|
مسك الليل
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4300 - 2013 / 12 / 9 - 15:18
المحور:
الادب والفن
مسافة مديدة للغاية، تلك الفاصلة بين حيّ " غيليز " الراقي والحيّ الشعبي " سيدي يوسف ". ولكنّ " ليلى " اعتادت أن تجتازها مشياً، كي تتجنّبَ سائقي سيارات الأجرة ومساوماتهم الليلية، المتسمة بالصفاقة والمفصحة عن الجشع. البعض من هؤلاء، ستمرّ بهم مساءً وهيَ عائدة للتوّ من معهدها، وكانوا بانتظار المسافرين القادمين من المدن الأخرى على متن الأوتوبيسات السياحية. وكانت " ليلى " تؤثر اجتياز هذا الشارع، نظراً لما يحفل به من حركة وأضواء وأصوات. وأيضاً روائح. فعبق أشجار مسك الليل، بشكل خاص، كان يطغى هنا على كلّ ما عداه. صباحاً، وطوال النهار، ينطفيء مشام هذه الأشجار الجميلة، ويستعاض عنه عندئذٍ بلمعان أوراقها الصقيلة وأزهارها البيضاء الدقيقة الحجم. " أختاه، لو سمحتِ لي.. "، هكذا ابتدأ أحد الفتية مخاطبته للطالبة الخارجة تواً من المعهد، بعدما اعترض طريقها عند نقطة عبور الشارع ذي الأشجار الزكية الرائحة. لم تفهم " ليلى " شيئاً تقريباً من عبارات هذا الشاب القصير القامة، المبهم الملامح كما الشبح. وهيَ العبارات، التي قطِعَت فجأةً لحظة اقتراب امرأتين من مصدرها. إحداهما، الأكبر سناً، كانت تجرّ حقيبة سفر كبيرة نوعاً. فيما الأخرى، الشابّة، انهمكت في محادثة هاتفية على الموبايل. جهاز الهاتف هذا، الأنيق، ما لبث أن طارَ في الهواء لمسافة نصف متر قبل أن يقع بأيدي الشاب نفسه، الذي كان قد سبق وأن اعترض سبيل طالبة المعهد. " أمسكوا الشفّار ( اللص ).. "، صرخت المرأتان بصوتٍ واحد وهما تركضان خلف الفتى. هذا اللص، كان بطبيعة الحال أكثر خفة، فاختفى في الحال بين زحمة مركبات الشارع. " ليلى "، المأخوذة بوقع المفاجأة، تفاقمت دهشتها عندما رأت المرأتين تعودان باتجاهها وقد تجلّت سحائب الشرّ في سحنتيهما القاتمتين. " إنها رفيقته ولا شك.. "، كانت الشابة فيهما تصيحُ ما أن اقتربت من طالبة المعهد. وقبل أن تعي هذه الأخيرة معنى الجملة الفائتة، كانت المرأتان قد وثبتا عليها. ومثلما تفعل الوحوش، أنشب كلاهما مخالبه في جسد هذه الفريسة السهلة. ثمّ انتبهت الوحش الشابّة في غمرة الصراع والصراخ إلى حقيبة اليد، الحائلة اللون، التي كانت فريستها متشبثة بها بقوّة: " آآآمي ( أماه ).. كفى، كفى "، خاطبتْ الأخرى بعدما تمكنت من انتزاع حقيبة اليد. فما أن عثرت فيها على غرض ما، حتى اكفرّ وجهها مجدداً، فعادت تخاطب والدتها بنبرة ساخطة: " العاهرة.. إنّ موبايلها لا يساوي ألفي ريال، فيما أنني اشتريت موبايلي بعشرين ألف ريال ". في تلك اللحظة، كان رجل شرطة قد وقف حائلاً دون المرأتين والاستمرار في نهش بدن ضحيتهما. شرطيّ آخر، أكثر بدانة، ما عتمَ أن لحق برفيقه وهو يلهث نافخاً أنفاسه بمشقة. الأول، الرشيق القوام، بادر من ثمّ إلى خلع جاكيته الرسميّ، الشتويّ، ليستر به النصف الأعلى من جسد الفتاة، وكان شبه عار بالنظر لتمزق الكنزة والقميص الداخليّ. وهوَ ذاته، من تلقف هذه المسكينة بين ذراعيه القويتين والدافئتين، حينما انهارت على غرّة فاقدةً الوعي. ثمّة، في المستشفى الحكومي، أبلِغَ الشرطيّ الشابُ عن طريق جهاز اللاسلكي بخبر يبدو أنه مفرحاً ـ كما بدا من تهلل ملامحه، الرائقة والحَسَنة. " لقد اتصلوا من نقطة القيادة، لكي يبلغوني بأنّ ذلك اللص قد تمّ توقيفه بعدما صدمته دراجة نارية في شارع قريب من محطة الأوتوبيسات السياحية "، خاطبَ الشرطيّ شقيقَ " ليلى " الأكبر؛ الذي كان قد حضر إلى المستشفى للاطمئنان على وضعها. فيما بعد، خلال منتصف نهار اليوم التالي، توضّحت ملابسات القضية على إثر ادلاء اللصّ بإفادته للمحقق. " ليلى "، التي قضت الليلة الفائتة نائمة في إحدى غرف المشفى، كانت قد أفاقت صباحاً وهيَ تشعر بالغثيان من تأثير ابرة المورفين التي سبق وتلقتها من الطبيب المناوب. ثمّ أمكن لها، بدَورها، تقديم افادتها للمحقق. لاحقاً، أمر هذا الرجلُ الصارم القسمات بإخلاء سبيلها فوراً. وكانت قد أجابته بالنفي، حينما سألها أخيراً ما إذا كانت تودّ رفع دعوى قضائية على تينك المرأتين المعتديتين. ها هوَ الشرطيّ الشاب، ذو القسمات الرقيقة، يقف متردداً عند نقطة العبور في ذلك الشارع ذاته، المكتنف بأفياء أشجار مسك الليل. ذلك، حدَثَ بعد نحو أسبوع من واقعة اللصّ. وقد عرفت " ليلى " الشرطيّ الشهمَ على الرغم من الأضواء الخافتة، ومع كونه قد ظهرَ ثمّة بملبس مدنيّ. حينما كانت تقترب من موقف هذا الشاب، فإنها راحت تعاين بإعجاب، وبعض الدهشة، هيئته الأنيقة والمعطّرة. بعدما تبادلا التحية، مكثا صامتين خلال سيرهما جنباً إلى جنب عبْرَ الشارع. وكان رفيق الطريق قد فكّرَ، أنّ الفتاة فعلت حسَناً بتجنبها المرور من ذلك المكان، الذي حصل فيه الحادث المشئوم. غير أنه سرعان ما غيّر رأيه، فاعتبرَ المكان فأل خير بالنسبة له، في أدنى حد: " ولولا صدفة وجودي، بمهمّة ضبط الأمن في منطقة محطة الأوتوبيسات، لما أمكن لي حظوة التعرّف بهذه الفتاة الحلوة والنبيلة "، قال مختتماً مخاطبته الداخلية.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خفير الخلاء
-
البرج
-
طنجة؛ مدينة محمد شكري 3
-
طنجة؛ مدينة محمد شكري 2
-
طنجة؛ مدينة محمد شكري
-
سيرَة حارَة 7
-
في عام 9 للميلاد
-
سيرَة حارَة 6
-
سيرَة حارَة 5
-
سيرَة حارَة 4
-
في عام 10 للميلاد
-
سيرَة حارَة 3
-
في عام 11 للميلاد
-
سيرَة حارَة 2
-
في عام 12 للميلاد
-
سيرَة حارَة
-
جريمة تحت ظلال النخيل
-
جريمة في فراش الزوجية
-
جريمة عند مدخل الرياض
-
جريمة من أجل كنز
المزيد.....
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
-
فنانو وكتاب سوريا يتوافدون على وطنهم.. الناطور ورضوان معا في
...
-
” إنقاذ غازي ” عرض مسلسل عثمان الحلقة 178 كاملة ومترجمة بالع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|