليقول ( لم أُفكر لحظة واحدة فيما وصلنا من نصوص له, بل ذهب بي التفكير رأساً الى نَصِّهِ الأبدى, ذلك النص الذي لم يُكتب بالحبر, وإنما بالدم الحار وقد جاء في سيرتهِ المروية عن مجايليه أنه كان يهزأ بكل قصيدة تُقرأ أمامه...) وتلك حقيقة من بين جملة الحقائق التي عُرِف بها الشاعر, ولكن ينبغي تأمل هذه الحقيقة في نوع الذائقة الشعرية التي يتلقى بها الشاعرالأنماط الشعرية التقليدية , المتسترة بالتحديث لجيل قصيدة" التفعيلة ",جيل السياب ونازك والبياتي. نظراً لتوقف الشعر في هذه المساحة –التأريخية- من التطور الشعري, وقد تزامن هذا الموقف من الشعر مع الموجة,الستينية,(الصاخبة) ,كما يسميها الشاعر سامي مهدي. وإنعكاس ثقافة التمرد – البير كامو وسارتر- في تكرارنمط الصعلكة, في شخوص شعراء وكتّاب معروفين. وعلى حساب الشخصية الشعرية,حد التطرف, بل على حساب الشعر أحياناً, كما في حالة جان دمّو. وعبد الأمير الحصيري الذي يتباهى بمديح الجواهري لبعض شعره العمودي , وعبد المنعم حسن المثقف الشفاهي وآخرين بدرجات من التداخل في التمرد على الذات, بتناسب المازوخية التدميرية والبحث عن ممرات تأملية, جديدة, تُسعف العقل مما أصابه من ضربات في عالم السياسة. لايمكن فصل الظاهرة الشعرية, الستينية عن محيطها التأريخي, وأحداثياتهاالسياسية,الدموية,القامعة للفكر وتداعيات لغة القمع وإنسلالها الى لغة الشعر. لابد من الإشارة الى ذلك المناخ السياسي المتغير نسبياً بعد عام 63 عام الإنقلاب الأسود. ثمة هواء قليل ,يلطف الأنفاس وينعش الحوارات الفكرية,عام 64في المقاهي البغدادية و الملتقيات الأدبية والجامعات وقدوم المثقفين المطلق سراحهم من السجون البعثية , من كركوك - فاضل العزاوي , مؤيد الراوي , أنور الغساني - ومعهم سركون بولص , جان دمّو , بولص شليطة – وآخرين من بغداد عبد الرحمن طهمازي, عبد القادر الجنابي, حسين حسن,فاضل عباس هادي,ومن المدن الجنوبية عبد الرحمن مجيد الربيعي ,إبراهيم زاير, حسين علي عجة. حراك ثقافي إتسم بالندم لتداعيات الفشل السياسي وتداخل أنماط المشاعر- الوجدانية- المحبطة من ثم رؤية جديدة للواقع الثقافي الراكد ومنظور جديد للحرية , ومفاهيم عن التمرد , تُغذيها الموجات الأدبية والفنية القادمة من بيروت,منشورات دار الآداب بشكل خاص. فالرجّة السياسية الظلامية ألقت بظلالها على نمط الخطاب الثقافي , الذى فقد تجانساته الكلاسيكية مع توجهات – جيل التمرد- الوجودي, السريالي, العبثي, اللاّمعقول في المسرح والسينما, التجريد في الفن التشكيلي...ليترسخ هذا التيارالى مالانهاية.بإسقاط المفاهيمية الدارجة والمقدسة في الطروحات اللغوية وأنماط التعبيروالسرديات الوصفية..بمعنى آخر ثمة عالم مجهول في الثقافة ينبغي إرتياده.في هذا المناخ الفكري وفي الهدوء النسبي للمقاهي الثقافية, وفي زاويةٍ من زواياها .. ينزوي... الشاعر,الشاب,الوسيم ذو السحنة الأُوربية , الهزيل البنيان, الصامت لحين من الدهر, الغريب جان دمّو يجاوره وصف المتنبي (غريب الوجه واليد واللسان ) مغترباً في باطن الغربة, وصاخباً في صمتهِ الفلسفي. أقول ينزوي الشاعر لأنني أزعم بصداقتي مع تلك الأيام وجان دمّو . وتلك الأيام كانت جامعةً للمواهب المتشردة وشباب الكليات والأسماء التي أشرتها قبل قليل ..
...يعقد الباحث ياسين عاشور مقاربة تأملية بين ظاهرتين فلسفيتين في حالتي الشاعر جان دمّو وبين الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي,الذي عاش مع الكلاب في براميل القمامة, وكان يحمل فانوساً في وضح النهار... نعم هو التمرد على الذات أو ماعُرف عند العرب بالصعلكة وإقترنت بنمط شعري إحتجاجي على المفاهيم الأخلاقية السائدة. - الصعلكه- الحقيقةالشعرية, الظاهراتية في الإحتجاج على الذات وقوانين المحيط الأخلاقية و التي جسدها شعراء التمرد أمثال طرفة بن العبد وديك الجن والخيام والحصيري وجان دمّو. وفي حالة جان الفلسفية يسري التمرد على النص الشعري, البالغ الكثافة والتجريد والتغريب. النص الشعري , يتكون من عنوان مطوَّل لقصيدة من كلمة واحدة,لجان دمّو, العنوان( الرجل الذي سافر بالقطار ولم يقل للبروفيسورنعم) أما القصيدة - الكلمة - فهي ( ثلاثة) قدمها جان بخط يدهِ على ورقة صغيرة الى الكاتب جبر إبراهيم جبرا, في قاعة كولبنكيان – متحف الفن الحديث – بعد إفتتاح معرض تشكيلي,عام 64 على ما أتذكر... فتساءل جبرا(أين القصيدة ياجان ؟ ) رد جان ( القصيدة من كلمة واحدة... أريد أن أخلق سمفونية في كلمة واحدة) لكن الرد لم يقنع جبرا الذي تساءل ( كيف يمكن خلق سمفونية بكلمة واحدة ؟ ) مع ذلك نشرت القصيدة في مجلة " العاملون في النفط" التي أشرف على تحريرها جبرا, ووظفها للثقافة المعاصرة ولنتاجات الشعراء والكتّاب الشباب.ينطوي شعر جان دمًو على ثنائية الإحتجاج المازوخية... تأنيب الذات والتحرر من من وظيفة الشعر بالكلمات المقتضبة والتجريد وبالتالي إنعكاس معاناة الشاعر على نسق النص الشعري:
- (- ماذا ينوء بك ياجثماني ؟
- هاهي الأسوار تنهار
- ومنها غطرسة حبيبتك ياجان )
قرأها أمام صحبة المقهى في أبي نؤاس. ويلتفت ليقول ( لاحبيبة ولا....) وثمة جدل حول الإستفهام ( ماذا؟) وهبوط الصوت الشعري الى نبرة الوظيفة الحوارية للكلمة . بالطبع لايوافق جان على إعتراضات منتقديه. لاغرابة, حين نستعيد نصوص جان دمّو, القليلة, نستذكر أدوات الإستفهام في الشعر العربي وإستهلالات المتنبي من قبيل ( مَنْ الجآذر في زي الأعاريبِ؟...). كانت الموجة الستينية في أوج عنفوانها ورفضها ومن بين إشكالياتها إنعكاسات الشعر الأوربي المترجم والذي يقارب الشعر الحر بالعربية. ووصول الشعر السريالي والدادائي الى القارئ العربي الذي ما زال غارقاً في البحور والتفعيلات. كان التجديد في الشعري الستيني بنيوياً قام على إفتراضات قيم التكنولوجيا, الشكلانية ,الجديدة ومنها وبينها التفكيكي والمرئي والتصويري والحواري والتشكيلي, وقد أنتج غالبية شعراء هذه المرحلة شعرهم بأقل ما يمكن من العطاء الجديد الذي يمهد للبحث والتواصل, بإستثناء فاضل العزاوي الذي فتح نوافذ الشعر على فضاآت النص المفتوح .
كان جان يصمت طويلاً وينزوي على مصطبة مقهى أبي نؤاس يتأمل إمتدادات الكلمة المفردة, صوتها الخطابي, توالداتها الصورية, تجريدها, فالكلمات..(ثلاثة)(أسوار)(البروفيسور)(القطار) إنما هي تشكيلات للمرئي التشخيصي بإسلوب الرسم التخطيطي الأولي. يندرج عمل جان دمّو ضمن هذا الجهد التخطيطي للنص الشعري..ومفهوم التخطيط(sketch) يجعل الجزء والقطع والحذف واللصق والإشارة والإيماءواللون الواحد والصوت وطبقة الصوت والإيقاع والمساحة الفارغة , من أدوات التعبير الأساسية.وقد هيمن مفهوم" التجاوز" في الثقافة والفن والأدب,وبتسلط هذا المفهوم تعطلت العديد من الطاقات الإبداعية عن التطور. هنا أستعيد مقاربة الباحث ياسين عاشور مابين جان دمّو والمعري فلسفياً ولكني أرى تحليل طه حسين لشعر المعري بأنه( نوع من التسلية واللعب بالمفردات والقوافي لأنها لعبة الوقت الذي عاناه الشاعر الأعمى)- ينظركتاب طه حسين " مع أبي العلاء في سجنه"- فأجد أن جان دمّو قد وقع في غواية اللعب بالكلمات , اللعبة الستينية, وتمكن من التجاوز على مفاهيمية النص المألوف.. التجاوز على قوانين القصيدة الأخلاقية – وعلى تجانساتها وعلى وظيفة المفردة الشعرية ودلالاتها,ولكن بأقل مايمكن من العطاء. وكان قادراً على إغناء تجربته الشعرية لولا مازوخيته الجسدية.
.....
يسمي كولن ولسون هذا العقاب الجسدي بالإنتحار العقلي. لكن جان لم يتنازل عن موهبته العقلية, كما حصل في حالة رامبو الذي إختار القطيعة مع الشعر, وتحول الى التجارة, تجارة العبيد في الحبشة. ولم يتنازل جان عن رؤية الحياة والنهارات المشمسة ولاعن متابعة مايجري في السياسة وتطورات الأحداث في العراق. يقول كلمته بوضوح وبلا مجاملة. طلب جان بعض أدبيات الحزب الشيوعي للإطلاع فأعطيته ( طريق الشعب ) بحروفها الناعمة السرّية عام 64فاجأني في اليوم التالي بسؤال ( عبد السلام عارف ماركسي ؟) قلت ( بالتأكيد...لا) رد بصوت قوي وكلمات بذيئة (إذن.........) كان خطاب الحزب ينطوي على مهادنة في تحليل الوضع السياسي بعد الإطاحة بإنقلابيي شباط فيما عرف ب( خط آب) في الحزب الشيوعي.
لايرهق نفسه في قراءة كتاب مالم يكن الكتاب والكاتب بالجدارة التي تفهم معضلات العالم. قد يطالع بضعة سطور من كتاب بقوة (رأس المال) ويعبر بجملة واحدة مثل ( الكتاب ركيك) وقد يستغرق في قراءة رواية بوليسية ليقول عنها رائعة.. وتسري أحكامه على مواقف يومية يصادفها..أو يبدي إعجابه بقصيدة عمودية لعبد الأمير الحصيري, بينما يصطدم بعبد الوهاب البياتي في بيروت ( سيد عبد الوهاب شعرك بيه ركاكة!) ويرد الشاعر بهدوء على جان – نقلاً عن حسين علي عجة-
ألقته الأحوال للسكن في بيت شبه مهجور من البيوت التراثية في القشلة يشاركه الغرفة أفراد من الشرطة, بدا الأمر على غير المتوقع...كيف يتأقلم جان مع هذه الفئة المحدودة الثقافة من الناس ؟ هل يتكلم ؟... هل يجيب على أسئلتهم حول مظهره, كلماته؟ وهل يبصق على الأرض كما يفعل دائماً وهو يسير وحتى في أرقى الأماكن الثقافية؟ موقف مبطن بالإحراج...لكنه أبلغني في اليوم التالي أن الشرطة (كانوا جداً رائعين) وكرر العبارة واضاف ( صحيح أنهم شرطة في البدلات المعلقة والمسدسات لكنهم كانوا رائعين جداً). لإن الكائن الإنساني , المسالم, الرقيق, الهادئ, الذي يفكر في جسد الشاعر هو الذي يستقطب الصداقات والود مع الآخرين . لايريد أن يضايق أحد ولا يشغل وظيفة, لا أتصورهُ متوافقاً مع أية مهنة,حتى لو كانت في ميدان الثقافة ومكاتبها ولا أصدق أن جان يبصق في وجه وزير الثقافة, كما أورد الباحث ياسين عاشور في مداخلتهِ.. لم نعلم بذلك خلال وجوده في بغداد منتصف العقد الستيني وفي عام 68جاء البعثيون الى السلطة مجدداً , ولايمكن أن يحصل تعارض, حتى بالكلام, مع شخوصهم, لغاية 2003
يمتلك جان دمّو روح الشاعر ولبراليته الفردانية. وبإستطاعته تسخير قواه وحاسته الشعرية لميادين أرحب وأوسع من أقبية الصعلكة, التي إستطالت في- زمكان -الشبهة والتزويروالعزلة. أو كما يقول الباحث في مداخلته..بإستطاعته أن يعيش مترفاً. كان يهرب من المظاهر, بما فيها المظاهر السياسية والحزبية , وبوعي في المواقف, ولايعرف المجاملات , لكنه مسالم وصادق في براءته. وأبغض التجاوزات على شخصِّه, وبنظره, ذلك التزويرالذي يحرِّف حقيقته..جسداً وشعراً ونتاجاً, ويمسخه في صورة المخلوقات المنقرضة , أو الخرافية, وينفيه عن واقعه وإنسانيته. وكل من عرفه ,عن قرب, عرف في شخصيته جمالية القيم الإنسانية.
.....
لم يسلم جان من ضغط السلطة وقوانينها العسكرية.. ليشمله التجنيد الإجباري , خبرمضحك لكنها الكوميديا السوداء. الوقت عصراً والمكان مقهى أم كلثوم قرب سينما الخيّام. يجلس جان بالبدلة العسكرية, القالب الرث المناسب لجان دمّو في سن الخدمة العسكرية. المقهى في هذا الوقت من النهارتستقبل الأصدقاء,المثقفين,إما لدخول السينما لفلم الظهيرة الذي يسلم من القطع للمشاهد الجنسية.بعد ذلك التجوال ومشاريع أخرى فمقهى أبي نؤاس مساءً. وجوده في المقهى, عسكرياً,ينذر بالشؤم, في الواقع كان هارباً من وحدته العسكرية في كركوك, بعد أيام من الإلتحاق بالخدمة.
- ها...جان...عسكري؟
أجاب بإمتعاض :
- حقراء يريدونني أقف كالمسمار.
لكنه عاد الى كركوك – مغامراً- لزيارة الأهل, في سيارة تُقل فريقاً رياضيا من كركوك.
....
مع كل التدهورالذي عاشه الشاعر, في شخصيته,فهومتمرد,بقوة,الأمر الذي جعله موضع إحترام الجيل الذي عايشه من المثقفين بدون إستثناء. وحتى الآخرين الذين يجالسونه في المقاهي والحانات, سرعان ما يكسب صداقتهم.أعود الى بحث الكاتب ياسين عاشور ومقاربته بين الشاعر جان دمّو وديوجين الكلبي (إن كلبية جان دمّو خيار لا إضطرار. حيث إستطاع أن يجعل من جسده وثيقة رفض العالم, فكانت حياته إنتحاراً مؤجلاً...).
#شاكر_حمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟