يوسف رزين
الحوار المتمدن-العدد: 4312 - 2013 / 12 / 21 - 19:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قام الباحث في علوم الاجتماع الدكتور عبد الرحيم العطري في كتابه "سوسيولوجيا الأعيان " بمقاربة موضوع العينية في المغرب ، معترفا منذ البداية انه يستحيل عليه كباحث الإحاطة بجميع جوانبه ، الا انه مع ذلك استطاع إضاءته بشكل جيد و هو يحاول الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بإشكالية الديناميات المرتبطة بتجذير الوجاهة و العوامل التي تضمن استمرارها و الآليات التي تمكنها من التكيف مع الواقع.
إن مفهوم العين يحيلنا أساسا إلى مفهوم النخبة . فالعين باختصار هو شخص يعبر عن زعامة محلية قروية تنشأ في مجتمع تراتبي تطبعه ظاهرة الندرة ، الشيء الذي يحكم على هذا المجتمع بالانقسام إلى مالك و غير مالك ، أو سائد و مسود و هو (العين) ظاهرة تعرفها كل المجتمعات التقليدية بحكم الظروف السوسيو-اقتصادية التي تعيشها.
أما بخصوص المغرب، فإن هذه الظاهرة لها تجذرها في المجتمع ،خصوصا القروي و هي ليست وليدة اليوم بل تعود إلى ما قبل الحماية بوقت طويل بحكم أن المغرب كان يعيش انشطارا بين بلاد المخزن و بلاد السيبة ، هذه الأخيرة كانت تدار من طرف عدد من الأمغارات الذين لعبوا دور الوساطة بين السلطة المركزية و مجتمعهم المحلي . و هو نفس الدور الذي قاموا به أثناء الحماية و مغرب الاستقلال . لكن يبقى السؤال المطروح، هو كيف كانت تظهر هذه الزعامات و كيف كان يتم الاعتراف بها ؟
في الواقع ، فإن بلاد السيبة كانت تتمتع بتقاليد ديموقراطية ممثلة في ما يسمى ب "اجماعة" او "مجلس الاربعين" او "انفلاس" التي ينتخب منها الامغارات و منها يبرز امغار قوي ، قادر على ضبط المجال الذي ينتمي إليه ، فيعترف به المخزن كزعامة محلية نظرا للصعوبات التي يعاني منها (بلاد السيبة) و ينصبه قائدا على منطقته . و الجدير بالذكر أن هذا التنصيب لا يكون إلا بعد أن يحوز هذا العين على رسم الرضى من آهل الحل و العقد في مجتمع المحلي . بعد هذا التنصيب يحدث اعتراف متبادل بين العين و المخزن يتمثل في تبادل الالتزامات بين المركز(المخزن) و الهامش(القبيلة) ، فالعين يصبح هنا وسيطا بين القبيلة و المخزن ، أي انه يمثلهما معا في نفس الوقت و هو ما يوضح لنا أن النظام المخزني هو نظام قائم على الوساطات بين المركز و الهامش من خلال الأعيان . فالعينية إذن هي تجذر اجتماعي ينتج عنه اعتراف مخزني و تبادل للمصالح.
هنا يطرح سؤال آخر و هو : ما هي شروط العينية و كيف يمكن للمرء أن يكون عينا في مجتمعه القروي ؟ للإجابة على ذلك يمكن القول أن العينية تقوم على أربعة أسس و هي المال و الأرض و العلاقات النافذة و النفوذ الروحي. فبالنسبة لشرط المال فإن العين عليه أن يتوفر على مقدرة مادية واضحة تميزه عن سائر أفراد قبيلته و تجعله قادرا على الإنفاق و إقامة الولائم و شتى مظاهر الاستعراض الاجتماعي ، ثم بالنسبة للأرض فإن عليه أن يمتلك مجالا عقاريا واسعا و هو ما يفسر حرص كبار القواد كالعبدي و الكلاوي على التوسع في امتلاك الأراضي الفلاحية ثم الشرط الثالث و هو امتلاك علاقات نافذة مع كبار رجالات المخزن ، الشيء الذي يترك الانطباع لدى أفراد مجتمع العين بأنه شخص ذو كلمة نافذة و بالتالي فهو قادر على حل مشاكلهم مع السلطة . ثم أخيرا الشرط الرابع و هو النفوذ الروحي ، ذلك أن العين لا يكتفي بإظهار مقدرته الإنفاقية و أراضيه الممتدة و علاقاته النافذة بل يسعى إلى ربط مجتمعه بنفوذه الروحي مستغلا في ذلك انتسابه لنسب شريف و ما يترتب عنه من مفعول البركة و هو ما يعمل على تأكيده من خلال رعايته للأضرحة و الزوايا بمنطقته.
هذا بالنسبة للعين ، أما بالنسبة لمجتمع العينية ، فكما سبق و ذكرنا ، فهو مجتمع الندرة ، أي مجتمع تنتفي فيه عوامل الوفرة و يعيش حالة من الفقر العام الشيء الذي يدفع بمن لا يملك إلى اللجوء إلى من يملك . و بالتالي تسود فيه قيم الزبونية و ينقسم المجتمع إلى سيد و تابع أو عين و زبون و هو ما يدفعنا إلى تسليط الضوء على العلاقة القائمة بينهما . فكيف هي ؟
في الواقع ، فإن العلاقة القائمة بين العين و الزبون هي علاقة قائمة على تبادل المصالح وفق القواعد التالية : الزبون من جهته عليه أن يلتزم بالآتي : القرب (كلما اقترب من العين كلما استفاد أكثر) و الخدمة (عليه أن يضع نفسه في خدمة العين حتى يقربه إليه أكثر) و الحذر( في جو يطبعه التملق و الزبونية عليه أن يحذر من منافسيه الذين يسعون بدورهم إلى الحصول على رضى العين و هم بالتأكيد يريدون إقصاءه من دائرة القرب منه)ثم الهبة (على الزبون ألا يغفل عن تقديم هدايا و هبات إلى العين تقربه منه و تضمن مكانته لديه) . أما بالنسبة للعين فهو بدوره مطالب بالالتزام بمجموعة من قواعد السلوك و إلا انفض عنه الزبناء و تحولوا إلى عين آخر و أول هذا القواعد هي الانتماء ، فبحكم انه يمتلك مجالا عقاريا واسعا و هناك أشخاص لا يملكون أي قطعة ارض فإنه يصبح من المحبذ أن يسمح لهم بالاستقرار بأرضه و استغلالها تحت نظام الرباعة أو الخماسة ، فيوفر لهم بذلك الشعور بالانتماء و الحماية كنوع من أنواع اللجوء الاجتماعي الذي يضمنه لزبناء مقابل حصوله على ولاءهم . ثم القاعدة الأخرى و هي الوساطة ، فالعين عليه أن يتوسط لأفراد قبيلته لدى السلطة المركزية لقضاء مآربهم من تطبيب و تشغيل الخ ..بالإضافة إلى ذلك يلعب العين دور الحكم في المنازعات التي تحدث بين أفراد قبيلته ، ثم القاعدة الأخيرة و هي الانتفاع ، ذلك أن أساس الزبونية هو الرغبة في جني المنافع ، فالعين الذي لا ينتفع منه زبناؤه لا يظل عينا ، و لذلك يحرص هذا الأخير على توفير منافع لزبناءه في شكل خدمات و إقراض و إطعام و إنفاق بشكل يجعلهم مرتبطين به.
طبعا ما دمنا قد تحدثنا عن تاريخ العينية و شروطها و مجتمعها و قواعدها ، فإن السؤال يطرح عن حضور هذه الظاهرة في عالم السياسة بالمغرب ،علما أن الطلب على الأعيان قد تجدد بعد الاستقلال بسبب الصراع الذي قام بين القصر و اليسار، لذلك يأخذنا الباحث عبد الرحيم العطري إلى دراستها من خلال ظاهرة الانتخابات . و في ذلك يوضح لنا أن تعاطي الأعيان مع هذه الممارسة العصرية (الانتخابات) مازال محكوما بأدوات تقليدية . فالسياسة المغربية هي باختصار مؤسسات عصرية تدار بمنطق تقليدي . و لهذا نجد أن العين حينما يختار الانتماء لحزب معين ، فإنه يجعل ايديولوجيته في أسفل اهتماماته . إن الأساسي بالنسبة له هو أن يكون الحزب الذي ينتسب إليه هو حزب "سيدنا" (حزب الملك) و لهذا لا يتردد العين في تغيير انتماءه الحزبي كلما بدا له أن الحزب الفلاني هو الذي يمثل "سيدنا" أكثر ، و ذلك لأن المجتمع المحلي ينتخب عينه لأن كلمته نافذة عند المخزن لا لأنه مرشح نزيه .
هذا و تعتبر الحملة الانتخابية لدى الأعيان، أوضح مثال للتعاطي التقليدي مع المؤسسات العصرية . فهي بالنسبة للعين لا تقوم على أساس إيديولوجيا الحزب و البرنامج الانتخابي و التاريخ النضالي بل على معطيات أخرى تمتح من الواقع القروي الذي تدار منه هذه الحملة. فالعين أولا يعتمد على عامل القرابة لإقناع ناخبيه ، فيوضح لهم انه ابن قبيلتهم و ليس غريبا عنهم كالمرشح المنافس ، ثم يستعمل مبدأ " العار" و هو يعني في الثقافة القروية الطلب الذي لا يمكن رده و إلا حلت برافضه لعنة ما . و لأن المجتمع الذي ينطلق منه العين هو مجتمع الندرة ، فإنه يلجأ إلى إطعام ناخبيه أثناء حملته الانتخابية . عملية الإطعام هاته تسمى "صدقة" و هي تسمية لها دلالاتها في مجتمع الندرة ، أي أن العين ينظر إلى ناخبيه من أبناء قبيلته كمتسولين لا كمواطنين . ثم بعد ذلك تأتي مرحلة شراء الأصوات التي و إن كانت ممارسة محظورة في السياسة العصرية و تخالف قانون التنافس الانتخابي ، إلا انه في البادية ينظر إليها على أنها حق مشروع للناخب القروي الذي يضطر يوم الانتخابات إلى ترك عمله و قطع مسافة طويلة قد تصل إلى عشرين كيلومترا للتصويت على مرشحه . الأمر الذي يحرمه من أجرة يوم عمل. و لهذا وجب على العين أن يدفع تعويضا ماديا لناخبه القروي إذا أراد أن يصوت عليه.
قد يبدو من خلال ما سبق غرابة الواقع السياسي المغربي و تناقضه بين ما هو عصري/شكلي و تقليدي/ضمني لكن وجه الاستغراب سيكبر أكثر حينما نعلم انه حتى الأحزاب اليسارية و الراديكالية صارت تستنجد بالأعيان في حملاتها الانتخابية ، مما يعطينا الدليل على قوة منطقهم التقليدي في مواجهة متطلبات الدولة الحديثة . و منه نخلص إلى أن المجتمع المغربي يمارس العصرنة بممارسات و تصورات و علاقات تقليدية بسبب عجزه عن الخروج من دائرة التقليد إلى عالم الحداثة .
كانت هذه جولة سريعة في كتاب " سوسيولوجيا الاعيان" لعبد الرحيم العطري، لا ندعي أننا استعرضنا جميع أفكاره و تفاصليه ، فهو غني بالتفاصيل الدقيقة و يستحق أكثر من دراسة و تناول و من زوايا مختلفة و لكن يمكن القول أننا حاولنا عرض أهم ما جاء فيه.
___________________
مرجع: سوسيولوجيا الاعيان ..آليات انتاج الوجاهة السياسية / عبد الرحيم العطري
#يوسف_رزين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟