|
الجاسوس والجاسوسية!
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 4295 - 2013 / 12 / 4 - 17:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمكن تصديق أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA قامت بالتجسس على سبعين مليون حالة (70.000.000)، سواء عن طريق مراقبة الهاتف النقال أو المعلومات عبر الانترنت، ولكن مثل هذا الأمر حصل بالفعل، ولا شك أن ليس كل هذه التجسسات تشكل خطراً على الولايات المتحدة، فلماذا تقوم واشنطن ببذل مثل هذا المجهود المادي والمعنوي. التجسس عادة يتم على أعداء أو خصوم أو احتمال أن يكونوا غداً في هذه الدائرة، سواءً كانوا أشخاصاً أو فئات أو قيادات أو منظمات أو دولاً أو غير ذلك من الشرائح التي يمكن تصنيف الفائدة من التجسس عليها. حتى بعض الذين اعترضوا على تجسس واشنطن عليهم، كانوا مشاركين لها في التجسس على الآخرين، حيث يتم تبادل المعلومات والتنسيق بشأنها بين واشنطن وبرلين ولندن وتل أبيب، ويتم توفير معلومات واسعة "لإسرائيل"، ليس فيما يتعلق بصراعها مع العرب والفلسطينيين فحسب، بل عن كل ما يجري في الكون.
أمران يدفعان بواشنطن إلى هذا القدر من الحساسية إزاء الآخر، الأول هي عدم قدرتها على الوثوق من أصدقائها وحلفائها وهي تنظر إليهم باعتبارهم منافسين قد يلحقوا ضرراً بمصالحها، والاّ لماذا تتجسس على ألمانيا وفرنسا مثلاً؟ والثاني هو أنه في علم الاستخبارات تعتبر المعلومة مكسباً سواءً كانت لليوم أو للغد، وأجهزة الاستخبارات والأمن، ومن يشتغلون بهذا الحقل يعتبرون أنفسهم مثل المقبرة، وهذه الأخيرة لا تعيد ميتاً، إنها مقبره، مثلما ستحتفظ بالمعلومة لليوم الأسود كما يقال، وحتى لو تأكدت أن معلوماتها خاطئة، فإنها لا تمتنع عن الاحتفاظ والمحافظة عليها، وكأنها كنزٌ لا تريد أن تفقده. ولعلّها مفارقة أن تكون انعكاسات مثل هذه الأحداث سلبية على مجتمعاتنا، سواء من جانب الغير أو من بعض أجهزتها الأمنية، بزعم الحماية من الأخطار الخارجية أو مكافحة الإرهاب فتهدر الحقوق والحريات والكرامة.
ولم يقف تجسس واشنطن على الحلفاء الكبار المقربين، بل امتدّ إلى آخرين في مرتبة الأصدقاء الأدنى مثل الباكستان والهند لأن التجسس لديها أصبح سياسة ثابتة لا فرق بين العدو والصديق، وحتى بعض الذين اعترضوا على تجسس واشنطن عليهم، كانوا مشاركين لها في التجسس على الآخرين، حيث يتم تبادل المعلومات والتنسيق بشأنها بين واشنطن وبرلين ولندن وتل أبيب، ويتم توفير معلومات واسعة "لإسرائيل"، ليس فيما يتعلق بصراعها مع العرب والفلسطينيين فحسب، بل عن كل ما يجري في الكون. في علم المخابرات إن من يمتلك المعلومات، يمتلك القوة، وكلّما كانت الدولة أو أجهزتها الأمنية تمتلك معلومات دقيقة عن أعدائها أو خصومها، سواء كانوا خارجيين أو داخليين، كلّما استطاعت أن تتصرف معهم من موقع الثقة، حتى وإن لم تمتلك القدرات الكافية، ذلك أن المعلومات بحد ذاتها هي قوة كامنة وإن كانت غير منظورة، وهذا بالذات ما تقصده واشنطن من التجسس على حلفائها وخصومها وأعدائها في الآن ذاته، أشخاصاً أو مؤسسات أو دولاً، خصوصاً وهي تمتلك أرقى تكنولوجيا في العالم، وتوظف كل علومها ومعارفها لهذا الغرض الذي بات يلصق بها مثلما يلصق الجلد بالجسم، وهي لا تستطيع العيش بدون ذلك، وستشعر بقلق كبير كلّما كانت معلوماتها شحيحة إزاء هذا البلد أو تلك المنظمة أو ذلك الشخص. لقد كان هاجس واشنطن المعلومات الخاصة بإيران، وليس فقط بالمفاعل النووي، وإلاّ كيف تستطيع تفسير وجود تسجيلات 14 مليار حالة اعتراض ضدها إيران من خلال الرسائل والنصوص الالكترونية، خلال مدة قد لا تزيد عن شهر واحد. والولايات المتحدة التي لا تخفي قيامها بالتجسس، تعتبر ذلك جزءًا من الحرب النفسية، ووسيلة من وسائل الصراع للتفوق على الغير، سواءً كانت خشنة أو ناعمة، لا سيّما وأن التجسس والجاسوسية باتا شبه معترف بهما في ميدان العلاقات الدولية، إزاء الأعداء والخصوم، ولكن واشنطن تعدّت ذلك إلى الحلفاء والأصدقاء والشركاء، بما فيها لمكالمات شخصية تخص الزعماء مثل السيدة انجيلا مركيل المسشتارة الألمانية، الأمر الذي أثار استغراب كثيرين، ووصل الأمر إلى فرنسا، وعلى الرغم من الاحتجاجات المعلنة، لكن ردود الأفعال كانت باهتة، وهو ما حاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما تبديده، بأن ليس لدى واشنطن علم بذلك، رامياً بالتهمة على وكالة المخابرات المركزية. في السابق كان الدبلوماسي الأجنبي عيناً " جاسوسية" أحياناً لبلاده، وكانت مهماته تقتصر على رصد المعلومات وكتابة التقارير والاتصال ببعض مواطني البلد، لاسيّما من أصحاب النفوذ لتزويده بذلك، ليقدّم كل ذلك إلى بلده مع تعليقات وبعض الاستنتاجات، لكن مثل تلك المهمات أصبحت اليوم بفعل الثورة العلمية – التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية " الديجيتل" من مخلّفات الماضي، فالتجسس والجاسوسية أصبحتا تستخدمان آخر اكتشافات التكنولوجيا والعلم، بل إنها علم قائم بذاته، وربما وظّفت بعض البلدان أحسن ما عندها لتأمين نجاحه. وكانت واشنطن سبّاقة إلى ذلك فتمكّنت من تحديث وعصرنة كل أجهزتها في إطار تأهيل تكنولوجي عالي المستوى وتدريب فائق الفعالية، وهو ما شمل التقاط المكالمات الهاتفية ورسائل الانترنت وحلّ الشيفرات على نحو سريع واكتشاف نقاط ضعف وقوة الآخر، ولعلّ ما كشفه إدوارد سنودن الذي تلقفته موسكو ومنحته لجوءًا لمدة عام، يعطي أهمية خاصة لعلم المخابرات وتطور الطرق الجاسوسية والتجسس، بالاعتماد على الأشخاص والأجهزة، وهناك برامج تدريب خاصة وأجهزة متطوّرة تستطيع رصد أية حركة مهما كانت بسيطة وتحت أي ظرف. وهذا ما يذكّر بالسباق الماراثوني طيلة الحرب الباردة بين الـ KGB الروسية والـ CIA الأمريكية، استخدمت فيه جميع الوسائل القذرة والنظيفة، المشروعة وغير المشروعة للتأثير على " العدو"! وبلا أدنى شك مهما بلغت الدول من إمكانات وتفوق في مجال التجسس والجاسوسية لكنها ستبقى غير كلّية القدرة والجبروت، مهما امتلكت من معلومات وكانت خزانة هائلة لكل شاردة وواردة، وهو ما اتّضح خلال أحداث أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية، يوم هوجم برجي التجارة العالمية في نيويورك، والبنتاغون في واشنطن وبنسلفانيا لدرجة صحا العالم مذهولاً، وهو ما دعا واشنطن لاحقاً لشن حملة ضد ما يسمى بالارهاب الدولي، لجهات غير معلومة أو مبهمة تحت عناوين، أن هناك خطراً وشيك الوقوع أو محتمل، الأمر الذي يتطلب شن حرب استباقية أو وقائية ضده، وهو ما حصلت عليه بموجب ثلاثة قرارات دولية من جانب الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديداً والمتمثلة بالقرار رقم 1368 الصادر بعد يوم واحد من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) والثاني في الشهر ذاته برقم 1373 وهو أخطر قرار في تاريخ المنظمة الدولية، لأن فيه عودة للقانون الدولي التقليدي بإعطاء الحق في الحرب تحت مبررات احتمال مهاجمة ارهابيين، والذي يتطلب استباقهم وتوجيه ضربة لهم، وهو ما تفعله اليوم واشنطن في باكستان وأفغانستان واليمن والصومال بتوجيه طائرات دون طيّار، وليس بعيداً عن ذلك محاولات ضغط وتدخل بالشؤون الداخلية، بل فرض هيمنة على العالم، بإجبار الدول على التعاون معها تحت عناوين مكافحة الإرهاب والاّ ستعرّض نفسها لعقوبات صارمة، وهو ما ورد في القرارات المذكورة. وإذا كانت الأمم المتحدة قد أجازت استخدام القوة خارج نطاق الميثاق لمواجهة الارهاب الدولي، الذي ينبغي اجتثاثه والقضاء عليه وهو ماأكّده القرار 1390 الصادر في 16 كانون الثاني(يناير) 2002 ، فإنها من باب أولى عليها اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع التجسس والجاسوسية التي أصبحت سمة مميزة للسياسة الأمريكية سواء على المستوى الخارجي أو على المستوى الداخلي، ولاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001، وهو ما دعا العديد من مؤسسات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، الاحتجاج لدى واشنطن وحليفاتها إزاء انتهاكاتها للحقوق المدنية، سواء للمواطنين الأمريكان أو الأوروبيين أو لمن يقيم على أراضيها أو يزورها من الملوّنين، وخصوصاً من بلاد العرب والمسلمين. ولعلّها مفارقة أن تكون انعكاسات مثل هذه الأحداث سلبية على مجتمعاتنا، سواء من جانب الغير أو من بعض أجهزتها الأمنية، بزعم الحماية من الأخطار الخارجية أو مكافحة الإرهاب فتهدر الحقوق والحريات والكرامة، في حين تحاول القوى الأجنبية المتنفّذة إقليمياً ودولياً الضغط باسم هذه العناوين للتدخل بشؤوننا الداخلية والعبث بمواردنا وسيادتنا الوطنية.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التغيير: الشرعية ونقيضها
-
الإعلام والإرهاب: السالب والموجب !
-
الروس قادمون.. نعم ولكن
-
من هو قاتل عرفات!؟
-
حقوق المرأة والخلاف في الجوهر
-
جراح الذاكرة والإفلات من العقاب
-
دبلوماسية مكافحة الإرهاب!
-
هل الغاز وراء التفاهم الروسي – الأمريكي؟
-
في الظاهرة العنفية عراقياً
-
ما بعد -جنيف 2-
-
ماذا يعني رفض عضوية مجلس الأمن؟
-
الإرهاب ومعادلة الأمن والكرامة
-
الهجرة غير الشرعية . .الأحلام تتحوّل إلى كوابيس
-
العرب وبعض تجارب الحقيقة والمصالحة
-
الحقوقي والسياسي وما بينهما
-
اليوم العالمي للاعنف . . يوم ميلاد غاندي
-
تونس ما بعد النهضة
-
من القوة الخشنة إلى القوة الناعمة !
-
التفكير السياسي لسسيولوجيا المعرفة الإسلامية!
-
حيرة المثقف!
المزيد.....
-
-العين بالعين-.. كيف سترد الصين على أمريكا بعد فرض ترامب رسو
...
-
ساعة رونالد وثمنها بلقطة مع تركي آل الشيخ بحلبة UFC
-
دراسة صادمة .. الأرض قد تحتوي على 6 قارات فقط!
-
قوانين جديدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي تدخل حيز التنفيذ في ا
...
-
تسع دول تشكل -مجموعة لاهاي لدعم فلسطين-
-
وفاة الرئيس الألماني الأسبق هورست كوهلر
-
مهاجم مدرسة قازان أراد تدميرها بالكامل
-
دراسة جديدة تفنّد الفرضيات السابقة حول علاقة صحة الأم باضطرا
...
-
من السلطان سليمان إلى أردوغان: تطور الاستخبارات في تركيا
-
عصر القطب الواحد انتهى – ماذا ستفعل الولايات المتحدة؟
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|