كريم الهزاع
الحوار المتمدن-العدد: 1228 - 2005 / 6 / 14 - 10:15
المحور:
الادب والفن
إلى نزار قيسية الذي ينام في جبل الدروز ويقرأ سفر التكوين
أكتوبر ، أول الليل ، صديقي وأنا ، وهديل الحمام يطغى على كل الأصوات ، نشعر بأن الحمامات مذبوحة ودمها الأسود يصبغ الجدران ، يهز صاحبي يده آسفا لما يحدث لهذه الطيور البريئة ، همهمت بسؤالي الأول :
• هل سيعرفنا الليل الذي هو بلون الفلفل؟ .
نسير ورحلة التمزق و الاندهاش تنتهي بنا في المرفأ الخافت ، في إحدى زوايا الفندق ، ولم تكن بانتظارنا نار المجوس ، و لا شمعات الهندوس ، ولم تطلع لنا الشمس في الكأس ، لكن ثلاثين شعرة بيضاء ظهرت في الرأس ، انتظرنا كثيرا في البحث عن بداية ، هاجسنا أحيانا أنها لن تأتي أبدا ، إلى أن أخبرني بمحاولته :
- مسكت أول الخيط يا صاحبي .
وأردف :
. . -حاول أن تعيش هذه اللحظات معي .
رفضت :
• آسف يا صديقي ، لا أستطيع ، هو الاضطراب ، والتدخين يقتلني .
وأردفت :
• .. علبة سجائر في اليوم الواحد .
دفعني للتفاؤل :
- لا تقلق ، بمجرد أن نتعدى هذه المرحلة ستترك هذه العادة .
قلت متمنيا :
• أتمنى ، ولكن أخاف التدخين ، أخاف أن يلتف الحبل حول عنقي ، أخاف العقدة ، وأن تتطاول علي هذه السيجارة كتطاول الصحف الموبوءة على الشعوب .
طلب مني :
- حينما تذهب إلى البيت ، قف قبالة المرايا وحدق في نفسك .
سألته :
• ماذا يعني هذا؟ .
أجابني :
- خطوة في الطريق المعاكس ، ارتعاشة دبقة في الداخل تضطجع مع الروح .
وأردف :
. . - لا تندس خلف الثابت ، بل ارقص مع المتحول .
أفتل بشاربي . نبهني :
- لا تقلق .
مد يده إلى فنجاني الفارغ ، أخذ يتأمل فنجاني مرة ، ومرة يتفرس في وجهي ، وصوته :
- فنجانك . . باب غرفتك الآن موصد ، لكن النوافذ مفتوحة ، وشبابيكها تعانق النخيل . .
قرب الفنجان لي :
. . -انظر ، أرضية الغرفة .
صمت لحظة وأكمل :
. . - عفوا ، الإضاءة خافتة ، والفنجان . . ، لا أعرف ، هـه ، سقف الغرفة مبني من الجص ، وهنا حديقة و نافذة زجاجية واحدة فقط ، وعلى اليمين رقم ، ولكنه غير واضح ، دعه الآن . .
وبدهشة :
. . - أوف أوف ، ما هذا ؟!! .
وبقلق شديد سألته:
• هل هناك شيء مهم ؟ .
- لا لا ، و لكن خذ الفنجان وأخبرني ، هل تعرف هذه ؟ .
حدّقت في الفنجان ، أخبرته :
• يا أخي ، لا أرى شيئا سوى أشكال هندسية .
خطف الفنجان من يدي ، وقال :
- ترتدي ثوبا مخططا بالمساطر ، تخرج من نافذة غرفتك ، تتسلل عبر النخيل نحو الأرض . .
قاطعته :
• والله لم أرَ شيئا من هذا ؟ .
أجاب بثقة :
- طبعا لا تعرف ، لأنك لم تقرأ العمق .
أعاد لي الفنجان :
• .. يا ذا العينين الجوالتين ثبت قلبك ، فالقلب يدق .
حدقت في عمق الفنجان ولم أرَ شيئا . قال لي :
- اطبع بإبهامك في الفنجان لأقرأ لمسات الإصبع .
ضغطت بإبهامي داخل الفنجان وأعدته له ، حدق في البصمة :
- إصبعك له ملمس الحجر الخشن .
قرب الفنجان مني :
.. - لا تقلق ، انظر ، هذا هلال الشهر يطل بالبهجة ، وبالطلعة الناعمة .
صمت لفترة وهو يحدق في الفنجان . مللت هذا الصمت ، رجوته :
• انطق ، كفاك تفرسا .
أجابني :
- هناك شيء يتكور .
سألته :
• ما هو يا ملك التفرس؟ .
طمأنني :
- لا تقلق ، لأنه سيمضي .
سألته :
• وأثر خطاه ؟
أجابني مترددا :
- أثر خطاه ، أسود ، أزرق ، أحمر ، لا أعرف ، لكنه أحد الألوان الثلاثة ، لكنها ستعلو .
استفهمت منه :
• ما هي؟ .
أخبرني :
- الريح ستعلو وتمحو أثر خطاه ، ويأتي السكون .
لاحظ القلق على وجهي :
- لا تقلق .
وتساءل :
- أتعرف هذه الشوارع ؟ .
سألته :
• أي شوارع ؟ .
- شوارع مهجورة في بلاد رملها أسود ، لعلها غابة أفريقية .
صمت لحظة :
.. - إني أرى عازف آلة الساكسفون ، وأمامه الراقصة الأفريقية ، وبعدها رجل يحمل في يمناه رمحا ، وفي يسراه درعا ، وفوق رأسه تاج كعرف الهدهد ، فنجانك أفريقي هذه المرة يا صاحبي .
تأففت ، قلت :
• إنه الضياع . . سيحترق الخشب المتراكم في هذه الغابة . . إنه الموت .
- لا تتشاءم ، لعلها البداية .
خيم الصمت لدقائق ، وأنا أبحث عن خروج من هذه الحالة ، سألته :
• صاحبي ، ملك التفرس ، هل تقرأ لي كفي؟ .
- الأفضل هذه المرة ، أن أقرأ العيون التي ثملت بالقراءة وكتابة الكلمات .
• آآآه من الكلمات ، إنها مفاتيح القلوب .
وتذكرت الرياح ، فسألته :
• هل تجيء قريبا ؟ .
- الآن هي مسكونة بالسكون .
• هل رأيت خيولا في فنجاني ؟ .
- لم أخبئ عنك شيئا ، سوى حروف ختمتها الرقابة .
وشجعني :
. . -عليك أن تجتاز العذاب .
وتشجيعا أكثر :
. . -أنت اليوم أقوى من الأمس ، قل كلمتك واجهر بها ، ابتدئ من الآن .
• في جوفي صرخة هل اتضحت من خلال العيون؟ .
أجابني :
- أتحاشى قراءة الخطوات التي في الظلمة ، والتي على الشطآن الهادرة ، أشعر بالرجس إن اقتربت من هذه الخطوات ، وتتهدم الأشكال بالرصاص السري .
سألته عن وجعي الكبير :
• ماذا عن الكتابة يا ملك التفرس؟ هل ستظل مفتوحة ، وأوراقها تزهو كالعشب ؟
رد :
- .. أتحب الشاي الحلو المر؟ الطين ، الخبز للفقراء ، المطر ، الزهور ، الفجر ، الأطفال ؟
أجبته :
• نعم ، نعم ، نعم .
قال :
- .. كتاباتك يا صاحبي ، خلاياك ، وسر التناسخ ، والمستحيل الناهض من بين حد السيوف ، المنتهى ، البنادق ، والعشب كما قلت أنت .
سألته :
• إذاً ، كيف أتخلص من هواجسي ؟
أجابني :
- هواجسك هي الجذور ، والدندنة الأولى التي تسبق الأغنية ، والمفتاح الفضي .
شعرت بالتعب :
• أنا تعبت ، وأتعبتك معي ، ماذا تقترح الآن ؟ .
قال لي ، وهو ينظر في وجهي :
- نذهب إلى الصالون ، لحلاقة لحيتك الفوضوية ، ربما تنتعش .
لم نرحل ، ظللنا نتحاور عبثا في هذا الليل الطويل ، الطويل ، حاك الوهم خيوطه حولنا بإتقان ، ظننا أن الخلاص من هذه الخيوط هو العرس ، وظل الهم يشاركنا قهوتنا ، بينما عازفة البيانو البلغارية تنسج معزوفاتها بأفضل منوال وبأصابع سحرية . صديقي يطلب قهوة حلوة من النادلة الحلوة تاركا لها علامة ، تمنيت أن أحضر باقة ورد لهذه الوردة البلغارية . ملك التفرس صاحبي يلف المسامير التي في رأسه كاشفا صدره ، مغمضا عينيه في وجه الدخان الذي أنفثه في الهواء ، ولكن حينما تمر النادلة ينظر في مقلتيها طويلا ثم إلى يديها ، إنها الرغبة المفعمة بقراءة كف هذه الفتاة ، وفي البعيد هناك ، في الركن القصي ينهض فتى تتبعه فتاته الخجلى ، وعند الدرج تتعانق الذراعان . انتظرتها طويلا عند التقاطع ولم تجئ ، ولم تضئ سوى ضحكتها من بعيد . العاشقان المقبلان استدارا ولم أستدر ، بل استدار النسغ الذي في أنفي . كان الطفل الذي في الداخل ينظر إلى وجهه في المرايا خجلا ويتصبب عرقا . عدت لمكاني ، النادل يستشيرنا في طلبات جديدة ، وصوتي :
• لا شيء .
ملك التفرس ، أرادني أن أتجاوز فأعلن :
- عشاء ثم دورة شاي بالنعناع .
انتهت دورة الشاي مع آخر معزوفة موسيقية ، ألتفت إلى العازفة ، وبصوت خافت أخبرتها :
• بانتظارك ، أتأتين معي؟
- إني متعبة جدا .
عيناها قالتا وداعا ، وغادرت المقهى ، كنت أسمع نبض العصافير في ابتسامتها الأخيرة ، ومواء القطط في خطواتها الملكية . منتصف الليل ، سمعنا صياحا لديك قد سال الدم من عرفه ، نهضنا لننقل خطانا المغادرة ، خطوة خطوة ، خطوة في التوجس ، خطوة في اليقين .
#كريم_الهزاع (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟