أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير الخويلدي - اكتشاف الكوناتوس والإقرار بوحدة الوجود عند باروخ سبينوزا















المزيد.....


اكتشاف الكوناتوس والإقرار بوحدة الوجود عند باروخ سبينوزا


زهير الخويلدي

الحوار المتمدن-العدد: 4279 - 2013 / 11 / 18 - 13:54
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



استهلال:
" الانسان الحر لا يفكر في الموت إلا نادرا أما حكمته فهي تأمل لا للموت بل للحياة"1
ترك الفيلسوف سبينوزا (1632-1677) جدلا كبيرا في الساحة الفلسفية حوله بالرغم من قصر عمره والظروف الصعبة التي عاش فيها نتيجة الاقصاء والمضايقة فهو شخصية يهودية عاشت داخل فضاء مسيحي غير متسامح . كما أن المؤلفات القليلة التي ألفها مازالت محل أخذ ورد وظلت محل تأويل وانتقاد متواصل وذلك للمسائل الجوهرية التي تجرأت عليها والكشوفات الكبيرة وقبل أوانها التي تضمنتها. زد على ذلك صعوبة تصنيفه وفق الاتجاهات الفلسفية لعصره والانخراط الجذري في تجربة التفلسف بشكل مبكر والاعتزاز بالانتماء الى تاريخ الفلسفة واتصاله بالينابيع الأول للفكر البشري ووفائه للتقاليد والجذور الروحية والميتافيزيقية الأولى وخاصة الأفلاطونية والأرسطية والرشدية والتوماوية الحديثة والرواقية وكذلك تأثره الكبير بديكارت الى درجة أن مؤرخو الفلسفة يعتبرونها مع مالبرانش ولايبنتز من كبار الديكارتيين.
بيت القصيدة ليس في هذا الارتباط بتاريخ الأفكار بقدر ما يتعلق بالزلازل التي أحدثها في نظرية العقل وتناول لإشكالية المعرفة على غير عادة زمانه وتصوره للكون الموحد ورؤيته الوجودية الثاقبة وكذلك الرهانات العملية التي تخص الحرية والدولة والمسألة الأخلاقية ومفهوم السعادة.
لقد اشتهر سبينوزا على صعيد العملي بالبحث في العلاقات القائمة والممكنة بين اللاهوت والسياسة وبين الدين والدولة وخاصة تنظيره للمجتمع المدني والدولة الديمقراطية وحرية المعتقد والعقد الاجتماعي والربط بين الموطنة والسيادة وذاع صيته أيضا حينما أكد في كتاب الأخلاق على مفهوم الحتمية أو الضرورة الكونية ونحت مفهوم غريب للحرية وهو وعي الضرورة واعتبره البعض الآخر محرر الجسد ومكتشف اللاوعي قبل فرويد حينما كشف عن وجود نوابض لاواعية في الذات الانسان واعترف بمستطاع الجسد وعرف الروح على أنها فكرة الجسد
ولكن كل هذا الطرح لا يعني شيئا أمام أهمية درجات المعرفة الثلاث التي بلورها وقوله بوحدة الوجود واكتشافه الكوناتوس2 بماهو رغبة لدي الانسان في المحافظة على بقائه وجوديا وماديا. فلماذا خلع سبينوزا الكوجيتوا من عرشه؟ وهل وجد نفسه مجبرا على نقد مفهوم الذات وإحلال مفهوم الفرد مكانها؟ وماهي درجات المعرفة الثلاث التي بلورها؟ وبأي معنى يعتبر واحد من القائلين بمذهب وحدة الوجود؟ وماهو تصوره لله؟ هل ينتمي الى التراث الديني أم لإله الفلاسفة؟ وماهي تبعات هذه الثورة الكبيرة في المنهج والمعرفة والأنطولوجيا على المعايير والقيم العملية؟
ما نراهن عليه ليس تفسير عبقرية سبينوزا الى تأثره بالفلسفة العربية الاسلامية التي ازدهرت في بلاد الأندلس وحملها موسى ابن ميمون في دلائل الحائرين وألبرت مغنوس المشهور بألبرت الكبير وإنما بالعودة الى مؤلفاته وسيرته الذاتية والاستفادة من جهوده النقدية للدين للرد رهنا على موجة التعصب واللاّتسامح التي تجتاح حضارة اقرأ واعتماد رؤيته الفلسفية في الانسان والكون.
1- اكتشاف الكوناتوس:
" الرغبة عين ماهية الانسان من حيث تصورها مدفوعة... الى فعل شيء معين"3
يرفض سيبنوزا النزعة الديكارتية الاثنينية في تعريف ماهية الانسان يوصفه جوهر مفكر هو النفس وجوهر ممتد هو الجسم ويحمله مسؤولية تقسيم الكون الى عالم مادي وعالم روحاني ويدحض فكرة الكوجيتو ولا يستسلم لاستخلاصه الوجود من التفكير ويشكك في جعل الوضوح والتميز معياري الحقيقة ويعترض على تمييز ديكارت بين الحقيقة الموضوعية واليقين الذاتي. حاول سبينوزا أن يصمت على الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان من طرف ديكارت وعزيمته الكبيرة على تأسيس فلسفة الذاتية ولكنه في المقابل حرص على تطبيق منهج الفيزياء الرياضي وتناول الطبيعة البشرية من زاوية علمية وإعادة تنزيلها ضمن القوانين الصارمة للطبيعة الكونية وقد ترتب عن ذلك توحيد مفهوم الانسان والاعتماد على مفهوم الرغبة في تحديد ماهيته واكتشاف الكوناتوس الخاص وهو مجهود طريف واستثنائي وأدى الى تحطيم الثنائية والأنانة وإعادة المصالحة بين الانسان وجسده وأعاد الاعتبار الى الوجود الطبيعي للإنسان والمحايثة التي يتصف بها وعيه بالمقارنة مع الجانب العضوي من كيانه والاعتراف بقدرات هائلة للجسد.
من هذا المنطلق يعتبر سبينوزا الانسان شيئا واحدا ويلغي تناقض النفس والجسم وتحكم الأنا المفكر في الآلة العضوية ويقول باتحادهما وتغير أوامر النفس تبعا لتغير استعداد نوابض الجسد. " إن النفس والجسد شيء واحد، تارة نتصوره من جهة الفكر وطورا من جهة الامتداد"4 وبالتالي يوجد تلازم وتوازي وتوافق طبيعي بين نظام أفعال النفس وأهوائها ونظام أفعال الجسد وأهوائه. يبرهن سبينوزا على اكتشافه من خلال أمثلة علمية تدحض استعارة علاقة الربان بالسفينة في اشارة لعلاقة النفس بالجسم ويبين من خلال فرضية النائم الماشي وصعوبة التحكم في الكلام وفي النوازع والشهوات والدوافع وإتيان الأخطاء ويبرهن على أن النفس تتعطل اذا ما سكن الجسد بينما الجسد يواصل الفعل والحركة حتى في ظل قصور النفس عن الفعل واستسلامها الى النوم. وتبعا لذلك يتفطن سبينوزا الى جهل الانسان بجسده وعدم معرفته بقدراته ويصرح بأن الجسد يأتي بأفعال وفق طبيعته تجعل النفس عينها تصاب بالذهول ويؤثر أيضا في عملية التفكير لأن النفس ليس بوسعها التفكير إلا بحسب استعداد الجسد وقدرته على التصور والإحساس والإدراك. في الجملة إن القول بأن الانسان في الطبيعة هو امبراطورية داخل امبراطورية هو من قول عبثي وأن الكوناتوس هو الماهية الفعلية والمتحققة للكائن البشري الذي يبحث بكل قوته للبقاء ويبذل كل ما عنده من جهد من أجل الاستمرار في الكينونة ومقاومة كل ما من شأنه أن ينزع منه وجوده. في هذا السياق " يسعى كل شيء بقدر ما له من كيان الى الاستمرار في كيانه "5 ، وبالتالي يمكن القول بأن الكوناتوس هو الرغبة في المحافظة على الكيان في زمن أبدي وبعبارة أخرى " الجهد الذي يبذله كل شيء لكي يستمر في كيانه لا يعدو أن يكون غير ماهية ذلك الشيء الفعلية "6 .
يترتب عن ذلك الاقرار بوحدة النفس والجسد واعتبار الانسان كائن الرغبة والاتحاد بين العقل والانفعالات في مستوى المجهود المبذول لحفظ الكيان واتحاد رغبة النفس ورغبة الجسد في اثبات ماهية الكائن البشري على الصعيد الأنطولوجي وبلوغ درجة الكمال التام بالنسبة للإنسان.
2- درجات المعرفة ومعايير الحقيقة:

" الانسان يكون قيما على ذاته بقدر ما تكون حياته على مقتضى العقل"7
طرح سبينوزا جملة من الاشكاليات نقلته من حيز الأنثربولوجيا ونظرية الانسان الى حيز مجال المعرفة ونظرية الأفكار ويمكن أن نذكر منها الأسئلة التالية: ما الفرق بين الأفكار الخاطئة والأفكار الصحيحة؟ وكيف يمكن للعقل أن يدرك العالم الخارجي ويفسر الطبيعة وهو محايث لجسم مادي ؟ ومن يمنحه قدرة على معرفة شيء مغاير لجسمه ويتمثله في فكرة واضحة ويقينية؟
يقر سبينوزا بأن تجربة الجسم وحالة الانفعالات وطبيعة البيئة المحيطة بالعقل هي التي تؤثر في قدرته على المعرفة وتغير من مضمون الأفكار والتصورات التي يكونها الموضوعات الخارجية.
اذا كان ديكارت ميز بين الأفكار المختلطة والأفكار الاصطناعية والأفكار الواضحة والمتميزة وآمن بالحقائق الأبدية والطبائع الثابتة وميز بين نظام الأشياء ونظام الأفكار فإن سبينوزا جعل الفكرة تحمل معيار يقينها في ذاتها وتختلف عن الفكرة الغامضة والمشوشة الناتجة عن المعرفة الحسية والتخيل والبداهة الخادعة والاعتقادات الزائفة والجهل والخرافة الناتجة عن الخوف ونقد التعريف التقليدي للحقيقة بوصفها تطابق بين الحكم العقلي والواقع الخارجي كما نظر اليها أرسطو وبين أنها تطابق الفكر مع ذاته وبالتالي توافق الفكرة مع حقيقتها ومضومنها.
لقد آمن سبينوزا بتضايف النظام الضروري للأفكار وتسلسلها المنطقي مع حقيقة نظام الكون وجعل جعل الفكرة الواضحة والمتميزة متضايفة مع طبيعة العقل ومع ما يقابله في الطبيعة وميز بين الأفكار المطابقة وهي أفكار حقيقية ومكتملة والأفكار غير المطابقة وهي خاطئة وخارجية.
في "رسالة تهذيب العقل" ميز سبينوزا بين أربع درجات من المعرفة يحصلها الانسان في حياته: الدرجة الأولى هي المعرفة بالسماع والموروث والتقليد وبالنص والدرجة الثانية تكون بالتجربة الغامضة والعرف والتاريخ والعادة والدرجة الثالثة هي استنباط ماهية شيء من ادراك ماهية شيء آخر ولكن بشكل غير متكافيء سواء من الجزء الى الكل أو من الكل الى الجزء. الدرجة الرابعة من المعرفة هي التي تتحقق الاستنتاج بطريقة متكافئة وذلك عن طريق معرفة الشيء بواسطة علته القريبة أو ادراكه من ماهيته وتعريفه ، وهذه الدرجة تبلغها الرياضيات8 .
بيد أن سبينوزا في كتاب "الاتيقا" يختزل هذه الدرجات الأربعة الى ثلاثة فحسب ويحذف الأولى ويجعل المعرفة من النوع الأول تسمى معرفة بالرأي والظن والتجربة حيث يتأثر الانسان بالخيال أكثر من العقل حينما ينساق وراء النزوع الشهواني ولا يقدر على كبح اهوائه ويعجز في قهر الانفعالات. بينما المعرفة من نوع الثاني فهي المعرفة العلمية وتتضمن أفكار متطابقة ومتكافئة وهي مستمدة من العقل وهي معرفة صحيحة وذلك لأنها تمثل أحوال الامتداد وتصور خصائص الأجسام الطبيعية. في حين المعرفة من النوع الثالث هي المعرفة الحدسية المباشرة ومن غير واسطة ويسميها سبينوزا المعرفة العيانية وهي ليست نتيجة اشراق عرفاني أو وثبة حيوية وانما ارتقاء للعقل وتطور للدرجة الثالثة من المعرفة نحو الاتحاد بالأشياء وبلوغ كنهها دون حواجز بالعيان. وقد ربط سبينوزا بين الدرجة الثالثة من المعرفة ومعرفة الله عن طريق الحب العقلي لله. في هذا الموضوع قال" وفضلا عن هذين من المعرفة يوجد أيضا نوع ثالث العلم الحدسي ويرتقي هذا النوع من المعرفة من الفكرة التامة للماهية الصورية لبعض الصفات الى المعرفة التامة لماهية الأشياء"9 .
هكذا تتكون الفكرة الحقيقية من ثلاثة خصائص: الخاصية الأولى تتمثل في كون الحقيقة داخلية بالنسبة الى ذاتها والخاصية الثانية هي أن الحقيقة تحمل علامتها في ذاتها والخاصية الثالثة هي تطابق الحق مع موضوعه وهذه الخصائص مستمدة من الرياضيات وتتميز به من شمول ويقين.
3- وحدة الوجود ومفهوم الله:
" الله – أعني جوهرا يتألف من عدد لامحدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية ولامتناهية- واجب الوجود"10
والحق أن الله هو الصانع عند أفلاطون والمحرك الأول الذي لا يتحرك عند أرسطو ونفس العالم عند الرواقيين والواحد واهب الصور عند أفلوطين وواجب الوجود عند حكماء العرب والطيب الضامن عند ديكارت والروح المطلق عند هيجل وهو كذلك عند سبينوزا هو الجوهر اللاّمتناهي له صفات لامتناهية هي الفكر والامتداد وهو مادة وفكر معا ويتمتع بالأزلية والأبدية و الأحدية والصمدية ووجوده عين ماهيته وتشتق منه أحوال لامتناهية وجواهر متناهية وأحوال متناهية .
" لأعني بالله كائنا لامتناهيا اطلاقا أي جوهرا يتألف من عدد لامحدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية"11 أي "حر ويوجد بضرورة طبيعته ويحدد فعله بذاته"12 .
هكذا يرفض سبينوزا النظرة الغائية للطبيعة الموروثة عن العلل الغائية عند أرسطو ويتبع الطريقة الهندسية في البرهنة ويتبنى نظرة علية كونية ويعتبر الله والطبيعة جوهرا واحدا ويقر بوجود محايثة بين قوانين الله وقوانين الطبيعة ولا يميز بين الله والخلق إلا من خلال التفرقة المنهجية بين الطبيعة الطابعة وهي الله في ذاته والطبيعة المطبوعة وهي أحوال الله في الخلق.
الطبيعة الطابعة هي الجوهر اللاّمتناهي وله صفات لامتناهية هي الفكر والامتداد والطبيعة المطبوعة هي الأحوال وكل ما يتستنبط من صفات مثل الحركة والسكون والذهن اللامتناهي.
اللافت للنظر أن سبينوزا يقر بوجود توازي فيزيائي عقلي في كل الكون وبالتالي اذا نظرنا الى الكون من جهة الفكر فهو الله أي الطبيعة الطابعة واذا نظرنا اليه من جهة الامتداد فهو الخلق أي الطبيعة المطبوعة ووجود الكون تحكمه ضرورة كونية وطبيعته ناتجة عن طبيعة الله وعقله.
بناء على ذلك يصبح الانسان هو أحد تغيرات الجوهر الالهي وعقله هو الفكرة المتضايفة مع جسده ويحدث تفاعل متبادل بين العقل والجسد وتصبح فكرة العقل هي فكرة فكرة الجسد. وربما أهم وظائف العقل هي ادراك الله وكلما عقل اللاّمتناهي بلغ الكمال وازداد تعلقه بموضوع حبه. هكذا يكون الحب العقل لله من طرف الانسان هو عين الحب الالهي للإنسان وتكون ثمرته بلوغ الانسان الأبدية وخلود النفس ومنح العلة السرمدية السعادة وحصول العقل الانساني على الغبطة.
ويرى مذهب وحدة الوجود بأن نفس المبدأ يحكم الكون من أكبر مجرة الى أصغر ذرة ويضم الانسان العاقل والكائنات الحية الأخرى وينزل من الوحدة الى الكثرة ومن الكلي الى الجزئي. كما أن وحدة الوجود تعني بان الله والطبيعة شيء واحد فالله هو الطبيعة منظورا اليه من جهة الامتداد والطبيعة هي الله منظور اليها من جهة الفكر والعلاقة بينهما هي علاقة محايثة ولا مفارقة وتعال.
4- الحرية وعي بالضرورة:
" إن البشر يعتقدون أنهم أحرار لهذا السبب الوحيد المتمثل في أنهم واعون بأفعالهم وجاهلون بالعلل التي تتحكم فيها"13
في الواقع هذا الحب العقلي لله والذي يسمح بالحصول على الغبطة والفرح والسعادة في نفس الوقت حرية الانسان ونجاحه في التخلص من الانفعال والتبعية وبلوغ درجة الفعل والأبدية.
قبل ذلك خاض سبينوزا صراعا ضد الجبرية والسلبية ولكنه تأثر بالرواقية في رؤيته الخلاقية ولكنه آمن بحرية الحكيم الباطنية في مواجهة تقلبات الدهر وميز بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلة وحاول انقاذ الحرية الانسانية بالبحث عن العلل العميقة للفعل والوعي بالجهل ولم يكتفي بالشعور بالقدرة على الاختيار والقيام بالأعمال وعثر أهمية العلم الحدسي بقوانين الطبيعة من أجل تطويعها وتحقيق أعمال نافعة وتجنب الأعمال الضارة بالنسبة الى الذات والمؤذية للغير.
في رسالته القصيرة في الفصل 26 يتناول سبينوزا مشكل الحرية الحقيقية14 liberté vraie ويعتبر الأسباب التي تمنع الانسان من بلوغ الكمال كامنة في ذاته ومتعلقة به ويرى أنه بواسطة العقل وعن طريق بلوغ الانسان الدرجة الرابعة من المعرفة يحصل على الهناء والانتقال من الانفعالات السلبية مثل الحزن والكره والغضب الى الانفعالات الايجابية مثل الفرح والحب والهدوء وبعد ذلك يتخطى الجهل ويحصل المرء على القدرة لتحصيل المعرفة اليقينية والحب العقلي لله ويوظف قوة المعرفة لكي يحيا تحت سيادة الذهن ويتغلب على الرذيلة ويبلغ الفضيلة ويعيش في راحة أبدية ويصبح من واجب المرء البحث عن سعادته من خلال هذا الطريق العقلي. من هذا المنطلق يصف سبينوزا الحرية الحقيقية بأنها حياة أبدية تكون ناتجة عن حب الله وأن البعض يتغافل عنها ويبحث عن خيرات جزئية في الدنيا ويشبههم بالأسماك التي تحاول ترك الحياة في الماء وتفضل الخروج والذهاب الى البر ولا تدرك أن ذلك مضاد لطبيعتها وسبب شقائها ولذلك يكون الانسان الحر هو يعرف بواسطة الله ولا يبحث الا عما هو ضروري ومتفق مع طبيعته وماهو نافع بالنسبة الى محافظته على كيانه وتحقيق سعادته التامة وبلوغ كمال ماهيته. وهكذا تكون الحرية الحقيقية في خلاص الانسان من الجهل والتبعية واستمرارية تعلقه بمحبة الله، وهذا الأمر لا يتحقق بالمعرفة بالأسباب وبالاستدلال النظري وإنما ببلوغ درجة عليا من الخلاص الروحي حينما يقدر على تحصيل الهدف السامي وتتحد بالخير الأسمى والهناء التام.
تكمن الحرية الانسانية اذن في منح الأشياء ماهيتها وربط الانسان بالفعالية وطرده الانفعالية ومنح الوجود الى الفاعل وإحالة المنفعل الى العدم والتعامل مع الانسان الحر بوصفه الكائن الفاعل الذي ينتج الحرية من ذاته وذلك بالمرور من الوجود الى العدم ومن العدم الى الوجود. كما أن الفعل الحر هو الذي يكون صادر عن علل باطنية ومحايثة للكائن البشري وليس عن علل خارجية ومفارقة لطبيعته تسبب له المضرة والفساد وتجعله يتعلق بالأوهام ويشعر بالشقاء والألم.
والحق أن" المحايثة هو السبب الأكثر حرية وتطابق مع الله "15 ولذلك فإن الذهن الحقيقي لا يتعرض للفساد البتة وكل منتوجاته هي ممتازة وأبدية ويجب أن تكون مطلوبة من طرف الآخرين من قبل اراداتهم بينما التعالي هو مصدر القوى الخارجية التي تؤثر في الذهن وتفسده.
عنئذ "الحرية الانسانية هي حقيقة صلبة يحصل عليها ذهننا بواسطة اتحاده المباشر مع الله من أجل أن ينتج في عين ذاته أفكارا ويستخلص من عين ذاته منتوجات تتطابق مع طبيعته دون أن تنتمي هذه المنتوجات الى واحدة من القوى الخارجية التي يمكنهما أن تغيرها أو تحولها"16 .
على هذا النحو لا يمكن الحديث عن وجود اتيقا الا اذا كان الانسان الذي تتوجه اليه حرا وفاعل ويمكنه الوعي بالضرورة والتغلب على معيقات فعله وتخطي انفعالاته والاكراهات الخارجية وممارسة فضائله والتغلب على رذائله والتوق الى تحقيق خلود الحياة ومعانقة الوجود الأبدي.
على سبيل الختم:
" الخوف اذن هو السبب في وجود الخرافة وفي الابقاء عليها وتقويتها... والخرافة هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة"17
في نهاية المطاف يقوم المشروع السبينوزي على استخلاص الكائنات من الكائن وعلى جعل الله الوجود الضروري والجوهر اللامتناهي واعتبار المخلوقات مجرد صفات لامتناهية وجواهر متناهية وإذا كان الانسان في وضع الجهل والخوف والخرافة ينتمي الى الوجود الزمني العرضي فانه مطالب بالارتقاء عن طريق تطهير الذهن والحياة وفق ما يقتضيه العقل أن يبلغ الفضيلة وأن يحقق المهاية الأبدية وذلك بتحرير النفس من التبعية للشهوات وتحويل الانفعال الى فعل وتغليب صوت الحكمة على صوت الأهواء والمشاعر وجعل الخيال في خدمة العقل والحياة الفكرية.
غاية المراد أن سبينوزا يعتبر الحكم الحر بأنه حكم مسبق ويلغي الشعور بالحرية بوصفه قاعدة للقول بحرية عدم الاكتراث عند ديكارت ويقول بالضرورة الكلية ويخضع جميع الظواهر الطبيعية لسلطة العقل. كما يعتبر سبينوزا الارادة والذهن شيئا واحدا ويدعو الى ربط نظام المجتمع بنظام العقل ويلغي التفسير الغائي لصالح التفسير الحتمي ويخضع جميع ظواهر الكون الى منطق الضرورة وتلازم الأسباب والمسببات ويعتبر الشعور الديني نابع من التحول الروحي وقادر على بلوغ السعادة الحقيقية في ظل الحياة الأبدية بالمعرفة العقلية لله وإدراك الغبطة عبر العلم الحدسي. اذ " على الرغم من كون السبينوزية فضيحة فإنه بواسطة اعتبار مفهوم الله جوهر واحد قد اتفق مع ذلك مع نزعة متميزة في القرن السابع عشر وقع تسميتها التمركز اللاهوتي"18 ، وبناء على ذلك حدث احتفال كبير في التعامل مع نصوص سبينوزا في الفلسفة المعاصرة بالرغم من هذه اللاهوتية المعلنة اذ ركز فردناند ألكييه على الطابع النسقي وعقلانية اسبينوزا والرغبة في الأبدية19 وتفطن جيل دولوز الى أهمية مفهوم التعبير في العمارة الهندسية التي شيدها سبينوزا20 وعرج سيلفان زاك على مفهوم خلود الحياة21 وأشاد بول ريكور بمفهوم الماهية المتحققة والفاعلة22 ونصص روبار ميسراحي23 على منزلة اتيقا الفرح وسعادة الغبطة في النظريات الأخلاقية الحديثة. من جهة مقابلة ذهب اميل برييه الى أن " الحياة الأبدية للنفس هي مثل التطور الداخلي لهذه الماهية بالانطلاق من مبدئها"24 و تكون النفس من حيث الطبيعة السبب المطابق والأس الذي ترتكز عليه جميع المؤثرات وهي كذلك متماهية مع الكوناتوس الذي يشكل الماهية المتحققة للكينونة وعماد وحدة الوجود ومصدر أنطولوجيا الحياة. ولكن لماذا كانت ماهية الانسان تتضمن دافعا قويا للمحافظة على الكيان فكيف اتخذ من الدولة الديمقراطية لتحقيق هذا الغرض والانتقال من حالة الطبيعة الى حالة المدنية ومن وضع العبودية الى الحرية؟ وهل ترك لنا سبينوزا اتيقا أصلية للسعادة والحرية مثلما اعتبرها الغاية الأساسية للفلسفة الحديثة ؟
الاحالات والهوامش:
[1] Spinoza, l’éthique, traduit par Roland Caillois, édition Gallimard, Paris , 1954, livre 4 : de la servitude humaine, proposition LXVII, p.311.
سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد ، دار الجنوب للنشر، تونس، دون تاريخ،ص.333.
[2] Conatus
[3] Spinoza, l’éthique, livre3 : de l’origine et de la nature des sentiments, p.214.
[4] Spinoza, l’éthique, livre3, p.150.
[5] Spinoza, l’éthique, livre3, proposition 6. p.156
[6] Spinoza, l’éthique, livre3, proposition 7. p.157.
[7] سبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، طبعة أولى، 1999 .ص.57.
[8] Spinoza, Traité de la reforme de l’entendement, édition GF- Flammarion, Paris, 1964, pp.179.219.
[9] سبينوزا، علم الأخلاق، الكتاب الثاني، القضية 40، الحاشية الثانية، ص.139.
[10] سبينوزا، علم الأخلاق ، الكتاب الأول ، قضية 11 , ص.40
Spinoza, l’éthique, livre 1, proposition 11 , p.29.
[11] سبينوزا، علم الأخلاق، الكتاب الأول ، تعريف 6، ص.30.
[12] سبينوزا، علم الأخلاق، الكتاب الأول ، تعريف 7. ص.30.
[13] Spinoza, l’éthique, p.153.
[14] Spinoza, Traité de la reforme de l’entendement, court traité, p.153.
[15] Spinoza, Traité de la reforme de l’entendement, p.156.
[16] Spinoza, Traité de la reforme de l’entendement, p.156.
[17] سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة ، ترجمة حسن حنفي ، دار الطليعة ، بيروت ، طبعة رابعة ، 1997. صص.112-113.
[18] Josef Moreau, Spinoza et le spinozisme, édition que sais-je ?, PUF, 1971.p.92.
[19] Ferdinand Alquié ,Le rationalisme de Spinoza, ,edition Presse universitaire de France, Paris, 1981.
[20] Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l expression, édition Minuit, Paris, 1968.
[21] Sylvain Zac, L Idée de vie dans la philosophie de Spinoza, édition PUF , Paris ,1963.
[22] Paul Ricoeur, soi- meme- comme -un autre, edition Seuil , Paris, 1990.
[23] Robert Misrahi, L Ê-;-tre et la joie, perspectives synthétiques sur le spinozisme, édition Encre marine, Paris,1997.
[24] Emilz Brehier, histoire de la philosophie, IV, spinoza, edition cérès, tunis, 1994.p.223.
المصادر والمراجع:
سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد ، دار الجنوب للنشر، تونس، دون تاريخ
سبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، طبعة أولى، 1999
سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة ، ترجمة حسن حنفي ، دار الطليعة ، بيروت ، طبعة رابعة ، 1997.
Spinoza, Traité de la reforme de l’entendement, édition GF- Flammarion, Paris, 1964
Spinoza, l’éthique, traduit par Roland Caillois, édition Gallimard, Paris , 1954.
Emilz Brehier, histoire de la philosophie, IV, spinoza, edition cérès, tunis, 1994.
Josef Moreau, Spinoza et le spinozisme, édition que sais-je ?, PUF, 1971.
Ferdinand Alquié ,Le rationalisme de Spinoza, édition Presse universitaire de France, Paris, 1981.
Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l expression, édition Minuit, Paris, 1968.
Sylvain Zac, L Idée de vie dans la philosophie de Spinoza, édition PUF , Paris ,1963.
Paul Ricoeur, soi- meme- comme -un autre, edition Seuil , Paris, 1990.
Robert Misrahi, L Ê-;-tre et la joie, perspectives synthétiques sur le spinozisme, édition Encre marine, Paris,1997.

كاتب فلسفي



#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استراتجية التكوين في اليوم العالمي للفلسفة
- في ذكرى ترجل جيل دولوز ورغبته في الترحل الدائم
- مستقبل القوى الثورية في ظل الارتدادات
- أدوات التفكير وعمليات الاستدلال
- متى نكون ديمقراطيين بالفعل؟
- العنف السياسي وأولوية السلم الأهلي
- طرق مقاومة الارهاب
- علم السياسة والمعطى الديني عند حنة أرندت
- اشتباك المثقف بالسلطة عند إدوارد سعيد
- الآليات الدفاعية ضد الهدر الإنساني
- ثورية السياسة الحيوية عند ميشيل فوكو
- توجيهات البيوإتيقا للانسان المعاصر
- العفيف الأخضر ...نهاية تراجيدية في زمن الربيع العربي
- العدل والمساواة والإنصاف
- الفلسفة اليوم : حوار مع زهير الخويلدي
- أفكار فلسفية حول مشروع الدستور
- نظرية الهابيتوس والرأسمال الرمزي عند بيير بورديو
- بوليفارية تشافيز ومناهضة الامبريالية
- الحاجة الى تثوير فلسفة التربية والتعليم
- مبادىء أولية في الثورة الثقافية


المزيد.....




- ماذا فعلت الصين لمعرفة ما إذا كانت أمريكا تراقب -تجسسها-؟ شا ...
- السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الريا ...
- -صدمة عميقة-.. شاهد ما قاله نتنياهو بعد العثور على جثة الحاخ ...
- بعد مقتل إسرائيلي بالدولة.. أنور قرقاش: الإمارات ستبقى دار ا ...
- مصر.. تحرك رسمي ضد صفحات المسؤولين والمشاهير المزيفة بمواقع ...
- إيران: سنجري محادثات نووية وإقليمية مع فرنسا وألمانيا وبريطا ...
- مصر.. السيسي يؤكد فتح صفحة جديدة بعد شطب 716 شخصا من قوائم ا ...
- من هم الغرباء في أعمال منال الضويان في بينالي فينيسيا ؟
- غارة إسرائيلية على بلدة شمسطار تحصد أرواح 17 لبنانيا بينهم أ ...
- طهران تعلن إجراء محادثات نووية مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير الخويلدي - اكتشاف الكوناتوس والإقرار بوحدة الوجود عند باروخ سبينوزا