أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هاملت القسم الثالث الرواية الجديدة لأفنان القاسم















المزيد.....



هاملت القسم الثالث الرواية الجديدة لأفنان القاسم


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4309 - 2013 / 12 / 18 - 16:15
المحور: الادب والفن
    



كالحبال الرابطة أرض البشر بجحيم الآلهة الغبار، والساكسفون الثاقب لآذان الكون الضوضاء، لعلة العربات الفاعلة التي لا تتوقف عن الذهاب والإياب في الشارع العام، شارع نشور الموتى من الجن والإنس، والأحصنة التي لا تنقطع عن الحركة، والبغال، والكلاب، والقطط، والثيران، والظبيان، والعتاريس، والمجاذيب، والسعادين من الآدميين، والغرباء الغريبين، والملاعين اللاعنين، والمتروكين التاركين، والحالمين بالرمل تبرًا وبالتبر قصورًا وبنوكًا وفساتين، والخارجين على القانون من قاتلين وياسمين. وهم يتساقطون في الغبار، ويحوّمون مع الضوضاء، كان المشاهدون يسمعون بصعوبة ما يقوله ممثلو المسرح المتنقل، فيذهب الفاقد لصبره على الرغم منه نادمًا، ويبقى الباحث عن نفسه في ثوب احتمالية الفاجع، وكل شيء محتمل في عالمٍ الحقيقةُ فيه أقوى الحقائق وأقساها.
- سأفعل أول ما أفعل من أجل أخي المرحوم، قال الممثل في ثوب الملك، تشييدَ قبرٍ عظيمٍ بقدر العظمة التي كانت له، سأرفعه مترين، على قاعدة مساحتها عشرة أمتار مربعة، وأنحت له تمثالاً، أعظم تمثال، بل تمثالين، أضعهما على يمين ضريحه وعلى يساره، فينظر الزائر إليهما قبل أن ينظر إليه، ويخال الناظر أن الأول يضحك عليه، والثاني يضحك منه، ولا يجد من بد سوى الابتسام.
- بين يدي الأموات نبكي ولا نبتسم، ردت الممثلة في ثوب العاهرة.
- أيتها الجاهلة! الابتسام في حالة المرحوم أخي أكثر حرارة من كل الدموع، الابتسام من ماض كان عظيمًا، وعلى ماض كان يمكن أن يكون أعظم.
- وهل سيقبل المرحوم أخوك استغراق زائريه في الابتسام بدل التأمل؟ سألت الممثلة.
- ليس هو من يقول أقبل أو لا أقبل وهو لم يعد ملكًا.
- على أي حال، أخوك مات، والموتى يقبلون بكل شيء.
- هذا ما لم أفكر فيه.
- لكنهم لا ينسون كل شيء.
- وهذا ما لم أفكر فيه.
- الأحياء نعم، أما هم...
- الأحياء، الأحياء، أين الأحياء؟
- كل هؤلاء.
- كل هؤلاء بالنسبة لي موتى.
- حذار من أن يذكروا ما حدث للقتيل ملكهم.
- إذن فليكونوا إلى الأبد أحياء.
- ستطاردهم ذاكرة الموتى.
- فلتطاردهم، إلى الأبد فلتطاردهم، هذا الصولجان لا يخشى أحدًا بعد اليوم.
- والمجنون الكاره للصولجان الباحث عن الحقيقة؟
- هذا الصولجان سيقتله.
- بسبب كره المجنون للصولجان؟
- بسبب كره الصولجان للمجنون.
- هل يخاف الملك؟
- يرتاب. يحاذر.
- لهذا يقتل.
- للملك ما يهم ليس من سيقتل وإنما من قتل قبل أن يغدو ملكًا.
- سيدي، سيدي، صرخت ممثلة ثانية في ثوب العاهرة، وهي تخرج من وراء غطاء، المجنون قتل يدك اليمنى، وهو عازم على قتلك، لأنه يعرف من قتل.
وانفجرت ضاحكة.
- ها هو الأمر يتعقد أكثر، قال الممثل.
- لصالحك، قالت الممثلة الأولى.
- لصالح الصولجان.
- سيدي، سيدي، عادت الممثلة الثانية تصرخ، عندما عرفت حبيبة المجنون أنه قتل أباها، فقدت عقلها، وألقت بنفسها في مياه ساكرامنتو.
وانفجرت ضاحكة.
- انتحرت؟ استفسر الممثل.
- انتحرت، أكدت الممثلة الثانية، وانفجرت ضاحكة.
- ها هو الأمر يتعقد أكثر فأكثر، قال الممثل.
- لصالحك، قالت الممثلة الأولى.
- لصالح الصولجان.
- سيدي، سيدي، صرخت الممثلة الثانية للمرة الثالثة، تبارز المجنون وأخو حبيبة المجنون، وقتل كل منهما الآخر.
وانفجرت ضاحكة.
- ها هو الأمر...
- يتعقد أكثر فأكثر فأكثر.
- تم كل شيء كما كنت تريد دون أن تريد.
- ليس كل شيء.
- الحذر لا يمنع القدر.
- لوجه الدم قسمات لا تبدو للعين، وعلى العكس تبدو واحدة واحدة مع كل ضحية بريشة رسام ساخر، لأن الضحية ما هي سوى تمثيل لإحدى القسمات الهزلية للدم، وما كان من ضحايا لا يعبر عن كل قسماته.
وانفجر ضاحكًا.
- على أي كاريكاتور لضحية تضحك؟
- كاريكاتور الضحية القادمة.
أُسدلت الستارة، والمشاهدون يبكون بكاء الثواكل واليتامى. تفجرت دموعهم كالينابيع، فلم يستطيعوا جمعها بمناديلهم. نظروا إلى بعضهم من خلال أعمدة الغبار، ولم ير الواحد منهم الآخر. سمع الواحد والآخر نشيج الماء، فنهرا ساكرامنتو والأميركان رِيفَر لم يكونا بعيدين. تذكروا قتلاهم، وأحسوا بالجوع، لكنهم داوموا على البكاء. لم يتحركوا من أماكنهم، فاستغرب الممثلون موقفهم. خرجوا، وانتهروهم ليتوقفوا عن البكاء، ويذهبوا، ليعودوا إلى بيوتهم وأشغالهم. نزلوا عن الخشبة، وأخذوا يدفعونهم، ويشتمونهم، فصاح واحد على حين غِرة: "برافو!"، وهو يصفق من شدة الحماس، بينما الآخرون يداومون على دوام البكاء. أخرج مسدسه من القِراب، وأطلق الرصاص على المتفرجين، على الممثلين، على العابرين، على الأحصنة، على البغال، على الكلاب، على القطط، على الثيران، على الظبيان، على العتاريس، على المجاذيب، على السعادين من الآدميين، على الغرباء الغريبين، على الملاعين اللاعنين، على المتروكين التاركين، على الحالمين بالرمل تبرًا وبالتبر قصورًا وبنوكًا وفساتين، على الخارجين على القانون من قاتلين وياسمين، والغبار يأتي بالغبار، والضوضاء تأتي بالضوضاء، والتوت يأتي بالضوء.

* * *

تقدم بولونيوس، اليد اليمنى لكلوديوس، مع رينالدو، اليد اليمنى لبولونيوس، في الممر الطويل للبيت الكبير، وهو يحمل عَقد اليونيون باسيفيك ريلرود ممضى من طرف الحكومة الفيدرالية، والدنيا لا تكاد تسعه من الفرح.
- أحسنت صُنعًا، يا رينالدو، أثنى بولونيوس، فعل كهذا مأثرة ما بعدها مأثرة، وسأعمل على أن تكون مكافأة السنيّ كلوديوس كييركغارد أعظم مكافأة.
- أنا في خدمة سيدي بولونيوس وولي نعمتي كلوديوس دون مكافأة، همهم رينالدو.
- ملح البحر يحلو على سماع هذه الكلمات من فم أخلص الناس لنا، عاد بولونيوس يثني قبل أن يطرق باب مكتب المتوج الجديد، ويدخل. ها أنا آتيك بكل قطارات المعمورة، يا صاحب المقام الرفيع، توجه بولونيوس بالكلام إلى كلوديوس كييركغارد، وهو يرفع بيده الملف الذي طال انتظاره، فهل تسمع صفاراتها؟
نهض كلوديوس كييركغارد من تحت اللوحة الكبيرة لرسمه هاشًا باشًا، وتناول عَقد السكة الحديدية بأصابع مرتعشة، بينا اليد اليمنى يضيف:
- بهذا الإنجاز يكون رينالدو قد قام بمأثرة ما بعدها مأثرة!
- شكرًا لرينالدو، ألقى كلوديوس، وهي يقلّب أوراق العَقد، وشكرًا لك، أيها العزيز بولونيوس. اطلباني كل ما تشاءان، وعلى أي حال أنتما تعرفان المكان الذي لكما في قلبي.
- هذا كل ما أطلب، يا صاحب المقام الرفيع، همهم رينالدو، المكان الذي لي في قلبك، وليس المكان الذي لي على الأرض.
- نعم، المكان الذي لنا في قلبك، هذا كل ما نطلب، أعظم طلب من أعظم صدر، أضاف بولونيوس قبل أن يأمر مرؤوسه: قطيع البقر الذي ننتظره من الهند قادم بين عشية وضحاها بعد أن غادر ميناء لوس أنجلس منذ بضعة أيام، فاعمل على استقباله، يا رينالدو، أحسن استقبال، فهو بقر مقدس! أغبياء نيودلهي لا يعرفون ما المقدس بين الأسنان العاشقة لكل ما يجيء به الباربكيو من لحوم مشوية!
- تحت أمرك، يا سيدي، كل ما له علاقة بالمقدس وغير المقدس.
- لن أحرمك من الراحة طبعًا بعد رحلتك الطويلة الشاقة.
- لا يكن بك هَمّ من أجلي، يا سيدي.
- بلى، بلى، أَوَ ليس لي غيرك ممن أثق به؟
- الحقيقة...
- نحن لا نريد أي تحد للحقيقة.
- اذهب وارتح، يا رينالدو، أمر السنيّ كلوديوس كييركغارد، تعاشروا كالأحباب وتعاملوا كالأجانب، قال قبل أن يأخذ به صفعًا ولكمًا.
- كيلا أرتكب غلطة سهو، يا صاحب المقام الرفيع، سارع رينالدو إلى القول، وهو يحاول أن يتدارك كل هذه الصفعات وكل هذه اللكمات.
- السهو متدارك، لهث سيد مرعى الماشية الجبار.
- اتكل عليّ، لهث رئيس رعاة البقر، وهو يلتقط دم أنفه.
أعطاهما ظهره، وخرج، وهو يقفل الباب بهدوء من ورائه.
- الآن وكل جُسْتِنْيانوس بين يديك، يا صاحب المقام الرفيع، قال بولونيوس، وكأن شيئًا ما كان، علينا إكمال ما بدأناه من تحضيرات للبدء بالوُرَشِ الكبيرة.
- لو كانت سكة الحديد من ذهب لهان الأمر، ألقى المتوج الجديد.
- الحديد سنأتي به من المكسيك، والخشب من أي مكان في كاليفورنيا، لكن ما يقلقني أمر اليد العاملة.
- كل هؤلاء الرعاع الذين يملأون مملكة الدانمرك، وتقول ما يقلقني؟
- لا يد لنا من يد عاملة تفهم ما تعمل، وتتقن ما تعمل، وإلا فسد هذا المشروع الجبار، وجرجر قدميه كما تجرر السلحفاة قدميها.
- الصينيون من تريد؟
- هم الأوائل في هذه التقنية الحديثة، أنصاف آلهة بحق في هذا الميدان، دونهم لن يكون قطار في أمريكا يشقها اليوم من غربها إلى شرقها، والغد من شمالها إلى جنوبها.
- وما العمل؟
- سأكلف لائِرتس ولدنا باستقطاب أكبر عدد منهم، من الصين نفسها لو احتاج الأمر، فيركب البحر، ويضع قدمًا في بكين وأخرى في سان فرانسيسكو.
- في سان فرانسيسكو؟
- سان فرانسيسكو الرمز، يا سيدي، تحت كل معاني قوتك وعظمتك وجبروتك.
- أشكرك، أيها الغالي بولونيوس، على كل ما تفعله لنا.
بدا حائرًا، ولثوان لزم صمتًا مُطْبِقًا، فتلعثم يده اليمنى:
- هل أقرأ في الحيرة المكتوبة على وجهك سطور الريبة في هاملت، هذا النذل؟
- هاملت! يا ليت ما كان هاملت؟
- أنت شغله الشاغل.
- لماذا لا ترسله هو إلى الصين، فينشغل بأحد آخر غيري؟ اقترح صاحب المقام الرفيع.
- على الرغم من كل الأذى الذي ألحقه بأوفيليا، يظل هاملت صغيرًا في عقله وفي فعله، إنه لا ينفع لشيء، فلا تقلق من ناحيته.
- لا ينفع لشيء، ابن القحبة!
- كل يوم يتهم أحدًا بقتل أبيه، وفي إحدى المرات سمعته يقول لجميلتي أوفيليا، هذا الوغد، إنه هو من قتله، ولولا تدخل ابنتي، لأرسل طلقة إلى رأسه.
- يا ليت أوفيليا تركته يفعل، هكذا نرتاح منه ومن شره.
- أنا أراقبه منذ زواجكما أنت وصاحبة المقام الرفيع السيدة جيرترود، وسأبقى على مراقبته، فلا يحمل العظيم كلوديوس همًا. لدي عيون في كل مكان على الأرض، وستكون لي عيون في السماء لو يلزم، للحيلولة دون أي ضرر يمكن لهاملت أن يسببه لك أو لأمه.
- لأُمِّه؟ لأُمِّ من؟ لأُمّ هاملت؟ ألقت صاحبة المقام الرفيع، وهي تقتحم المكتب بِفِتنتها وهيبتها في ثوب الدانتيل الأصفر، تتكلمان عني؟
- جيرترود، سارع كلوديوس إلى القول، وهو يذهب لاستقبالها والإمساك بذراعها، إنه ولدنا هاملت، يغلق عليه باب حجرته، وأحيانًا لا يغادرها النهار يتبعه الليل والليل يتبعه النهار، سلوك كهذا لا بد أن يسبب كبير القلق لي ولك.
- من واجبنا كلنا، يا صاحبة المقام الرفيع، تدخل بولونيوس، أن يعود هاملت إلى طبيعته ما بيننا.
- ولكنها طبيعته، أكدت أم هاملت بعصبية، أبدًا لم يكن هاملت اجتماعيًا. ذَرُوهُ على حاله!
- بالتأكيد! ثنّى صاحب المقام الرفيع على قول صاحبة المقام الرفيع، ومن هنا تجيء كل تخوفاتي عليه، فمن واجبنا كلنا، كما قال الوفيّ بولونيوس، أن نحمي هاملت من هاملت، فالعزلة لا تلد من بنات غير الأفكار السوداء. لقد هَمّ بقتل نفسه لو تعلمين...
- هاملت يقتل نفسه؟ أعادت جيرترود مرتعشة.
- لولا لم تكن الجميلة أوفيليا.
- جميلتي أوفيليا لم تعد الجميلة كما الكل يعلم، ألقى بولونيوس، خيرها كخير هاملت في الزواج، يا سيدتي، ويا سيدي، إنه الحل الوحيد لكل مشاكل هاملت.
- في الزواج! نفرت جيرترود من الفكرة، هاملت صغير على الزواج، وأوفيليا أصغر، الزواج لمن هو في عمرهما كمن يستكين إلى الهوان.
- زواج هاملت أفضل من قتله لنفسه، أيد كلوديوس الفكرة.
- لن يكون هناك زواج، نبرت أم هاملت، سأوبخه، وسيسمع كل من في هذا البيت الكبير ما سأقوله له. يقتل نفسه؟ هاملت يقتل نفسه في حياتي؟
- سآتي معك، سارع كلوديوس إلى القول.
- لا، ولكني سأرسله إليك، أنت أيضًا لا تلجأ إلى الحروف المهموسة نطقيًا، فننقذ الولد من حماقتين يرتكبهما.
أعطتهما ظهرها، وخرجت، وهي تطرق الباب من ورائها.
- داوم على مراقبتك لابن القحبة هذا، أَمَرَ صاحب المقام الرفيع يده اليمنى، وسأرى ما يجب فعله، هذا صعب رغم كل شيء.
- مكتب البحث والتقصي تحت كندرتي، كما تعلم، يا سيدي، أنا أدرس معهم أفضل الوسائل لإرساله عند خالته. - عند خالته؟ لهاملت خالة؟
- في لغتهم الخاصة هذا يعني السجن.
- السجن لا يكفي.
- في أسوأ الاحتمالات السجن أحسنها.
- إلى الشيطان، أعهد إليك في إرساله إلى الشيطان، إلى جهنم، لتكسير رؤوس الأبالسة لا تكسير رأسي.

* * *

خاطب هاملت مسدس أبيه بحضور هوراتيو تحت وقع السأم والقرف:
- أعرف أنك موجود، فأنا لا أشك في وجودك. أراك، وأنت هادئ في صمتك، كجسد تجندل بإحدى رصاصاتك. هل تكون جسدًا دون روح؟ كيف أبعث فيك الروح؟ ألم تعد تعرف طريقك إلى الصدور التعسة؟ لماذا تقنع باليقين؟ هل تتجاوز عالم المعرفة إلى ما فوق الطبيعة؟ كل هذه الطبيعة ما فوق طبيعة! هذه هي عقيدتي! عبث في عبث! من داخل العبث تُبنى أفكاري، هواجسي، علاقاتي، ارتباطاتي، حمرناتي، خريناتي! وها أنت على باب العبث تقف ولا تدق بكل جبروتك، بكل عصيانك، بكل أحلامك الدموية، بكل أمانيك الجهنمية، ها أنت تنتظر أن أعيد تشكيلك، فتستعيد صورتك الهمجية، أن تعود إلى سلوكك الأول، فتتصرف بحقد. كل الأجساد التي تنتظر في الخارج حتفها ستصفق لك تحت وابل من النار، كل العِظاء التي ترعى الأعشاب في قيعان الأنهار، كل الخنازير البرية التي تنشر آثار أظلافها في كل مكان بترك أماكن وجودها، كل الأيائل التي ترفع على قرونها القمم الشماء، وكل قرون الأكباش، وكل قرون الثيران، وكل قرون الأزواج الذين جعلوا من زوجاتهم عاهرات في أحضان الذهب والهَلِّلويا، تسبيحة شكرٍ لله، هناك غير بعيد عن مملكة الخطايا، وكل الجماجم التي ترقص تحت أقدام الموت، وكل الكواسر التي تحلم بتمزيق لحم الوقت.
- نحن كلنا خاطئون، يا سيدي وصديقي، همهم هوراتيو، هذا ما علمتنا إياه صاحبة المقام الرفيع والدتك السيدة جيرترود، ومن واجبنا أن نكفر عن خطايانا وخطايا الآخرين.
- بالتضحية، صاح هاملت، سنكفر عن خطايانا وخطايا الآخرين بالتضحية بالنفس، هذا ما علمتك إياه صاحبة المقام الرفيع والدتي زوجة صاحب المقام الرفيع عمي، يا للشيطان! التضحية بأبي قد تمت، كل خطايا هذين العربيدين قد تم التكفير عنها...
- هاملت، لا تسئ الظن في أمك!
- كل ذنوبهما السابقة واللاحقة، فاللاحقة أكثر من السابقة، أستطيع أن أؤكد لك، هذا المسدس الأخرس ينطق بالحقيقة، وهذه هي الحقيقة، خطاياهما القادمة لن يقدر الكهنة على إدراجها في حساباتهم، خطاياهما القادمة لهي كوابيسنا القادمة، إلا إذا كنت على استعداد للتكفير عنها، فهي خطايا الآخرين كما علمتك إياه قحبة الخراء أمي!
- هاملت!
- هكذا سيخرج مسدس أبي من صمته، أَجْعَلُهُ ينام على ثديك، وعلى بطنك، وعلى فخذك، فيستعيد حرارته...
- هاملت، توقف!
- أجعله يتنزه على جسدك ما طاب له التنزه، فيستنشق رائحة المساء الأسود، ويغدو إنسانيًا إلى حد الفتك بالناس...
- توقف، أرجوك!
- أجعله يصرخ إني بريء في الوقت الذي يجندلك فيه برصاصة خائنة.
- أَسْمَعُ خطوات قادمة، فتوقف، باسم الرب، لنؤجل هذا إلى المرة القادمة!
- لقد مات أبي غدرًا بهذا المسدس الوفي، وضعه أبي في ظهره، وأطلق، فكان كفارة نفسه، هكذا يضع العقلاء حدًا لحياتهم عن طريق الشك، وأبي الطيب لم يعرف أبدًا الشك، لم يشك أبدًا في أحد، لم يشك أبدًا في شيء، كان أبي كالآلهة المخصيين، لهذا كان عظيمًا.
- هاملت! ما هذا الهُراء؟ نبرت صاحبة المقام الرفيع أول ما اخترقت حجرة ولدها، صحيح إذن ما قاله عمك ووالدك "العزلة بناتها الأفكار السوداء"!
- تريد أمي وسيدتي القول "الطبيعة العابثة بناتها كل الأفكار السوداء والبيضاء والحمراء والخضراء والخرقاء والخرياء و...".
- اخرس، يا بنيّ، فلتخرس!
- سأترك سيدتي صاحبة المقام الرفيع وحدها مع سيدي وصديقي، لو سمحت سيدتي، همهم هوراتيو.
- التكفير عن خطايا الآخرين سيكون للمرة القادمة، هتف هاملت بصديقه الأسود قبل أن يغادر الحجرة، ويغلق الباب من ورائه.
- خطايا الآخرين! أعادت جيرترود حائرة، ماذا تعني؟
- كيف تَصْنَعْ أَصْنَعْ، هذا ما يقوله المسدس.
- ماذا تفعل بمسدس أبيك؟
- بارد برودة الجليد مسدس أبي.
- شيء طبيعي أن يكون باردًا برودة الجليد ولا أحد يستعمله.
- لا، ليس هذا. لأنني لا أحسن استعماله.
- ابني وحبيبي، من نعومة أظافرك، وأنت تنأى عن العنف، تخشى ظلال البنادق.
- سأحسن استعماله، لا لشيء إلا ليدفأ.
- ألم تعد تخاف السلاح؟
- السلاح هو الذي لم يعد لا يخافني.
- هذا لأنك الأشجع.
- سأعرف كيف أستحق هذا الثناء.
- إذا كنت على مستوى ما تسعى إليه، فاذهب في الحال، وتكلم مع عمك وأبيك، إنه شديد القلق عليك، ولا يريدك أن ترتكب أقل حماقة. هل تسمعني، يا هاملت؟ اترك العزلة لسلاحك، واحم نفسك منه.
- لم يأمرني بعد سلاحي بالذهاب عند زوجك لأجد حل أمري معه.
- ماذا تقول؟ صاحت الأم غاضبة، لم يأمرك سلاحك!
- إنه أبي، وأنا أنتظر الأمر منه.
- هل تتهته، يا هاملت؟
- ألا ترين أبي كيف أنقله بأصابعي؟ ألا تجازفين مرة واحدة في حياتك لمعرفة إذا ما كان هو دون إثبات؟ ها هو أبي! صاح هاملت ملوحًا بالمسدس، أحمل جثته الباردة برودة الجليد! ثقيلة جثتك، يا أبي! جثتك تتكلم، ليست موجودة جثتك، لكنها تتكلم، تأمر، تنهي، تدين، تدندن لحنًا جنائزيًا، فكل الوقت للموتى، ومن الملل تدندن لحنًا جنائزيًا للقادمين إلى المقابر منا. أمي هنا، جيرترود الوفية هنا، هل تريد أن تكلمها؟ قل لها ما يثقل قلبك، قل لها إنها تزوجت من أخيك قبل تمام مدة الحداد عليك، قل لها إنك فرحت لذلك، فأنت تكره كل شيء اسمه أسى، وإنك لو تموت ثانية لطلبت منها الزواج بأخيك في اليوم الذي تموت فيه، قل لها إن هاملت سيتعلم ضرب النار ليفرح على طريقته، قل لها إنك لا تنطق كيلا تخاف، كيلا تخاف مما تنطق، كي تعتقد بوجودك، أنت الميت غير الموجود، دون أن تسمع صوتك، كي تعتقد بأنك قابل للبرهان، ككل فكرة عقلانية قابلة للبرهان.
قال هاملت ما قال، وأمه تكاد تسقط مغشيًا عليها.
- أم أنني أعيش الحقيقة وهمًا؟ همهم الشاب المعذب.
- ما تقول لا ظل فيه للحقيقة، همهمت القانطة جيرترود، إذا ظلت الأمور هكذا، تعذبت باطلاً، يا بنيّ، فجيرترود ستظل جيرترود.
- عِقد الياقوت الأحمر هذا كان هديتي لها، قال هاملت كليلَ الظُّفْر، وهو يخرج العِقد من جيبه. أحضرته من الهند، فلم أجدها، كانت قد ماتت.
- هاملت! كيف تجرؤ؟
- كانت الطريقة الوحيدة ليتوقف عن حبك، نعم، هذا الأب، أشار إلى المسدس، على الأقل، ليحبك أقل، ليحبك أقل لا ليحبني أكثر، بالله عليك ماذا بحبه أنا فاعل؟ طوال حياتي، وأنا أتمنى أن يبدل مهنته، فالآلهة تبدل مهنها، عادلة تكون وجلادة تغدو، وهو أبدًا لم يبدل مهنته إلا بعد أن أُجهز عليه، غدا حدادًا. كانت الطريقة الوحيدة ليكون غير ما هو عليه، أن يُقتل. اليوم تجدينه أكثر سعادة، معك أو غير معك أكثر سعادة. لم تعد طاعة الآخرين شيئًا مزعجًا، ولا احترامهم، ولا تقديرهم، لم يعد الأمر الذي يعطيه مسألة حضارية، لم تعد هيبته مناورة سياسية. اليوم لا يفعل هانس شيئًا آخر غير طرق الحُدْوَات على قياس حوافر الخيل، بأمر حوافر الخيل يقضي باقي عمره. اليوم وَفّى دينه كاملاً، بينما لا يفعل كلوديوس شيئًا آخر غير طرق جيرترود ألذ طرق!
وبيد لم تدرك من قبل لذة الضرب صفعته، فاعتذر:
- ليست الوقاحة من طبعي، فاسمحي لي، يا أمي!
أرادت أن تصفعه ثانية، فأمسك يدها. انهارت جيرترود، وانهار هاملت. لفظ كلمات غير مفهومة كالهزْل واللعب والتفاهة والخُيَلاء والهُزْء والفُكاهة والطيش والإحالة... تلوى كالطفل في حضن أمه، وتلوت كالطفلة في حضن ابنها، كانت طريقتهما في التعبير عن عواطفهما، كالتعبير عن إرادتهما، كالتعبير عن قناعتهما، كالتعبير عن رفضهما، كالتعبير عن غضبهما، كالتعبير عن سرورهما، كالتعبير عما في جواهما.
- أحبك، يا بنيّ! همست جيرترود.
- لم تحبيني طوال حياتك، يا أمي، همس هاملت.
- هاملت، كيف تجرؤ؟
- لماذا تكذبين؟
- أنا لا أكذب.
- أنت تكذبين.
- أنا لا أكذب، أنا لا أكذب.
- مذ كنتُ صغيرًا، وأنت تكذبين.
- أنا لا أكذب، أنا لا أكذب، أنا لا أكذب.
- أنت تكذبين على هاملت في كل مرة يريد فيها هاملت أن يعرف.
- أن يعرف ماذا؟
- أنك لا تكذبين.
- أنا لا أكذب.
- أنّ أمه تحبه.
- أحببتك أكثر من أية أم، لم أزل أحبك، وسأحبك ما بقي في قلبي خفق.
- أنت تكذبين.
- أنا لا أكذب، أنا لا أكذب، بماذا أحلف لك؟
طبعت قبلة على يده، وعلى خده، وعادت تهمس:
- أنا لا أكذب.
- بلى، همس هاملت، وهو يطبع قبلة على ثغر أمه.
- أنا لا أكذب، همست جيرترود، وهي تطبع قبلة على ثغر ابنها.
- وهو؟ همس، وهو يطبع قبلة طويلة على ثغر أمه.
- من؟ أبوك؟ همست، وهي تطبع قبلة طويلة على ثغر ابنها.
- عمي.
- أحبه.
- هذا الوغد ؟ همس، وهو يطبع قبلة طويلة على ثغر أمه.
- لا تَكْشِرْ أظافرك فيه.
- ... يقبل أمه من كل مكان في وجهها.
- إذا قتلت عمك، ألقوا القبض عليك، وشنقوك، وإذا استطعت الهرب، طاردوك، فتغدو قاطع طريق.
- ... يقبل أمه من عنقها، ومن كتفها، ومن ثديها.
- وفي الأخير، سيمكنهم قتلك، وأنت تخفي نفسك في أحد المواخير.
- ... يأخذ حلمة أمه بفمه، ويعضها بأسنانه عضًا طويلاً لذيذًا يدفعها إلى التأوه المتشنج والصراخ المختنق.
- فما الفائدة؟
- ... يفتح فخذي أمه، ويدفن رأسه بينهما، وهي ترتفع بكل جسدها لتصل إلى مملكة السماء.
- قل لي، ما الفائدة، يا هاملت، ما الفائدة؟ ستنطبق السماء على الأرض إذا ما جاءني خبر موتك، سيخترقني الزمن بمخالبه، سيرميني الإله في المكان الأكثر لهبًا من الجحيم. آه! يا ولدي، كم أحبك، كم أعبدك، كم أحن إلى حنانك، فاملأني بحنانك، دمرني بصلاتك، فجرني بهواك، يا ولدي، يا ولدي، آه! يا ولدي...
لكنها جمدت فجأة، وهي تسمعه يبكي بين فخذيها، ودمعه يسيل فيها محرقًا.
- هاملت، ماذا دهاك، يا بنيّ؟ قالت جيرترود متلهفةً، وهي تجذبه إلى صدرها، وتضغطه بحنان كل الأمهات. تبكي أنت، أنت من لا يُصطلى بناره!
إلا أنه دفعها عنه بعيدًا، عنيفًا، وقد أُصيب في صميم قلبه:
- أيتها البغيّ!
غرز أظافره في عنقها، وأراد خنقها، وبعد صراع قصير، تخلصت من تِنِّين ارتكاب المحارم، وهربت من جسده إلى جسدها. هذا ما كنتَ تريدُ أن تفعله منذ مولدك، أيها الوغد! قال هاملت لنفسه بصوت عال. بمثابة الإعجاز هو، وكم هو سهل! كقيامك وقعودك، كذهابك ومجيئك، كسعالك وأنينك، كضرب رأسك في الجدار! هكذا! هكذا! هكذا! كاختراقك المرآة بقبضتك! هكذا! حدق هاملت في أصابعه المدماة، وصرخ، من الرعب صرخ لا من الوجع. كان ذلك في البداية، ثم حط الوجع في جسده، في كل جسده، في رأسه، في صدره، في بطنه، في فخذيه، في ساقيه، في قدميه. أراد أن يمسكه، وهو يزلق كالسمكة من بين أصابعه المدماة، إلى أن تجمع كله في رجولته الفقيدة، وتفجر كما تتفجر الأفاعي والعقارب والديدان.

* * *

والأحصنة تعدو، كان الاحتفال مع الحياة، إيقاع الحوافر كان سيمفونية الطبيعة، وأذيالها في حركتها أشبه بحركة وعي العالم، كانت الأجساد الرشيقة الحقيقة ذاتًا، فكل راعي بقر يراها على هواه، وكل راعي بقر يعانقها كما تملي عليه رغبته، كامرأة أو شجرة أو مِرساة. كانوا في وضع لا يسمح لهم إلا باحتوائها، لئلا تفلت الأحصنة من أياديهم، ويكون عليهم الذهاب من جديد للمجيء بها، وأكثر من هذا تبرير ذلك لدى السنيّ كلوديوس كييركغارد، من هنا كان كل ذاك الحرص، وكل ذاك الانتباه، وكل ذاك التفاني: نحن رعاة البقر نشهد على شرفنا أن هذه المخلوقات الأسطورية لهي ديننا، فُتِنَّا في ديننا من أجل هذا الدين. كانت الأحصنة، وهي تقفز عادِيَةً، تلخص كل العناصر الأولى لجالية، لأمة، لشعب يولد من العدم، شيء لا شك فيه، ويقين لا يحتاج إلى أدلة، علاقة ذاتية مع الالتزام المطلق.
عندما رأى رعاة البقر الآخرون وصول الأحصنة وهي تتحرك تحرك النساء العرايا في الضوء، سارعوا إلى فتح السياج عن الأرض المسورة الخاصة بها. وفي الأخير، أقفلوا السياج على إحدى القوى الطبيعية، ليسيطروا عليها. لم تعد الأحصنة، هذه الطبيعة الشرسة، تعيش حرة على أرض مملكتها. إنها اليوم في ساكرامنتو، مملكة الدانمرك. بفضلها فهم رعاة البقر أنفسهم، ولم يفهموها، فها هي تصهل صهيلاً عنيفًا أقرب إلى العواء. إنه غياب كل أمل، فالأحصنة الغاضبة من كل شيء والهنود الهادمون لكل شيء كلاهما واحد: عند غياب كل أمل يغدو العِداء الوسيلة الوحيدة في العلاقة مع الطبيعة أو الإنسان.
خرج كلوديوس كييركغارد ويده اليمنى بولونيوس على أصوات تلك الحيوانات الأسيرة، ولكن ما لفت انتباههما قدوم قدم الجبل، بصحبته دنيا من الرجال والنساء والأطفال: أرياشهم التي تتجدد ألوانها كل ربيع محترقة، ثيابهم التي تقاوم الوقت مقاومة الظباء ممزقة، أقدامهم التي طين الأرض لها ضماد مدماة، يجرون أنفسهم، ويجرجرون أقدارهم كما يجرجرون قدورهم، وهم يحملون جثث القيّوطات المغتالة، وينتحبون.
- هذه القيّوطات المقتولة وتلك الخيول المسروقة آخر ما نملك، قال رئيس القبيلة الهندية للمتوج الجديد، والأرض-الأم طُرِدنا منها، فلم يعد لنا مكان نبيت فيه.
- كل أرض كاليفورنيا ولا مكان تبيتون فيه! تعجب كلوديوس كييركغارد.
- آلمتنا المصائب، نحن الهنود المهزومين، ولشد ما كانت شدتها آلمت المصائب المصائب، فعجزت الروح الكبرى عن إيجاد بلسم لها، ولم تعد تأتي لعوننا كلما تضرعنا إليها، لهذا جئنا نتضرع إليك بعد أن مَنَعْنَا الشجر من اللحاق بنا، والببغاوات من تكرار أسمائنا، والدببة من حمل ظلالنا الثقيلة عليها، فارأف بنا، يا صاحب المقام الرفيع.
- سنرأف بكم على الرغم من قتلكم لأخي، استجاب كلوديوس كييركغارد بعجرفة، أعظم من كل مصائبكم هذا المصاب!
- كيف نكون قد قتلنا صاحب المقام الرفيع هانس وروحه تحلق مع أرواح قتلانا؟ عكس قدم الجبل الحجة على صاحبها.
- قتلتموه، قتلتموه، ردد كلوديوس، وهو يستشيط غضبًا، ويميد رعبًا، أرواحكم، أرواحكم، اسأل عن أرواحكم تجدها تحت نعلي، أرواحكم، فلأرواحكم تحت نعلي خير مكان، وخير مكان هذا المكان الذي خلصناه، وخير حال هذا المنفى الذي نفيناه.
علا نحيب الهنود، فأمر كلوديوس يده اليمنى بولونيوس:
- فلتكن لهم مُفْرَدَة كباقي السكان المحليين. - ولكن أيها السنيّ كلوديوس، تلعثم بولونيوس، كل المُفْرَدات أزلناها بأمركم ردًا على مصرع العظيم أخيكم، وحفاظًا منكم على قدر كاليفورنيا.
- نحن القيّمون على قدر كاليفورنيا، نصنع حاضرها، ونسهر على مستقبلها، همس كلوديوس لنفسه، وهو يبتسم، دون أن يستطيع الحفاظ على رصانته، قبل أن يأمر: ابعثوا بهؤلاء الهنود الطيبين إذن إلى النيفادا، في مُفْرَدَة خاصة بهم وحدهم كبيرة ومريحة، واطلبوا منهم أن يغفروا لنا.
- إلى النيفادا! نبر قدم الجبل بحدة، حيث لا ماء ولا شجر لأبناء الماء والشجر!
- اطلب من الشجر اللحاق بك، أيها الزعيم الجليل.
- لن تلحق الشجر بي دون ماء، يا أبا المياه، عاد رئيس الميوُك ينبر بحدة.
- هذا كل ما أستطيع عليه، فلا تضطروني إلى فعل ما لا يسمح به ضميري، فيكون ذنبكم ما أقترفه، ويكون كرهي لدفعكم إياي إلى اقتراف ما أقترفه، ويكون ما أقترفه الحل الوحيد لما أقترفه، أنهى عاهل ساكرامنتو القول، وأعطى للهنود الطيبين ظهره.
- لما كنت أعيش قبل ألفي عام، خاطب قدم الجبل الجبال، كان الليل يولد من بطون الزنابق البيضاء، والنهار من بطون الزنابق السوداء، فلم تكن هناك أشجار، لم يكن هناك من نبات شيءٌ آخرُ غيرُ الزنابق. كانت الزنابق بيوتنا، ونساءنا، وبناتنا، وأبناءنا، كنا الزنابق، والزنابق كانتنا. لم نكن نحتاج إلى النوم في ظلال أشجار اليوم، كنا ننام بين أذرع الزنابق، وكنا لما نجامع نساءنا، نجامع الزنابق، فتلهث من لذة العناق، وينتشر عطرها في السهول وعلى الروابي، ويصعد حتى قمم الجبال. كانت الجبال ترتفع على أقدامنا، لهذا اسمي كان أمس قدم الجبل كما هو اليوم اسمي. لم يكن هناك قدم جبل واحد، كان هناك العشرات، المئات، الآلاف. كان الواحد منا سعيدًا أن يحمل جبلاً، أن نحمل الجبال، أن نرفعها كما نرفع اليوم على رؤوسنا الأرياش، إلى أن كان يوم، سئمت فيه الجبال منا، وشاءت تبديلنا بعد أن غدونا عبئًا لها. نفخت في بطون الزنابق الأشجار بدلنا، وكان ذلك بمثابة قتلنا كلنا. لينجو أخو ملكنا من المصير الذي كان يهددنا كلنا، اتفق مع الجبال على حل يرضيها ويرضينا: كل هذه الأقدام لن تعود للجبال أقدامًا لمّا يقتل سيد الأقدام. وكان ما كان. قتل أخو الملك أخاه، ولم يكن يدري أنه بقتله الملك سيقتلنا معه. متنا جميعًا، حتى هو مات معنا، ومن بعدنا بقيت الأشجار.
راح كل الهنود ينوحون نواح الحمام في أرضٍ خَرابٍ يَباب، وراح كل الهنود يبتهلون ابتهال الأنبياء للصَّلِفِ من الأقوياء، ولا بشر يسمع لهم أو أرباب تصغو إليهم، فجاء رعاة البقر، وطردوهم، وهم يضحكون منهم، وهم يضحكون عليهم، رينالدو أولهم، لكنه تدخل ليُبقي صبية هندية أعجبته، اسمها بيرل. جذبها، وهي تبتسم له. أهانها، وهي تبتسم له. ترك يده ترعى على قممها وفي وديانها، وهي تبتسم له. كانت تبتسم له لئلا تذهب إلى الجحيم، فجحيمه بكثيرٍ أهون. انتحر بعض الهنود بغرس أسنة رماحهم في بطونهم، وكأنهم يقولون للإنسانية: نحن لسنا ضحاياك، نحن أقدار أنفسنا!

* * *

قال لائِرتس لأخته أوفيليا ليفهم ما يقلقه:
- إذن من المحتمل أن يكون هاملت قد أضاع رشده، فبدأ يخرف قبل الأوان.
- نهر! أنتَ نهر! اعتبرك نهرًا! رددت أوفيليا غير مصدقة.
- وثالثة الأفافي أراد سكب السم في فمي، وهو يصرخ إنه يريد تسميم كل أهالي ساكرامنتو، أضاف لائِرتس.
- كل هذا، وتقول من المحتمل؟ عارضت أوفيليا، جنون هاملت لا شك فيه.
- هاملت وُلد مجنونًا هذا صحيح، ولكن هناك جنون وجنون.
- كما أن هناك طبيعة وطبيعة.
- عقيدة وعقيدة.
- هذا هو، جنون هاملت عقيدة لا مكان للمحتمل فيها. أنا أيضًا أمسكني من ذراعي، وأراد كسرها معتبرًا إياها غصنًا. عندما صحت من الوجع، ترك ذراعي تسقط من بين أصابعه، وهمهم: لم أكن أعلم أن كسر غصن يسبب كل هذا الألم، لم أكن أعلم أن الأشجار تتألم مثلنا. بدا عليه القلق، لم أره مرة واحدة على مثل ذاك القلق. جس ذراعه كمن يريد أن يتأكد من وجودها، وأن امرأ لم يكسرها له. بعد عدة ثوان، سمعته يتساءل لماذا ذراعه ثقيلة كل هذا الثقل، رأسه، كل جسده. بدا كمن يحمل على كتفيه كل ثقل الوجود، فأحسست بإحساسه، إحساسًا ما ورائيًا كان إحساسه، ورحت ألهث وإياه، كنا أحرارًا، وكنا نلهث تحت ثقل حريتنا، وتمنينا لو كانت ذراعنا بالفعل غصنًا لنكسره، ونرتاح.
- لقد أضل العقل، فَجُن.
- وعند ذلك، وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام اختياراتي، اختيارات لا حصر لها، تركه، أو قتله، أو قتلي، أو قتلنا نحن الاثنين، أو مسخي، أو انسلاخي كما تنسلخ الحشرات، فألعقه بلساني من جذره...
- أوفيليا! أنت، أيها القلب البكر!
- كان ذلك اختيارًا بين اختيارات تركتها لعبث الريح، فأصابني الكُرب والغم والفزع، وضاقت نفسي من ألم مُبَرِّح.
- كل هذا لأنه قلق هاملت.
- امحت الفروق، قلقي، قلق هاملت، قلق البشر، لم تعد للقلق حدود، للقلق حدود الوجود، فلمحت ما لم ألمح من قبل، لمحتني كلبة تفتح فخذيها، وهاملت يبصق فيها قذارته، كانت تلك صورة العدم كما أراه.
- أوفيليا! كيف تجرؤين؟
- لأخلص من كل هذا كان عليّ أن أختار دون أن أضمن شيئًا، لم يكن أبونا لي ضامنًا، ولا صاحب المقام الرفيع الذي نعيش في كنفه، ولا رعاة البقر الذين يسهرون على حمايتنا، ولا الأقمار التي تنير ليالينا، ولا النجوم الراسية في موانئنا، ولا حتى أرواح الهنود المخلصة لنا، ولا نهر ساكرامنتو الذي نغسل فيه أقدامنا، ولا الجبال التي تحيط بكاليفورنيا إحاطة أم بذراعيها، ولا أي شيء قوي أو ضعيف، سام أو وضيع، جواد أو خنزير، لم يكن لي من ضامن واحد، انتزعت مسدس والد هاملت من يد هاملت، وأطلقت الرصاص على ظلي وظله حتى أرديتهما قتيلين.
- هل أضعت الرشد أنت أيضًا، يا أخيّتي؟
- كان عليّ أن أفعل شيئًا.
وانفجرت أوفيليا تبكي، فأخذها أخوها بين ذراعيه، وهمس في أذنها:
- لا تبكي، يا أخيّتي.
- لكن هاملت طردني، وقال إنه لا يريد أن يراني مرة ثانية.
- هو لا يقصد ما يقول.
- هاملت لا يحبني.
- قال ذلك بدافع الغضب.
- هاملت لم يحبني يومًا.
دفع بولونيوس، أبوهما، الباب، ودخل.
- قسمًا بالقلب البكر الذي لم تهزه العواطف! طنَّ بولونيوس، وهو يرى كيف تحاول أوفيليا إخفاء دموعها، وترميه بنظرة العاتب القائل "ما أنتَ أولُ سارٍ غَرَّهُ قمر!".
- لا مزاح، يا أبي! همهمت أوفيليا.
- إنه دمع امرأة ترغب في البكاء، يا أبي، برر لائِرتس.
- البكاء من أجل البكاء شيء لا يوجد، رد الأب. أما الآن، وقد جففت أوفيليا دمعها، سأقول لكما ما جئت من أجله.
- سفري إلى موانئ مدننا الساحلية هذا المساء ليس السبب كما يبدو عليك، يا أبي، قال لائِرتس دون أن يعرف الكيفية التي تسير بها الأشياء.
- أنا أعرف السبب، ألقت أوفيليا، إنه هاملت، أليس كذلك، يا أبي؟
- لا شيء يخفى على أحد بعد أن غدا هاملت في الأعين عاريًا تمامًا كاليوم الذي ولدته فيه أمه في ليلة قمرية، أوضح بولونيوس، ليس عراء الجسد فقط بل وعراء الشخص الضائع الفاقد لكل أمل.
- هاملت أضاع رشده، يا أبي، نعرف هذا، قال لائِرتس بضيق.
- كل هذه الفوضى في الدماغ لم أر، طنَّ الرجل الثاني في مملكة الدانمرك من جديد.
- يأس هاملت ضيّع لي حياتي، يا أبي، تلعثمت أوفيليا.
- أمنعك، يا بنيّتي، من قول ما تقولين، صاح أبو أوفيليا، فأنت ما أنت إلا لبعث الأمل في قلبه لئلا يضيّع حياتنا بعد أن ضيّع حياته. اسمعا ما سأقول، واحكما بنفسيكما: قدم لي هاملت مسدس أبيه على أساس أنه أبوه، وقال لي إنه في اجتماع سري معه لبحث أنجع السبل في حماية البقر المقدس الذي استوردناه من الهند، فكلاهما يخشى الغدر به بطلقة في الظهر.
- يا للشيطان! همهم لائِرتس، لن ننجح في تغيير الوضع.
- هذا معزو لاختلال أناه، همهمت أوفيليا.
- قرأت في الكتب التي تلذ قراءتها عن هذا الغَرب الوحشيّ، هذا الغرب البعيد، الفار ويست، تابع بولونيوس، الفيض من التفاصيل، الكثير من الهذيانات، الركام من التخيلات، لكني أبدًا لم أقرأ ما سمعته من فم هاملت، ما سمعته من فم هاملت كلام من لا عقيدة له، هذيان من لا ذاكرة له، ادعاءات من لا رادع له. باسم البقر المقدس سيقتلنا كلنا، إنها طريقة ماكرة لمجنون يصل بها إلى تحقيق مآربه، فحذار، يا لائِرتس! حذار، يا أوفيليا! لن تحميك الصداقة، يا بنيّ. وأنت، يا أوفيليا، لن يحميك الحب، يا بنيّتي. سيقضي عليكما بلا أمله، سيهدم الدنيا بلا وُدِّه، سيجعل من مسدسه ليس فقط أباه بل كل سلالة كييركغارد مذ كانت سلالة كييركغارد وكل الدانمرك وكل أوروبا وكل أمريكا وكل العالم ليبرر فعله فينا. سيقول لنا أنا حر، وهذه هي حريتي التي هي قتلنا والقضاء علينا وإنهاؤنا، هذه نفسي سيقول لنا، وهذه حقيقتي.
- حقًا! كيف ننقذ هاملت من هاملت؟ همهم لائِرتس.
- لا أحد يمكنه إنقاذ هاملت من هاملت، أجاب والد لائِرتس، إنها قوة الأمر المقضيّ به. القلب البكر، أوفيليا، ستظل قلبًا بكرًا، وأنتَ، القلب الوفي، ستظل قلبًا وفيًا. ستظل أوفيليا القلب البكر على الرغم من كل شيء، وسيظل لائِرتس القلب الوفيّ على الرغم من كل شيء, هاملت لم يعد يراكما تنظران إليه مثلما كنتما تنظران إليه بعد أن أعمته رغبة الثأر لديه، تركه الله وحيدًا، ودون الله كل شيء جائز معه. كيلا يعيش في العزلة أبدًا، سنعيش نحن في العزلة على أوسع نطاق، وعند ذلك، سيخضعنا جميعًا. لهذا أمام رفضه الحوار مع عمه السنيّ كلوديوس، أمرت بإحضاره شاء أم أبى، ومنذ اليوم هاملت سيكون شأني الشخصي.
- أنت لن تسيء إليه، يا أبي، رجت أوفيليا.
- أنا لن أسيء إليه، أوفيليا، يا ابنتي، طمأن بولونيوس، لن أسيء لرجلك القادم، كل ما قلته محتوى يتمظهر بالكلام، ولكني سأعمل على ألا يسيء إلى أحد.

* * *

صاح كلوديوس كييركغارد برينالدو والآخرين من رعاة البقر أن يتركوا هاملت بسلام، وأن يعيدوا له مسدس أبيه، ففعلوا، وغادروا مكتب ولي نعمتهم، وهم يغلقون الباب من ورائهم.
- اجلس، يا ولدنا هاملت، ولا يفعَم قلبَك غم، بدأ العم الكلام، وهو يضغط على كتف ابن أخيه مجلسًا إياه على كنبة مريحة، الانتهاك الذي كنتَ عرضة له لن يمضي بسهولة، إخراجك بالقوة، وكأني بهم يطردونك من عالمك، لن أسمح به ثانية، لم أسمح به منذ البدء. لم تشأ المجيء لرؤيتي، هذا شأنك، شأن كل شخص حر في ساكرامنتو. كنتَ عنيدًا في موقفك، متصلبًا في رأيك، ولا شيء يبرر عدم المجيء لرؤيتي، لكني أحب هذا، دليل على رجولتك المبكرة هذا، وقوة شخصيتك. لم تلب كل الطلبات التي أرسلتها إليك من أجل التحدث معك، بما فيها الطلب الذي حمّلته لصاحبة المقام الرفيع زوجتنا جيرترود، لا لسبب معقول ومنطقي، لكني عزوت ذلك إلى ضيق وقتك وانشغالك لا إلى ضيق فكرك ولامبالاتك. جئتك بنفسي عدة مرات، لكنك طرقت الباب في وجهي بحماقة لم أعهدها فيك، ومع ذلك، بررت ذلك بمسعاك لتكون كالزاهد وحيدًا، بينما كل هذا الوقت الطويل الذي تقضيه في العزلة شيء محير ومقلق لشخص مثلي يحبك كما يحب نفسه، ويغير عليك كما يغير على الفراشات من أصابع الأطفال. لماذا كل هذه الغِلظة؟ لم تتعلم هذا عن أمك ولا عن أبيك، فقلب كليهما النعومة بعينها، والنعومة تدعى نعومة، لأن لهما هذا القلب. لماذا كل هذه الغلاظة؟
- آه! ما أغلظ عقلك، يا أبي، قال هاملت مخاطبًا مسدس أبيه.
- اسمح لي أن أقول لك إن هذا المسدس مسدس أبيك، يا هاملت، وليس أباك، علق العم. حتى هذا المسدس الغليظ الخشن الملمس ينعم لو كان قلب أبيك.
- إنه بارد برودة الجليد، همهم الحفيد، وهو ينعم، لو يسخن، ولن يسخن إلا إذا بصق النار، ولن يبصق النار إلا إذا عبأته بالرصاص بعد أن أفرغته المهووسة أوفيليا في قلب ظلي وظلها، ولن أعبئه بالرصاص إلا إذا حددت هدفي، ولن أحدد هدفي إلا إذا أتقنت الرماية.
- ولِمَ كل هذا التعب؟ ألقى كلوديوس في وجه ابن أخيه، أُسرتنا كييركغارد كابرًا عن كابر لا تحب القتل. قلت لك الانتهاك الذي كنتَ موضوعه مرفوض، مائة بالمائة مرفوض، ولا يسعني إلا أن أشجبه، هناك أصول يجب احترامها، وأنت لم تبذل أقل جهد في سبيل ذلك، فاستحققت اللوم، واستحققت المجيء بك بالقوة، واستحققت حنقي عليك. أنت، يا هاملت، غليظ العقل! يجدر بي تعنيفك، تكبيسك، تحويلك إلى دمية، أنت الدمية لنفسك، فأنت تترك نفسك في قلب الريح تسيرها على هواها، فلأكن تحديك في سجن أناك!
- تحدي أي هاملت تريد أن تكون، هاملت أم هاملت أم هاملت؟ ثغا هاملت.
- ابن القحبة! قال كلوديوس على حدة، ها هو يتشاطر عليّ هذا المصاب بالفُصام!
- لم أسمعك، هاملت أم هاملت أم هاملت؟ عاد هاملت إلى القول.
- أنت كل علاقاتي بك، يا ولدي، قال العم، وهو ينعم صوته بينا قلبه ينغل عليه.
- لماذا تريد اقتحام حياتي؟ صاح هاملت. أتسمع، يا أبي؟ أضاف مخاطبًا المسدس، لسماعك إياه، أخوك لا يراني كما كنتَ تراني، أخوك يراني كالمهماز في أقدام رعاة البقر رعاته، كالقَشَط على خصورهم، كالقبعة على رؤوسهم، كأمر يُنَفَّذ، كجريمة تُرتكب، جريمة تُرتكب غدرًا، تُرتكب غدرًا، يا أبي، كمهمة لا أحد يضمن نجاحها.
- ابن القحبة! همس كلوديوس على حدة قبل أن يرفع صوته، ستظل ولدنا الغالي على قلبنا، والذي لا نريد له سوى الخير، فلتنطلق، لا تحكم على نفسك بالسجن مدى الحياة في مملكة الحياة... ثم لنفسه: فلتنزل بك كارثة تحيلك إلى غبار!
- لن تقدم لي شيئًا آخر أفضل من العزلة، يا صاحب المقام الرفيع، همهم هاملت، فالعزلة نَفْثة من نَفَثات الصراع.
- ها هو هذا اللعين، ابن القحبة، يفهم التورية وما تعني من شرمطة، همس كلوديوس لنفسه، الصراع، يقول "الصراع"، سلوكي أسوأ سلوك نحو الهنود، نحو السود، نحو رعاة البقر، نحو البشر، نحو العالم.
- أُنَغِّصُ عيشك، كما أرى.
- روابطنا لا تنفصم عُراها.
- الفضل في ذلك يعود إلى مسدس أبي.
- أفضل ما يكون.
- مملكة الدانمرك ليست مُلكك، جهر هاملت بصوته، إنها مُلك هذا المسدس، وبما أن هذا المسدس ترك الدار تنعى من بناها، فقد اختار العزلة لي وله مملكةً.
نهض، وهو يقول:
- سأعود إلى مملكتي، هناك الكثير من الأشغال بانتظاري، وأهم الأشغال كيف أَحُول دون تسلل ضياء القمر إلى البيت الكبير، فالخطر، كل الخطر، أن نرى ما يجري فيه.
- انتظر، هاملت! أوقفه العم، وأمارات وجهه تنعم نعومة أمارات الوجه التي كانت لهاملت. مات أبوك، فانطفأت الشمس، وغدت النجوم دموع الكون. ضياء القمر أسود لحزنه على الشمس، وهذا النهار ما هو إلا لنرى حزننا. لم يكن لنا اثنان هانس، كان لنا هانس واحد، كان الشمس، كان شمسنا، فهل نرجو العيش دون شمسنا؟ هذه هي مملكة الدانمرك اليوم، دون شمس، وهي ستظل غائبة غياب هانس عنها. هذه هي مملكتي بعد موت أخي، مملكة دون ضياء، إلى الأبد دون ضياء. وأنا إذا ما استطعت أن أفعل شيئًا في مملكة الظلام، فلأنير بعضًا من ذكراه، لأن ذكراه مستقبلنا. إنها طريقتي التي أعبر فيها عن طاعتي له، طاعة كانت له في حياته، وستكون له في مماته، طاعتي وصدقي وإخلاصي. حرصي على حياتك هو طاعتي له، وعلى سعادة أمك هو طاعتي له، وعلى خير كل واحد منا هو طاعتي له، على حرية ساكرامنتو التي نحبها كلنا، على حقوق أهلها، على العدل ما بينهم، وإشباع حاجة كل واحد منهم، كل هذا طاعة له، فكن مثلي في طاعتي لأبيك. هذه هي مملكتك، طاعة أبيك، وهذه هي واجباتي، طاعة أبيك.
استمع هاملت إلى عمه، وهو يعطيه ظهره. عندما أنهى العم ما يود قوله، خرج هاملت بينا كلوديوس يحرّق أسنانه مرددًا:
- ابن القحبة! ابن القحبة! لن ينجح معي، لن يدفعني إلى قتله في سورة الغضب!

* * *

نظر رينالدو إلى بيرل، وهي تغسل شعرها الطويل، تأملها طويلاً، وهو يفكر في الليل الداجي، أسود من الثلج الليل الداجي، وأجمل من كل حقول القمح. قام إليها، فخافت من ضربه إياها، لكنها تفاجأت به يصب الماء لها. ابتسمت لكبير رعاة البقر، ولم تنتظر أن يبتسم لها. لم يكن رينالدو اللئيم، كان رينالدو السقيم، فللغراب سيف اسمه الهوى، وسيف الغراب من أجمل زهور كاليفورنيا. عاقبها كثيرًا رينالدو، لكنه أحبها كثيرًا، تمامًا كما يقول المثل: من أحب جيدًا عاقب جيدًا.
- لك شعر جميل، يا بيرل، همس رينالدو.
- لم أقطعه منذ مولدي سوى مرتين، همهمت بيرل، مرة حدادًا على أمي، ومرة حدادًا على أبي.
- كنتِ صغيرة.
- عندما ماتت أمي كان لي من العمر عشر سنين، وعندما مات أبي كان لي من العمر خمس عشرة سنة.
- والمرة الثالثة؟
- عندما تموت، يا رينالدو.
انفجرت بيرل ضاحكة، وبعد بعض قلق مبعثه التفكير في مصرعه، انفجر رينالدو ضاحكًا.
- عند موت الأم والأب والزوج، تقطع الواحدة منا شعرها حدادًا، أوضحت بيرل قبل أن تعود إلى الضحك.
- ولكني لست زوجك، نفى رينالدو.
- أنت زوجي وإن لم تكنه.
- تقبلين بزوج مثلي؟
- كلما زدتني ضربًا اطمأنت روحي إلى عدم تركك لي، إنها طريقتي في الاحتفاظ بك. إذا ما توقفت عن ضربي، أرغمتك على ذلك.
- ابتداء من اليوم، لن أرفع يدي عليك، يا بيرل.
- بلى!
- ابتداء من اليوم، سأحترمك كأي امرأة من عندنا.
- هل ستتركني إذن؟
- سأتزوج بك.
- ولكننا متزوجان.
- سأتزوج بك كما يتزوج المرء عندنا.
- رينالدو، توقف عن قول أي شيء كان.
- بيرل!
ضمها من ظهرها، وشمها من شعرها.
- سنتزوج، ونذهب بعيدًا من هنا.
- ولكني أنا سعيدة هنا.
- هنا سأضربك لأني في أعين صحبي عليّ أن أضربك، إنها الطريقة نفسها عندما يُطلب مني أن أقتل، لكن القتلى لا يحبون، وإلا وقعوا كلهم في غرامي. لا أنا أحبهم، ولا هم يحبونني، فقط أحب مسدسي، ومسدسي يحبني، لولا حبي لمسدسي وحب مسدسي لي لكان موتي منذ وقت طويل. أقتل ليس تنفيذًا لأمر، أقتل لأني أقتل. هذا أنا. أن أكون رئيسًا لرعاة البقر هذا شيء كثير أفهم معك أنه لا شيء، ذهب شعوري بالتباهي معك، يا بيرل، أرهقني شعوري بالتباهي، وأرهقني ضربك، أريد أن أريحك وأرتاح.
- لن تحبني إذن.
- سأحبك كما يحب المرء عندنا.
- وهل تنسى من أنا؟
- لهذا السبب.
- لهذا السبب؟
- لهذا السبب سأحبك كما يحب المرء عندنا.
- وأنا سأحبك كما يحب المرء عندنا.
- هكذا سيحب الواحد الآخر مرتين.
كانت يداه تعرفان الطريق جيدًا إلى نهديها، وإلى بطنها، وإلى فخذيها، بينما بيرل تضحك في البداية، وتكركر في النهاية، وليوقفها، يأخذ بضربها. بكت بيرل من الوجع، وبكى رينالدو لبكائها.
- هكذا سيكره الواحد الآخر مرتين، همهم راعي البقر.
- في حديقة العمر، همهمت بيرل، هناك الزهور التي نكره وهناك الزهور التي نحب، وهي من التشابه لدرجة نعجز فيها عن التفريق ما بينها.
- كالأحصنة التي خبرتها جميعًا.
- لهذا أصبحتَ راعي بقر.
- مجرمًا دون أن أكونه.
- وعاشقًا دون أن تكونه.
- ووجودًا دون أن أكونه.
وبعد بعض قلق مبعثه التفكير في وجوده:
- اختارت الحياة عني، فقبلت اختيارها. كنت مضطرًا. في حديقة العمر نكره هذه الزهرة أو نحب هذه الزهرة، لأنها قبلت أن تكون موضوعًا للحب أو للكره. لم يكن جوهرها، وصارته. بين النضارة والذبول حياتها الموجزة، كل شيء محدد منذ البداية، ليست القدرية، إنها الكُنهية، هكذا تُصنع نفسُها، هكذا تَصنع نفسَها.
- وبعد ذلك نموت.
- وبعد ذلك نعيش.
- نموت قليلاً قليلاً إلى أن نموت، هذا هو عيشنا، فكيف نموت؟ كل واحد يموت على هواه.
- كل واحد يعيش على هواه.
- يعيش موته.
- أنا مثلاً بإتقاني إطلاق الرصاص، لئلا أُقْتَلَ، أَقْتُلُ من يريد قتلي.
- ومن لا يريد قتلك.
- بعد ذلك يغدو القتل مهنتي، لهذا. القتل مهنة، كالزراعة مهنة، وتنظيف المخرآت. كل واحد منا جلاد على طريقته.
- ضحية تريد القول.
- نحن في عصر الضحية فيه جلادة، لا ضحية هناك في عصرنا، نحن جلادون ما بيننا، يا حبيبتي. لكل واحد منا دورٌ دمويٌّ يلعبه، هذا كل ما هنالك. شرطنا لم يعد ابنًا للصدفة، فعن أية صدفة تريدينني أن أتكلم؟ الظلم أمرنا، فلا عدل هناك. السيطرة أمرنا، فلا حرية هناك. الدونية أمرنا، فلا رِفعة هناك. الهزلي أمرنا، فلا فاجعي هناك. الغائطي أمرنا، فلا ملائكي هناك. الماخوري أمرنا، فلا حَيَيٌّ هناك. لا أحد أحسن من أحد. الكل سواسية. لا منفى هناك، لا تيه، لا بحث عن شيء مفقود. أنجزنا كل شيء، وما نفعله أن نعيد إنجاز حياتنا بطريقة أخرى. على كل شيء أن يكون على أكمل وجه، القتل كالبناء، على كل شيء أن يكون. بأمر. كل شيء يكون بأمر جلاد على جلاد. لا أحد يقدس أحدًا، عادي كل هذا.
- كل هذه الدموع، وتقول "عادي".
- كل هذه الدموع دموع الجلادين، فالجلادون كذلك يحسنون البكاء، كالأطفال يحسنون البكاء، ودموعهم لسخونتها تحرق.
بكى، وهو يشدها بقوة، ويهمس:
- ما يفرق بينهم الكلام، خاصة عندما يجدون أنفسهم مضطرين إلى القول، كالاعتذار مثلاً، وهم في هذا أيضًا يحسنون التصرف.
- الاعتذار؟
- ليس باستطاعتي الاعتذار لك، يا بيرل.
- لا تعتذر، يا رينالدو، لم أطلب منك ذلك.
- أقبل أن أكون حذاء لك، لكني لن أعتذر.
- قلت لك ألا تعتذر، لست بحاجة إلى اعتذارك.
- طيب، قال، وهو ينهض. يجب أن أذهب.
- إلى أين؟
- طلب بولونيوس مني أن أصفي كل الهنود الذين رفضوا الذهاب إلى نيفادا.
- أنت لن تقتلهم، يا رينالدو، أنت لن تقتل أهلي.
- بلى.
وبعد بعض قلق مبعثه التفكير في قتلاه:
- لن أعتذر إلى أن أعتذر لك ذات يوم. متى؟ لست أدري.
تركها تغرق في بحر من المنغصات، فانفجرت بيرل باكية. لم يكفها ما سكبته من أنهار، فضربت نفسها ضربًا مُبَرِّحًا، وفحت فحيحًا مُجَرِّحًا. كقبيلة من الأفاعي فحت، كأمة من الزواحف ضربت. كان الفحيح طريقتها في النواح على أهلها، والضرب في التعبير عن حبها لهم. كانت ترسل لسانها بسرعة وتبلعه، وتزلق بجسدها من بين يديها.

* * *

ردت صاحبة المقام الرفيع جيرترود على زوجها، وهي تتزوق أمام المرآة شبه عارية، وبسمة مُلَوِّحة على شفتيها:
- هذا يشغل البال كثيرًا!
- عليّ؟
- هاملت لا يعرف الكره، وإذا عرف، فهو لا يعرف كيف، إنه كأبيه، وقليلاً كأمه.
- ابنك يكرهني إلى درجة أنه يفكر في قتلي، ألقى صاحب المقام الرفيع كلوديوس كييركغارد دونما حاجة إلى حرف توكيد.
- لا بد أنك تتهكم، وبشكل مباشر يجعلني تهكمك في حيرة من أمري. التهكم ليس من طبيعتك، من طبيعتك كل شيء، التلاعب، التآمر، التخاتل، إلا التهكم.
- لا شيء يدعو إلى التهكم، فليس هذا ما أفكر فيه، هذا ما أعتقده، وأنا لهذا...
فتح حُجَيْرة مسدسه، وراح يفحص الطلقات.
- إنها المرة الألف التي تعد فيها طلقات مسدسك.
- خلال حياته، كان هانس يريد أن يعطيني كل ما لديه، ألعابه، أحصنته، نساءه، وكنت أرفض. لن أعطي شيئًا لهاملت، لا الألعاب، ولا الأحصنة، ولا النساء، وسيأخذ بالقوة كل شيء.
- هانس أعطاني كل شيء، كل شيء، ولم يترك شيئًا ناقصًا لدي، لم يترك في عالمي فراغًا يطل منه عليّ، وكذلك فعل مع هاملت. أنا قبلت شرطي، وهاملت لم يقبل شرطه.
- هانس جعل من هاملت شخصًا آخر على غير صورته، على غير صورتنا، جعل منه ما نرفضه، ما نخشاه.
- ما نخشاه لا، ما نرفضه نعم، ولدي المسكين، فَرَفَضَنا جميعًا.
- اذهب مع عمك، كان هانس يرجو هاملت، اذهب معه، أنا لا وقت لديّ. سيأخذك إلى المدينة، وسيشتري لك كل ما تريد. ستشتري كل ما يريد هاملت، يا كلوديوس، القبعة، الجزمة، الجينز، الجلد، الصُّدْرَة، المسدس، كل ما لراعي البقر. إنه لا يريد أن يسمع بكل هذا، أَتَدَخَّلُ. ليس من طبعه أن يكون راعي بقر، واستعمال المسدس عنده سواء. أليس كذلك، يا هاملت؟
- إذن مم أنت خائف؟
- لا أريد أن أذهب معك، هذا كل ما هنالك، يجيب ابنك. لماذا؟ يصيح هانس، كلوديوس عمك، وهو أكثر من يُعنى بك، ويلبي طلباتك. هل تسمعني، يا بني؟ أسمعك، يا أبي. إذن لماذا؟ لأني ما أحببت كلوديوس يومًا. وأنا لهذا في قلق دائم، اعترف كلوديوس.
- كل هذا لا يدفع إلى الاهتمام باهتمامك، وإنما بما تنوي القيام به، تمامًا كالضِبْعان، الضِبْعان الجائع كالشبعان، فهو لا يكتفي بما لديه، وهو على استعداد ليلحق الضرر حتى ببنيه، فلا أريدك أن تلحق بابني أي ضرر، هاملت ابنك، وكل هذا تصرفات صبيانية لا غير، فلا ينزل الكبير الذي هو أنت إلى مستوى الصغير، والحالة هذه هاملت. هاملت ينقصه النضج، طائش، متهور، لم يكن أبدًا في بيئته، وهو ما يقول أو يوحي لا يتجاوز حد الاستفزاز.
- الاستفزاز! تقولين الاستفزاز، وقد جعل من مسدس أبيه لسان حاله؟ يا للخزي!
- ليس إلى درجة تنفيذ ما يدعي.
- في حالته، الشر حقيقي على نحو موضوعي.
- أنا أعتقد بعجزه.
- أنا أعتقد بجنونه، وعمر المجنون ما كان عاجزًا. هل مجانين الذهب عندنا يعجزون عن الوقوع عليه؟
- ولكنه لا يبحث عن أقل ذهب! لديه عمه الثريّ!
- هل مجانين المجد يعجزون عن الصعود إلى قمم الجبال؟
- ولكنه لا يبحث عن أقل مجد! لديه عمه الوحدويّ!
- هل مجانين الحب يعجزون عن تنفيذ ما يرغبون في سبيل من يحبون؟
- ولكنه لا يحب أي واحد! لديه عمه المغرم بي!
- يحب أباه!
- ولكنه لا يحب أمه!
- يحب أباه! يحب أباه! يحب قبعة أبيه، يحب مسدسه، يحب جزمته! يحب الغبار الذي تثيره حوافر حصانه، يحب ظلاله التي تنحني عند عبوره، يحب أشباحه التي تسهر على حياته! أنت لم تحبي هانس، وأحببتني، فهل تكونين غير مستعدة لفعل كل شيء من أجل الاحتفاظ بي؟
- أحببت هانس وأحببتك، يا كلوديوس، اعتبرت هذا حظًا من حظوظ امرأة توفرت كل فرص الحب لها على عكس معظم النساء في الفار ويست، ولكن ما شأن هذا بهاملت؟ الحب، المجد، الذهب؟
- الانتقام! الانتقام لأبيه أقوى لديه من كل الحب، من كل الكره، من كل ذهب العالم.
- ولكنك لست قاتل أبيه!
- لديه هذا الاعتقاد، فكيف أمنعه؟
- ولكنك لن تمنعه بمسدس!
- إذا اضطرني الأمر، فلن أتردد لحظة واحدة، وما أسهل بلوغ ذلك.
لم تُحِرْ جيرترود جوابًا، لم تَحَرْ في أمرها، لم تمنع نفسها عن أخذ يد زوجها، لم تمتنع عن دفع مسدسه في ثديها.
- إذا ما عزمت على قتل ابني، يا كلوديوس، اقتلني أولاً، طلبت جيرترود بنبرة عازمة. هل تسمعني؟ سمعتني جيدًا. أنا لن أسمح لك. إذا كان قرارك قد اتُّخذ، اقتلني في الحال. ضع إصبعك على الزناد، واضغط. أُعطي لسلاحك الثدي الذي تحب عضه لتغير منه، فاضغط، اضغط في الحال.
سالت دمعة على خدها، فسارع كلوديوس إلى لعقها.
- جيرترود! كشف الزوج عن اضطرابه، وهو يشدها بقوة بين ذراعيه.
- ستكون نهايتي، همست الزوجة، وهي تبعده عنها.
- أنا...
- أنت لن تقتل هاملت.
- أنا لن أقتل هاملت.
وبعد برهة من الصمت:
- البحرُ يَجْزُرُ! أفعالي أفعال من بَلا الحياة وجربها، لكني أبدًا لن أترك بنات الصدر لبنات النار!

* * *

نظر هاملت من النافذة، فرأى الشبح راكبًا الزين، ظهره إلى رأسه ووجهه إلى كَفَلَيْه، وهو يرخى العِنان على رقبته. كان الليل يخفي بالويل الوجود، ولا قدم تجول في مربى الماشية، ولا ذراع تطول. "تعال!" قال الشبح لهاملت بإشارة من يده، فذهب هاملت، وهو يقول موبخًا:
- هل جُننت؟ ماذا لو رآك أحد؟
- كلفني أبوك برسالة هامة أقولها لك، أوضح الشبح، فاصعد.
- لن أذهب معك أبعد من المَضْرَب.
- فليكن، اصعد.
صعد هاملت كالشبح ظهره إلى رأس الحصان ووجهه إلى كَفَلَيْه، وساق ابن العفاريت الزين دون أن يستدير.
- هذا ما لا يفعله غير شبح، إني آمنت بك.
- الحمد للشيطان أني جعلتك تطمئن إليّ.
- كنتَ إذن تشك في ذلك.
- في لقائنا السابق لم أكن واثقًا من إقناعك.
- كن واثقًا، وأفرغ ما في جعبتك.
- بما أنك على عجلة من أمرك، دعني أصل بهذه الدابة إلى المَضْرَب بثوان.
مَرَّ كأنَّهُ ظِلُّ ذِئْبٍ، فوجد هاملت نفسه مُلقى على كوم من التبن. ما أن رفع رأسه، حتى رأى الشبح يقف بطوله من أمامه، والزين في إحدى الزوايا، وهو يرعى.
- هيا، لِد! أمر هاملت شبح أبيه.
- لن أقول كلامًا ملتبسًا.
- تكلم بوضوح قاس، هيا!
- باختصار، يريد منك أبوك ألا تنتقم له من أخيه، ألا تنتقم له من أمك، ألا تنتقم له من أهل ساكرامنتو اللعينين، الأمور دومًا الأمور مذ كانت الأمور، وكل ما جرى لن يغير منها أي شيء.
- إنه لمن المحال!
- ماذا؟
- ألا أنتقم لأبي، فالقاتل يُقتل، إنه قانون الإنسان مذ كان الإنسان.
- ولكنه ضد قانون كهذا، بعد أن فكر في مصرعه، ووجد أن أخاه حسنًا فعل، لأنه لم يفعل ما فعل إلا من أجل أن يقدم موته، وهو في موته هنيء البال، لم يشعر في حياته بهناء البال كما يشعر.
- هذا شأنه أن يشعر بما يشعر، وهذا شأني أن أشعر بما أشعر. قل للعظيم هانس، في حياته كان مسألته، وفي مماته غدا مسألتنا. الآن، الوداع! إلى جهنم، رؤيا!
- المسيح غفر لمعذبيه.
- هانس ليس المسيح.
- وجعل لهم مكانًا إلى جانبه...
- في الجحيم.
- على الأرض.
- لأن المسيح عاد!
- لم أقل بعد كل ما عندي.
- قل، عجل!
- تعرّف أبوك على شيطانة أجمل من أمك، وأسخن، وأخلص، وأن يجد واحدة كهذه في عالم أقحب هو عالم الأبالسة، اعتبر نفسه محظوظًا، وهان فعل جيرترود عليه عندما أحبت أخاه وعندما تزوجته.
- لأجل ضياع الذاكرة.
- لأجل ألا تكون أمك مسألته في مماته.
- أمي ستكون مسألتي في حياتي.
- لأنها أمك.
- لأنها امرأة.
- إلى متى؟
- إلى أن أنتقم لأبي.
- ولكن... ماذا قلت لك؟
- لن أفعل إلا ما سأفعل.
- والعفن في الدانمرك، هل سيتغير؟
- العفن ليس مسألتي.
- أنا لا أحب الكلمات الضخمة.
- الجسيمة.
- الضخمة.
- إذن ماذا؟
- شبح أبيك ضد أبيك.
- حلوة هذه.
- ولكن بمقابل.
- الليلة ظلماء.
- تعال! أغمض عينيك!
أغمضَ عينيه.
- افتح عينيك.
فتحَ عينيه.
إذا به في جناح أمه، جناح من جهنم، تعانق الشيطان، وتحاول أن تُدْخِلَ قرنيه فيها، وهي تصرخ صراخ الشريرين.
- هذه هي أمك التي ستكون في حياتك مسألتك، أقولُ فيها غيرَ حكمي على الناسِ بظاهِرِهِم، فماذا تقول؟
- أقول ما تقول.
- ماذا تقول؟
- ابن أبي يقول ما يقول شبح أبي ضد أمي.
- أكملتُ رسالتي، خَتَمَ التجلي.
وأراد الذهاب.
- هيه!
- ماذا؟
- عندما تُكْمِلُ رسالتها كما أكملتَ، قال بمظهر حزين مشيرًا إلى أمه، وهي تواصل النكاح مع الشيطان، سأطلب منها أن أكون، أنا، مسألتها في مماتها.
لم يقل الشبح لا، لم يقل نعم.
- السكوت علامة الرضى.
- وَسِرُّ ما حدث؟
لم ينتظر الشبح الجواب، اخترق الجدار، واختفى.
- أمي كأبي كان كل منهما يبحث عن شيطانه، استغرق هاملت في أفكاره بصوت عال دون أن يسمعه أحد، كانت تلك رغبتهما، رغبة الرغبات، ولم يكونا يعلمان أن للرغبة رسائل تُكْمَل.

* * *

كان قطيع البقر المقدس ينبثق انبثاق الأصابع من بطن الأرض دون أن يُعرف له أول من آخر، على مد النظر كان: ألفا بقرة، ثلاثة آلاف، أربعة، خمسة. وكان العشرات من رعاة البقر الذين على رأسهم رينالدو، اليد اليمنى لبولونيوس، يقودون القطيع كشعب من الشعوب، وهم لا يترددون لحظة واحدة عن ضربه بسياطهم إذا ما عنّ له أن يأخذ طريقًا أخرى غير تلك التي رسموها. كانوا يقمعون كل نزوة، وينهون كل دافع. لم يكونوا يخضعون للعواطف، كانوا عواطفهم القاسية قسوة الحديد الصُّلب على الحديد الصُّلب، وذواتهم المغتربة اغتراب العلة عن المعلول، يتعاونون فيما بينهم تعاون الضرير مع الضرير. هكذا تجري الأمور من داخل الصيرورة، هكذا تُفهم الأمور من خارج الطبيعة. كل الذاتية المحاصرة للعقلانية كانوا، وكل الفردية المخضعة للكل، وكل الصدق الأخلاقي أمام الكذب الديني، كل البحث عن الحقيقة و (أمام) كل هذه الحقيقة، كل هذه الكتل المتحركة، كل هذه الأكفال الضخمة، كل هذه الأظلاف الدقيقة، كل هذه العزيمة المفرطة، المحبطة، المكرسة لاستهلاك العزيمة، كل هذا الجُؤار، كل هذا الخُوار، كل هذا العجيج، كل هذا الهدير، وكأن القطيع يأتي بالرعد على ظهره الأملس من الحرير، كل هذا الوحش النائم في حضن الفلسفة، كل هذا التناول للقربان المقدس في خراء النظرية، كل هذه التعاسة القادمة كالسابقة في ماخور الحياة.
كانت كاليفورنيا الدولة الوحيدة التي لم تعرف الحرب الأهلية على الرغم من أنها عَتْقِيّة، مع تحرير السود، ولهذا كان لكاليفورنيا سحر التمييز من غير التمييز، مما أثار غيرة الانفصاليين وحقدهم، فاتخذوا القرار بجذبها إلى اللظى. من فوق المرتفعات، أرسلوا قذائف مدافعهم إلى نواحي عديدة من فضاءات القطيع، ليوجعوه، ويذهلوه، وينقلوه رغم إرادته من إرادة غيرهم إلى إرادة الاقتتال. كان ذلك أشبه بإرادة وعي الضمير، فاندفعت جحافل البقر المقدس في كل الأنحاء، بجنون وعيها، لتدمر القائم والقاعد. ورينالدو يرى كل هذا الحيوان الهائل المتحرك تحرك الأرض نفسها بآلاف الرؤوس والأجساد والأقدام تساءل عن كونه إنسانًا، فانتهى تسلطه، جبروته، عُنْجُهيّته، وعرف جَرُوحِيَّته، بدلاً من أن يكون القطيع تحت رحمته، كان تحت رحمة القطيع. كانت تلك ميتافيزيقيا خلع نير العبودية في أجمل صورها: دَعْسُ البقر المقدس لنفسه تحت ظِلْفِهِ، ونَطْحُهُ للصخور، وسُقُوطُهُ من الروابي، وسَحْقُهُ لصغاره، ليس لأن الموت نصيب الإنسان والحيوان المشترك، وليس لأن هذه هي سُنّة الحياة، لأن الحياة نصيب الإنسان والحيوان المشترك، ولأن هذه هي سُنّة الموت، فمن الواجب أن تدفع للطبيعة ما يعود إليها... واجتياحُهُ لمدنِ صفيحِ المنقضينَ على الذهب، واختراقُهُ للشارع العام محطمًا هادمًا محتضنًا بحنان كل هؤلاء الهنود المُغَرَّبين السلبيين حتى أمام موتهم، وذهابُهُ كالزلزال من مكان إلى مكان دون أن يدري الذهاب إلى أي مكان.
بعد طول عناء وكبير جهد، تمكن رينالدو وبعض رعاة بقر لم يموتوا من جمع بضع مئات من البقر المقدس، والذهاب بها إلى السنيّ كلوديوس كييركغارد، وهي في أتعس حالاتها، فخرج كل من في مرعى الماشية لاستقبالها، سود وبيض، طيور وأحصنة، قطط وكلاب، نحل ونمل، ماء ورمل، حُلم وهَوم، والدموع تسيل من أعين لم تعرف إلا اليوم أن للملح اسمًا آخر غير البحر. انهار تاج محل، وتطايرت البقرات في الهواء، الأفيال، القرود، النمور، تطايرت الدراجات مع سائقيها، الراقصات، تساقطت أجسادهن قطعًا راحت ترقص منفصلة، تطايرت الأشجار، الأطفال، تسولت أياديهم، حششت أفواههم، غنت أوساطهم، تطايرت الجثث، وغطست في الغانج، اغتسلت أعضاؤها، كل عضو اغتسل على حدة، ورمت بنفسها عضوًا عضوًا في نار الخلود الهنديّ.
مسح رينالدو الدمع السائب على خد بيرل، وأمرها:
- لا تبكي، وإلا أشبعتك ضربًا.
ابتسمت بيرل، وهمست:
- لم تزل تحبني، يا رينالدو.
- أريد أن أحبك كما يحب المرء عندنا.
- ومتى سنذهب من هنا؟
- عند أول مناسبة.
- هذا الجواب لا يكف عن إدهاشي.
- دعيني وشأني.
- أنت لن تهرب كالقُواع البريّ.
- سأتكلم في الأمر مع معلمي بولونيوس.
- لكنه لن يقبل.
- سأرى كيف أقنعه.
- سنذهب إلى عاصمة الفردوس المفقود.
- إلى الجحيم، يا بيرل؟ وهل من جحيم أكثر من هذا الذي نحن فيه؟
- لنا نحن الهنود، في مقر الأرواح الشريرة أكثر ما يعيش المرء بهناء.
- فكرة غير مألوفة.
- سنكون نحن الخير هناك.
- سواء هذا لديّ.
- الجحيم أمري.
- ستخسرين في هذا الأمر.
- سأخسر.
- إذن؟
- دومًا ما أخسر.
- ومقر أرواحك الشريرة؟
- لهذا.
- دعينا نفكر في الأمر فيما بعد.
- أعرف أنك تعب جدًا.
- سأظفر بالراحة.
- برُضابي.
- إذا كان رضابك الجحيم.
- لكل واحد طريقته في اجتياح قلب الآخر.
خلعت أسماله وأسمالها، ومن القمر، نظر إليهما الشياطين والملائكة، والغيرة في أعينهم غير الغيرة. أرادت بيرل أن تسقي رينالدو بول الملائكة، وأن تطعمه غائط الشياطين، كانت طريقتها في التعبير عن عواطفها. جلدته بلسانها، بهمسها، بنداوتها. رفعت أرواح قتلاه في قبضتها إلى أعلى ما يكون، وساطته بأقصى قوة، فصرخ من التلذذ. استبدلت الأرواح بالأساطير، وساطته بأقصى قوة، فصرخ من التمتع. جاءت بكل تاريخ الهنود الحمر، وألقته بين فخذيه، فانتصب كله واقفًا كالمدافع في المعارك التي انهزموا فيها. سكبت كوابيسهم على صدره، فأمسك بأصابعها، وكأنه يمسك بحبله السُّرّيّ. أعطته من فمها لفمه يg.أسهم، قرفهم، قُنوطهم، غمهم، همهم، همومهم، أوهامهم، رذائلهم، نقائصهم، فضائحهم، وقائعهم، عُقَدَهُم، إساءاتهم، شرورهم، شذوذهم الخَلْقيّ والجنسيّ، فخال نفسه في ماخورِ عبادة. انقضت في فمه، وقضمت لسانه، فعاد يصرخ، ويتلوى، ويتوسل، ويستغيث من بيرل ببيرل. كان لا بد من الإجهاز عليه عشقًا وحبًا وغرامًا، ثواني قبل أن يمتطي فرس الشبق، فجاءت بكل رموزهم الدميمة، جلادة العواطف، تلك التي يفزع الحيوان منها قبل الإنسان، فتكون لنهايات الأشياء إشارات أبدية.

* * *

أورق الليل بالنجوم، لم يكن يريد الحزن على ما جرى في النهار. في الظلال الوارفة للبقر المقدس، جثم هاملت، وهو يغمض عينيه، ويصلي.
- ماما، توجه هاملت بالكلام إلى بقرة مقدسة، من فضلك، لا تتركيني!
- تعال، هاملت، طلبت أوفيليا، وهي تجيء من ورائه، سأعود بك إلى البيت الكبير.
- ماما، ماما! ردد هاملت خائفًا.
- لا تخف، همست أوفيليا، وهي تضمه.
- أوفيليا، أمي لا تريدني، بكى هاملت، ماذا سأفعل، وأمي تريد تركي وحيدًا؟
- السماء مرصعة بالنجوم.
- أمي، أوفيليا، لن تتردد عن قتلي.
- المساء جميل في مملكة الدانمرك.
- ماذا فعلت لها كي تتركني وحيدًا؟ كي لا تتردد عن قتلي؟
- الليل لا تلوثه النجوم.
- أوفيليا، ماذا أفعل؟
- لماذا لا تحبني بالقدر الذي تحب فيه أمك؟
- ماذا أفعل، يا أوفيليا؟ ماذا أفعل؟
- لماذا؟
- ماذا أفعل؟
- لن أكون شِكالَكَ.
نهض، وراح يضم البقرة المقدسة من مَجَسَّة العجزين، ويردد:
- ماما، من فضلك، من فضلك، لا تتركيني، لا تقتليني!
- لم أعرف أمي، همهمت أوفيليا، وعرفت النجوم، نجوم ساكرامنتو لا تعرف الكذب كالأمهات.
- هل تكذب أمي؟
- تكذب.
- لن تتركني أمي؟ لن تقتلني؟
- لن تتركك، لن تقتلك.
أخذ هاملت يقهقه، قبّل البقرة المقدسة، وقال لها:
- سأكون نجلاً صالحًا.
راح يرقص رقص الهنود، ويغنى غناءهم:

"يا أنتم جميعًا! أهل السماء والهواء والأرض
اسمعوني!
حياة جديدة ما بينكم
أتضرع إليكم أن تقبلوها!
اجعلوا لها الطريق أكثر ليونة
وستذهب إلى ما وراء الروابي الأربع"

- سأكون نجلاً صالحًا، عاد يقول.
- أنا لا، قالت أوفيليا. لن أكون نجلة صالحة، أو زوجة صالحة، أو عاهرة صالحة، أو غيره، سأكون ما أنا عليه، ملوثة.
- هل جئتِني من أجل هذا؟
- جئتك من أجل هذا، فأنا لست النهار، وأنت لست الشموس.
- هل سمعتِ، يا أمي؟ خاطب هاملت البقرة المقدسة التي ند عنها خوار يعني أنها سمعت. أوفيليا جاءتني من أجل أن ألوثها، أجمل شيء في الوجود! من أجل أن تفتح بين فخذيها، وأدغدغها، لأنها لم تعد تعرف الضحك. هذا هو بحثها الوجودي، الضحك. هناك من يبحث عن سد الرمق، وهناك من يبحث عن الثروة، وهناك من يبحث عن التملك، وهناك من يبحث عن التسلط، وهناك من يبحث عن التأله، وهناك من يبحث عن فراش ناعم ينام فيه، عن النعومة في وضع خشن، الراحة والظفر بحلم، وهي تبحث عن الضحك، عن الدغدغة من بين فخذيها. أنا طبيعتها المحتقَرة! الآمرة إياها بدغدغتها من بين فخذيها! كالزنوج أنا، كالهيمنة، كإعلاء الذات! أنا الضحك المحتقَن، المنضغط، الملعونة أمه، المغدور أبوه، المجنون، المنيوك، المتفجر بخراء الإنسانية.
انفجر هاملت يضحك، بهستيرية يضحك، فخافت البقرة المقدسة، وتراجعت لتخبئ قامتها الضخمة بين باقي القامات الضخمة.
- هاملت، اخرس! نبرت أوفيليا، لقد أخفت البقر المقدس!
- ماما! صاح هاملت بالبقرة المقدسة، لا تتركيني، اقتليني، ولا تتركيني!
- هاملت، هذا شيء فظيع!
- منتهى الشر!
عاد هاملت يبكي، فضمته أوفيليا من جديد، وهدهدته، إلى أن سكت تمامًا.
- إني دون أمل، همهمت أوفيليا، كلي لك، فاعبث بي عبثك بكلبة، ألق كل شجنك عليّ، كل ألمك، كل أملك الكاذب. اجعل مني ماخورًا، يا ماخور الخراء! تعال أجذبك بمخالبي، مخالب الشياطين، لأني ابنتهم في ثوبي البريء، ثوبي العربيد الذي لا تراه العين، فالعين عمياء، سملتها دماثة أخلاقي، ابنة القحبة أخلاقي! أنا أوفيليا فخذك وقضيبك وشرفك الذي بلا شرف، جهنم ها هنا على بعد عناق، فخذني عارًا على عار، واجعل مني علمًا ترفعه إلى جانب علم جيرترود، ماماك! ماما! لا تتركيني، اقتليني، ولا تتركيني! هاملت، أنا لن أتركك! لم أُنْهِ بعد ما بدأناه، يا حبيبي! لا تخش شيئًا، سأترفق بك، يا حبيبي! سأكون دومًا هنا ما أجلك، يا حبيبي! ماما، إنه ذنبي! لا تقل هذا، يا هاملت! ليس ذنبك، وليس ذنب أحد! ماما، إنه ذنبي، إنه ذنبي، وأنا لا أقدر على فعل شيء! ليس ذنبك، قلت لك، وأنا لا أريد شيئًا، لا أريد أن تلقي بنفسك في الهاوية بأمر ذنب لم ترتكبه ولم يرتكبه أحد! بل ذنبي، ذنبي، إنه ذنبي! سأحبكِ أكثر، يا ماما، سأعطف عليكِ أكثر، لن أترك أحدًا يعبث بكِ ككلبة، لن أجعل منكِ عاري، لن أرفعكِ علمًا في مملكة الدانمرك، أوه! ماما!
استلقت أوفيليا في الروث، وفتحت بين فخذيها في استسلام وثقة، وهي ترجوه: "من فضلك!"، فنظر هاملت إلى الآلهة كيف تقيم العدل والظلم في محرابها، وبقي هكذا لحظاتٍ قليلةً كانت بعمر الإنسانية.
- هاملت! نادته أوفيليا، والصَّرْعُ يكاد يصيبها، كل هذا الدون الأمل الذي هو أنا، وتتركني للاإبداع! الإنسان سر عجيب قلبه!
تلوت كي تستثير رغبته، فاستثارت رغبتها. كان عليه أن يتخبأ في قرارة ضميره، فسار كالعازم المصمم على اقترافه لجريمته قبل اقتراف أمه لجريمتها. اخترق الأكواخ القذرة التي ينام فيها سود مرعى الماشية، فوجدهم يتسلون بلعبة الأقنعة.
- هذا الدواء، يا مولاي، أنجع دواء، قال قناع الثعلب لقناع الأسد، قطرة واحدة في كل أذن، تعيد لك السمع كما كان لك السمع وأنت في زهرة الشباب.
- ها أنا أعطيك أذني اليمنى، فدللها يتدلل لك العمر، قال قناع الأسد لقناع الثعلب.
- أروع آيات الحكمة.
- وها أنا أعطيك أذني اليسرى، فافعل فيها كما فعلت في أختها، كيلا تغير أختها.
- رجل شجاع هو هذا.
بعد عدة ثوان، سقط قناع الأسد ميتًا، فدخل قناع الطاووس، وَقَبَّلَ قناع الثعلب.
- ماذا سنفعل بمن بقي من أصحابنا؟ سأل قناع الطاووس قناع الثعلب.
- سهل ما سنفعل، أجاب قناع الثعلب، قطرة واحدة من هذا السم في كأس ماء، يشربه أصحابنا ليصبحوا أعداءنا.
دخل قناعان لقيّوط يهدد بالمسدس كل منهما الآخر، ولم يلبث أن قتل الواحد الآخر.
- هذا السم هو الخاسر، قال قناع الثعلب، وهو يضع قطرة في كأس ماء، ويضع كأس الماء جانبًا.
- مزاح هو هذا، فانظر من القادم.
جاء قناع طاووس أصغر حجمًا من الأول، وأطلق الرصاص على قناع الثعلب، فسقط قناع الثعلب ميتًا. من المفاجأة والخوف، أفرغ قناع الطاووس كبير الحجم كأس الماء السام في جوفه، وفي الحال سقط ميتًا. أمام كل هذه الموتى من الأقنعة، حط قناع الطاووس صغير الحجم رأس المسدس في رأسه، وقتل نفسه.
دخل هاملت على هوراتيو، ففتح هوراتيو عينيه أول ما أحس بأنفاسه تلفح له الوجه، وكشف الغطاء عن جسده الأبنوسيّ الساطع كنصل الموت الحارق كلهب الحياة.
- نعم، يا سيدي وصديقي، همهم هوراتيو، المسيح أسود، المسيح عارٍ، المسيح ذراعان حارّتان، فمن غير الطبيعي أن يتركه معذبوه يغطي عورته، إنه خيال الرجل الأبيض الكلبيّ.
- بئس الخيال، همهم هاملت، عقيم أو أحمق.
- ليس ثمة ما يبرر هذا التدبير.
- ادعاء الحشمة.
- لم تُظهر بعد كل ما في قدرتك.
- ارتداء الفضيلة.
- كلام فارغ.
- اكتراء المديح.
- تورية.
- ظاهر كاذب.
- ظاهر حقيقة كاذبة.
- لأجل مكان فوق لا يرى الرجل الأبيض فيه عورته.
- العورة قضية.
- قضية القضايا.
- الوجود.
- أمس كانوا يغطون عوراتهم بالقضايا الكبرى واليوم يكتبهم المقدسة.
انحنى الله بين يدي ابن العظيم هانس، فأخذ يخلع ثيابه، وهوراتيو يقوم، ويدور حواليه راقصًا رقص الغاب. كان يزمجر زمجرة الفهد، ويفتح فمه إلى أقصاه محاولاً وضع رأس هاملت بين فكيه. عاريًا مثله تمامًا، أخذ هاملت يرقص مع صديقه الأسود، ويفعل ما يفعل، يفتح فمه إلى أقصاه، ويحاول وضع رأس هوراتيو بين فكيه. دخلا بعد ذلك الفراش تحت نظر أوفيليا، وهي تخفي نفسها بين أسداف السعير، وتذرف الدموع الحرّى. كانت تحس بنصل الموت في قلبها باردًا برودة فصل الحياة في ألاسكا، وبلهب الحياة في ظلها ساخنًا سخونة فصل الموت في النيفادا. هل الحب هو كل هذا العناق بين الفصول أم أنه انتهاء الفصول في العدم، عدمنا؟ دخلت أوفيليا في نفق ما بعد الموت، ما بعد الحياة، فالموت والحياة عندما تسيطر الرغبة علينا شيء واحد، وقالت لنفسها: كم هو الظلام دامس! كانت لا ترى شيئًا، لا تدرك شيئًا، لا تقرأ على الصفحة السوداء لا المذاهب ولا الفلسفات، وكانت ترى في الظلام تعاستها، وتدرك سلطة هذه التعاسة عليها، وتقرأ على الصفحة البيضاء كلام ثديها وبطنها وفرجها. لهذا كان هوراتيو عدوها، للونه كان عدوها، وغدا الجنوبيون قضيتها، التمييز، العنصرية، بساتين البرتقال المر. وماذا لو كان لائِرتس؟ سيكون لها نفس الموقف، فاغتصاب الحب يبدل لون الجلد. ستنظر في المرآة إلى صورتها، وتجد أنها بيضاء كأخيها، لكنها سترى لونها أسود، هي وهوراتيو سِيُّ واحد. لن ترفق بنفسها كما لن ترفق بأخيها، فهذا جزء من عذابها، عذابها الأسود كالأبيض لما يكون هاملت من وراء ذلك. في لحظة من اللحظات، ستتراجع، لأن الألوان لا علاقة لها بالعواطف، ولا الأجناس، ولا الأديان، ولا الأصول، ولا الفصول، لا علاقة لكل هذا بالقلوب، والقلوب غالبًا ما تكون لئيمة لؤم الأَلْآء، وعلى الخصوص عندما تريد كل شيء لها تحت ذريعة التوله والتأله. ميتافيزيقيا الحب هي هذا، شيء أقوى من البشر، أقوى من القدر، أقوى من الحب نفسه. وعلى الرغم من ذلك، تمنت أوفيليا أن ينتصر الجنوبيون، وهي ترى اليد الحانية لهوراتيو تزلق على جسد هاملت، كالزورق على جسد ساكرامنتو. أن ينتصر الجنوبيون، أن يقضوا على الشماليين، وأن يؤسسوا لنظام أبيض يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، ومن المكسيك إلى جبال الجليد. أن يقترفوا إبادة جماعية. على حين غِرّة، ضغطت فمها كف شديدة البأس، وطوقتها ذراعان حديديتان. وفي مثل لمح البرق، أردى ثانٍ هوراتيو قتيلا، وفعل ثالثٌ بهاملت ما فعل الأول بأوفيليا. كانوا الجنود الجنوبيين. ربطوا هاملت، وكمّوا فمه، واقتادوا أوفيليا معهم، بعد أن ذبحوا السود كلهم عن بكرة أبيهم، تطبيقًا لنظرية الكمّات التي كانت لهم. امتطوا أحصنتهم، وغادروا مربى الماشية كما دخلوه، ورعاة البقر ينامون، وهم سكارى من التعب، دون أن يفطن إليهم أحد منهم. بصقوا في القلب البكر الذي لم تهزه العواطف كلهم واحدًا واحدًا، هكذا هم كانوا يبصقون من القرف، فيقترفون جريمة المتعة، كما يقترفون جريمة تفسخ الذات، وتفتت الأنا، وطمعها بالمزيد من عدمها، تفريغ عدمها كما هم يفرغون منيهم، فيفرغون أنفسهم، بينما يمتلئ العالم ببؤس الفوضى وبؤس الشعور، وخاصة ببؤس الصرخة، صرخة تنبثق من الأعماق كالجُؤار الأخرس. كانت أم أوفيليا تجأر أكثر فأكثر كلما دخل فيها واحد من الخارجي على القانون، ثم أقل فأقل، ولائِرتس الرضيع في سريره يزقزق للبراءة، للطفولة، للحياة، بينما بولونيوس الشاب ينظر إلى زوجته كما لو كان ينظر إلى مريم، وهي ترتدي ثوب الخطيئة. لهذا لم يفعل بولونيوس الشاب شيئًا، فالخطيئة لمريم قُدسية. أضف إلى هذا، ذلك الجبن الذي لم يعهده في نفسه من قبل، جبن لذيذ، يملأك بالاطمئنان إلى نهايتك، ويترك في فمك مذاق البحر. اغتصبوه هو الآخر دون أن يفوه بكلمة، كان يقبل ذلك قبول الضباع لرائحتهم. كان يئن فقط ليسمع أنينه، ولأن زوجه لم تعد تئن، لم تعد تبكي، لم تعد تتحرك، لم تعد ترفض، لم تعد تخدش، لم تعد تعض، لم تعد، لأن زوجه لم تعد. أما عنه، فقد كان يئن، وكان دمعه ينبثق من عينيه دون أن يشعر به، كدمع بحارة كوبنهاغن في الشتاء. رموا أوفيليا قرب باب الصالون، هكذا هم قذفوا ابنة بولونيوس، وابتلعهم الشارع الطويل اللولبي، كالأفعى.


يتبع: القسم الرابع والأخير



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هاملت القسم الثاني الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- علي الخليلي ابن صفي ابن بلدياتي
- هاملت القسم الأول الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- قرصنوا إيميلي واغتصبوا اسمي
- كوابيس المجموعة القصصية
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس العاشر: الأحمر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس التاسع: الأصفر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثامن: الأسود
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السابع: الدولة
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السادس: النفق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الخامس: القَرض
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الرابع: المسجد
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثالث: القطب
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثاني: الطوابق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الأول: الرصيف
- أفنان القاسم - اديب ومفكر - في حوار مفتوح مع القارئات والقرا ...
- موسم الهجرة إلى الشمال أو وهم العلاقة شرق-غرب
- موسم الهجرة إلى الشمال دور مصطفى سعيد
- موسم الهجرة إلى الشمال الراوي كيف يرى العالم؟
- موسم الهجرة إلى الشمال المفهوم عن الشرق


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - هاملت القسم الثالث الرواية الجديدة لأفنان القاسم