|
-الدولة المدنية- و-الربيع العربي-
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 4306 - 2013 / 12 / 15 - 13:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"الدولة المدنية" هي مفهوم، أو مصطلح، شاع وانتشر، إعلامياً وسياسياً، في العالَم العربي، بفضل ما اصطُلِح على تسميته "ثورات الربيع العربي"، وفي مسرحَيْها التونسي والمصري على وجه الخصوص. "المدنية" هي صِفة "الدولة"، في هذا المفهوم، أو المصطلح؛ فما هي، أوَّلاً، "الدولة"؟ "الدولة"، في مفهومها العام، السائد، والشائع، في علوم السياسة والقانون والاجتماع، والذي يَسْتَصْلِحه الفكر الليبرالي، هي اجتماع "الحكومة (أو هيئات الحُكْم)"، و"الإقليم"، و"سكَّان الإقليم"، أيْ "الشعب"، أو "الأُمَّة"، أو "المجتمع الخليط المتنوِّع، قومياً وعرقياً". ولقد بَرَزَ كارل ماركس في شذوذه عن هذا المفهوم (المُركَّب) إذْ عرَّف "الدولة" على أنَّها نظام (ومؤسسات وأجهزة) للسيادة الطبقية السياسية والفكرية، وإنْ صُوِّرَت في الدستور على أنَّها "الممثِّل العام"، أيْ مَنْ يُمثِّل المصلحة العامة، والمجتمع بأسره؛ أمَّا "الدولة المدنية"، التي بَذَر بذورها الفكرية "فلاسفة التنوير"، فهي، في المقام الأوَّل، ضديد للدولة التي يَحْكمها "رجال الدين"، أيْ "الدولة الثيوقراطية"، وللدولة التي يَحْكمها "العسكر"؛ وهي، من ثمَّ، "دولة القانون"، و"دولة المواطَنة"، و"دولة الحقوق (المصونة والمكفولة، دستورياً وقانونياً)"، و"دولة الدستور المدني"، و"دولة الحكومة المدنية التمثيلية". في "الدولة المدنية"، وبها، تَجْتَمِع، وتَنْدَمِج، "الديمقراطية"، بمبادئها وقِيَمِها وأوجهها كافة، و"الليبرالية"؛ فلا يَقَع الحُكْم فيها في قبضة "رجال الدين"، أو في "قبضة العسكر"؛ وإنَّ "المواطَنَة"، وقبول "الآخر"، هما أساس وقوام كل "دولة مدنية"؛ فكل المواطنين متساويين في الحقوق والواجبات بصرف النَّظر عن انتماءاتهم القومية والعرقية والدينية والفكرية، وبصرف النَّظر، أيضاً، عن الجنس، وعن الانتماء الطَّبقي. "الدولة المدنية"، ولجهة صلتها بـ "الدِّين"، لا تعادي الأديان، وأَتْباعها؛ لكنَّها تَقِف ضدَّ كل "تسييس" للدِّين، أو "تديين" للسياسة؛ فَبَيْن "الدِّين" و"السياسة" برزخ فلا يبغيان؛ وهذا إنَّما يعني أنَّها دولة لتخليص الحُكْم من قبضة رجال الدين، ولتخليص الدِّين، أيضاً، من قبضة السَّاسة؛ وهي، في منطقها ومفهومها، لا تُفاضِل بين "الديمقراطية" و"الليبرالية"؛ لأنَّها تَنْظُر إلى "ديمقراطية صندوق الاقتراع" المُجرَّدة من قِيَم ومبادئ الليبرالية على أنَّها طريق، أو تَصْلُح لأنْ تكون طريقاً، إلى الفاشية، واستبداد الأكثرية الناخِبَة. "الدولة المدنية" تقوم على "دستور مدني"، وعلى مبدأ "الفصل بين السُّلُطات"؛ فهي دولة المؤسَّسات الدستورية، والمؤسَّسات القضائية والقانونية المستقلة؛ وهي الدولة التي فيها، وبها، تزدهر الحياة الحزبية، وتسود "الثقافة المدنية". فكرة "الدولة المدنية"، مع الحاجة إلى هذه الدولة، وُلِدَت في سياق الصراع التاريخي المرير الذي خاضه الفلاسفة والمفكِّرون الليبراليون في الغرب (الأوروبي) ضد الاستبداد الديني ـ السياسي للكنسية والملوك، فَنَبَتَت "العلمانية"، أيضاً، في تربة هذا الصراع، واتَّسَعت لها فكرة "الدولة المدنية"، حتى بَدَت جزءاً لا يتجزَّأ منها. و"العلمانية" إنَّما تعني فَصْل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية؛ وهي تَكْفَل للفرد الحق في عدم اعتناق دين بعينه، وتمنع الدولة من أنْ تتبنَّى رسمياً ديناً بعينه. إنَّها، في حدِّ ذاتها، ليست ضدَّ الدين؛ بلْ تَقِف منه على الحياد؛ وفي الولايات المتحدة، مثلاً، خَدَمَت "العلمانية" الدين، إذْ منعت الدولة والحكومة من التدخُّل في شأنه. لدى فلاسفة إغريق كمثل أبيقور نرى أجنَّة الفكر "العلماني"؛ ولقد نَمَت هذه الأجنَّة لدى بعض مفكِّري عصر التنوير الأوروبي، ولدى توماس جيفرسون وفولتير على وجه الخصوص. يقول توماس جيفرسون: "الإكراه في الأمور الدينية، أو في السلوك الاجتماعي، هو خطيئة واستبداد؛ وإنَّ الحقيقة تسود إذا ما سُمِح للناس بالاحتفاظ بآرائهم، وحرية تصرُّفاتهم". الكاتب الإنكليزي جورج هوليوك (1817 ـ 1906) كان أوَّل من نحت مصطلح "علمانية" سنة 1851؛ ولقد تَخيَّل نظاماً اجتماعياً منفصلاً عن الدين؛ لكنَّه لم يَقِفْ ضدَّ الدين، مصرِّحاً: "لا يمكن فَهْم العلمانية على أنَّها ضد المسيحية؛ إنَّها (أيْ العلمانية) مستقلة فحسب عن المسيحية، لا تَفْرِض مفاهيمها على من لا يود التزامها". أقْدَم الإشارات إلى الفكر العلماني يعود إلى القرن الثالث عشر في أوروبا حين دعا مارسيل البدواني في مؤلَّفه "المُدافع عن السلام" إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية، واستقلال الملك عن الكنيسة، في وقت كان الصراع الديني ـ الدنيوي بين بابوات روما وبابوات أفنيغون في جنوب فرنسا على أشده؛ ويمكن تشبيه هذا الصراع بالصراع الذي وَقَع بين خلفاء بغداد وخلفاء القاهرة. وبعد قرنين من الزمان، أيْ في عصر النهضة في أوروبا، دعا الفيلسوف وعالِم اللاهوت غيوم الأوكامي إلى فَصْل "الزمني" عن "الروحي" من السلطات. الفيلسوف الإنكليزي جون لوك كتب في مسألة "العلمانية": "من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي للدولة أنْ تتسامح مع كل مُعْتَقَد ديني أو فكري أو اجتماعي، وينبغي لها ألاَّ تتوفَّر على فَرْض هذا المُعْتَقَد، أو ذاك، على الناس، وأنْ تمنع، في الوقت نفسه، غيرها من فِعْل ذلك. الدولة يجب أنْ تكون منفصلة عن الكنيسة، وألاَّ تتدخَّل كلتاهما في شؤون الأخرى؛ وهكذا يحل عصر العقل؛ ويصبح البشر أحراراً، وقادرين على إدراك الحقيقة". والآن، أين نحن، و"الربيع العربي"، من "الدولة المدنية"؟ وكيف نرى أنفسنا إذا ما نَظَرْنا إليها بعيون "الدولة المدنية"؟ إنَّنا، وفي بلاد "الربيع العربي"، لم نَعْرِف بَعْد من "الديمقراطية" إلاَّ "المُزوَّر (والزائف)" منها؛ وهذا "المُزوَّر" هو "الدِّين ـ قراطية (الحُكْم المتلفِّع بالدِّين)"، الذي لا يرى من الديمقراطية إلاَّ "صندوق الاقتراع"، أو "العسكر ـ قراطية (حُكْم العسكر)"، الذي يلغي "الحرِّيَّة السياسية"، مُسْبِغاً على المجتمع نعمة ثقافية واجتماعية، هي تمتُّعه بشيء من الحُرِّيَّات الثقافية والاجتماعية (التي يستكرهها التيَّار الدِّيني، وينادي بها أنصار "الديمقراطية الليبرالية" السائدة في الغرب). "الديمقراطية" إنَّما هي أحد شكليِّ "الحكم السياسي"؛ فهذا الحكم، وفي كلِّ دولة، إمَّا أنْ يكون ديمقراطياً، في شكله، وإمَّا أنْ يكون دكتاتورياً (استبدادياً، أُوتوقراطياً). و"الديمقراطية"، التي هي أحد شكليِّ "الحكم السياسي"، لها هي أيضاً غير شكل؛ وإنَّ "الديمقراطية الليبرالية"، السائدة في الغرب، هي شكلها الأهم؛ لكن ليس من مجتمعٍ (أو دولةٍ) في الغرب أو الشرق يستطيع أنْ يزعم أنَّه التجسيد للقِيَم والمبادئ الديمقراطية كافَّةً. وبعد تَصالُح مفكِّرين إسلاميين (بعد طول عداء) مع الديمقراطية أصبح ممكناً الحديث عن "الديمقراطية الإسلامية"، أو عن "الشكل الإسلامي" للديمقراطية؛ لكنَّ العيب الجوهري لهذا الشكل يكمن في عدائه الشديد، أو في استمرار عدائه الشديد، للقِيَم والمبادئ الليبرالية، في حياتنا الثقافية والاجتماعية على وجه الخصوص، وللعلمانية. وحتى لا يَشْكل علينا الأمْر، نقول أيضاً إنَّ "الخالص" من "الديمقراطية" أو "الدكتاتورية" لا وجود له إلاَّ في بعض الأذهان؛ فكل ديمقراطية يخالطها دائماً شيء من الدكتاتورية، وكل دكتاتورية يخالطها دائماً شيء من الديمقراطية؛ والسؤال الذي ينبغي لنا دائماً أنْ نجتهد في إجابته هو: "ديمقراطية لِمَنْ (ودكتاتورية على مَنْ؟)؟". إنَّ تجربة مرسي في الحكم في مصر هي التجربة التي كشفت وأظهرت "تناقض الديمقراطية الكبير" في بلاد "الربيع العربي"؛ فـ "الغالبية الشعبية الانتخابية"، التي لم تتخلَ بَعْد عن عدائها للعلمانية، ولكثيرٍ من القيم والمبادئ الليبرالية في الحياة الثقافية والاجتماعية، هي التي اختارت مرسي (رئيساً مدنياً للدولة). ولقد كان "صندوق الاقتراع"، الذي لا ريب في ديمقراطيته على وجه العموم، هو وسيلتها للتعبير الحُر عن إرادتها السياسية. وسؤال مصر الديمقراطي كان وما زال: أَنُريد حُكْماً مناهِضاً للعلمانية، ولكثيرٍ من القٍيَم والمبادئ الليبرالية، الثقافية والاجتماعية؛ لكن يحظى بقبول وتأييد الغالبية الشعبية الانتخابية، وبـ "الشرعية السياسية" من ثمَّ، أمْ نريد حُكْماً ضئيل، أو عديم، "الشرعية السياسية"؛ لكنه متصالح مع القِيَم والمبادئ الليبرالية، في حياة المجتمع الثقافية والاجتماعية على وجه الخصوص، ومع العلمانية، أو مع شيء منها؟ هذا التناقض الكامن في هذا السؤال لا وجود له في المجتمعات الغربية؛ فالقِيَم والمبادئ الليبرالية كافة، ومعها العلمانية، هي "الرُّوح الثقافية" لـ "المواطن ـ الناخب"، على وجه العموم؛ والتَّدَيُّن هناك لا يتنافى، أو لا يتنافى كثيراً، مع تلك الرُّوح. حتى في "تركيا أردوغان" نرى في مثالها الديمقراطي ما يجعلها أقرب إلى المجتمعات الغربية منها إلى المجتمعات الشرقية العربية الإسلامية في دول "الربيع العربي"، وفي مصر على وجه الخصوص؛ فحزب أردوغان الإسلامي نشأ وترعرع في بيئة "تركيا الكمالية العلمانية الليبرالية التي حكمها العسكر، وتحكَّموا فيها زمناً طويلاً"؛ ولقد اضْطُّرَ هذا الحزب (وأصوله) إلى التكيُّف مع هذه البيئة قَبْل أنْ يحكم، وحتى يحكم، أيْ حتى تُسلِّم المؤسَّسة العسكرية (القومية العلمانية) أخيراً بالإرادة الشعبية الانتخابية، التي من طريقها وصل حزب أردوغان إلى السلطة، والذي أكَّد، غير مرَّة، حرصه على بقاء العلمانية، واستمساكه بكثيرٍ من القِيَم والمبادئ الليبرالية (الثقافية والاجتماعية) التي لم تتصالح معها بَعْد جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، وفي غيرها من بلاد "الربيع العربي". الديمقراطية في مصر، وفي سائر بلاد "الربيع العربي"، هي الآن في أزمة تاريخية تشتد وتعنف وتتفاقم؛ ويصح نَسْب سبب هذه الأزمة إلى عجز قوى "الربيع العربي" جميعاً عن تخطِّي هذا التناقض الكارثيِّ بين "الشرعية السياسية" للحُكم والمتأتية من "صندوق الاقتراع (الديمقراطي، الحُر، الشَّفاف)" وبين القِيَم والمبادئ الليبرالية (والعلمانية) والتي هي في منزلة الرّوح للديمقراطية الغربية؛ فالصراع بين طرفيِّ هذا التناقض ما زال محتدماً، ولم يأتِ هذا الصراع بَعْد بما يشدِّد الحاجة إلى درجة أعلى من الوحدة بين طرفيه. أُنْظروا أوَّلاً إلى إشكالية "صندوق الاقتراع" نفسه؛ ففي المجتمعات الغربية التي تتركَّز فيها، وتسود، "الديمقراطية الليبرالية"، نرى أنَّ "صندوق الاقتراع" هو الطريق إلى اكتساب "الشرعية السياسية" في الحُكْم؛ ونرى، في التاريخ، أو في أماكِن أخرى، أنَّ "صندوق الاقتراع (الديمقراطي، الحُر، الشَّفاف)" يمكن أنْ يأتي بحكومات فاشية، تعيش في الحرب، وبالحرب، على كثيرٍ من القِيَم والمبادئ الليبرالية، وعلى قوى المعارَضَة؛ ويمكن أنْ تنمو الدكتاتورية والاستبداد، وينتهي السَّيْر في هذا المسار إلى التضحية بـ "صندوق الاقتراع" بخواصه الديمقراطية؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "الديمقراطية (الليبرالية)" تتضمَّن "صندوق الاقتراع (والانتخاب)"؛ لكنَّها لا تَعْدِله. ثمَّ أُنْظروا إلى إشكالية القِيَم والمبادئ الديمقراطية الليبرالية في مثالين، هما تونس وسويسرا؛ ففي تونس في عهد بورقيبة نالت المرأة من حقوقها ما جَعَل تمييز مكانتها في المجتمع من مكانة المرأة الغربية من الصعوبة بمكان؛ وعَرَفَ المجتمع التونسي، في العهد نفسه، كثيراً من قِيَم ومبادئ الليبرالية في الميدانين الثقافي والاجتماعي؛ لكنَّ تونس هذه ظلَّت دولة أمْنِية بوليسية استبدادية، لم تَعْرف من "صندوق الاقتراع (والانتخابات)" إلاَّ ما يأتي بـ "شرعية سياسية زائفة" للحُكم فيها؛ أمَّا في سويسرا فلم تَنَلْ المرأة حق التصويت إلاَّ سنة 1971. حتى في الثورة (الديمقراطية البرجوازية) الفرنسية (1789) ما كان لحقوق الإنسان أنْ تَشُقَّ طريقها إلى حياة الفرنسيين لو اسْتُفْتي الشعب الفرنسي في أمْرها؛ فهذا الشعب ما كان قد تخلَّص بَعْد من نفوذ الكنيسة في وعيه وشعوره. عن سؤال "بين مَنْ ومَنْ يدور ويحتدم الصراع (الآن) في مصر؟"، سمعنا، غير مرَّة، وكثيراً، "إجابة إسلامية" هي الآتية: إنَّه صراع يدور ويحتدم بين "الإسلام" و"العلمانية"؛ بين "الإسلاميين" و"العلمانيين". ولو تَوَجَّهْنا بالسؤال نفسه إلى "الواقع الموضوعي" لهذا الصراع، ولأطرافه، أو لطرفيه، لأجاب قائلاً: كلاَّ، لا وجود، من حيث الأساس، لمثل هذا الصراع؛ وإنَّ مُدَّعي وجوده يعوزهم الدليل والإثبات؛ فلا وجود لصراعٍ بين طرفين لا وجود لهما أصلاً. لكنَّ إجابتهم، المنافية لـ "الحقيقة الموضوعية"، تفيد في الحشد والتأليب والتسخين واكتساب النفوذ والشعبية؛ فالعامَّة من الناس (المسلمين) يُنْفَث في روعهم أنَّ "العلمانية"، والتي هي من "الكفر"، إنْ لم تكن هي "الكفر بعينه"، تشن حرباً على "الإسلام"؛ وعندئذٍ، يسهل الخيار؛ فَمَن ليس مع "الإسلام" فهو مع "الكفر" حتماً! وإنَّكَ بهذا الخطاب، الذي كالتابوت لجهة صلته بالحقيقة، تَسْتَقْطِب تأييد المتعصبين من العامة من المسلمين، فيَشْتَقُّون من تعصُّبهم الدِّيني تعصُّباً على اليساريين والقوميين والليبراليين أيضاً، وعلى كل من ينادي بالدولة المدنية بمفهومها الخالص من "الأسلمة"؛ وتَنْقَطِع صلته، من ثمَّ، بالقِيَم والمبادئ التي انتصرت لها ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومن أجلها قامت هذه الثورة. خيار الثورة المصرية إنَّما كان "الدولة المدنية التي تتَّسِع لكل من لا يناصِب مقوِّماتها وأُسسها العداء"؛ وكان ينبغي لحزب مرسي أنْ يكون إسلامياً بما يسمح له بالتصالح مع الدولة المدنية، ويجعل له مكاناً تحت شمسها، لا أنْ يسعى في إعادة تعريفها بما يجعلها تشذُّ عن جنسها؛ فإنَّ "أسلمة" الدولة المدنية هي هَدْمٌ لأركانها، وتأسيس، في الوقت نفسه، لدولة الاستبداد الدِّيني، مهما حاولوا زخرفتها وزركشتها وتزيينها. إذا كان ممكناً (موضوعياً) وجود إسلام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي.. ، فإنَّ التأسيس لهذا الوجود، أو السعي إلى التأسيس له، كان يجب أنْ يكون بالدولة المدنية، وفيها، وبما لا يذهب بمقوِّماتها وأُسسها، التي لا تتلوَّن بلون دين أو مذهب أو عرق أو جنس..؛ لكنَّها تُلوِّن بلونها كل أفراد وجماعات وفئات المجتمع. إنَّها دولة يحتاج إليها كل البشر؛ لأنَّها دولة "كُنْ كما تريد أنْ تكون؛ لكن بما لا يجحف بحق غيرك في أنْ يكون كما يريد أنْ يكون". بفضل "الربيع العربي"، اتَّسَع مصطلح "الإسلام السياسي" انتشاراً؛ وهذا المصطلح يَدُلُّ على معانٍ عدَّة، أهمها أنَّ الإسلام (دِينَاً) ينطوي ويشتمل على جُمْلَة من "المبادئ (والمفاهيم والأحكام) السياسية"، التي بعضها على هيئة "النَّص"، وبعضها يأتي به "فقهاء"، أو يتأتَّى من طريق "التأويل"، أيْ من طريق البحث عن "المعاني الخفية" وراء "المعاني الظاهرة" في الكلام الدِّيني، أو النُّصوص الدِّينية؛ ولا بدَّ للمشتغلين بتسييس الدِّين من أنْ يتوفَّروا على إقامة الدليل للعامَّة من المسلمين على أنَّ القضايا والأمور والشؤون السياسية جميعاً لا تُسْتَثْنى من الدِّين، أو من "حُكْم الشَّرع"، أو ما يشبهه، منزلةً، وينبغي لهم (أيْ للعامَّة من المسلمين) أنْ يعتادوا فَهْمَها وتفسيرها دينياً، وأنْ يَقِفوا من كل أمْرٍ سياسي يعنيهم موقفاً دينياً، وكأنَّ ميزان "الحلال والحرام" الدِّيني (الإسلامي) يَصْلُح، أيضاً، لوَزْن "الموقف السياسي"، للفرد، أو الجماعة، به. "الإسلام السياسي"، ولجهة معناه (ومحتواه، وخواصِّه) الواقعي الملموس، ليس بمدار اتِّفاق حتى بين جماعاته ومنظَّماته الكثيرة المتكاثرة؛ فالمُنْتَمون إليه لا يتَّفِقون حتى على ماهيته، ومبادئه، وأُسسه؛ وأحسبُ أنَّ اختلافهم فيه لا يَقِل عن اختلاف الإسلاميين (على وجه العموم) في "الإسلام نفسه"؛ وليس في هذا، وذاك، ما يثير الدهشة والاستغراب؛ فاختلاف الأمكنة والأزمنة، وظروف عيش الناس، ومصالحهم وحاجاتهم الواقعية، لا بدَّ له من أنْ يُتَرْجَم باختلاف في فَهْم الفكر نفسه، أيْ في فَهْم مبادئه عند كَسْوِها بالتفاصيل من حياتهم الواقعية. وإنَّ من الأهمية بمكان أنْ نقول، في هذا الصدد، إنَّ تاريخ العقائد يُثْبِت ويؤكِّد أنَّ الفكر، أيُّ فكر، يَكْمُن في حاجات ومصالح الناس الواقعية قبل ظهوره، فإذا تَوافَق معها، وخدمها، انتشر وساد وازدهر، وإذا دَخَل في نزاعٍ معها، واحتدم هذا النزاع، فلا بدَّ له من أنْ يتضاءل وزناً وتأثيراً، ويَفْقِد جاذبيته، أو كثيراً منها؛ كما يُثْبِت ويؤكِّد أنَّ البشر يمكن أنْ يناصبوا بديهية هندسية العداء إنْ وَجَدوا أنَّها تتعارَض، أو أصبحت تتعارض، مع مصالحهم (الواقعية). إنَّ الناس في مجتمعاتنا الإسلامية متديِّنون، على وجه العموم، ولديهم من "الإيمان الدِّيني (وقوَّته)" ما يَحْمِلهم، في استمرار، على أنْ يسألوا عن "الحلال" و"الحرام" في كل أوجه وتفاصيل حياتهم الواقعية (واليومية). ومن هذا المَدْخَل، مَدْخَل "الحلال والحرام"، تَدْخُل جماعات "الإسلام السياسي"، أيضاً، إلى عقول ومشاعر العامَّة من الناس، فتغدو "السياسة"، مع كل ما يمت إليها بصلة، شيئاً يمكن ويجب قياسه بميزان "الحلال والحرام"؛ وفي هذا على وجه الخصوص يَكْمُن خطر "الإسلام السياسي"؛ فـ "الإيمان الديني"، والذي هو أمْرٌ يَخُصُّ صاحبه فحسب، يتفرَّع ويتشعَّب لِيَشْمَل "التديين" للسياسة، وسائر أوجه حياة الناس الواقعية (أو الدنيوية). وهذا ما نراه جليَّاً واضحاً في دعوة العامَّة من المسلمين إلى أنْ يَنْتَخِبوا مَنْ (وما) يُمثِّل "الحلال"، ويِكْفوا أنفسهم شرَّ انتخاب مَنْ (وما) يُمثِّل "الحرام"؛ وإلى أنْ يتوفَّروا على تمييز "الحلال" من "الحرام" في مفاهيم ومبادئ وآراء ووجهات نظر ومواقف تنتمي إلى "السياسة"، وإلى "عالمها الواقعي". لكنَّ كل ما تبذله جماعات "الإسلام السياسي" من جهد (فكري) في "تديين"، أو "أسْلَمَة"، السياسة، لا يتمخَّض، في آخر المطاف، إلاَّ عمَّا يقيم الدليل على أنْ لا وجود لشيء يُدْعى "النِّظام السياسي الإسلامي"؛ فهذه "الجماعات"، مع مفكِّريها، إنَّما تُوفَّق في شيء واحد فحسب هو إلباس نُظِمٍ سياسية (عالمية) لا جذور لها، ولا أصول، في الفكر الإسلامي، لبوساً إسلامياً؛ وهذا اللبوس نراه على وجه العموم كالشَّكل الذي في نزاعٍ مع محتواه. حتى المحتوى نفسه يُفْسَد ويُشوَّه ويُمْسَخ بـ "الانتقائية" و"الاجتزاء" و"الإضافة (التي هي إضافة عناصر لشيء ليست من جنسه)". وهذا الذي قلناه إنَّما يؤكِّد أهمية وضرورة أنْ نعي ونُدْرِك الفَرْق بين "نظام سياسي إسلامي (لا وجود له واقعياً وتاريخياً)" حتى نخشاه، ونتطيَّر منه، وبين "أسْلَمة" نُظَم سياسية عالمية؛ وهذه "الأسْلَمة السياسية" هي امتداد لـ "الأسْلَمَة الاقتصادية"، والتي فيها، وبها، نرى النظام الاقتصادي الرأسمالي، مثلاً، وهو يرتدي رداءً إسلامياً (كرداء "المرابحة" الذي ترتديه "الفائدة" البنكية الربوية). "الدولة المدنية الديمقراطية (وبمفهومها المتواضَع عليه عالمياً، وفي الغرب على وجه الخصوص)" هي كـ "الهَرَم"؛ لكنَّ هذا "الهَرَم" لا يُبْنى من القاعدة إلى القِمَّة، وإنَّما من القِمَّة إلى القاعدة؛ وهذا ما يُفسِّر لنا، ويُعلِّل، ظاهرة أنْ تأتي "الإرادة الشعبية الحُرَّة" بنتائج لا يمكن إدراج بعضها، أو كثيرٍ منها، في مفهوم "الدولة المدنية الديمقراطية". هل للعلماني والديمقراطي واليساري (ولكل من يُصنِّف نفسه على أنَّه لا ديني) أنْ يَقِف مع (أو ألاَّ يقف ضد) حُكْم الإسلاميين (أو "الإسلام السياسي") في مصر وتونس، وغيرهما من البلاد العربية، إذا ما وصلوا إلى الحكم، وحكموا، من طريق "الإرادة الشعبية الحُرَّة"؟ إنَّه لسؤالٌ ما زال يعتريه بعض الفساد؛ لأنَّه لم يَسْتَكْمِل بَعْد "صلاحيته المنطقية"؛ ولِجَعْلِه مُسْتَكْمِلاً لها لا بدَّ من أنْ تُضاف إليه، في نهايته، عبارة "في دولة مدنية (ديمقراطية)"؛ فَلْنَحْصَل أوَّلاً على "الدولة المدنية (الديمقراطية)"، بمفهومها المتواضَع عليه عالمياً، وَلْيَحْكُم من ثمَّ من شاء له الشعب أنْ يَحْكُم. وهذه الدولة إنَّما هي، في معنى من أهم معانيها، الدولة التي تَضْمَن دستورياً "حقَّ الآخر (مهما كان هذا "الآخر") في الوجود، وفي التعبير بحرٍّية تامة عن ذاته (سياسياً وفكرياً وثقافياً)". إنَّ "الإسلام السياسي" المتصالح (عن اقتناع أم عن اضطِّرار) مع "الدولة المدنية (الديمقراطية)"، بقيمها ومبادئها ومعانيها المتواضَع عليها عالمياً، هو الذي يَحِقُّ له، عندئذٍ، أنْ يَحْكُم، إذا ما أرادت له الغالبية الشعبية (الانتخابية) أنْ يحكم. وهذا إنَّما يعني، في المقام الأوَّل، ومن الوجهة الدستورية، أنْ تكون الأحزاب السياسية الإسلامية (أو الدينية على وجه العموم) ملتزِمة، أو مُلْزَمة، بمغادرة الحكم من الطريق نفسها، أيْ من الطريق التي سارت فيها وصولاً إلى الحكم؛ وأنْ تَحْتَرِم "حقوق المواطَنة" بمعانيها كافة، وفي مقدَّمها معناها السياسي، فـ "المناصب العامَّة (كافَّة)" هي مناصب محايِدة، أيْ يجب جَعْلها محايدة، وأنْ تظل محايدة، دينياً وعرقياً وقومياً وجنسياً، فـ "الانتخاب الحُرُّ" هو وحده الطريق إلى أيِّ منصب من هذه المناصب، وإلاَّ أصبحت "حقوق المواطَنة"، مع "دولة المواطَنة"، لَغْواً؛ وأنْ يَعْتَرِف "الإسلاميون"، بصفة كونهم حزباً حاكماً، أو مشارِكاً في الحكم، بـ "حقِّ الآخر (بألوانه كافَّة) في الوجود"، وفي التعبير الحُرِّ عن ذاته"، فـ "حقوق المواطَنة"، مع "دولة المواطَنة"، تتَّسِع، ويجب أنْ تتَّسِع، لغير الإسلاميين، ولغير المؤمنين، وللعلمانيين، ولليبراليين، ولليساريين بمشاربهم كافَّة، ولكل أقلية عرقية أو قومية، وللنساء كما للرجال، فلا فَرْق بين المواطنين جميعاً إلاَّ بـ "تَقْوى الدستور". وفي "التصويت"، على وجه الخصوص، نرى "الثمرة المُرَّة" لِمَا بذلته قوى "الإسلام السياسي" من جهد في تسييس الدِّين، والذي هو تسييس يتفاوت سوءاً بين هذه القوى، التي بعضها يتمادى فيه بما يجعل ضحاياه في "ظلامية سياسية تامَّة". "المُصوِّت"، الذي نفثوا في روعه أنَّ تصويته إمَّا أنْ يكون من "الحلال" وإمَّا أنْ يكون من "الحرام"، مع ما يعنيه له "الحلال" و"الحرام"، دنيا وآخرة، لن يمارِس من "إرادته (الانتخابية والسياسية) الحُرَّة" إلاَّ ما يشبه "الظِّلال" منها؛ إنَّه "يملك" صوته؛ لكنَّ غيره، أيْ المشتغلين بتسييس الدِّين، وتديين السياسة والتصويت، هو الذي "يَسْتَعْمِل (ويَسْتَخْدِم)" صوته بما ينفعه ويفيده هو، وبما يعود بالضرَّر والأذى (على ما ثَبُت وتأكَّد في تجارب عِدَّة) على "صاحب الصَّوْت"، فَيْصلى هذا بالنَّار الكبرى في دنياه، ليَنْعَم ذاك بالجنَّة الأرضية! بهذا التسييس للدِّين، أو التديين للسياسة والانتخابات، تَفْسُد كثيراً "الإرادة الحُرَّة" للناخب، أو المُصَوِّت؛ فَمَنْ ليس مع "الإسلام السياسي"، على وجه العموم، هو، حتماً، مع "الفسطاط الآخر"، وما أدراكَ ما "الفسطاط الآخر"! لا جدال في أنَّ "الإرادة الحُرَّة" للشعب (أو للأمَّة) هي الأصل والأساس في النِّظام الديمقراطي؛ لكن أليس ممكناً أنْ يُعبِّر الشعب (وعَبْر "صندوق الاقتراع" الشفَّاف والذي لا ريب في نزاهته وسلامته) عن "إرادته الحُرَّة" بما يأتي بنظام حكم منافٍ للمبادئ والقِيَم الديمقراطية، أو بما يؤسِّس لدولة ليست مِنْ جِنْس "الدولة المدنية الديمقراطية"؟ وهذا "التناقض" يمكن أنْ نراه، على وجه الخصوص، في مجتمعنا العربي (الإسلامي) فالغالبية الشعبية الانتخابية (الحُرَّة تماماً في إرادتها، وفي تصويتها) يمكن أنْ تُمَكِّن حزباً دينياً إسلامياً من الوصول إلى السلطة، ومن إحكام قبضته على الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، ومن "أسْلَمة" كل مناحي وأوجه حياة المجتمع؛ وهل من "ديمقراطي واقعي" يستطيع إنكار أنَّ غالبية الناس عندنا تُؤْمِن إيماناً لا يتزعزع بأنَّ "الإسلام هو الحل (لكل مشكلاتنا)"؟! حتى الفشل (والفشل الذريع) الذي مُنِيَت به تجارب إسلامية عدة في الحكم، يُفْهَم "شعبياً" على أنَّه دليل (أو دليل سلبي) على أنَّ "الإسلام هو الحل"؛ فالذي فَشِل، على ما تعتقد العامَّة من المسلمين، إنَّما هو "صاحب التجربة"؛ ولقد فشل؛ لكونه أساء فَهْم الأمور، وإدارة الشؤون، بما يوافق "الإسلام الحقيقي"، الذي يشبه "جوهر" الشيء عند كانط؛ و"جوهر" الشيء، عند هذا الفيلسوف، هو أمْرٌ يستحيل على البشر إدراكه! هذا "التناقض (أو هذا الإشكال)" لا يُحَل بعبارات من قبيل "الشعب جاهل"، أو "لا يعي مصالحه الحقيقية"، أو "مُسَيَّر من الداخل بوعيٍ لا يسمح له بوعي حقوقه ومصالحه"، أو "يتوهَّم أنَّه حُرٌّ في إرادته واختياره"، أو "يستخذي لقوى فكرية يكفي أنْ يستخذي لها حتى يتصرف بما يجعله عدواً لدوداً لنفسه". "وهذا التناقض" إنَّما يُفسَّر ويُحَل، على ما أرى، في القول الآتي: كل نظام حكم ديمقراطي يجب أنْ يَصْدُر عن "الإرادة الحُرَّة" للشعب؛ لكن ليس كل ما يَصْدُر عن "الإرادة الحُرَّة" للشعب يجب أنْ يكون نظام حكم ديمقراطي. إنَّ أوَّل ما ينبغي لنا حَسْم أمره، في أذهاننا السياسية؛ لأنَّه محسوم في العالم الواقعي للسياسة، هو أنْ لا وجود الآن، أيْ في زماننا، لـ "حُكْمٍ إسلاميٍّ"، يقوم على "مبادئ سياسية إسلامية خالصة"، وإنْ وُجِدَ (أو ظلَّ ممكناً الوجود) حُكْمٌ (أو نظام حُكْم، أو نظام سياسي) يَنْسِبَهُ أصحابه إلى "الإسلام"، ويُلْبِسونه (من طريق الاجتهاد والتأويل) لبوس "الإسلام"؛ فَلْنُمَيِّز "الحُكْم الإسلامي (الخالص، والذي أصبح أثراً بعد عين)" من "حُكْم الإسلاميين"؛ فالأوَّل ما عاد ممكناً الوجود؛ أمَّا الثاني، فيُوْجَد الآن؛ وقد يُوْجَد مستقبلاً. الأمر يلتبس علينا، ويختلط؛ لأنَّ طُلاَّب الحُكْم (أو السُّلْطَة) في عالمنا العربي والإسلامي يجتهدون دائماً في انتزاع مبادئ وطرائق ومفاهيم للحُكْم من أمكنة وأزمنة مختلفة؛ لكنَّها تَصْلُح، على وجه العموم، ولأسباب واقعية، لابتناء نظامٍ سياسيٍّ (عندنا) منها، فيتوفَّرون، من ثمَّ، وبمعونة "مُفَكِّرين إسلاميين"، على كَسْو هذه "العِظام" الأجنبية، أو العالمية، "لَحْماً (أو شيئاً من اللَّحْم)"، هو كناية عن "مفردات" و"عبارات" و"تسميات".. إسلامية، وإنْ تَسَبَّب عملهم هذا بكثير من التنافُر بين "محتوى (جُلُّه له مثيل عند غيرنا)" وبين "تشكيلهم له تشكيلاً إسلامياً"، أيْ وَضْعِهم له في شكلٍ، أو قالَبٍ، إسلامي؛ وليس أدل على ذلك من تصالحهم الفكري (عن اضطِّرار) مع نَزْرٍ من "الطريقة الديمقراطية في الحُكْم"؛ فَهُم، وبشيء من "التأويل"، الذي يجيدون لعبته، جعلوا الفَرْق بين "الشورى" و"الديمقراطية" من الضآلة بما كاد أنْ يجعلهما شيئاً واحداً؛ وإنْ اعتبر بعضهم "الشورى" أوسع وأشمل وأعمَّ من "الديمقراطية (حتى في درجتها العليا)". هُمْ، وعن اضطِّرار، وفي رُبْع السَّاعة الأخير من القرن العشرين، اكتشفوا "الشَّعْب (أو الأمَّة)"، بمفهومه المتواضَع عليه عالمياً؛ واكتشفوا أنَّ هذا "الشعب" يَصْلُح لاتِّخاذه (بإرادته) مَصْدَراً (مع مصادِر أُخرى) للسُّلطة، ولـ "الشرعية السياسية في الحُكْم"؛ واكتشفوا أنَّ "اتِّخاذ صندوق الاقتراع طريقاً إلى الحُكْم" ليس من الكفر في شيء؛ لكنَّهم لم يكتشفوا بَعْد أنَّ كل هذا الذي اكتشفوه ليس بذي أهميةٍ ديمقراطية جوهرية إذا لم يكتشفوا أهمية وضرورة "القِيَم والمبادئ الديمقراطية كافَّة"، والتي لا انفصال بينها (وبصفة كونها "الجوهر") وبين "الإجرائي" من "الديمقراطية"، أو "الديمقراطية الإجرائية"، وفي مقدَّمها "الانتخاب". وشتَّان الآن ما بين "أَسْلَمة" نظام سياسي (أو اقتصادي، أو اجتماعي) ما، و"نظام سياسي (أو اقتصادي، أو اجتماعي) إسلامي خالص"؛ فـ "الأَسْلَمَة" ممكنة، وواقعية؛ وليس بالأمر المستعصي على المرء أنْ يَجِدَ، إذا ما فَكَّر أو اجتهد قليلاً، في "النَّص"، أو "الظاهرة"، مدار اهتمامه، ما يرغب في وجوده. إنَّ "الأَسْلَمَة" ليس إلاَّ، هي "حقيقة" جماعات وأحزاب "الإسلام هو الحل"؛ وكأنَّ التعبير عن "المشكلات نفسها"، و"الحلول نفسها"، بـ "لغة إسلامية" يكفي للقول بشعار "الإسلام هو الحل"؛ فأين هي الآن "المشكلة الكبرى" التي أَعْجَزت غيرنا عن حلها، ولَمْ تُحلَّ إلاَّ على أيدي أصحاب هذا الشعار، والقائلين به؟! وفي "العولمة"، وبها، تتَّسِع، في استمرار، دائرة المشكلات المتشابهة المتماثلة بين الدول والشعوب كافَّة، وتتَّسِع معها دائرة الحلول المتشابهة المتماثلة؛ والدِّين، أيُّ دِين، ليس في وسعه إلاَّ أنْ يقف على الحياد من هذه المشكلات وحلولها، لأنَّها تَقَع في الخارج من نصوصه، ومن معانيها الحقيقية؛ فإنَّ لكلِّ عصرٍ ما يُميِّزه من "المشكلات"؛ أمَّا "الحلول" فهي "بَنَات" المشكلات نفسها. لقد سعى القائلون بشعار "الإسلام هو الحل" إلى حلِّ بعض المشكلات في مصر؛ ولو نجحوا في حلها لأقاموا الدليل بأنفسهم على أنَّ "حلولهم الناجحة الناجعة" ليس فيها ما يمتُّ بصلةٍ جوهرية إلى هذا الشعار، وأنَّ كل ما فعلوه لا يتعدَّى التعبير عن هذه الحلول الواقعية (المجرَّبة والمُخْتَبَرة في أماكن أُخْرى) بلغة إسلامية. إنَّ واقع مصر الجديد، أيْ الذي خلقته ثورة الخامس والعشرين من يناير، لا يتَحَدَّاهم على "الأَسْلَمَة اللغوية" للمشكلات وحلولها، وإنَّما يَتَحَدَّاهم على قبول الحياة الديمقراطية بصفة كونها جُمْلَة من المبادئ والقِيَم التي تَتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع "الإجرائي" و"الشكلي" منها؛ فإنَّ "الدولة المدنية"، أو "دولة المواطَنَة"، التي هي "دولة الآخر"، في معنى من معانيها الجوهرية، هي السؤال الذي لا بدَّ لهم من إجابته اليوم، وقَبْل غدٍ. ولعلَّ الدَّرس الأوَّل والأهم (أو العبرة الأولى والأهم) الذي نستخلصه من تجربة الثورة المصرية هو أنَّ مصر الخارجة تَوَّاً من أحشاء عهد مبارك، وبما هي عليه الآن من أحوال سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لن تتقدَّم في ثورتها، وصولاً إلى "الدولة المدنية الديمقراطية المتصالحة مع الشعب، بحقوقه ومصالحه"، بـ "صندوق الاقتراع (الذي هو على خُلُقٍ ديمقراطي عظيم)" فحسب؛ فلا أهمية لفوز انتخابي لا يُمَكِّن صاحبه من الحُكْم، ولا أهمية لسلطة تنفيذية مُنْتَخَبَة إذا لم تكن الثورة، التي أخرجتها إلى الوجود، قد أسَّست لـ "معارَضَة" تُصارِع بطرائق وأساليب دستورية، ومن داخل مؤسَّسات النِّظام الديمقراطي. مصر ليست السويد، ولا أي دولة توطَّدت فيها "المواطَنَة"، ومؤسَّسات المجتمع والنِّظام الديمقراطيين؛ وكان ينبغي لمبدأ "عِشْ كما تُريد، ودَعْ غيركَ يَعِشْ كما يريد، فلا يتطاول أحدكما على الآخر بنمط عيشه" أنْ يَحْكُم حياة المصريين الجديدة، وأنْ يُقوِّم كل تناقض تطرَّف طرفاه في التضاد والصراع، فيشعر كل مصري، مهما اختلف عن غيره، ومع غيره، من مواطنيه، أنَّ له مكاناً ودوراً في مصر الجديدة، ويتصرَّف، من ثمَّ، بما يُشدِّد من العزلة الشعبية والسياسية لقوى وجماعات الثورة المضادة، ويجعل مكائدها ودسائسها تنزل برداً وسلاماً على مصر، شعباً وثورةً وحُكْماً ومعارضةً. وفي الأردن، رَأَيْنا كثيرين يَقِفون ضدَّ جماعة "الإخوان المسلمين (وحزبها)"، أو يناصبونها العداء؛؛ لكنَّهم جميعاً يختلفون ويتباينون في الدَّافع والغاية والمصلحة والحيثية؛ وينبغي لنا، من ثمَّ، أنْ نَنْظُر في "الأهم (على ما أرى)"، ألا وهو معرفة "لمصلحة مَنْ يَقِف هذا، أو يَقِف هؤلاء، ضدَّ هذه الجماعة (على وجه الخصوص)"؛ فكل مُتَمَثِّل للمعاني والدَّوافع الحقيقية لـ "الربيع العربي" لا يُمْكِنه إلاَّ أنْ يَقِف (فكرياً وسياسياً) ضدَّ جماعة "الإخوان المسلمين (وأقربائها الأقربين والأبعدين)"؛ لكن (وهذا ما ينبغي لنا فهمه وتمييزه جيِّداً في هذا الزَّمن الرَّمادي) ليس كل مَنْ يَقِف ضدَّها يجب أنْ يكون من جِنْس "الربيع العربي"، وأنصاره. "الدولة" في الأردن كان لها سببها الخاص للحملة على جماعة "الإخوان المسلمين"؛ فهي تَنْظُر إليها، وتعاملها، على أنَّها "الابن العاق"، أو "الذي شَقَّ عصا الطاعة"، و"عصى عصيان إبليس"؛ ولقد قضى الطرفان أجمل أيام حياتهما معاً، يتعاونان على البرِّ والتقوى، أيْ على محاربة "الفكر الشيوعي (الهدَّام)" لَمَّا كان (دولياً وإقليمياً) قادراً على "الهدم". والآن افترقا افتراق زوجين استجمعا في زواجهما، وبه، كل ما يكفي من أسباب للطلاق (الذي ليس بالطلاق البائن بينونة كبرى). "الجماعة" تسعى في أسْلَمَة "الربيع العربي"، وفي تسيير رياحه بما تشتهي مآربها؛ ولا شيء يستبد بتفكيرها إلاَّ قَطْع الطريق على "الشباب الجديد"، وحراكهم، بما يُقصِّر الطريق بينها وبين "انتخابات"، تنتظرها، وتنتظر الفوز فيها، كانتظار الراعي طلوع الأخضر؛ أمَّا "الدولة" المتطيرة من "صندوق اقتراع يمتلئ بالصوت الإسلامي (الإخواني على وجه الخصوص)" فتتعاون الآن على البرِّ والتقوى (الجديدين) مع ما يشبه "الظِّلال التي لا أجسام لها" من جماعات يسارية وقومية وليبرالية وعلمانية، ومع "قوى اجتماعية" تُمثِّل استمرار حُكْم الأموات للأحياء؛ لعلَّها تُوفَّق في سعيها إلى الإتيان بـ "إصلاح" من كلِّ هذا "الحراك الشعبي والشبابي"، يشبه "فأراً" ولده "جَبَلٌ" أتاه الطلق. وإنَّه لخيارٌ يَصْلُح الأخذ به لجَعْل "الدولة الديمقراطية المدنية" هدفاً في غير متناول "الحراك الشعبي والشبابي"؛ وهذا "الخيار اللعين" إنَّما هو "إمَّا دولة تُحْكِم قبضتها على الشيوخ، وإمَّا شيوخ يُحْكِمون قبضتهم على الدولة". الطَّرفان يتصارعان الآن، مع أنَّ كليهما يلعب اللعبة نفسها، ألا وهي لعبة "تسييس الدِّين"؛ "الجماعة" تأخذ على "الدولة" تفريطها في "تديين السياسة"؛ و"الدولة" تأخذ على "الجماعة" إفراطها في "تسييس الدِّين"؛ أمَّا المنتمون إلى "الربيع العربي"، في دوافعه وغاياته الحقيقية، فلا يريدون إلاَّ "دولة لا يُحْكِم الشيوخ قبضتهم عليها"، و"ديناً لا تُحْكِم الدولة قبضتها عليه"؛ وهذا "الحل التاريخي" هو الذي يأتي بـ "الدولة الديمقراطية المدنية"، وهو الذي يعود، في الوقت نفسه، بالنَّفْع والفائدة على الدِّين نفسه. إنَّكَ تستطيع أنْ تقول، وعن صواب، إنَّ الإسلام هو دين سُكَّان، أو مواطني، هذه الدولة، أو إنَّه دين "غالبية مواطنيها"، أو دين "أقلية" منهم؛ أمَّا "الدولة"، وبصفة كونها "شخصية اعتبارية"، فلا دين لها. نقول هذا، ونقول به، حتى لا يعتري مفهوم "الدولة" فساد (أو خلل) منطقي؛ فإذا كانت "المواطَنَة" هي قوام "الدولة"، وإذا كانت "المواطَنَة"، في معناها الجوهري، هي "تساوي المواطنين جميعاً في الحقوق جميعاً"، فهل يبقى من تَماسُكٍ في المنطق إذا ما قُلْنا، بعد ذلك، "إنَّ دين الدولة هو الإسلام"؟! "الدولة (كالوطن)" هي لمواطنيها جميعاً، وبصرف النَّظر عن دين المواطِن، أو قوميته، أو عرقه، أو جنسه، أو لونه، أو طبقته، أو لغته الأُم، أو مسقط رأسه؛ فصفة "المواطَنَة" لا تَعْلوها أي صفة أخرى للمواطِن في "دولة المواطَنَة"، التي لا دولة غيرها في القرن الحادي والعشرين. لا دولة لها دين، ولا دينا له دولة؛ لا دولة يحقُّ لها أنْ تدين بدينٍ، ولا دينا يحقُّ له تَمَلُّكَ دولة. أمَّا "الدولة المُشوَّهَة ـ المُشَوِّهَة" فهي التي يُحْكِم رجال الدين قبضتهم عليها، أو تُحْكِم هي قبضتها على رجال الدين؛ فـ "علمانية الدولة" إنَّما تعني تحرير كلا الطرفين من قبضة الآخر، أيْ تحرير الدولة من قبضة رجال الدين، فلا تديين للسياسة؛ وتحرير رجال الدين من قبضة الدولة، فلا تسييس للدين. بعض الناس العاديين يمكن أنْ يَفْهَم، أو قد يَسْهُل إفهامه، أنَّ "التهجُّم" على "الإخوان المسلمين"، وسائر فروع ومشتقات ما يسمَّى "الإسلام السياسي"، هو تَهَجُّمٌ على "الإسلام" نفسه؛ وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على أهمية وضرورة أنْ يتوفَّر الديمقراطيون الثوريون في مجتمعنا على تقويض هذه الصلة المصطنعة الزائفة بين "الدِّين" نفسه وبين المتَّخِذين أحزابهم "لساناً سياسياً" للدين؛ ولقد أقامت تجارب المزاوجة بين "الدين" و"السياسة" الدليل على أنَّ هذه المزاوجة لا تفيد إلاَّ في شيء واحد، هو تشويه طرفيها معاً؛ فالدين لا يبقى ديناً، والسياسة لا تبقى سياسةً. إنَّ الناس في مجتمعنا يميلون، ويشتد لديهم الميل، إلى أنْ يَزِنوا أقوالهم وأفعالهم وتصرُّفاتهم كافة بميزان "الحلال والحرام". حتى في "السياسة"، وفي "الانتخابات النيابية"، وغير النيابية، يَسْتَفْتون "قلوبهم الدينية"، فتأتي "النتائج" على هيئة ريح تجري بما تشتهي سفينة، أو سفن، "الإسلام السياسي"، وفي مقدَّمه جماعة "الإخوان المسلمين". وهذا إنَّما يعني أنَّ الخيار السياسي (والانتخابي) الأسهل (والذي تَرْجَح فيه كفَّة "الحلال" على كفَّة "الحرام") لدى كثير من الناس في مجتمعنا هو موالاة أحزاب "الإسلام السياسي"، والتصويت، في الانتخابات، لمصلحة مرشَّحيها؛ ولقد تأكَّدتُ ذلك بنفسي، غير مرَّة، وسمعتُ كثيراً من الناخبين يقولون، بعد إدلائهم بأصواتهم، وهٌمْ "مرتاحو الضمير (الديني)"، "يكفي أنَّ هذا المرشَّح إسلامي"؛ وكفى الله المؤمنين شرور التفكير والتمحيص والتدقيق.. وكل جهد يمكنهم وينبغي لهم بذله توصُّلاً إلى تمييز "الغثِّ" من "السمين"، و"النقد المزوَّر" من "النقد الحقيقي"! وهذا الالتباس والاختلاط لدى كثير من الناس هو ما غذَّى ظاهرة "الانتهازية السياسية" لدى جماعة "الإخوان المسلمين"، وسائر أحزاب "الإسلام السياسي"، فالأمر (والذي هو اكتساب النفوذ السياسي، ومزيد منه) لا يحتاج إلى حزب يجتهد في كسب مؤيِّدين له كَسْباً سياسياً صرفاً؛ ويكفي أنْ يكون شعاره "الإسلام هو الحل" حتى "يَسْمَن" سياسياً وشعبياً وبرلمانياً، ويزداد "سمنة"! وطالما زاولوا "الإرهاب الفكري"؛ فهُم لم يتورَّعوا عن "تكفير" معارضيهم، مصوِّرين "الكفر السياسي" بهم، وبأحزابهم، وببرامجهم، وبخطابهم، على أنَّه "كُفْرٌ"، و"مروق من الدين"؛ وكأنَّ "الحزب الديني" هو "الدين" نفسه! حتى "الديمقراطية" ناصبوها العداء زمناً طويلاً؛ ثمَّ تصالحوا معها وهادنوها إذ اكتشفوا أنَّها "الانتخابات" فحسب، وأنَّ هذه "الانتخابات" تَصْلُح، أو قد تَصْلُح، لاتِّخاذها طريقاً إلى السلطة؛ أمَّا "الاحتفاظ بالسلطة" فيمكن أنْ يَشُقُّوا له طريقاً أخرى، وإنْ ظلَّت مزدانة بـ "صناديق الاقتراع"، فيتكلَّل سعيهم، أخيراً، بولادة نظام حكم تَجْتَمِع فيه، شكلاً ومضموناً، "الثيوقراطية" و"الأوتوقراطية". إنَّها "الديمقراطية" التي تُمْسَخ على أيديهم مسخاً تعجز عن الإتيان بمثله حتى ساحرات الإغريق؛ فـ "الدَّسم"، والذي هو كناية عن قِيَم ومبادئ الديمقراطية، يُنْزَع منها؛ وكأنَّ "الكفر" هو تلك "القِيَم والمبادئ"، و"الإيمان" هو "الانتخابات" فحسب، أيْ "الانتخابات" التي جعلوها جسداً خَرَجَت، أو أُخْرِجَت، منه "الروح". وإذا كان زمن "الدولة القومية" قد ولَّى وانقضى، فكيف لهم أنْ يعلِّلوا أنفسهم بوهم أنَّ زمن "الدولة الدينية" لَمَّا ينقضِ؟! دَعْهُم يَنْزِلون إلى "الميدان"، ويهبطون إلى "عالَم السياسة الواقعي"، حيث "الحقائق" تُزْهِر، و"الأوهام" تذوي، وإلاَّ ظلَّ الناس ينظرون إليهم بعيون تغشاها الأوهام؛ ولقد نزلوا، وهبطوا؛ وكانت العاقبة هي ظهورهم على الملأ عُراةً من أوهام لبسوها زمناً طويلاً، وحَجَبوا بها أبصار وبصائر الناس عنهم، وعن الواقع. في خرافة إغريقية، وقف اثنان على قمة جزيرة رودوس، فقال أحدهما للآخر متبجِّحاً: "لقد قفزتُ من قبل، وغير مرَّة، من هذه القمة إلى البحر"، فما كان من الآخر إلاَّ أنْ تحدَّاه قائلاً "نحن هنا، فَلْتَقْفِز الآن من هنا"! و"رودوس"، في مصر وتونس، تَحدَّتْهُم، وتتحدَّاهم، أنْ يَقْفِزوا من قِمَّتها إلى البحر؛ فلقد حان لشعوبنا، التي آمنت زمناً طويلاً بـ "حلٍّ نهائي" يأتيها به "المهدي المنتظَر"، أنْ تَخْتَبِر "الشعار" و"الرؤية"، لعلَّ النتائج والعواقب تهديها سواء السبيل، وتجعلها تَنْظُر إلى الأمور، من ثمَّ، بعيون يقظة لا تغشاها أوهام. لقد صوَّت الشعب في مصر، عملاً بـ "الخيار الأسهل"؛ فشعوبنا التي لم تَعْرِف من قبل شيئاً يُعْتَدُّ به من الحياة الديمقراطية، وتقاليدها وثقافتها، ولم تَعْتَدْ وتألَف بعد لعبة الصراع الديمقراطي، ولم ترَ من الحياة السياسية الحزبية ما يعينها على تمييز الغثِّ من السمين، استسهلت، وتستسهل، التصويت لكل مرشَّحٍ (أفرداً كان أم حزباً) يتَّخِذ له من "الإسلام" اسماً أو صفةً، فيأتي تصويتها أقرب إلى الفعل الغريزي منه إلى الفعل الواعي؛ وهذا ليس بالأمر المستغرَب؛ ولسوف يتغيَّر هذا التصويت، بدوافعه وحوافزه، مع إتيان تجربة حكم الإسلاميين بنتائج تذهب بكثيرٍ ممَّا توقَّعه الشعب. إنَّ أسئلة "الدولة المدنية"، و"الديمقراطية"، حقوقاً وقِيَماً ومبادئ، و"المواطَنة"، و"العولمة"، بخيرها وشرِّها، و"التعددية"، و"الآخر"، و"المرأة"، و"الأقليات (الفكرية والثقافية والعرقية والقومية)"، و"التداول السلمي والديمقراطي للسلطة"، و"الصراع القومي (العربي) ضدَّ إسرائيل، وضدَّ الهيمنة الغربية، هي بعضٌ من أهم الأسئلة التي تتحدَّى أحزاب "الإسلام السياسي" أنْ تجيب عنها بما يجعلها أهلاً للحكم، وللعيش، فكراً وثقافةً وسياسةً وخطاباً، بما يوافِق واقع وحقائق القرن الحادي والعشرين، و"الربيع العربي" بما انطوى عليه من معانٍ وقِيَم ومبادئ. "الديمقراطية"، بقضاياها وقِيَمِها ومبادئها، وبما يتفرَّع منها، ويُشْتَق، من مفاهيم كمفهوميِّ "الدولة المدنية" و"العلمانية"، هي الآن، أو من الآن وصاعداً، مدار جَدَلٍ عربيٍّ جديدٍ، أكْسَبَهُ "الربيع العربي"، وفي تونس ومصر على وجه الخصوص، أهمية عملية ثورية لم نعرفها من قبل؛ والمُجَادَل في أمْرِها، هذه المرَّة، هو "الإسلام السياسي" الذي دانت له السلطة، من طريق "صندوق الاقتراع (الشَّفاف)"، الذي جاء، هذه المرَّة، من رَحْم "الربيع العربي". وفي مُهِمَّة، تُشبْه في استعصائها خروج المرء من جلده، توفَّر ممثِّلو وقادة "الإسلام السياسي"، وفي مقدَّمهم جماعة "الإخوان المسلمين"، والأحزاب التي تَسْتَحْدثها هذه الجماعة للاشتغال بالسياسة، على تقويم التناقض بين "الإسلام" و"الديمقراطية (بقيمها ومبادئها العالمية، الغربية الأصل والمنشأ)"، مستفيدين، في هذا الصَّدد، وبقَدْر الإمكان، من تجربة حزب أردوغان في تركيا. من قَبْل، توفَّر الحاكمون باسم الدِّين، أيْ باسم الإسلام، في عالمنا العربي، و"أهل الفكر والقلم" من ذوي المصلحة في خدمتهم، على إنتاج فِكْرٍ (بعضه سياسي) تُحَرَّم فيه "الديمقراطية"، وتُلْعَن وتُذَم وتُشَيْطَن، ويُصَوَّر الاستبداد، الذي عاينته شعوبنا، وعانت منه كثيراً، على أنَّه خَيْر نظام حُكْمٍ، أو نظام سياسي، أُخْرِج للناس. ومع اشتداد حاجة شعوبنا ومجتمعاتنا العربية إلى "الديمقراطية"، شرع بعض المفكِّرين الإسلاميين يَسْعُون إلى مَدِّ جسورٍ بين "الإسلام" و"الديمقراطية" من طريق الاقتطاع والاجتزاء، أيْ من طريق أخْذ ما اعتدُّوه صالحاً من قِيَم ومبادئ الديمقراطية، ولا يَجِدَ له صَدَّاً في الفكر الإسلامي، مؤسِّسين لِمَا أسموه "الديمقراطية الإسلامية"، والتي تُذكِّرنا بمصطلحات "الديمقراطية الاشتراكية"، و"الديمقراطية الشعبية"، و"الديمقراطية الثورية"، و"الديمقراطية الرشيدة المسؤولة"؛ ولقد تصالح بعض من هؤلاء مع "العلمانية"، مُكْتَشِفين خَيْراً دينياً في الفصل بين "الدِّين" و"الدولة"؛ فـ "العلمانية"، على ما كشفوا واكتشفوا، تُخلِّص وتُحرِّر، أيضاً، رجال الدِّين، والدِّين، من قبضة الدولة ورجالها. باسم الدِّين، حاربوا من قَبْل، وزمناً طويلاً، "الديمقراطية"؛ وإنَّ أخشى ما أخشاه الآن أنْ تُحارَب "الديمقراطية"، التي لا دين لها، ولا جنس، ولا عِرْق، باسم "الشعب"؛ فجماعة "الإخوان المسلمين"، في مصر، على سبيل المثال، أو على وجه الخصوص، قد اسْتَذْرَعَت بـ "إرادة الشعب"، وبفوزها بتأييد وثقة غالبية الناخبين المصريين، لمَسْخ وتشويه وتصغير كثيرٍ من معاني الديمقراطية؛ وهذا ما أنبأ به بعضٌ من أقوالهم ومواقفهم التي أدلوا بها، ووقفوها، بعد انتصار "صندوق الاقتراع" لهم. ومنسوب الديمقراطية في الانتخاب يتضاءل مع الزَّج بالدين والمال والتعصُّب القبلي والعشائري..، في "الدَّافع الانتخابي" للناس؛ فالضمير الدِّيني، والضمير العشائري، والضمير الذي يُباع ويُشْرى، هي ضمائر ضدَّ الضمير الديمقراطي للناخب؛ فكيف للانتخابات عندنا أنْ تكون متصالحة مع قِيَم ومبادئ الديمقراطية إذا ما كانت إراحة الضمير الدِّيني للناخب هي ما يَحْمِله على إعطاء صوته لكل مرشَّح (فرداً كان أم حزباً) يُقدِّم نفسه على أنَّه "الإسلام"، و"الحلال السياسي إسلامياً"؟! إنَّ "الانتهازية الانتخابية (والسياسية)" لدى "المرشَّح الدِّيني"، مع تصويت الناخب بما يريح ضميره الدِّيني، هي ما يَجْعَل "صندوق الاقتراع" عندنا عاجزاً عن الإفصاح عن إرادة شعبية تَضْرِب جذورها عميقاً في المصالح والحاجات الواقعية للناس. في "الديمقراطية"، وبها، يتحسَّن، شكلا ومحتوى، مفهوما "الأكثرية" و"الأقلية"؛ ويتأكَّد أنَّ "الأكثرية" التي يتوفَّر على صُنْعِها "الدِّين" أو "الدَّم" أو "المال" هي خير دليل على ضآلة وزن القيم والمبادئ الديمقراطية في حياتنا السياسية، وفي انتخاباتنا على وجه الخصوص. "الربيع العربي" لن يَكْتَمِل إلاَّ بالتأسيس لحياة سياسية قوامها أنَّ "الدولة" و"السياسة" هما شأنٌ دنيوي خالص؛ فلا وجه للشبه بين "الديمقراطية" و"الدينقراطية"! إنَّنا، وإلى الآن، لم نُجِبْ، بما يكفي من الوضوح والاستقامة والموضوعية والنزاهة، عن سؤال "الأحزاب الدينية (الإسلامية)"، ولجهة "مبدأ وجودها السياسي"، و"حقِّها في هذا الوجود"، ولجهة حقِّها، أيضاً، في الانتقال (الديمقراطي) من موقع المعارَضة إلى موقع الحُكْم؛ ولا ريب في أنَّ جزءاً كبيراً من هذه البلبلة (الفكرية والسياسية) تتحمَّل مسؤوليته حكومات عربية، وَقَفَت (تاريخياً) من "الأحزاب السياسية الإسلامية" مواقف متناقضة، تَعْكِس، في المقام الأوَّل، تناقض مصالحها (وغاياتها وأغراضها ودوافعها السياسية). وفي محاوَلة لجلاء بعض الأمور، ولخفض منسوب هذه البلبلة، نُعَرِّف "الحزب السياسي الإسلامي" على أنَّه جماعة منظَّمة من المسلمين، تُؤمِن وتَعْتَقِد بالصلاحية السياسية للفكر الإسلامي، وبوجوب اشتقاق واستخلاص وإنشاء وتطوير آراء ووجهات نظر ومواقف (وبرامج سياسية حزبية) من هذا الفكر، الذي، وعلى ما يرون، يتَّسِم بـ "الشمولية"، ولن تشذَّ حتى "السياسة" عن "شموليته". منذ بعض الوقت، وفي مناخ "الربيع العربي"، والذي فيه عَظُم وتعاظم وزن "الإسلام السياسي" في حياتنا السياسية، اشتدَّ مَيْل بعض الحكومات (أو أنظمة الحكم) العربية إلى "حلٍّ" يقوم على مبدأ "الحَظْر"، أيْ حَظْر قيام أحزاب سياسية على أساسٍ دينيٍّ؛ لكنَّ "التعليل" و"التفسير" لم يقعا على أسماع شعبية تشبه أسماع الحكومات (ومؤيِّديها القدامى والجُدُد). لماذا؟ لأنَّ الحكومات نفسها لم تُجِبْ عن "السؤال الأُم"، ألا وهو "هل للسياسة (بمعناه الواسع) من موقعٍ، ومن أصلٍ، في الفكر الإسلامي؛ ولا بدَّ، من ثمَّ، للمشتغلين بالسياسة من المسلمين، من أنْ يتوفَّروا على إنشاء وتطوير وجهات نظر سياسية (أيْ وجهات نظر في كل أمْرٍ وشأن سياسي) انطلاقاً من هذه المرجعية الفكرية الدينية الإسلامية؟". إذا أجابوا بما يجعلهم مُقرِّين ومُعْتَرفين بهذه الصلة (الجوهرية والحتمية والطبيعية) بين "الدِّين (الإسلامي)" و"السياسة"، فلن يحِقَّ لهم، بعد ذلك، وبسبب ذلك، أنْ "يحظروا" قيام أحزاب سياسية تتَّخِذ من الدِّين (الإسلام) مرجعية لها في كل أمْر وشأن سياسي؛ فإنَّ في هذا "الحظر" ما يشبه "تحريم حلال"، أو "تحليل حرام"، بالمعنى الدِّيني (الإسلامي) للحلال والحرام. الحكومات، وقبل أنْ تقرِّر هذا "الحظر"، ومن أجل أنْ تكون "مُقْنِعة" للناس في قرارها، وتُخَفِّض منسوب "النِّفاق" في موقفها، ينبغي لها أنْ تَحْسِم أمْر "الصِّلة بين الدِّين والسياسة"؛ فإمَّا أنْ تُقِرَّ بوجود، وبوجوب وجود، الصِّلة بين الاثنين، وإمَّا أنْ تَفْصِل، وتؤيِّد الفصل والانفصال، بين الدِّين والسياسة. الحكومات لن تكون "مُقْنِعة" للناس إنْ هي قرَّرت الفصل بين "الدِّين" و"الحزب"، لتُبْقي، في الوقت نفسه، على المزاوجة بين "الدِّين" و"الدولة". إنَّ أسوأ ما في ظاهرة "الحزبية السياسية الدينية" هو إخضاع الحياة السياسية (لمجتمع مسلم، يشتد ميل أبنائه، والشباب منهم على وجه الخصوص، إلى التديُّن) لمبدأ "الحلال والحرام"؛ فالمؤسَّسات والأحزاب الدينية غرست في عقول العامَّة من الناس فكرة مؤدَّاها أنَّ الآراء ووجهات النَّظر والمواقف السياسية يجب أنْ تُوْزِن هي أيضاً بميزان "الحلال والحرام"؛ أوَلَمْ يُصَوَّر إدلاء الناخب المصري بصوته في الانتخابات، ولمصلحة مرشَّح إسلامي، على أنَّه طريق إلى الجنَّة؟! أوَلَمْ يُصَوِّر بعض المرجعيات الدينية معارضي جماعة "الإخوان المسلمين"، في مصر، على أنَّهم "أعداء الله"، مُسْتَعْملين في وصفهم عبارات لا يفهمها العامَّة من الناس المسلمين إلاَّ بما يُنْجِح الجهود والمساعي المبذولة لشيطنة هؤلاء المعارضين، وكأنَّ الصراع الانتخابي هو صراع بين "حزب الله" و"حزب الشيطان"؛ بين "الحق" و"الباطل"؟! إنَّ "الانتهازية (السياسية)" في موقفهم واضحة جلية؛ فَهُمْ يَسْتَثْمِرون "رؤوس أموالهم السياسية" في "الإيمان الدِّيني (المتنامي)" لدى العامَّة من الناس المسلمين، والذي ضيَّقوا؛ لا بَلْ ألغوا، المسافة بينه وبين "الإيمان السياسي"؛ فاقتسموا مع الناخبين "الثِّمار الطَّيِّبة"، فَهُمْ لهم "السلطة"، وناخبوهم لهم "الجنَّة"! ولقد غدا الناخب المسلم في تصويته لهم كَمَن يُخْرِج "الصَّدَقة"، أو كَمَن يعطي شيئاً تَقَرُّباً لله، ورجاء الثواب والمكافأة؛ وغدوا هُمْ، بمرشَّحيهم، كالفقراء والمساكين (سياسياً) يستحقُّون "الصدقات (الانتخابية)"! إنَّهم (ومهما ادَّعوا) لم يؤسِّسوا إلاَّ لفكرٍ سياسي دنيوي ألبسوه، فحسب، لبوساً دينياً؛ فَهُم لم يأتوا بإجابات دينية "نَصِّية"؛ لعدم وجود إجابات كهذه، عن "أسئلة سياسية يُثيرها واقع الحياة السياسية"؛ فاتَّخذوا من "الاجتهاد" طريقاً، فأتى "مُنْتَج" الاجتهاد متلفِّعاً بلغةٍ دينية؛ لكنَّ "محتواه الفكري ـ السياسي" كان دنيوياً خالصاً (ولا يمكنه أنْ يكون غير ذلك) لا يَخْدُم إلاَّ مصالح ومآرب فئوية ضيِّقة (سعوا في إظهارها على أنَّها الخَيْر، كل الخَيْر، للعامة من الناس). وهذا "المُنْتَج" تَناقَضَت المواقف الإسلامية منه لتناقض مصالح أصحاب هذه المواقف؛ فقلَّما وصلوا من طريق "الاجتهاد" إلى رأيٍّ أو وجهة نظر أو موقف.. يتواضعون عليه جميعاً، أو في أكثريتهم؛ فكل "مُنْتَج" لم يأتِ إلاَّ من طريق صراعٍ يخوضونه ضدَّ بعضهم بعضاً، ولم يؤدِّ إلاَّ إلى إثارة مزيدٍ من النزاع بينهم؛ فهذا يُحلِّل (سياسياً ـ دينياً) ما حرَّمه ذاك؛ وذاك يُحرِّم ما حلَّله هذا؛ فالتبس الأمر، وأشْكَل، على العامَّة من المسلمين، فغدا "الانشقاق"، فكراً وموقفاً، سمة "الأسلمة" لحياتنا السياسية. حتى في "الربيع العربي" رأيْنا من مشاهد "الأسلمة" لحياتنا السياسية ما يَصْلُح تأسيساً لشيء من "الوثنية"؛ فالأوثان (والأصنام) تعود إلى الظهور؛ لكن على هيئة بَشَر؛ فهذا الرَّجُل المرجعية، تُقَبَّل يده (الكريمة الطاهرة) ويَنْحَنون أمامه إجلالاً وتعظيماً؛ أمَّا هو فيَلْعَب، ويجيد لعبة، "الزُّهد في السلطة"؛ فصفة "المُرْشِد العام (أيْ "الخليفة السِّرِّي")" خيرٌ وأبقى! ما أنْ تشرع شعوبنا ومجتمعاتنا تتلمَّس طريقها إلى الحياة الديمقراطية، كما هي حالها الآن في مناخ "الربيع العربي"، بتناقضاته الظاهرة والكامنة، حتى تَبْرُز إشكاليتنا السياسية ـ التاريخية الكبرى، ألا وهي إشكالية الصِّلة بين "الدِّين" و"السياسة"، والتي هي جزء من إشكالية أوْسَع وأشمل وأعَم، هي إشكالية الصِّلة بين "الدِّين" و"الشأن العام"، بصوره وأشكاله غير السياسية؛ وفي سياق الجدل الذي يحتدم، يَبْرُز، أيضاً، وبالضرورة، "التحدِّي المتبادَل" بين "الدِّين" و"الديمقراطية (بأوجهها وقِيَمها ومبادئها المختلفة والعالمية)"؛ فكلاهما يتحدَّى الآخر أنْ يتصالح معه، وإنْ أتت التجربة بما يقيم الدليل على صعوبة واستعصاء هذا الأمر. الأمر صَعْبٌ ومُسْتَعْصٍ؛ فكيف لكَ أنْ تُقْنِع كل مُشْتَغِلٍ بالسياسة من طريق "حزب سياسي ديني (إسلامي)" بأنَّ لـ "الديمقراطية (غير الممسوخة)" ميزان "حلال وحرام" خاصَّاً بها، وأنَّها، من ثمَّ، تَنْظُر إلى كل تديين للسياسة (الدنيوية من ألفها حتى يائها، ومن رأسها حتى أخمص قدمها) على أنَّه "حرامٌ ديمقراطياً"، واستثمار غير شرعي (من وجهة نظر ديمقراطية) لنوعٍ من "الرأسمال السياسي"، الذي نحن في غنى عنه، ولا نحتاج إليه، في الوجدان الدِّيني للعامَّة من الناس، وسعيٌ منظَّم إلى جَعْل الناس يَزِنون الآراء ووجهات النَّظَر والمواقف السياسية.. بميزان "الحلال والحرام الدِّيني"، والذي يعود إلى "المُرْشِد" حقَّ استعماله؟! وكيف لكَ أنْ تُقْنِعَه بما هو في منزلة "المبتدأ"، أو "الأصل" في الحياة الديمقراطية، وهو "دولة المواطَنة" التي فيها يُقام "سور صيني" بين "الفروق الدِّينية (بين المواطنين)" وبين "المساواة بينهم جميعاً في الحقوق جميعاً، وفي مقدَّمها الحقوق السياسية والانتخابية"؛ فـ "الفَرْق الدِّيني" لا يُتَرْجَم، وينبغي له ألاَّ يُتَرْجَم، بأيِّ فَرْق في الحقوق والواجبات السياسية؟! وهذا إنَّما يعني، على وجه الخصوص، "عَلْمَنة المناصب العامة جميعاً في الدولة"، فليس من منصب عام، ومهما سما وعلا، تعود مِلْكِيَتِه الأبدية إلى دين ما، أيْ إلى مُنْتَمٍ إلى دين ما؛ فشرعية كل منصب عام هي سياسية، وتُستَمَدُّ فحسب من صندوق اقتراع ديمقراطي شَفَّاف؛ فلا فَرْق في "الأوزان" إلاَّ الفَرْق الذي يُظْهِره "ميزان الانتخابات الحُرَّة الديمقراطية النزيهة"؛ ولا بدَّ في الحياة السياسية للمجتمع الديمقراطي (وفي دولة المواطَنة، وفي الدولة المدنية) من "التحييد السياسي لكلِّ فَرْق ديني". وكيف لكَ أنْ تُقْنِعَه بأنَّ النأي بـ "السياسة" عن "الدِّين"، وبـ "الدِّين" عن "السياسة"، وبالكَفِّ عن لعبة اشتقاق "السياسة" من "الدِّين"، ليس من الكُفْر في شيء، وهو الذي رضع (وسعى في إرضاع غيره) فكرة "الإيمان الدِّيني القويم يَظْهَر ويتأكَّد بالاشتغال بالسياسة بصفة كونها جزءاً من الكل الفكري الدِّيني"، وكأنْ لا شرعية لـ "سياسة" إلاَّ "الشرعية الدِّينية"، التي يتوفَّر على صناعتها رَهْطٌ (غير مُنْتَخَب) من ذوي الاختصاص في تمييز "الحقِّ" من "الباطِل"، و"الحلال" من "الحرام"، و"الشرعي" من "غير الشرعي"، في كل شأنٍ من شؤوننا السياسية والعامَّة، مع أنَّ التجربة التاريخية لعملهم لم تأتِ (على وجه العموم) إلاَّ بما يُثْبِت ويُؤكِّد أنَّ "مصالح دنيوية وسياسية فئوية ضيِّقة (لا بل مصالح شخصية)" كانت تَكْمُن في كل جهد، وفي مُنْتَج كل جهد، يبذلونه لتديين السياسة، وأنَّ "المصالح العامَّة"، أيْ مصالح الشعب، أو "الرَّعية"، لم تتعدَّ كَوْنها الغلاف الذي تُغلَّف به مصالح حُكَّامهم ومموِّليهم؟! إنَّ استثمار "السياسة"، أيْ نمط منها، في "الوجدان الدِّيني" للعامَّة من الناس هو الأسوأ على وجه الإطلاق؛ حتى تجويع إنسانٍ ما توصُّلاً إلى جعله يخضع ويستخذي لمشيئتك وإرادتكَ يَقِلُّ سوءاً عنه؛ فهل يبقى من أثرٍ للحرِّية السياسية إذا ما نَفَثْتَ في روع مواطِنٍ (أو ناخِب) أنَّ هذا الخيار السياسي "حرامٌ (يُغْضِب الله، أو لا يرضيه)"، وأنَّ ذاك هو "الحلال (الذي يرضي الله، فيُثِيبُكَ بأخذكَ به جنَّات تجري من تحتها الأنهار)"؟! وكم رَأَيْنا "الخيار السياسي الحلال" يتمخَّض عمَّا يعود بالضرر على "المصالح الحقيقية الواقعية" للذين زَيَّنوا لهم الأخذ به، وبالنَّفْع على ذوي المصالح (الدنيوية) الفئوية الضَّيقة؛ وكم رَأَيْنا أولئك المتضررين (أيْ الشعب) يُعلِّلون أنفسهم بعزاء "حُسْن الثَّواب"! إنَّنا في زمن يَجْعَل خداع أحدنا للآخر مهمَّة من دون نجاحها خرط القتاد؛ فالمشتغلون بسياسةٍ يتوفَّرون على تديينها (أو أسلمتها) إنَّما هُمْ (في حقيقتهم العارية) طُلاَّب حُكْمٍ وسُلْطةٍ بما يعنيه لهم دنيوياً الحُكْم والسلطة؛ وهُمْ، من ثمَّ، مكيافليون أكثر من مكيافلي نفسه، ومُتمثِّلون لمعاني "الأمير" أكثر من صاحبه؛ فـ "الوجدان الدِّيني" للعامَّة من الناس إنَّما هو وسيلتهم للتضخُّم، ولمزيدٍ من التضخُّم، "الشعبي ـ السياسي ـ الانتخابي" لحزبهم؛ ولو أمْعَنَّا النَّظر في جوهر صلتهم السياسية ـ الدِّينية بالمُسْتَخْذين لمشيئتهم من الناس لَوَجَدْنا أنْ لا فَرْق يُذْكَر بينهم وبين باعة "صكوك الغفران"، وأنَّهم يشبهون كثيراً المضاربين في سوق الأسهم؛ فَهُم، ولدى وجودهم في "المعارَضة"، يشترون الرَّخيص من الأسهم (وهي كناية عن منافِع ديمقراطية لهم) فإذا آل إليهم الحُكْم والسلطة باعوا الأسهم نفسها بأغلى الأسعار (أيْ قَتَّروا ديمقراطياً على معارضيهم). عهد مبارك الدكتاتوري لم يكن، على ما يتوهَّم بعض المثقَّفين المناوئين لـ "الإسلام السياسي"، نَفْياً لقوى "الإسلام السياسي"، التي ما زالت، فكراً وخطاباً وشعاراً وممارَسةً، عقبة كأداء في الطريق المؤدِّية إلى قيام "الدولة الديمقراطية المدنية"؛ فذاك العهد كان "الرَّحم" الذي فيه نما هذا "الجنين"، أيْ قوى "الإسلام السياسي"؛ أمَّا "الربيع الثوري الديمقراطي" في مصر فكان "القابلة" التي على يديها وُلِدَت تلك القوى، وأبصرت النور؛ فالديمقراطية (ولو بحدِّها الأدنى) لا تَخْلق من العدم "الإسلام السياسي"، قوى وجماعات ونزعات واتِّجاهات؛ وإنَّما تُظْهِر (ليس إلاَّ) ما كان منه (أيْ من "الإسلام السياسي") كامناً؛ وهي (أيْ الديمقراطية) لا تَجْعَل المجتمع يُعطي إلاَّ ما يملك؛ فإنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولو أسبغنا على المجتمع المصري نعمة الديمقراطية السويدية. لقد خرجوا (بفضل "الربيع الثوري الديمقراطي") من "الظلمات" إلى "النور"، ولو كانوا، أو كان بعضهم، أقرب إلى "الظلمات" منه إلى "النور"؛ ولم يكن في وُسْع أي ديمقراطي (ينشد "الدولة الديمقراطية المدنية") أنْ يمنعهم من الخروج، أو يعيدهم إلى "الظلمات"، من غير أنْ يُقوِّض بنفسه، وفي الوقت نفسه، أساس الديمقراطية الوليدة الناشئة. في الغرب تستطيع أنْ تنتصر للقِيَم والمبادئ الديمقراطية (العالمية) كافة، ولـ "الدولة المدنية"، بمعانيها ومقوِّماتها وأوجهها كافة، فيَنْتَصِر لها معكَ الشعب كله تقريباً؛ أمَّا عندنا، والآن، حيث "الربيع الثوري الديمقراطي" ما زال يَحْبو، ولم يمشِ على قدميه بَعْد، فلن تستطيع الانتصار لهذه وتلك من غير أنْ تَهْزِم الغالبية الشعبية، أو تجعلها تَهْزمكَ. بما تيسَّر للشعب المصري (حتى الآن) من ديمقراطية ظَهَر وطفا إلى السطح (من حياته السياسية والفكرية) كثيرٌ من ميوله ونزعاته واتِّجاهاته التي ليست من جنس الميول والنزعات والاتِّجاهات التي تسمح بقيام "دولة ديمقراطية مدنية (على الطراز الغربي)"؛ وكانت الغلبة الشعبية والانتخابية، من ثم، لقوى وأحزاب "الإسلام السياسي"، التي ترى الديمقراطية على هيئة "صندوق اقتراع" فحسب، أو في المقام الأوَّل؛ لكنَّ هذا المسار الذي سار فيه "الإسلام السياسي" صعوداً، هو نفسه الذي يمكن ويجب أنْ يسير فيه هبوطاً؛ فـ "الإسلام السياسي" لا يمكنه أنْ يسير في هذا المسار صعوداً من غير أنْ يَسْتَجْمِع، في الوقت نفسه، أسباب السَّيْر فيه هبوطاً؛ على أنْ يستمر، ويَعْظُم، الضغط الشعبي "الآخر"، والسِّلمي، لِرَفْع منسوب الديمقراطية، في استمرار، في حياة المجتمع السياسية، وغير السياسية. "السَّلَفيون"، و"الجهاديون"، هُمْ، أيضاً، من مشتقات وإفرازات "الإسلام السياسي"؛ ولو سألْتَ شاباً سَلَفِياً ساذجاً عن السبب الذي جعل "الأمَّة" مهزومة دائماً في مواجهة إسرائيل، وفي الدرك الأسفل من الوهن والضعف، لأجابكَ على البديهة قائلاً إنَّ السبب هو أننا لم نبدأ بإصلاح أنفسنا؛ أمَّا هذا "الإصلاح" فمعناه عندهم هو الأخذ بـ "الطالبانية"، أو بما يشبهها، نهج حياة وأخلاقاً وسلوكاً.. وهذا "الإصلاح الطالباني" يبدأ بـ "التكفير"، أي بـ "تكفير" الغالبية العظمى من العامة من المسلمين لكونهم يلبسون ويأكلون ويشربون ويحتفلون ويفرحون ويحزنون ويتعلمون ويتزوجون.. في طريقة تخالف "شرع الله"، كما يفهمه ويتصوَّره ويفسِّره الشيوخ السلفيون الجهاديون، الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنَّهم قوم اصطفاهم الله ليقيموا الحدود، ويطبِّقوا "شرعه"، ولو بنيران الحرب الأهلية بين "المؤمنين" و"الكفَّار"، الذين هم، في معتقدهم، الغالبية العظمى من العامة من المسلمين. نحن الآن مُبْتَلون بجماعات سلفية، تشترِك جميعاً، على ما يُفرِّق بينها، في خاصية جوهرية هي أنَّ أيَّاً منها لا يمكنه أن يؤكِّد وجوده إلاَّ بـ "سلبية مدمِّرة"، قوامها تكفير غيره من الجماعات، والغالبية العظمى من العامة من المسلمين، وفَهْم قتلهم وإيذائهم والاعتداء عليهم، وعلى ممتلكاتهم، على أنَّها أعمال لا تختلف في شيء عن جوهر عقيدة الجهاد في سبيل الله. ولقد جاءت تجارب "السلفية الجهادية" بما يؤكِّد أنَّ أعداءنا الحقيقيين نجحوا في توجيه "القوَّة التدميرية" لتلك الجماعات نحو الداخل؛ وكان يكفي أن تصاب تلك الجماعات بـ "عجز موضوعي (أو ذاتي)" عن اكتساب النفوذ من خلال الجهاد ضد إسرائيل حتى تشتد لديهم الحاجة إلى "الطالبانية"، طريقاً ونهجاً لـ "إصلاح ذاتي"، يتَّخِذ من "الإمارة" أداة لإقامة الحدود، ولتطبيق "شرع الله"، ولو كانت العاقبة النهائية هي تدمير البقية الباقية من الوجود القومي للعرب، وجَعْل "إسرائيل العظمى" حقيقة واقعة. هل ينبغي لنا أن نجرِّب هذا الذي جرَّبته أوروبا من قبلنا حتى نعي ضرورة حظر "تسييس الدين" و"تديين السياسة"، وجعل حياتنا السياسية والحزبية بمنأى عن كل عصبية دينية وطائفية ومذهبية؟! لقد حان لنا أن نَفْرِض على الموتى الجدد أن يدفنوا موتاهم، وأن نُثْبِت أننا أبناء الحاضر والحياة، لا نسمح لكائنات الوهم ولممثِّلي الماضي والموت بأن يقودوا الأمة إلى الهلاك، فعربٌ نحن؛ وقد وُلِد فينا هذا الشعور مُذْ وقعت معركة ذي قار، ولا مجتمع ننشد سوى المجتمع القومي المدني الديمقراطي الذي لا مكان فيه لممثِّلي الأموات والموت من الطرفين. "التكفير"، في حدِّ ذاته، ليس بالجريمة التي يرتكبها المُكَفِّر في حق المُكَفَّر، فأنتَ لو كنتَ في مجتمع تسرى في أفراده وجماعاته قيم ومبادئ الحياة الديمقراطية سريان الدم في العروق، أي في مجتمع غير مجتمعنا، وأظْهَرتَ من اختلاف الفكر والرأي والمعتقَد (والسلوك) ما يَحْمِل غيرك على تكفيرك، أي على اتِّهامكَ بالمروق من الدين، الذي لا يرى دينا حقيقيا سواه، أو بالإلحاد، لنزلَ عليكَ هذا الاتهام بردا وسلاما، فكُفركَ، إذا ما كان أكيداً، وإذا ما كنتَ غير مُنْكِر له، وتكفيره لكَ، لا ينتهيان إلا إلى ما ينتهي إليه كل اختلاف وخلاف (ديمقراطيين) في الرأي، فلا أنتَ ولا هو تغدوان في هيئة العدو الذي تُسْتباح (أي تصبح مباحة) الوحشية والجريمة في محاربته. عندنا فحسب يغدو، ويجب أن يغدو، "التكفير" جريمة، يُعاقَب مرتكبها أشدَّ عقاب، ولو ارتكبها في حق شخص لا يُنْكِر كفره؛ ذلك لأنَّ "التكفير"، الذي طالما لوَّن تاريخنا السياسي والفكري، يؤسِّس شريعةً للقتل، والاقتتال، ولإهدار الدم، ونشر الظلم، فلا أسوأ من إنسان يعتقِد أنَّه بتكفيره لمخالِفه في الدين والعقيدة والفكر، وبعقابه له، أو بالدعوة إلى عقابه، أشدَّ عقاب، يُرضي الله، فيرضى عنه، ويُكفِّر عنه سيئاته! هذا النمط من "التكفير"، الذي فيه يتحوَّل، أو يُحوَّل، "المُكَفَّر" إلى عدو من النمط الذي تُسْتباح فيه كل الوسائل لمحاربته، حان له أن يُنْزَع من عقل المؤمِن وقلبه، وأن يُعامَل في كل ثقافة دينية (شعبية) على أنَّه كُفْرٌ، ومروق من الدين، وخروج عن الإيمان الديني القويم الذي لا يُحِلُّ أبدا جعل الاختلاف والخلاف في الدين والعقيدة والفكر سببا للعداء.. وللعداء المفضي إلى القتل والاقتتال، وإلى التخلي عن كل صراع مفيد ونافع بالمعيار القومي والديمقراطي والاجتماعي والإنساني والحضاري، فالمجتمع الذي يَقَع، أو يُوْقِع نفسه، في هوة الصراع الديني، الذي تتلفع به، على وجه العموم، مصالح فئوية ضيقة، إنَّما هو المجتمع الذي نجح في أن يكون العدو الأول لنفسه، لمصالحه العامة والحقيقية، ولحقوقه الديمقراطية والقومية والحضارية. وليس من عصبية مُعْمية للأبصار والبصائر، ومُنْتِجة للوحشية في الصراع، أكثر من العصبية الدينية، التي من عواقب تسعيرها، أيضا، أن يغدو العدو (الحقيقي والأعظم) وليِّاً حميماً، والشقيق (والصديق) شيطاناً رجيماً. إنَّ عبارات مِنْ قبيل "أحلَّ الله هذا"، أو "حضَّ عليه"، أو "دعا إليه"، أو "أمرَ به"، ليست بالعبارات "المعدومة الأثر" في النفس والسلوك؛ ولقد شرح لنا أحد "الأمراء"، من الجماعات التكفيرية، تلك "المعايير الدينية"، التي بما يتَّفِق معها ينبغي لنا تمييز "العدو" مِنْ "غير العدو"، أي مِنَ "المسلم"، المستوفي لشروط انتمائه إلى الإسلام كما يُقرِّها، أو يفهمها، هذا "الأمير". وهذه المعايير لا مكان فيها، بحسب فَهْمه واجتهاده الديني، لـ "معايير وَضْعيَّة"، نُمَيِّز، بموجبها، "المدني" مِنَ "العسكري"، في أثناء "الجهاد"، فـ "المدني الكافر" دَمُهُ (وماله) مباح، في كل زمان ومكان، ما لم يكن "مسالِماً للإسلام، مهادِناً لأهله، لِذِمَّة أو هدنة أو أمان"، وما لم يكن مِمَّنْ نهى الله عن قتله كـ "الصبيان والنساء". و"المسلم" المعصوم الدم أيَّاً كان عمله ومحله إنَّما هو "المُنْتَسِب إلى الإسلام" انتساباً يُقِرِّهُ "الشرع"، الذي يُقِرُّهُ هذا "الأمير" وطائفته. وعملاً بهذا التصوُّر الديني، يستطيع هذا "الأمير" وجماعته "تكفير" كثيرٍ مِنَ "المنتسبين إلى الإسلام"، أو القائلين بانتسابهم إليه، ويستطيع، من ثمَّ، إباحة دمهم ومالهم. هذا "العدو الديني"، كما حدَّدَهُ هذا "الأمير"، شكلاً ومحتوى، إنَّما يشمل "غالبية المسلمين"، و"الغالبية العظمى مِنَ الجنس البشري". حتى أولئكَ المسلمين "المعصومة دماؤهم وأموالهم"، لم يسْلموا مِنْ أعمال القتل التي يقوم بها هو وأمثاله؛ وقد بَرَّرَ قتلهم في أرض الرافدين (مع وصفه لهم بـ "الشهداء") إذ أفتى قائلاً: "إنَّهم يقيمون حيث يقيم العدو، وليس ممكناً، من ثمَّ، قتل العدو مِنْ دون قتلهم وإيذائهم". وبحسب هذا التبرير وأمثاله يمكن أنْ يشمل القتل أولئكَ الذين نهى الله عن قتلهم كـ "الصبيان والنساء" مِنَ "الكافرين"! إنَّ في "التكفير" ميل قوي إلى إلغاء "الآخر"، ولو كان مختلفا ليس في اللون، وإنَّما في الدرجة من اللون ذاته، فكم من مسلم مؤمن تعرَّض للعقاب بدعوى أنَّه أتى بقول أو عمل أو سلوك يجعله يمرق من الدين! و"التكفير"، في معناه الديني، سرعان ما أنْتَج تكفيراً آخر، أي جريمة أخرى، هو "التكفير السياسي"، فاتَّسعت واشتدت وعَنُفَت "الحرب المقدَّسة" على "الآخر"، أي على كل مَنْ يختلف، ولو قليلا، عن الحكومة أو نظام الحكم، فجاء تشديد الخناق على "الآخر" بما يقيم الدليل على أنَّ "الجبروت الأمني" هو الوجه الآخر للوهن السياسي والفكري والأخلاقي للذين يحكمون، ويستمرون في الحكم، بقوة "التكفير السياسي"! وشرور "الفكر التكفيري" تتعدى "المجتمع المسلم" إلى غيره مِنَ "المجتمعات الدينية"، وإلى "المجتمعات (أو الجماعات) اللادينية"، فـ "المُكَفِّرون" مِنَ المسلمين يُكَفِّرون، أيضاً، كل المتدينين مِنْ غير المسلمين. و"المُكَفِّرون" أنفسهم يتَّسِعون ويتنوعون، فليس مِنْ "مجتمع ديني" إلا ويُنْتِج مُكَفِّرين خاصِّين به. الحاجة تشتد إلى محاربة "الفكر التكفيري"، أو "أهل التكفير". وقد أدلى كثيرون بآراء، في هذا الصدد، ليست كلها مفيدة؛ فهناك مَنْ قال بـ "عدم جواز تكفير مَنْ ينطق بالشهادتين، وقتله". هذا قول يبذر بذور "فكر تكفيري" مِنْ نمط آخر، فصاحبه كأنّما يُجيز تكفير، وقَتْل، مَنْ لا ينطق بالشهادتين. إنَّ المشكلة الكبرى لا تكمن في "التكفير"، وإنَّما في تسويغه لارتكاب جريمة القَتْل، وغيرها مِنَ الجرائم، في حقِّ الذي قُمْنا بـ "تكفيره". مِنْ حقِّ كل مؤمِن، أكان مسلماً أم غير مسلم، أنْ "يُكَفِّر" غيره، أي أنْ يَنْظُرَ إليه على أنَّه "كافر"؛ لكن ليس له الحق، ويجب ألا يكون له الحق، في أنْ يُعَرِّضه للأذى، أو يقتله، أو يدعو إلى قتله، بدعوى أنَّه "كافر"، بحسب موازينه ومعاييره. "التكفير"، في هذه الحال، أي في حال منعه مِنَ التحوُّل إلى "جريمة"، هو جزء مِنْ حرِّية التعبير عن الآراء والمعتقدات ووجهات النظر، والتي يجب أنْ تكون كاملة، غير مشروطة إلا بشرط واحد فحسب نَبْذ العنف وأساليب الفَرْض والإكراه؛ فالديمقراطية إنْ لم تكن "حرِّية فكرية" لأعدائها أيضاً لن تظل مُحْتَفِظَةً بمنطقها، مستوفيةً لمبادئها وقيمها. وهناك مَنْ دعا إلى محاربة "الفكر التكفيري" عَبْرَ مَنْع وإلغاء كل شيء في حياتنا اليومية، وفي واقعنا، يمكن أنْ يتَّخِذه "أهل التكفير" ذريعة لأفعالهم. إنَّها دعوة في منتهى السخف، فأصحابها إنَّما يدعوننا إلى أنْ نعيد خَلْق أنفسنا ومجتمعنا وواقعنا على مثال "أهل التكفير" حتى نصبح في مأمن مِنْ شرور أفعالهم. إنَّهم يقولون لنا: "كونوا سلفيين حتى لا يأكلكم السلفيون"! وهناك مَنْ يحارِب "التكفير" بـ "تكفير معاكِس"، فهو يقول: "إنَّهم (أي "أهل التكفير") حتماً غير مسلمين، ولن يقبلهم الإسلام، وإنَّ الله أوجب قتلهم وتقطيع أياديهم وأرجلهم". كلا، ليس في هذه الطريقة يُحارَب "الفكر التكفيري"، و"أهله"، فـ "الطبيب" لا يُعالِج "مريضه" بأنْ يقول له: "إنَّكَ ما عُدتَ مِنَ البشر؛ لأنَّكَ مريض". وأنتَ كذلك لا تُعالِج الذي يُكَفِّرَكَ بـ "تكفيره"، والدعوة إلى قتله، وتقطيع يديه ورجليه. لا تستطيع أنْ تحاربه في هذه الطريقة ما دام "تكفيره" لغيره لَمْ يتحوَّل مِنْ وجهة نظر إلى فِعْل جُرمي. وهناك مَنْ دعا إلى إيجاد مرجعية إسلامية لـ "تحديد مَنْ هو الكافر، وإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية والدينية". إنَّنا لسنا في حاجة إلى مرجعية تتوفَّر على "تحديد مَنْ هو الكافر"؛ لأنَّنا لسنا في حاجة إلى أنْ نقف موقفاً مِنَ "الآخر"، أكان مؤمناً أم كافراً، متديناً أم غير متدين، مسلماً أم غير مسلم، يَمْنَعُ عن مجتمعنا قيم ومبادئ الحياة الديمقراطية، فـ "حرِّية المعتقَد"، و"حرِّية التعبير"، إنَّما هما مشكلتان تُحلان بما يتَّفِق مع المبادئ الديمقراطية في "التحليل" و"التحريم". المبدأ المُنَظِّم والمُقَيِّد لهما إنَّما هو المبدأ المُسْتَمَد، في جزء كبير منه، مِنْ "لا إكراه في الدين"، ومِنْ "جادلهم بالتي هي أحسن". لِتَعِشْ كل جماعة إسلامية، دينياً، بما يجعلها مرتاحة الضمير الديني؛ على أنْ تُحْظَر (بقوَّة القانون والدولة وثقافة المجتمع المدني) كل سياسة تتَّخِذ كل اختلاف ديني أو طائفي أو مذهبي وقوداً لقاطرتها، أو غذاءً (شعبياً) لذوي المصالح السياسية المتصارعة، فنحن لا نحتاج إلى تلك "اللقاءات"، ولا إلى تلك "الوثائق"، بين رجال الدين، فـ "السياسة العلمائية" يجب أن تصبح فعلاً ماضياً؛ أمَّا "السياسة العلمانية"، أي التي تقيم برزخاً بين السياسة والدين، فهي التي يجب أن تصبح في حياتنا فعل حاضرٍ ومستقبلٍ. هؤلاء المشايخ، الذين يمثِّلون في أفكارهم وعقائدهم الموات الفكري والحضاري والإنساني، يتَّخذون "الاحتياج الديمقراطي والقومي والاقتصادي والحضاري والإنساني" لدى شبابنا سوقاً لبضائعهم الفكرية الفاسدة والمغشوشة، فالمحتاج لا بدَّ له مِنْ أنْ يلبِّي حاجته، وليس في "السوق"، التي تحميها حكوماتنا بـ "الديمقراطية الغائبة المفقودة"، غير تلك البضائع، فيُقْبِلُ عليها، كمثل جائع يتضوَّر جوعاً فلا يجد شيئاً يأكل غير معلَّبات غذائية فاسدة انتهت صلاحية استخدامها منذ زمن طويل. وفي معركة "بتر واقتلاع الفكر السلفي التكفيري"، لا نقول بالقمع البوليسي لأصحاب هذا الفكر ودعاته، وإنَّما بالمنافسة الحرَّة في "السوق الفكرية" التي لا مكان فيها ولا دور للشرطي، فتحرير العقول والنفوس مِنْ هذا "الاحتلال" لا يتحقَّق إلاَّ بـ "قوَّة الحجة"، وبالفكر المضاد الذي فيه مِنَ القوَّة والحيوية والديناميَّة، ما يسمح له بتلبية الحاجات الأساسية للناس، وبالخروج فائزاً مِنْ صراع البقاء. البشر مختلفون في صفاتهم الجسدية والثقافية والاجتماعية.. وكثيرا ما فهموا "العداء" على أنَّه ثمرة لهذا الاختلاف، فإذا ما ظهر عداء بين "أبيض" و"أسود" من الجنس البشري فإنَّ كلا العدوين يميل إلى تفسيره وتعليله باختلاف "لون البشرة". وإذا ما ظهر عداء بين جماعتين تختلفان في الدين فإنَّ كلتاهما تميل إلى تفسيره وتعليله بهذا "الاختلاف الثقافي". مَنْ تلقَّى تربية "عشائرية" أو "قبلية"، يبحث، دائماً، عن عدوه في العشائر والقبائل، فعدوه "المفضَّل" لن يكون، مثلا، من نمط "قومي" أو "طبقي"؛ ومَنْ تلقَّى تربية "قومية" أو "عنصرية"، يبحث عن عدوه في "جماعة قومية" أو "جماعة عرقية"؛ ومَنْ تلقَّى تربية "طبقية" يبحث عن عدوه في الطبقات الاجتماعية. تاريخياً، لا يمكن فهم "العلمانية" و"الديمقراطية" في أوروبا إلا على أنَّها حرب على الكنيسة بصفة كونها "الإقطاعي الأكبر" و"الحاكم السياسي الأعلى"، فهي المالك الأكبر للأرض والحاكم السياسي الأكبر للشعوب عبر الدمى من الملوك والحكومات؛ وبصفة كونها أيضا "الحائك الإيديولوجي" الذي يحيك الثياب الدينية لحروب ذات دوافع دنيوية صرف. لقد كانت "العلمانية" سلاحاً في حرب هدفها تخليص "الدولة" من قبضة رجال الدين، والنأي بالسياسة عن الدين؛ أمَّا عندنا فالحاجة تشتد إلى "علمانية معاكسة"، أي إلى علمانية تُخلِّص الدين من قبضة رجال السياسة والحكومات. "حُكْم العسكر" في البلاد العربية له هو، أيضاً، "فلاسفته"، وسَدَنَته؛ فهو "شرعي"، "منطقي"، عقلاني"، و"اقعي"، "ضروري"؛ لأنَّ الجيش (أو المؤسِّسة العسكرية) هو وحده القوَّة المنظَّمة، المنضبطة، الجامِعَة، التي فيها، وبها، يجتمع، ويتَّحِد، مواطنون ينتمون إلى مكوِّنات وفئات المجتمع كافَّة، متسامين، بفضل ثقافة وعقيدة وتربية هذه المؤسَّسة، عن كل انقسامٍ (أو انتماء، أو عصبية، أو هوية) مُفْسِدٍ لعلاقة "المواطَنة"، التي لم نَرَها بَعْد واضحةً، جليَّة، قويَّةً، في مؤسَّسات المجتمع المدني، وفي الأحزاب السياسية منها على وجه الخصوص. إنَّهم، أيْ "فلاسفة" حُكْم العسكر، يتَّخِذون من غياب، أو ضعف، التنظيم الحزبي للمجتمع سبباً وحُجَّةً لتأييد، وتأبيد، الحُكْم العسكري، بأوجهه وأشكاله وصوره ودركاته المختلفة، ضاربين صفحاً عن حقيقة أنَّ هذا الحُكْم ما أنْ يأتي من غياب، أو ضعف، التنظيم الحزبي للمجتمع، حتى يتحوَّل هو نفسه إلى سبب في منع، وإعاقة، وضرب، المؤسَّسات السياسية الحزبية، وسائر مؤسِّسات المجتمع المدني؛ فأين هو الحُكْم العسكري العربي الذي يمكن أنْ ننسب إليه الفضل في التأسيس لحياة حزبية حقيقية، أيْ في القضاء على سبب وجوده، ألا وهو غياب، أو ضعف، التنظيم الحزبي للمجتمع؟! وأحسبُ أنَّ "الكتائب الأمنية" للقذافي، و"حُماة الديار" لبشار، تَصْلُح، من حيث الجوهر والأساس، وفي الأزمات وأوقات الضيق والشِّدة على وجه الخصوص، تعريفاً للجيوش والمؤسسات العسكرية في كثير من الدول العربية؛ فما أنْ ينفجر صراع الوجود بين الشعب وحاكمه (أو الحكم الدكتاتوري الفردي العائلي الفئوي) ويتخطَّى الطرفان في صراعهما هذا نقطة اللاعودة، حتى يتأكَّد ويَثْبُت بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ الجيش ليس للشعب، وإنْ جاء منه، منفصلٌ، وممعنٌ في انفصاله، عن المجتمع؛ إذا انحاز إلى الشعب فلا ينحاز إليه إلاَّ من طريق الانشقاق؛ فهو، وبصفة كونه مؤسسة، يظل على انحيازه إلى نظام الحكم. وفي سورية رأينا الجيش (حُماة الديار) على حقيقته العارية من الأوهام القومية؛ فهو، تكويناً ووظيفةً سياسيةً، لا يعرف من عدوٍّ حقيقي له إلاَّ الشعب، إذا ما ثار على الحكم الدكتاتوري لعائلة الأسد، وقد ثار؛ يقاتِل الشعب بـ "بسالة منقطعة النظير"؛ لأنَّ لديه من الدوافع والحوافز ما يجعله في هذه الحال في قتاله الشعب؛ أمَّا في جبهات القتال ضدَّ العدو الحقيقي (القومي) وهو إسرائيل فلا يبقى من "أسديته" إلاَّ ما يقيم الدليل على أنَّه مؤسسة فاسِدة بمعيار القيم والمبادئ القومية التي تتلفَّع بها. والمأساة تَعْظُم؛ لأنَّ مصير الدول والأوطان والشعوب في كثيرٍ من بلادنا العربية يبدو، مع اشتداد الصراع بين الشعب والحكم الدكتاتوري، وثيق الصلة بمصير الحاكم نفسه؛ فلماذا تغدو الأوطان والمجتمعات العربية عرضةً للتمزُّق، والدول عُرضةً للانهيار، مع سقوط الحاكم، أو مع دنوِّه من السقوط؟! واليوم، نسمع بشار الأسد يقول لكل من يهمه الأمر، في داخل سورية وفي خارجها، إنَّ بقاء سورية من بقائي، فاشتروا بقاء سورية بهذا الثمن، أي ببقائي سيِّد البلاد والعباد؛ فإذا أبيتم فلن أغادر سدَّة الحكم في سورية إلاَّ بصفة كوني آخر رئيس لهذه الدولة! ينبغي لنا ألاَّ نكون من دُعاة، المفاضَلة بين "حُكْمٍ عسكريٍّ" و"حُكْمٍ مَدَنيٍّ" في البلاد العربية؛ فكلاهما يمكن أنْ يكون أحد وجهيِّ "حُكْم الفَرْد"، أو "الحُكْم الدكتاتوري (الشمولي، الأوتوقراطي، الفردي، العائلي، الفئوي)"؛ فإذا كان "الحُكْم العسكري"، في حدِّ ذاته، نَفْيٌ للديمقراطية، ودليل على انتفائها، وإذا كان كل "حُكْمٍ ديمقراطيٍّ" لا يمكنه إلاَّ أنْ يكون "حُكْماً مدنياً"، فهذا لا يعني، وينبغي له ألاَّ يعني، أنَّ كل "حُكْمٍ مدنيٍّ" يجب أنْ يكون "حُكْماً ديمقراطياً". حتى "الحُكْم العسكري" يجب أنْ يُفْهَم في طريقة أكثر واقعية، وأكثر جدلية، ولا يستسيغها (لكونها كذلك) ذوو الآفاق الضيِّقة؛ فإنَّ قوى عسكرية أجنبية قد تكون هي الحارِس لحُكْمٍ عربيٍّ دكتاتوري يَلْبَس أصحابه لبوساً مدنياً؛ هذه القوى هي التي جاءت بهم إلى الحُكْم، وثَبَّتَتْهُم، وسهرت، وما زالت تسهر، على حمايتهم، ودرء المخاطر عنهم، بالتعاون مع جيوش وقوى أمنية أقامتها لهم، فَصُوِّر حُكْمهم على أنَّه "حُكْمٌ مدنيٌّ"، يُحْكِم قبضته (المدنية) على "مؤسَّسته العسكرية (القومية)". أمَّا "القوميون" و"الاستقلاليون" و"الثوريون" فَجَعلوا لحكمهم جذوراً في جيوشهم ومؤسَّساتهم العسكرية القومية، مقيمين الدليل على أنَّ في هذا، وفي هذا فحسب، يكمن الفَرْق بين "الدكتاتور المدني" و"الدكتاتور العسكري". والمقارنة لا تَكْتَمِل، منطقاً، إلاَّ بالوقوف، أيضاً، على أوجه الشبه والتماثُل؛ فكلاهما، أيْ "الدكتاتور المدني" و"الدكتاتور العسكري"، يشبه ويماثِل الآخر في كَوْن حُكْمه ثمرة اغتصاب للسلطة من صاحبها الشرعي، أيْ مِمَّن يحق له، وينبغي، حيازتها، ألا وهو "الشعب"، أو "الأُمَّة"، أو "المجتمع"؛ فإنَّ منع، أو حَظْر، الحياة الديمقراطية (الحقيقية، غير المزوَّرة، غير المغشوشة) بأوجهها كافة عن المجتمع هو نفسه "الحُكْم الدكتاتوري"، أَلَبِسَ أصحابه زِيَّاً مدنياً أم زِيَّاً عسكرياً؛ فلا تَنْظروا إلى "الزِّيِّ"؛ لكن أُنْظروا عَبْره، ومن خلاله؛ فهو وحده "الشَّفاف" في نظام الحكم العربي، بأسمائه الحسنى كافَّةً. وحتى لا نُمكِّن "الطوباوية" وسائر الأوهام المثالية، من عقولنا، من أبصارنا وبصائرنا، نقول إنَّ الحُكْم، أيُّ حُكْمٍ، هو ثنائية "التسلُّح ـ نَزْع السِّلاح"؛ فأنتَ لا يمكنكَ أنْ تحكم، وتستمر في الحكم، إلاَّ إذا احتكرت "السِّلاح"، و"الأيدي الحاملة والمُسْتَعْمِلة له"؛ وهذا "الاحتكار" لا يأتي، ولا يمكنه أنْ يأتي، إلاَّ إذا تسلَّحْتَ لِتَنْزَع السِّلاح من يد غيركَ، ولتَسْهَر على جعله (غيركَ) منزوع السِّلاح إلى الأبد. إنَّ كل حُكْمٍ عربيٍّ يأتي، ويستمر، ويبقى، من طريق اغتصاب السلطة يحتاج إلى "قوى عسكرية منظَّمة"؛ فإمَّا أنْ تكون "أجنبية (تُعاوِنها قوى عسكرية وأمنية قومية)" وإمَّا أنْ تكون "قومية خالصة". وهذا الحُكْم لا يمكنه إلاَّ أنْ يكون حُكْم الفرد والعائلة والأقلية، المحمي بقوى عسكرية وأمنية، عدوها الحقيقي (وفي أوقات الضيق والشدة على وجه الخصوص) هو الذي يسعى في استرداد سلطة اغْتُصِبَت منه اغتصاباً؛ والمحمي، أيضاً، بسلاح "التغذية المنظَّمة لكلِّ ضديد للمواطَنَة"؛ فالفرد يحكم من طريق جَعْل المجتمع أفراداً، إنْ اتَّحَدوا فلا يتَّحِدون إلاَّ بما يُضْعِف "المواطَنة"، وينال من قوَّتها. والحكم الدكتاتوري العربي، أكان مدنياً أم عسكرياً، ومهما بدا حريصاً على "المواطَنة"، يحتاج إلى عصبية ما في سعيه إلى إحكام قبضته على "المركز" من قواه العسكرية والأمنية؛ وهذا لا يتعارض، بل يتكامَل، مع سعيه إلى جَعْل مواطنين آخرين يسيرون معه؛ لكن في المدارات البعيدة لحكمه الدكتاتوري؛ فإذا وقعت الواقعة، تدرَّع بتلك العصبية فحسب؛ وإذا عجزت "القوى الأمنية" عن درء المخاطر عنه، حلَّ محلها سريعا "حُماة الوطن والديار"، و"حرَّاس الحدود والدستور"، ولو كان المكان الذي تتركه بأهمية الجولان؛ فلا "جبهة خارجية" إنْ تزعزع أمن "الجبهة الداخلية"، التي هي الأصل والأساس والحقيقة العارية من الأوهام! وإيَّاكم أنْ تَظُنُّوا أنَّ "حماة الوطن والديار" بمنأى عن قبضته الأمنية الفولاذية؛ فالجهاز الأمني يُحْكم قبضته عليهم أكثر ممَّا يُحكمها على الشعب؛ فلا خطر على نظام الحكم الدكتاتوري يفوق خطر انشقاق الجيش، وانضمام بعضه، مع أسلحته، إلى الشعب الثائر على نظام الحكم هذا. ينبغي للمجتمع أنْ يملك من قوى الديمقراطية، ومن مؤسَّساتها، ما يُعْجِز المؤسَّسة العسكرية عن اغتصاب السلطة، وما يبقيها دائماً مؤدِّيةً لواجبها المنصوص عليه في الدستور، ألا وهو حماية الوطن والحدود من كل اعتداء عسكري خارجي، وما يمنع قوى الأمن، بمؤسَّساتها المختلفة، من مزاولة أي نشاط أو عمل فيه تَعَدٍّ وتطاول على الحقوق الديمقراطية للمواطنين. إنَّ "الدولة المدنية" هي غاية ثورات الربيع العربي؛ وأحسبُ أنَّ "إصلاح"، أيْ "إعادة بناء"، الجيوش والمؤسسات العسكرية العربية هو شرط أوَّلي لجعل هذه الدولة حقيقة واقعة تنبض بالحياة. الجيش يجب أنْ يُعاد بناؤه بما يجعله خاضعاً لسلطة الشعب عبر ممثليه المنتخَبين في حرية، وفي طريقة ديمقراطية؛ يُحْظَر عليه، دستورياً، التورُّط في أيِّ نزاع أو صراع سياسي في داخل البلاد؛ وأحسبُ أنَّ خير إصلاح للجيش يتأتَّى من طريق جَعْل الخدمة العسكرية بلا أجر أو راتب؛ فهذه الخدمة يؤدِّيها كل مواطِن مؤهَّل لتأديتها، وبما لا يُحوِّلها إلى وظيفة دائمة، يتقاضى صاحبها راتباً شهرياً؛ فهذا "التحوُّل" هو ما يؤسِّس لظاهرة الجيش المنفصل عن المجتمع. ليس الجيش هو الخطر على مدنية الدولة؛ وإنَّما الفئة العليا من "البيروقراطية العسكرية"، والتي تضطَّرها مصالحها الفئوية الضَّيقة إلى الاشتغال بالسياسة أكثر من "السَّاسة الخالصين". وهذه الفئة (المُنظَّمة جيِّداً، والتي تُحْكِم قبضتها على الجيش) لا خيار لديها، إذا ما أرادت أنْ تظل محتفظةً بمصالحها الفئوية الضِّيقة، محافظةً عليها، إلاَّ أنْ تَشْتَغِل بالسياسة بما يجعلها دائماً في منزلة من منزلتين: في منزلة "الرأس" من السلطة الفعلية (التنفيذية) في البلاد، أو في منزلة "الرَّقَبَة التي تُحَرِّك الرأس"؛ فـ "العسكر"، ولو كان رئيس الدولة "مَدَنيَّ الثياب"، كانوا دائماً حاكمها الفعلي، والمتحكِّم في شؤونها الكبيرة. في مصر، اضطَّرت "البيروقراطية العسكرية" إلى خَلْع مبارك، الذي لو ظلَّ راكباً رأسه لأحدقت المخاطر بـ "المؤسَّسة العسكرية" نفسها. وإذا كانت جماعة "الإخوان المسلمين" تَفْهَم "الدولة المدنية" على أنَّها الدولة التي لا يحكمها "العسكر"، ويمكن أنْ يحكمها حزب سياسي (مدني) مشتق من جماعة دينية هي جماعة "الإخوان المسلمين"، فإنَّ "الخصم الآخر" لـ "الدولة المدنية"، وهو "العسكر"، يَفْهَم "الدولة المدنية" على أنَّها الدولة التي لا تحكمها جماعة "الإخوان المسلمين"؛ لأنَّها تظل جماعة دينية، وإنْ حَكَم عنها حزب سياسي استحدثته هي؛ وعلى أنَّها الدولة التي يمكن أنْ يحكمها قائد عسكري (مستقبلاً) إذا ما استقال من منصبه العسكري، ورشَّح نفسه لانتخابات الرئاسة، مرتدياً ثياب مدنية؛ وكأنَّ "الدولة المدنية" تستمدُّ معناها، لا بَلْ كل معانيها، من الزِّي المدني لرئيس الدولة! كلاهما، في صراعه ضدَّ الآخر، يَنْتَصِر لـ "الدولة المدنية"، والتي تظل في مصر مطلباً وهدفاً، لا قوى حقيقية لهما على أرض الصراع السياسي. إنَّ كثيراً من "الخِلال" و"السلبيات" خالط، وما زال، وسيظل، يخالط تجربة ثورات "الربيع العربي"؛ ولطالما سمعنا من "المُنْتَقِدين" العبارة الآتية: "نحن شعوب لا تستحق الديمقراطية، ولن نحصل عليها أبداً؛ فإمَّا أنْ نظل خاضعين لنظام حكم دكتاتوري، فنَنْعُم، من ثمَّ، بالأمن والاستقرار، ونحفظ لمجتمعنا وحدته وتماسكه، وإمَّا أنْ نُسْقِطه لِنَسْقُط، من ثمَّ، في "الفوضى"، التي من رحمها تُوْلَد المصائب والكوارث (الاقتتال والحروب الأهلية والانقسام والتمزُّق وانعدام الأمن والاستقرار والخراب الاقتصادي)". وقد يشتط هؤلاء في سوء الفهم والتفسير والتعليل، فيقولون إنَّ الإنسان العربي بـ "طبيعته" ليس ديمقراطياً، ولا يمكن أنْ يكون، وإنَّ لِبُعْدِهِ (الأزلي ـ الأبدي) عن الديمقراطية، بمبادئها وقيمها وأوجهها كافة، ما يشبه "العِلَّة الجينية"، وإنَّ العرب جزء من الشَّرق الذي جُبِلَ على الاستبداد (وثمَّة ظاهرة تاريخية تسمَّى "الاستبداد الشرقي"). "الدولة المدنية"، بكل معانيها وأوجهها وأبعادها، هي، وعلى ما يجب أنْ يكون، الزهرة اليانعة لـ "الربيع العربي"؛ وينبغي لشباب "الربيع العربي" ألاَّ يتعجَّلوا في الاحتفال بالنصر النهائي لثوراتهم؛ فـ "الدولة (العربية) المدنية" لم تَقُمْ بَعْد؛ ولن تقوم إلاَّ إذا رأيناها كشجرة تدلُّ عليها ثمارها؛ وإنَّ "ثمار" هذه الدولة التي تدلُّ عليها هي "المواطَنة"، أيْ "دولة المواطَنة" لا دولة القبيلة واشباه القبيلة؛ وهي، أيضاً، الدولة التي تحرَّرت وتخلَّصت من قبضة رجال الدين، ومن قبضة العسكر، معيدةً رجال الدين إلى الجوامع والكنائس، والعسكر إلى ثكناتهم، ومقيمةً برزخ بين الأجهزة الأمنية والسياسة. "المواطَنة"، روحا ومعنى وممارسة وحقوقا ومبادئ، هي ظاهرة اجتماعية ـ تاريخية، لا نغالي إذا قلنا إنها لا ترى بالعين المجرَّدة في مجتمعاتنا العربية على وجه العموم؛ ولا نغالي إذا ما قلنا جوابا عن سؤال "لماذا؟" إنَّ "المواطِن"، في مجتمعنا العربي، لا وجود له في العالم الواقعي الحقيقي، وإنْ وُجِد فوجوده من الضآلة بمكان، فالغالبية العظمى من أبناء "الوطن الواحد" ليسوا بـ "مواطنين" في خواصهم الاجتماعية والثقافية؛ ولا "مواطَنة"، من ثمَّ، حيث يقلُّ المواطنون. إنَّ "المواطنة"، مع جسمها، أي "المواطِن"، ما زالت، من حيث الجوهر والأساس، جنينا في رحم مجتمع، يتَّحِد أبناؤه، ويتصارعون، بقوى اجتماعية وثقافية.. وسياسية، يكفي أن تهيمن وتسود حتى يغدو البحث عن "المواطَنة" كالبحث عن إبرة في كوم القش. لكَ الحق في الانتماء، وفي إظهار وتأكيد الانتماء، إلى دين، أو إلى مذهب من مذاهب عدة لدين واحد، أو إلى طائفة دينية، أو إلى عرق أو قومية، أو إلى عشيرة أو قبيلة، أو إلى طبقة اجتماعية، أو إلى حزب سياسي؛ لكن ليس لك الحق، بموجب "المواطَنة"، في أن تُغلِّب أيَّ انتماء من الانتماءات تلك، أو غيرها، على الانتماء الذي تستلزمه "المواطَنة". "المواطَنة" هي الانتماء إلى "الوطن"، الذي هو في وجه عام، وفي عصرنا، يتضمن "القومية" من غير أن يعدلها، ويتضمن الدين أو الطائفة الدينية من غير أن يعدلها، ويتضمن العشيرة أو القبيلة من غير أن يعدلها؛ فهو الواحد إذ تعدد، قومياً وعرقياً ودينياً واجتماعياً وثقافياً؛ فـ "الوطن"، الآن، اتَّسع حتى تخطى الحدود الضيقة نسبيا لـ "الدولة القومية"؛ وقد غدا "الوطن الواحد"، بمعيار "الدولة"، دولة متعددة القومية، عابرة للقوميات والأعراق والأديان.. و"العولمة" تُبشِّرنا بـ "وطن من طراز جديد"، فالإنسان، أيُّ إنسان، أوشك أن يمتلك حقا جديدا، هو حقه في الانتماء إلى أيِّ وطن إذا ما استوفى شروط الانتماء؛ ذلك لأن الأوطان، في زمن العولمة، يشتد لديها الميل إلى مزيد من التعددية في العرق والقومية والدين والثقافة.. أمَّا نحن فما زلنا نفهم "الوطن" على أنه "الثمرة الطيبة" لتمزيق، أو تمزُّق، جسد "الوطن الأم (أو الأكبر)"، وهو "الوطن العربي". وما زلنا نفهمه، على مسخه هذا، على أنه انتماء ترتديه انتماءات دون "الانتماء إلى الوطن"، أو "الانتماء القومي"، فالمواطِن، في مجتمعنا، لا يولد مواطنا، وإنما عضو في مجتمع أصغر من "مجتمع الوطن".. يولد بعصبية دينية أو مذهبية أو طائفية أو قبلية؛ لكنَّ "الوطن العربي الكبير" لن يكون كبيراً إلاَّ بالمساواة التامة في الحقوق القومية، وفي حقوق المواطَنة، بين العربي وغير العربي من ابنائه؛ فكل جماعة قومية غير العربية يحقُّ لها أنْ تدير شؤونها بنفسها، وأنْ تَحْكُم نفسها بنفسها، وأنْ تُغيِّر واقع عيشها بما يُشْعِرها أنَّها سيِّدة نفسها، ويُلاشي، من ثمَّ، الميل إلى الانفصال لديها. مجتمعاتنا، التي هي دون كل مجتمع يقوم على مبادئ المواطَنة، تُشدِّد الحاجة إلى دولة على مثالها.. دولة يتلاشى فيها، وبها، الوطن والمواطن والمواطَنة. حتى "صندوق الاقتراع"، الذي تُدْخله الدولة في حياتنا البرلمانية والسياسية لا يَخْرج منه إلاَّ ما يؤكِّد أنه قد خُلِق لنا على مثالنا، مجتمعاً ودولةً، فلا فرق يُعتد به بين من يأتينا بـ "التعيين" ومن يأتينا بـ "الانتخاب"؛ لأننا فهمنا "الديمقراطية"، ومارسناها، على أنها "صندوق اقتراع"، أُفْرغِت منه القيم والمبادئ الديمقراطية قبل، ومن أجل، ملئه بأصوات الناخبين "اللامواطنين"! إنَّنا نتزيَّن ونتبرَّج بفكرٍ وثقافةٍ، من صُنْع غيرنا، ويَكْمُن فيهما "الرَّاقي" و"الحضاري" من "الانتماء" و"الانحياز" و"الهوية"؛ لكننا، في أوقات الضِّيق والشدة، أي عندما يُسْتَفَز "الجاهلي" الكامن فينا، نُسْرِع في الارتداد إلى الميِّت، الحي أبداً في نفوسنا ومشاعرنا، وفي "الباطن"، أي الحقيقي، من وعينا؛ إننَّا نظلُّ في ثقافتنا الحقيقية من أحفاد عبس وذبيان مهما تسربلنا بسرابيل "القومية" و"الليبرالية" و"العلمانية" و"اليسارية"، فكلُّ متسربلٍ بسربال منها، أو من غيرها ممَّا يشبهها، يكفي أن تَسْتَفِزَّ "الجاهلي" الكامن فيه حتى يرجع القهقرى إلى "قبيلته" و"قبليته"، وإلى ما تفرَّع منهما من دولٍ وأوطان وأحزاب.. تعصَّبوا وانحازوا؛ لكن ليس لأشياء لم تختروها اختياراً، كالقبيلة والطائفة الدينية، وإنَّما لأشياء اخترتموها بأنفسكم، كالفكر الذي تتسربلون به تسربلاً. وإيَّاكم أن تظنُّوا أنَّ "الآخر" لا وجود له حيث تسود وتزدهر "العصبية" و"التعصُّب"؛ إنَّه موجود دائماً؛ لكن على هيئة "عدوٍّ لدود"، أو "شيطان رجيم"؛ وبعض المتعصِّبين قد يوظِّفون "السماء" في "شيطنة" هذا "الآخر"، حتى يَسْهُل عليهم تحرير "الطاقة الإيمانية الدينية" لدى أتباعهم في معركة "القضاء على الآخر". دولتنا العربية، عباءةً ارتدت أم بنطالاً، والتي هي ثمرة اغتصاب للسلطة، إنَّما هي "الانتهازية بعينها" لجهة صلتها بـ "موروث اجتماعي وتاريخي وثقافي.."، يكفي أن يظل على قيد الحياة، وأن ترعاه الدولة وتحفظه وتصونه وتهادنه وتتصالح معه حتى يصبح "المجتمع المُنْتِج للدولة الحقيقية" ميتاً، أو شبه ميت، أو عرضة للموت، وحتى يتضاءل وزن وحجم "الدولة الحقيقية" في داخل كل دولة عربية. و"انتهازية" الدولة عندنا تَقْتَرِن بنهج (تنتهجه في علاقتها بالمجتمع) لا يختلف كثيراً عن "سياسة فرِّقْ تَسُدْ"، فالمجتمع الزاخِر بعصبيات وانتماءات وهويات ضدَّ تطوُّره في اتِّجاه القرن الحادي والعشرين، يجب أن يتَّحِد وينقسم، أن يستقرَّ ويضطَّرِب، أن يتصارع ويتصالح، بما يعود بالنفع والفائدة على "الدولة"، بصفة كونها فئة ضئيلة، منفصلة، بمصالحها وأهدافها الحقيقية، عن المجتمع، لا شيء يستأثر باهتمامها سوى الاحتفاظ بسلطةٍ اغتصبتها اغتصاباً، أو ورَّثتها إيَّاها قوى أجنبية! في "التعصُّب"، وبه، يرتفع (حتماً) منسوب الوحشية في علاقتنا بـ "الآخر"، أي المختلِف عنا، المخالِف لنا، في ما نتعصَّب له، فـ "الآخر" لا يَظْهَر في مرآة المتعصِّب إلاَّ على هيئة شيطان رجيم، أو على هيئة عدوٍّ مبين، نَسْتَحِلُّ، بفضل "ثقافة التعصُّب" التي رضعناها رضاعةً، حتى قتله، فنقتله وكأنَّنا نقتل حشرةً ضارةً، ونخترع لتمجيد قتله ما تطمئنُّ له نفوسنا من أخلاق وعقائد، فهذه "الثقافة" لا أهمية تُذْكَر لها إنْ هي لم تجعل أصحابها (أي ضحاياها) مؤمنين بأنَّ الخير، كل الخير، يكمن في هذا الشر الإنساني، أي في معاملة "الآخر"، وجوداً وحقوقاً، على أنَّه الشيطان الرجيم. إنَّ عصبيتا "الدَّم" و"الدِّين"، واللتين ذُقْنا منهما الأمرَّين، لا يمكن فهمهما وتفسيرهما إلاَّ على أنَّهما "الثقافة" التي بفضلها تُلْبَس المصالح الفئوية الضيِّقة لبوس المصالح العامة الواسعة (مصالح الشعب والأمَّة) فيَسْهُل على عُصْبَة ضئيلة من الأسياد (في الاقتصاد والمال والسياسة..) زجَّ العامَّة من الناس في كل صراعٍ (أو حرب) لهم هم مصلحة حقيقية (لا وهمية) فيه، وكأنَّهما، أي العصبيتان، الأفيون للدهماء. إنَّ كل الأغاني والأناشيد والقصائد والخُطَب.. لا تؤسِّس، وحدها، للمواطَنة، فهذا الانتماء، يُزْرَع ويُغْرَس، ويضرب جذوره عميقاً في تربة الحياة الواقعية للبشر، قبل أن يغدو شعوراً ووعياً وثقافةً.. واستعداداً للتضحية بالغالي والنفيس. إذا كان حضور "الحرية" و"الديمقراطية" ممكناً في غياب "الأحرار" و"الديمقراطيين"، أو ضآلة وجودهم وعددهم، فإنَّ حضور "المواطَنة" ممكناً في غياب "المواطنين"، أو ضآلة وجودهم وعددهم. و"المواطِن" إنَّما هو شيء يُصْنَع صُنْعاً، فالمرء لا يُوْلَد "مواطِناً"، إنَّما "يصبح" مواطناً. ولن يصبح "مواطِناً" إلاَّ إذا نال من "المواطَنة" حقوقه كافَّة، ومن "الديمقراطية" حقوقه كافَّة، ومن "الإنسانية" حقوقه كافَّة، فـ "الوطن" يعطي أبناءه قبل، ومن أجل، أن يأخذ منهم. يعطيهم ما هو في الأصل حقٌّ لهم عليه؛ فحيث ينتشر الفقر والجوع والبطالة، ويزدهر الاستبداد، وتُغْتَصَب حقوق المواطَنة، والحقوق الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتتلاشى في الحكومات صفة التمثيل للحقوق والمصالح والقضايا القومية لشعوبها، تختفي حتماً ثلاثة أشياء: الوطن، والمواطِن، والمواطَنة. ولو أمعنت النظر في "المواطَنة" لجهة الداعين إليها، والمنتصرين لها، الآن لتوصَّلْتَ إلى فَهْم "المواطَنة"، دعوةً ودعاةً، على أنَّها شعار (أو خطاب) التظلُّم الفئوي، والذي يعكس بروز صُدُوع دينية وطائفية ومذهبية وعرقية، أي "العصبية دون القومية" بأوجهها كافة، فـ "الجماعة العربية دون القومية" تميل، ولو بدايةً، إلى أن تعبِّر عمَّا تشعر به من ظُلْم لَحِقَ ويَلْحَق بما تعده حقوقاً لها بالدعوة، عبر ممثِّليها السياسيين، إلى "المواطَنة"، و"المساواة في الحقوق بين المواطنين جميعاً". وكلَّما وَعَت جماعة عربية ما "وجودها دون القومي"، كالطائفي أو المذهبي، برزت "الدعوة إلى المواطَنة" على هيئة دعوة إلى إعادة توزيع السلطة والثروة على أُسِسٍ طائفية أو مذهبية أو عرقية.. فـ "المواطَنة"، في وجهيها "الديمقراطي" و"القومي"، والتي هي في حرب لا هوادة فيها على كل عصبية تستمدُّ حياةً من "الموات الديمقراطي والقومي"، لم تَغْدُ بعد فكرة تجتذب إليها من العقول والقلوب ما يكفي لجعلها حقيقة واقعة في حياتنا السياسية. وأنتَ يكفي أن تَنْظُر إلى "المعترَك السياسي" عندنا حتى تُدْرِك افتقاره المتزايد إلى "جيوش منظَّمة تقاتِل في سبيل حقوق ومطالب وقضايا ديمقراطية وقومية واجتماعية وطبقية"، فهو معتَرَكٌ يَغُصُّ بجيوش الطائفة والعشيرة والقبيلة.. "الخصوم"، أي خصوم "الدولة الحقيقية"، و"المواطَنة"، و"المواطِن"، و"الوطن"، يعيشون بين ظهرانينا، يتحكَّمون في كل أوجه حياتنا؛ لكنَّ شعار كل "مواطِن" من "مواطنينا" هو "إنْ لم تستطع ضربهم، فانضمَّ إليهم (في ضَرْبِنا)"! "دولة المواطَنَة"، أيْ التي فيها يتساوى المواطنون جميعاً في الحقوق جميعاً، إنَّما تُقاس، على وجه الخصوص، بالموقف من "الآخر (من المواطنين)"، المُخْتَلِف عنكَ، المُخالِف لكَ؛ وإنَّ من الأهمية بمكان أنْ نَفْهَم "الموقف من الآخر" على أنَّه، في المقام الأوَّل، موقف "الدولة" نفسها من أفراد وجماعات وأحزاب.. وَقَفوا من "الآخر" موقفاً يتنافى ومبدأ "تساوي المواطنين جميعاً في الحقوق جميعاً"؛ فهذا المواطِن (مثلاً) قد يتطاول على حقٍّ من حقوق "الآخر"، أيْ على حقٍّ من حقوق "مواطِن آخر"؛ لكونه مختلفاً عنه في ناحية، أو مخالِفاً له في رأي أو مُعْتَقد، فيتعيَّن، عندئذٍ، على "دولة المواطَنَة" أنْ تَنْتَصِر، قانونياً، لهذا ضدَّ ذاك (المتطاوِل المعتدي). و"دولة المواطَنَة"، إنْ قامت، فلن تكون كشيءٍ "مُكْتَمِل الصُّنْع"، لا تنطوي على تناقُض، ولا يَعْتَمِلُ فيها صراع؛ فإنَّها (مع أفرادها وجماعاتها وأحزابها..) تظلُّ (وينبغي لها أنْ تظل) في مَيْلَيْن متضادين متصارعين متَّحِدَيْن اتِّحادا لا انفصام فيه؛ مَيْل معها، ومَيْلٌ ضدَّها؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ منسوب "دولة المواطَنَة" في "الدولة (والمجتمع)" عُرْضَة دائماً للتغيير، زيادةً أو نقصاناً؛ فهي، أيْ "دولة المواطَنَة"، لا تقوم، ولا تستمر، ولا تنمو وتتطوَّر، إلاَّ في الصراع، وبالصراع، ضدَّ كل ما يتنافى ووجودها، وضدَّ كل من يمثِّل هذه "المنافاة". وإيَّاكم أنْ تَظُنُّوا أنَّ "الدولة" نفسها يمكن أنْ تكون بمنأى عن هذا الصراع، أو منزَّهة عن كل تعصُّبٍ يتنافى و"دولة المواطَنَة"، شكلاً ومضموناً؛ فهذا الظن وَهْمٌ يَلْفُظُه الواقع السياسي والقانوني والإداري والاقتصادي والاجتماعي.. الموضوعي لـ "الدول"، وإنْ استبدَّ بعقول كثير من الناس (أفراداً وجماعات). إنَّ المساواة (الدستورية والقانونية) في الحقوق بين المواطنين جميعاً لا يُمْكِن فَهْمَها إلاَّ على أنَّها "القرين" لـ "انتفاء المساواة في أوزانهم الواقعية"؛ وهذا التناقض هو ما يُفسِّر ما تبديه "الدول" من انحيازٍ وتعصُّبٍ يتنافى و"دولة المواطَنَة"، التي، على ما أوضحنا، ليست بالشيء "المُكْتَمِل الصُّنْع"؛ فهي من طريق الصراع تأتي، ومن طريقه تستمر وتقوى وتتوطَّد. و"دولة المواطَنَة"؛ وهذا ما ينبغي لكلِّ حزب سياسي يريد، أو له مصلحة في، أنْ يلبس لبوس "الدِّين" أنْ يفهمه، ولا يُنْكِره، إنَّما هي "ظاهرة دنيوية خالصة"، بينها وبين "الدِّين" برزخ لا يبغيان؛ وهي لا تستقيم، معنىً وواقعاً، إلاَّ إذا أدركَ كل مواطِن أنَّ لـ "الآخر (من المواطنين)" ما له من "حقوق"، وعليه ما عليه من "واجبات"؛ فلا فَرْق بينهما إلاَّ في درجة التزام كليهما هذا المبدأ الأوَّل لـ "دولة المواطَنَة". وثمَّة من يَفْهَم "الحق" بما يجعله يقف موقفاً سلبياً من "دولة المواطَنَة"، أيْ من الدولة التي يتساوى مواطنوها جميعاً في الحقوق جميعاً؛ فيتساءل (على سبيل المثال) في دهشة واستغراب قائلاً: "كيف لمجتمع مُسْلِم (أيْ غالبية أبنائه من المسلمين) أنْ يَقْبَل أنْ يسوس أموره مواطِن غير مسلم، عملاً بمبدأ تساوي المواطنين جميعاً في الحقوق جميعاً؟!". إنَّه، في فَهْمِه هذا، كمثل من فَهِم "الحق في الطَّلاق" على أنَّه "وجوب وقوع الطَّلاق"! حتى "الآخر" في معناه المنافي والمضاد لـ "الدِّين" لم يُحْسِن بعضنا فَهْمه، ضارباً صفحاً عن "الأهمية الفكرية الكبرى" لضديد الأديان من العقائد والأفكار في تطوُّر الأديان نفسها؛ فالفكر الدِّيني، في كثيرٍ من محتواه وشكله، هو ثمرة حوار وجدال مع هذا الضديد؛ وإنِّي لأرى ضَرْباً من المستحيل في أنْ يبقى أحدهما ويفنى الآخر؛ فكلاهما يأتي ويتطوَّر من صراعٍ فكري يخوضه ضدَّ الآخر؛ فإذا تغلَّب أحدهما (وتفوَّق) على الآخر، فإنَّ من السخافة بمكان أنْ يُفْهَم هذا "التغلُّب" على أنَّه فناء للآخر؛ فاتِّحادهما الذي لا انفصام فيه إنَّما يعني أنَّ هذين النقيضين لا "خيار" لهما إلاَّ "العيش معاً أو الفناء معاً". في "عالَم السياسة" الخاص بـ "الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة"، والتي هي في معنى من معانيها الجوهرية "دولة المواطَنَة"، لا سيادة (لحزب) إلاَّ من طريق "صندوق الاقتراع الديمقراطي الشَّفَّاف"؛ وفي "عالَم الفكر" الخاص بها أيضاً، لا سيادة لفكرٍ إلاَّ من طريق الإقناع والاقتناع، ومن طريق الحوار والجدال (والصراع الفكري الذي لا سلاح يتسلَّح به إلاَّ الحُجَّة). و"السيادة (السياسية والفكرية) بالقسر والإكراه" إنَّما هي غاية (ومطلب وحاجة) كل من تَعُوزُهُ "أهلية القيادة" و"أهلية المنطق". في عالميها هذا وذاك، يرتفع، في استمرار، منسوب الشفافية، فيتلاشى الفرق بين ظاهرنا وباطننا، وينتهي زمن الخداع والانخداع؛ لأنَّ أحداً لا يقوى على خداع أحد، وتغدو "السيادة" دعوةً إلى أنْ يتعلَّم أصحابها الأهم من إحرازها، ألا وهو "الاحتفاظ بها"؛ وهذا في حدِّ ذاته يكفي سبباً للحرص على أنْ نبقى دائماً أبناءً للحياة، بحقائقها جميعاً، والمتناقضة لوناً وطعماً ورائحةً؛ فالوَهْمُ، بممالكه وسجونه، يختفي ويتلاشى مع اختفاء وتلاشي المصالح والحاجات التي تسقيه وتغذِّيه. "دولة المواطَنَة" تَنْفُذ بمعناها إلى "الدولة المدنية"، التي يُمْكننا وينبغي لنا تمييزها، وإدراك ماهيتها وكنهها، بـ "نقيضها"، والذي هو "الحُكْم الأُوتوقراطي (الاستبدادي)"، بوجهييه العسكري والدِّيني؛ فهذا الحُكْم لا يَقُوم، ولا يستمر ويبقى، إلاَّ بصفة كونه النَّفي الواقعي لـ "دولة المواطَنة"، التي فيها، وبها، يتساوى المواطنون جميعاً في الحقوق (والواجبات) جميعاً، بصرف النَّظر (وإنَّ عبارة "بصرف النَّظر" هي بيت القصيد) عن أيِّ اختلاف أو تباين أو فَرْق (في الدِّين أو العِرْق أو الجنس أو الطَّبقة..) بين مواطِن وآخر. "دولة المواطَنة" تحتاج إلى تعريف، أو إعادة تعريف، "المواطِن"، بما يُوافِق "حقوق الإنسان"، وقِيَم ومبادئ الديمقراطية المتواضَع عليها عالمياً؛ فالإنسان، أيُّ إنسان، يحقُّ له، في القرن الحادي والعشرين، حيث "العولمة" تَنْفُذ في كل مناحي حياتنا، وتُلوِّنها بألوانها المختلفة، وبخيرها وشَرِّها، أنْ يُوْلَد ويعيش ويموت "مواطناً" في دولة ما، أو يَحْصَل على "المواطَنَة" في دولة ما، عَمَلاً بقوانين متواضَع عليها (ومكفولة) عالمياً؛ فـ "الوطن (ومعه الجنسية)" اختلف "واقِعاً"؛ وحان له، من ثمَّ، أنْ يختلف "مفهوماً"؛ وليس من خرافة تَعْدِل خرافة "العِرْق النَّقي" إلاَّ خرافة "الوطن السَّرمديِّ (الأزليِّ ـ الأبديِّ، والنهائي)". ومع حسم، وإنهاء، كل جَدَلٍ قانوني، أو غير قانوني، في أمْرِ "مَنْ هو المواطِن"، والإقرار دستورياً بتساوي المواطنين جميعاً في الحقوق جميعاً، يُصبِح ممكناً، وضرورياً، عندئذٍ، حلَّ كثيرٍ من المشكلات، والتغلُّب على كثيرٍ من العقبات، وجَعْل "دولة المواطَنَة"، من ثمَّ، عِرْقاً أخضر نابضاً بالحياة. وإذا كان "الوطن"، في "دولة المواطَنة"، لأبنائه جميعاً، ولمواطنيه كافَّة، وبصرف النَّظر عن الأقدمية في المواطَنَة، فلا بدَّ لـ "الدولة"، أيْ هيئات الحُكْم جميعاً، من أنْ تكون، أو تغدو، أبوابها مفتوحة جميعاً على مصاريعها في وجوه المواطنين جميعاً؛ فلا منصب من المناصب العامَّة، والعليا منها على وجه الخصوص، يُسْتَثْنى من هذا الحق الأوَّل من حقوق المواطَنَة. إنَّ المواطِن الذي يشغل منصباً عاماً، ولو كان من فئة المناصب العليا في الدولة، لا يشغله، ولا يمارِس اختصاصات وصلاحيات وسلطات هذا المنصب، بصفة كونه منتمياً إلى هذا الدِّين أو ذاك، إلى هذا العِرْق أو ذاك؛ وإنَّما بصفة كونه مواطناً، له صفة تمثيلية سياسية عامَّة، لا يَظْهَر فيها، ويجب ألاَّ يَظْهَر، ما يميِّزه من غيره (من المواطنين) دينياً أو عِرْقياً.. إنَّ هيئات الحُكْم المتأتِّية من طريق الانتخاب الديمقراطي، والتي لا تنتمي إلى ما يتنافى مع مبدأ "تساوي المواطنين جميعاً في الحقوق جميعاً" من انتماءات، كالانتماء الدِّيني والعِرْقي، هي النُّتاج الواقعي والحتمي لـ "دولة المواطَنة"، أو لـ "الدولة المدنية"، والتي هي في معنى من أهم معانيها صراعٌ دائم ضدَّ كل "مصلحة" معادية لأيِّ "حقٍّ" من "حقوق المواطَنَة". وفي "نظام التصويت"، يَكْمُن بعضٌ من أهمِّ أسباب الأزمة في الحياة الديمقراطية الناشئة في بلاد "الربيع العربي"؛ ولا بدَّ من التأسيس لـ "نظام تصويت جديد"، وجيِّد بمقياس ما يمكن تسميته "الديمقراطية الانتقالية"، والتي قد تستغرق زمناً طويلاً. الصوت" إنَّما هو "صوت إرادة صاحبه"؛ لكنَّ ما يريده الناخِب، أو المُصوِّت، في مجتمعنا، الذي فيه من "أنماط الولاء" ما يتنافى مع "الجوهري" من قِيَم ومبادئ الحياة الديمقراطية، يعتريه كثيرٌ من التناقض؛ فإرادته متشظية، متشقِّقة، متفرِّقة، متشتِّتة. إنَّ "نظام الصوت الواحد"، أيْ نظام صوت واحد (لا غير) لكل ناخِب، لا يَصْلُح، في مجتمعنا، للتأسيس لحياة ديمقراطية جديدة وجيِّدة؛ فهذا النظام يأتي بـ "تمثيل" يتضاءل فيه كثيراً "التمثيل العام"، أو "التمثيل السياسي" للشعب، ويجعل "الانتخاب" مَفْسَدةً لديمقراطية العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ونرى في نظام "الصوتين"، أو "الصوت المتعدِّد"، تَوافُقَاً أكثر مع القِيَم والمبادئ الديمقراطية، ومع قوى الدَّفْع في اتِّجاه "الدولة المدنية"؛ ففي مجتمعنا يَكْثُر التعصُّب لـ "الجماعة التي صلة الفرد بها من النوع الذي يتنافى ومقوِّمات المجتمع الديمقراطي، والدولة المدنية"، كالعشيرة والقبيلة والطائفة الدِّينية؛ وينبغي لنا ألاَّ نَضْرِب صفحاً، في سعينا إلى التأسيس لمجتمع ديمقراطي، ودولة مدنية، عن هذا "الواقع الكريه (من وجهة نظر ديمقراطية وحضارية)"، وعمَّا يُثْبِته الواقع، في استمرار، ألا وهو أنَّ الولاء الأوَّل (والصوت الأوَّل من ثمَّ) للفرد، في مجتمعنا، وفي ساعة الانتخاب على وجه الخصوص، هو للعشيرة والقبيلة والطائفة (الدِّينية). والأسوأ من ذلك، نراه، على وجه الخصوص، في "الأزمات"، و"أوقات الضيق والشِّدة"؛ فإنَّ كثيراً من المثقَّفين الديمقراطيين والليبراليين واليساريين والقوميين والعلمانيين، المتسامين، في الأوقات العادية، عن تلك الأنماط من الولاء والانحياز، يُسْرِعون في الارتداد إلى "البدائي" من الولاء والانحياز؛ فالكامِن من وعيهم يَظْهَر، والظَّاهِر يَكْمُن! لِيَكُنْ "الصوت الأوَّل" للناخب (المُصوِّت، المُقْتَرِع) لـ "مُرشَّح الغريزة (الغريزة العشائرية أو القبلية أو الطائفية)"، وَلْنَتَّخِذْ من "الصوت الثاني (أو الثالث)" مداراً لـ "اللعبة الديمقراطية"؛ فإنَّ في "نتائج الصوت الثاني (أو الثالث)" ما يشبه التسوية بين "أصحاب الصوت الأوَّل"؛ وفي مجتمعنا لا يمكن أنْ يأتي "التمثيل الذي فيه يرتفع منسوب السياسة والديمقراطية" إلاَّ من هذه الطريق، أيْ طريق "التسوية (العفوية)"، الكامنة ملامحها في نتائج "الصوت الثاني (أو الثالث)". في يوم الاقتراع، تذهب إلى صندوق الاقتراع، فتعطي "صوتي الأوَّل" لـ "مرشَّح الغريزة"، أيْ لـ "لمرشَّحكَ العشائري أو القبلي أو الطائفي"؛ ثُمَّ تعطي "صوتكَ الثاني (الإلزامي)" لـ "مرشَّح الوعي"، أي لـ "الجماعة السياسية المنظَّمة" التي تنادي بما يصلح للتأسيس لـ "مجتمع ديمقراطي"، و"دولة مدنية". إنَّ الناخِب، في مجتمعنا، "إرادتان (إنْ لم يكن أكثر)"؛ فَلْنُهيِّئ لـ "الإرادة الأخرى (الكامنة)" أسباب الظهور عَبْر نظام "الصوتين"، أو "الصوت المتعدِّد". الناخِب، وبصفة كونه مسْتَخْذياً خاضعاً لـ "مجتمعه الضيِّق"، مجتمع العشيرة والقبيلة والطائفة، يريد أنْ يرى ممثِّلاً لـ "غريزته" هذه في البرلمان؛ ولسوف يظل "النظام (والقانون) الانتخابي" في أزمة، تَلِد أزمات من غير جنسها، إذا لم يُرْضِ له هذه "الغريزة". لكنَّ هذا الناخِب يَعْلَم أنَّه ينتمي إلى مجتمع أوسع، وأنَّه مواطِن في دولة لا بدَّ لها من أنْ تكون في ماهيتها وخواصها وملامحها ثمرة ونُتاج "تسوية (عفوية)" بين كل "الجماعات البدائية"؛ وهذه "التسوية" لن يأتي بها أبداً نظام "الصوت الواحد". إنَّنا نريد "نظام تصويت" يسمح لنا بأنْ نَسْتَخْرِج منه ما يعكس "الإرادة المشتركة" للناخبين جميعاً، أو في أكثريتهم؛ فالناخِب زَيْد هو "جملة من الولاءات والانتماءات والهويات" التي تشبه طبقات الهرم؛ وعلينا، من ثمَّ، أنْ نُميِّز ونُفْرِز "درجات إرادته الانتخابية"، فَنَجْعَل له صوتاً لولائه الأوَّل (العشائري مثلاً) وصوتاً لولائه الثاني (الطائفي الدِّيني مثلاً) وصوتاً لولائه الثالث، أو الأخير، والذي هو الأقرب إلى تخوم "المجتمع الديمقراطي" و"الدولة المدنية"؛ وفي هذه "الهرمية من الولاءات والانتماءات والهويات"، وفي "التصويت"، من ثمَّ، يتدرَّج الناخب في الولاء والانتماء والهوية، وصولاً إلى الأكبر والأوسع والأعم والأشمل؛ فـ "الصعود" إلى "المجتمع الديمقراطي"، و"الدولة المدنية"، هو عينه "نزول الهرم" من "قِمَّتِه الضيِّقة" إلى "قاعدته الواسعة". إنَّ "خياره (أو صوته) الثالث (أو الأخير)" هو الذي يشترك فيه مع غالبية الناخبين، وهو من ثمَّ "التسوية (العفوية)"، التي من حجارها نبتني "المجتمع الديمقراطي"، و"الدولة المدنية"؛ فهذه "الدولة"، وذاك "المجتمع"، لن يُولدا أبداً، في مجتمعنا، من رَحْم "الخيار (أو الصوت) الأوَّل" للناخِب. وحتى يتصالح (أو لا يتخاصم) كل "مجتمع ضيِّق" مع "المجتمع الواسع"، ومع "دولة المواطَنة"، لا بدَّ من أنْ يَكْفَل القانون (والدستور) لكل "مجتمع ضيِّق (مهما كان نوعه)" حقُّه في أنْ يُنظِّم ويُدير بنفسه شؤونه وأموره الخاصة (أيْ التي بمنأى عن السياسة والتسييس). إنَّ كل جماعة، مهما كان نوعها أو حجمها، يحقُّ لها أنْ تُنظِّم نفسها بنفسها، وأنْ تتولى إدارة شؤونها الخاصة بنفسها، وأنْ تدافع وتحامي عن مصالحها وحقوقها بكل الوسائل والأدوات والأساليب الشرعية، أيْ التي لها سَنَد في القانون (والدستور). نظام التصويت الديمقراطي، الذي يحتاج إليه مجتمعنا، إنَّما هو الذي يعطي من النتائج (أيْ من النتائج التصويتية) ما يَكْمُن فيها "الخيار المشتَرَك" لغالبية المُصوِّتين؛ وهذا الخيار هو الذي منه نبتني "المجتمع الديمقراطي" و"الدولة المدنية"؛ فالناخِب كالمجتمع هَرَمٌ من الولاءات والانتماءات والهويات؛ فَلْنَدَعها جميعاً تتفتَّح. "الحياة السياسية" في مجتمعاتنا العربية، والتي يُفْتَرَض أنْ يَشْحَنَها "الربيع العربي" بكثيرٍ من قِيَم ومبادئ الديمقراطية، ما زالت تُعاني أمراضاً، بعضها مُزْمِن وعضال؛ ولا بدَّ لها من أنْ تشفى منها، وإلاَّ ظَلَلْنا كمثل من لا يتقدَّم خطوة على طريق الديمقراطية، و"الدولة المدنية"، إلاَّ ليتراجع خطوات. وإنَّ أخطر هذه الأمراض نُعاينه في خُلوِّ الدساتير العربية من مادة في منتهى الأهمية هي المادة التي فيها يُجَرَّم كل مَنْ يَسْتَخْدِم الدِّين (وبصرف النَّظر عن أسلوب أو طريقة الاستخدام) لأغراض ومآرب وغايات سياسية (وانتخابية على وجه الخصوص). وهذا إنَّما يعني أنَّ الزَّجَّ (أيْ كلَّ زَجٍّ) بالدِّين في السياسة يجب أنْ يُحْظَر دستورياً، وبنَصٍّ دستوري واضح جلي لا لبس فيه، وأنْ يُعَامَل على أنَّه "جريمة يُعاقِب عليها القانون"، وأنْ يُتَّخَذَ هذا "التجريم (أو التحريم)" أساساً من الأُسُس التي يقوم عليها قانون الأحزاب السياسية، أيْ قانون إنشاء الأحزاب السياسية، والترخيص لها بالوجود. ونرى أنَّ "الإصلاح الدِّيني (الإسلامي) في بُعْدِه السياسي (على وجه الخصوص)" يجب أنْ يَسْتَهْدِف (ويتمخَّض عن) تحريم ديني (أو ما هو في منزلة التحريم الدِّيني) لكلِّ "تشكيل ديني" للسياسة، أي لكلِّ مسعى يُبْذَل لإعطاء محتوى أمْرٍ، أو شأنٍ، سياسي شكلاً دينياً؛ فالسياسي من الأمور والشؤون، ولجهة "محتواه (ومضمونه)"، والذي هو "دنيوي خالِص"، لا يَقْبَل، وينبغي له ألاَّ يَقْبَل، أي "شكلٍ دينيٍّ". و"السؤال الفاسِد" هو الذي يكون من قبيل "ما هو حُكْم (رأي) الشَّرْع (أو الدِّين) في هذا الأمْر، أو الشأن، السياسي؟"؛ فليس من "سؤالٍ سياسي" يَقْبَل، أو يتقبَّل، "إجابة دينية"، ولو كانت على هيئة "إشارة (أو تلميح) في نَصٍّ دينيٍّ إلى أمْرٍ سياسي ما"؛ وإنَّ "أسوأ استغلالٍ"، على ما أرى، هو "الاستغلال الدِّيني" في "السياسة"، والذي نراه على وجه الخصوص في سعي الأحزاب السياسية المتدثِّرة بالدِّين إلى أنْ تَكَسُّب النُّفوذ الشعبي من طريق دغدغة العواطف الدِّينية للعامَّة من الناس، أيْ إثارة وتحريك العواطف الدِّينية للناس بما يَخْدُم الأغراض والمقاصِد والمآرب السياسية لهذه الأحزاب؛ وهذه "الدَّغْدَغَة" هي "المكيافلية في أسوأ صورها وأشكالها"! لكن، لماذا.. لماذا تاريخنا، نحن العرب، في جوهره وأساسه ومعظمه، يَظْهَر على أنَّه "تاريخ أديان".. تاريخٌ لنشوئها، وانتشارها ونَشْرِها، ولصراعها بـ "القلم"، قليلاً، وبـ "الحديد والنار"، كثيراً؟! لماذا نميل، دائماً، إلى النظر إلى صراعنا الواقعي الأرضي بـ "عيون دينية"، وإلى ترجمة هذا الصراع (بوقائعه وأسبابه ونتائجه) بـ "لغة الدين"؟! إنَّنا ندعو إلى "الدولة المدنية"، وإنَّنا نقول بضرورة جَعْل الثورة الشبابية الشعبية الديمقراطية طريقاً إلى "الدولة المدنية"؛ لكن هل لهذه الدولة، إذا ما قامت، أو بعد قيامها، أنْ تَكْتَمِل (مدنيةً وديمقراطيةً) مع بقاء منسوب المدنية والديمقراطية منخفضاً في المجتمع نفسه. إنَّ "المدنية" و"الديمقراطية" و"الحرِّية" هي أشياء لا وجود لها إلاَّ في مجتمعٍ يَكْثُر فيه، ويتكاثر، "المدنيون" و"الديمقراطيون" و"الأحرار". "الدولة المدنية الديمقراطية" إنَّما هي الدولة التي تكون (قولاً وفعلاً) لأبنائها (أو لمواطنيها) كافة، لا تتَّخِذ من الفروق بينهم في الدين والعرق والجنس.. سبباً لتفريقها بين مواطِن وآخر. وهذه الدولة ينبغي لها أنْ تكون محايدة دينياً، تَتْرُك أمر تمويل بناء دور العبادة (الجوامع والكنائس) لمواطنيها وللمجتمعات الدينية، وتَكْفَل للمؤمنين جميعاً حرِّية بناء دور العبادة، وحرِّية ممارسة شعائرهم الدينية، ملتزمةً، في الوقت نفسه، حماية دور العبادة، والرُّموز الدينية، والمصلِّين، من كل اعتداء، وتعريض المعتدي لعقوبة قانونية صارمة رادعة، فالعقوبة التي لا تردع تضرُّ ولا تنفع. في "مجتمع الحقوق (والذي تزدهر فيه "الجماعية" و"المؤسسات"، بمعناها الواسع)"، يحقُّ لكَ أنْ "تُفَكِّر كما تشاء"، وأنْ "تعيش كما تشاء"؛ لكن بما لا يتعارَض مع حقِّ غيركَ في أنْ "يُفَكِّر كما يشاء"، وفي أنْ "يعيش كما يشاء"، وبما لا يسمح لكَ بفَرْض طريقتكَ في التفكير والعيش على غيرك، كائناً من كان. إنَّ الانتماء الديني الإسلامي لأبناء المجتمع، أو لأكثريتهم، لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، "أسْلَمَة الدولة"، أو انحيازها دينياً؛ فـ "الدولة المدنية (الديمقراطية)" هي حقٌّ لكل مجتمع، أو شعب، مهما كانت عقيدته أو ثقافته الدينية؛ فَلْيُعْطِ الإسلاميون ما لله، لله، وما للدولة، للدولة! "الدِّين" بَيِّنٌ و"الدولة" بَيِّنة، وبينهما أُمور متشابهات لا يَعْلَمها كثير من الناس؛ وينبغي لنا جميعاً الحَذَر من الوقوع في الشُّبهات؛ ولقد وَقَع بعضنا في الشُّبُهات إذْ قال (جاعِلاً كثيرين من العامَّة من المسلمين يقولون معه) بوجود، وبوجوب وجود، "نظام سياسي إسلامي (خالص)"، عابر للتاريخ، لا عابِر تاريخياً؛ وكأنَّ التاريخ لم يكن شاهِداً على أنَّ كل النُّظُم السياسية (وغير السياسية) هي نُظُمٌ عابرة، يتخطَّاها التاريخ، الذي لم يَعْرِف، ولن يَعْرِف، نظاماً سياسياً يتخطَّى التاريخ، ولا يتخطَّاه التاريخ. "الدولة" ليست زيد، ولا عمرو؛ وليست هذه الجماعة (البشرية) أو تلك؛ إنَّها "شخصية (أو هيئة) اعتبارية (أو معنوية)"؛ وأنتَ يكفي أنْ تَفْهَم "الدولة" على حقيقتها هذه، أيْ على أنَّها "شخصية اعتبارية"، حتى يَسْهُل عليكَ، ويتيسَّر، نَزْع "الصِّفة الدِّينية" عن "الدولة"، أيْ عن أيِّ دولة. "الدولة" لـ "الجميع"، أيْ لمواطنيها كافَّةً؛ والشيء يكفي أنْ يكون ملكاً للجميع حتى لا يكون ملكاً لشخصٍ بعينه؛ وليس من معنى، أو من منطق، لعبارة "الدولة لمواطنيها جميعاً" إلاَّ إذا عَنَت أنَّ أحداً من مواطني الدولة لا يملكها، ولا يحقُّ له أنْ يملكها. إنَّ "الديمقراطية" تتلاشى فكراً ووجوداً إذا ما تُرْجِمت الفروق العرقية والقومية والقبلية والجنسية والدينية بفروق في الحقوق والواجبات بين المواطنين، أو بامتيازات سياسية (وغير سياسية) يتمتَّع بها بعضٌ من أبناء المجتمع الواحد. لا اعتراض على إرادة ومشيئة الشعب؛ لكن لا تقديس لهما، ولا تأليه؛ فالشعب كالمرء قد يخطئ في خياره وقراره، ويفشل في تجربته وتوقعه؛ ولا بدَّ له من أنْ يتعلَّم من أخطائه، ومن أنْ يَجْعَل فشله نجاحاً. "الديمقراطية" تتضَمَّن، ويجب أنْ تتضّمَّن، "الانتخاب"؛ لكنَّ "الانتخاب" لا يَعْدِل أبداً "الديمقراطية"؛ لأنَّ "الجزء" لا يَعْدِل أبداً "الكل". إنَّها ليست بـ "أحزاب سياسية إسلامية"؛ بلْ هي قوى تتوفَّر على توظيف "الدِّين" في "السياسة"، التي هي دنيوية القَلْب والقالب؛ فإنَّ "سياسياً" يشبه مكيافلي هو الكامن في قيادات أحزاب "الإسلام السياسي"؛ وأحسب أنَّ "الدولة المدنية" لن تقوم لها قائمة عندما إلاَّ إذا عرَّفَت هذا "التوظيف" على أنَّه جريمة يعاقِب عليها القانون؛ فمواطنونا حان لهم (ومن حقِّهم) أنْ يفهموا "السياسة"، ويمارسوها، على أنَّها أسلوب للصراع، الذي فيه، وبه، يخدمون مصالحهم الواقعية، ويُلبُّون احتياجاتهم الواقعية؛ فـ "الضمير الدِّيني" و"الضمير السياسي" بينهما برزَخٌ لا يبغيان! أمَّتُنا، وإذا ما أرادت التأسيس لوجودها القومي الديمقراطي، والتأسيس لوجود سياسي في مقدوره أن يدرأ عنها مخاطر كل عدو قومي، إنَّما تحتاج، الآن، أي قبل فوات الأوان، إلى منع الجوامع والحسينيات والكنائس من إنتاج الأحزاب والقيادات السياسية، فهل نبقي على هذا التداخل الضار بين الدين والسياسة حتى لا يبقى لدينا من الوجود القومي إلا ظلاله، وحتى تذهب الملايين من العرب ضحية الحروب الطائفية والمذهبية؟! لا حُكْم يمثِّل الشعب، وينتهي فيه، وبه، "اغتصاب السلطة"، إلاَّ "الحُكْم المدني المنتخَب"، الذي لديه من الوسائل والأساليب الديمقراطية ما يكفل "الدَّسْتَرة" الدائمة لوجود وعمل ووظيفة القوى الأمنية والعسكرية. "الدولة" عندنا لم تنشا وتتطور إلا لتكون قوة هدم، أو إعاقة وعرقلة، لـ "المواطَنة"، فهي تتقنَّع بقناع "المواطَنة" لتُقْنعنا بأنها بريئة الساحة، وليست بمتحالفة مع القوى الاجتماعية المضادة لـ "المواطنة". إنها في العلن والنهار تسبِّح بحمد "المواطنة"، وتقول بها وتتغنى؛ لكنها في السر والليل تسلك سلوك من له مصلحة في بقاء واستبقاء كل شيء لا يبقي شيئا من مقوِّمات وقوى "المواطَنة". إنها تستثمر جهدها، ومالها، وسلطانها، ونفوذها، ورجالها، وأقلامها، في الحرب السرِّية، غير المعلنة، التي تشنها على "المواطَنة"، وكأن وجودها من هذا العدم، أيْ من بقاء "المواطَنة" أقرب إلى العدم منها إلى الوجود. في مجتمعاتنا ما أصعب أن تُشْعِل فتيل صراع يتسامى عن كل عصبية كريهة منافية للانتماء القومي، ولحقِّنا في التطوُّر الديمقراطي، وما أسهل أن تُخْرِج هذا الصراع، إذا ما بدأ، عن سكَّته بقوى العصبية الحيوانية والعمياء؛ ويكفي أن تشوِّه وتمسخ صراعاً ما بقوى العصبية القبلية والطائفية والمذهبية حتى تَخْرُج من أجداثها سِراعاً قيادات من النمط الذي بفضله يستمر حُكْم الأموات للأحياء، فترى القيادة تأتي إلى زعماء القبائل والطوائف والمذاهب منقادة، إليهم تجرجر أذيالها! إنَّ "المواطَنة" التي إليها نحتاج هي "المواطَنة" التي في وسعها أن تَجُبَّ ما قبلها من كل تعصُّب ديني أو طائفي أو مذهبي أو عرقي.. أو عشائري، وتبتني للمجتمع وحدة منيعة من انقسامه على أسُسٍ سياسية وحزبية وفكرية واجتماعية ـ اقتصادية، فنرى "الأكثرية" و"الأقلية" فيه عابرةً مخترِقةً للحدود الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية، فنوع وحدتنا من نوع انقسامنا. الأمْر إنَّما يحتاج إلى "إصلاح ديني"، يتجشَّمه مفكِّرون إسلاميون من نمط مارتن لوثر، فيأتون إلى العامَّة من المسلمين بما يجعلهم مُقْتَنِعين بأنَّ النأي بـ "السياسة (وعالَمِها، وشؤونها كافَّة)" عن "الدِّين (الإسلامي)" هو من الدِّين، أصلاً وأساساً وجوهراً، ومن الإيمان الدِّيني القويم؛ ونحسب أنَّ فَتْح باب الاجتهاد (في هذا الأمر) على مصراعيه، مع تَكَلُّل هذا المسعى بهذه "الثمرة الطَّيبة (دينياً وسياسياً)"، هو مهمَّة تَتَحَدَّانا "الحضارة السياسية" و"الديمقراطية" أنْ نُنْجِزها الآن؛ فعندئذٍ فحسب نستطيع النأي بـ "صندوق الاقتراع" عن ميزان "الحلال والحرام"، ويستطيع الناخِب، أو المُصوِّت، أنْ يَنْظُر إلى كل شأنٍ سياسي يعنيه بعينٍ يَقِظَة لا تغشاها أوهام، فيُعيد وَصْل ما انفصل بين مصالحه وحقوقه وبين صوته. مِنْ قَبْل، كُنَّا، في عالَمنا العربي، لا نملك، ولو نظرياً وشكلياً، كثيراً من الحقوق، التي يتمتَّع بها الإنسان والمواطن في الغرب؛ ولقد تضافر أصحاب السلطتين الزمنية والدِّينية على تصويرها لنا على أنَّها رجس من عمل الشيطان، منافية لِقِيَمِنا ومبادئنا "السامية"، فيها مروق من الدِّين، وانتهاك لـ "خصوصيتنا (الثقافية والاجتماعية)"؛ ثمَّ استشعروا أهمية وضرورة "الإصلاح"، فأسبغوا علينا نِعْمة "الحقوق اللعينة"؛ لكنَّهم أَبْقوا علينا في واقِعٍ لا يسمح لنا بالإفادة من هذه الحقوق، مُتَحَدِّين كل المتمتِّعين بالحقوق الجديدة أنْ يجرؤوا على ممارستها، أو يتمكَّنوا من ممارستها؛ وهكذا انتقلنا من "دولة الحقوق المنقوصة" إلى "دولة الحقوق العاجِزة"؛ وكان هذا الانتقال شبيهاً بـ "الرَّكْض المَوْضعي". وفي اجتماعٍ يشبه اجتماع الماء والنار، يَجْتَمِع عندنا "تَرَكُّز السلطة والثروة معاً في فئة ضئيلة من المواطنين الذين إليهم تعود الملكية الفعلية للدولة" مع ما يُسمَّى، كذباً وتضليلاً، "دولة الحقوق (والمواطَنة والقانون)"؛ فكيف لـ "الحقوق" أنْ تُرْعى وتًصان في دولةٍ يستشري فيها "الفساد"، والذي هو دائماً العاقبة الحتمية لـ "تَركُّز السلطة والثروة"؟! مع هذا "التركُّز"، لا تُنْتَهك "الحقوق" فحسب؛ بل تُحَارَب حتى البديهية الهندسية إنْ اسْتَكْرَهَتْها مصالح الحاكمين بالقوى المتأتية من اندماج "السلطة المُركَّزة" و"الثروة المُركَّزة". في "آيتهم القانونية الكبرى"، يقولون إنَّ المواطنين جميعاً سواسية في الحقوق وأمام القانون، لا فَرْق بين غنيٍّ وفقيرٍ، بين رب عملٍ وعاملٍ، بين حاكمٍ ومحكومٍ، إلاَّ بـ "تقوى القانون"؛ إنَّه "التساوي الشكلي" بين مَنْ هُم "غير متساويين في الواقع"؛ وهذا التناقض لا يُحَلُّ، على وجه العموم، عندنا، إلاَّ بتغلُّب "اللامساواة الواقعية" على "المساواة الشكلية"؛ فكلَّما احتدم صراع بين "حقٍّ (لمواطِن عادي)" و"مصلحة (لمواطِن غير عادي)"، هُزِم "الحق"، وانتصرت "المصلحة". والفساد الحقوقي والقانوني يبلغ مداه عندنا بـ "دولة الجريمة القانونية"؛ فإذا فَهِمْنا "الجريمة" على أنَّها فِعْلٌ ينطوي على اعتداء وتطاول على "حقٍّ ما"، فلا بدَّ لنا، عندئذٍ، من أنْ نَفْهَم "دولة القانون"، التي نتغنَّى بها، على أنَّها الدولة التي تَعْرِف كيف تَسْتَعْمِل "القانون"، بنَصِّه وروحه وتفسيره، في تبرئة ساحة بعض مرتكبي الجرائم، وفي إثبات أنَّ جرائمهم لم تكن جرائم؛ بل كانت "أفعالاً أجازها، أو لم يحظرها، القانون"! الفساد هو أيضاً طريق إلى الثراء؛ ونحن لو أَمْعَنَّا النَّظَر في "ثروة الفساد"، لاكتشفنا أنَّ قسماً كبيراً من هذه الثروة قد جاء من طريق الاعتداء والتطاول على "الحقوق"؛ وكأنَّهم يَسْتَثْمِرون في "هضم الحقوق"، لا في "صَوْنِها"!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انحناء المسار بانحناء المكان
-
النَّجْم إذا حَفَرَ في الفضاء
-
بأيِّ معنى نفهم سرعة الضوء على أنَّها -مُطْلَقَة-؟
-
-التركيب- و-التفكيك- عربياً
-
كيف تَصِل إلى أبعد نجم في الكون في دقيقة واحدة فحسب؟
-
أين -المُطْلَق- في -النسبية-؟
-
الجاهلية الإسلامية!
-
في -نسبية الحركة-
-
قانون يُدْعى -تنظيم الحق في التظاهر-!
-
-النقطة- التي منها وُلِدَ الكون!
-
مِنْ عملة -الكيميائي السوري- إلى عملة -النووي الإيراني-!
-
في قانون التكافؤ بين قوى الجاذبية وقوى التسارع
-
-أوباما الإيراني- في -مرجعيته السورية-!
-
واشنطن وطهران عندما تُعْلِن كلتاهما النَّصْر على الأخرى!
-
-البترودولار- ما زال يستبدُّ بالعالَم!
-
معنى -انحناء الفضاء-
-
-الغاز- لغة القرن الحادي والعشرين!
-
في البُعْد الرابع للمكان!
-
الكون في عُمْرِه الافتراضي الجديد!
-
إطلالة دحلان!
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|