|
حنفية المياه وفتنة الجهيمان
حمدى السعيد سالم
الحوار المتمدن-العدد: 4271 - 2013 / 11 / 10 - 09:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل تعلم عزيزى القارىء لماذا يسمى صنبور الماء بالحنفية ....هناك قصة طريفة ومحزنة فى نفس الوقت ...حينما بنى محمد على جامعة الكبير منذ 200 سنة ( مسجد محمد على بالقلعه ) زوده بالمواسير والبزابيز (الصنابير) للوضوء بدلا من طريقة الوضوء السائدة فى ذلك الوقت من الطاسة او الغضارة أو الطست .....فعارضه علماء مذاهب ( الحنابلة والشافعية والمالكية ) بحجة أن هذه بدعة فى الدين.......حيث أنهم لم يروا السلف فى بلاد المسلمين يستعمل هذه الطريقة .....وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار ….. لذلك افتوا بعدم جواز الوضوء من هذه الصنابير .......غير أن علماء الأحناف رأوا جواز الوضوء من هذه الصنابير لأنها ترفع المشقة عن المسلمين ......ومن هنا سمي الصنبور بالحنفية .....نسبة الى المذهب الحنفى ......وأخذها الناس وأصبحت مفردها الحنفية دالة على الصنبور أكثر مما تشير الى المذهب الذى لولا إستنارته لكنا مازلنا نستعمل الكوز ... وسلملى على غباء المتمسكين بما كان عليه السلف !!! ...هذه القصة تمثل الانغلاق وضبابية الرؤية لدى المتأسلمين قاطبة !!!... وهنا تقفز للذاكرة بمناسبة العام الهجرى الجديد ذكرى العقل المتأسلم الانغلاقى للمدعو جهيمان العتيبي و احتلاله الحرم المكي ....جهيمان العتيبي درس الفلسفة الدينية في جامعة مكة المكرمة الإسلامية، وانتقل بعدها إلى الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة...... وفي المدينة المنورة، إلتقى جهيمان بـالشيخ محمد بن عبدالله القحطاني، أحد تلامذة الشيخ عبدالعزيز بن باز ، وفى وقتها كان جهيمان العتيبى موظفا فى الحرس الوطنى السعودى وتم النقاش بينهم فى ما آلت اليها الاوضاع ببلاد الحرمين الشريفين ، وبعد فترة اتخذوا القرار باسقط هذا النظام الحاكم وتم الاتفاق مع عدد من طلبة العلم وبعض زملاء جهيمان فى الحرس الوطنى على هذا القرار ، و من هنا بدات احداث الحرم المكى..... وتوطدت العلاقة بين الرجلين ....خاصة أنهما إلتقيا فكرياً في العديد من الرؤى الأيديولوجية المتطرفة ..... من حيث تكفير الدولة .... بل وتكفير المجتمع بأكمله .... والتّزَمُت (التعصب) الشديد .... مما أدى الى اعتزالهما المجتمع ورفض معالمه المدنية من راديو وتلفزيون وصحافة...
وتزوج محمد القحطاني بأخت جهيمان العتيبي ...... مما زاد التقارب بين الرجلين بشكل أكبر وأخطر ..... وبدأ جهيمان وصهره بنشر أفكارهم المُتَزَمِّتة ..بشكل سري وعلى نطاق ضيق في بعض المساجد الصغيرة بالمدينة المنورة .... لقيت هذه الأفكار صدى إيجابياً عند البعض ..... وأخذت الجماعة التي أسسها جهيمان تكبر .....حتى وصل عدد أفرادها الى الآلاف ..... لم يدّخر جهيمان وجماعته جهداً في معاداة الأنظمة الحاكمة لأنها ( من وجهة نظرهم ) لا تحكم بشرع الله ..... وكان هذا جلياً في الرسائل التي كتبها بنفسه أو من قِبَل أتباعه ..... والتي تبيّن فيها فكر ونظرة الجماعة فيما يتعلق بأمور الحكم والخلافة....... كما يؤمن أتباع جهيمان بهجر المجتمع ووسائله المدنية والإنعزال عنه نظراً لتفشي الفساد والرذيلة في المجتمع وبُعدَهُ عن الصراط المستقيم، هذا من جانب..... وفي الجانب الآخر، يرى جهيمان وأتباعه بضرورة عدم موالاة الأنظمة التي لاتحكم بشرع الله، ولا تنتهي بنواهيه....لاحظوا بروز الانغلاق الفكرى وضيق الأفق !!...في أواخر العام 1399 هـ أبلغ محمد بن عبد الله القحطاني صهره (جهيمان) بأنه رأى في منامه أنه هو المهدي المنتظر !!! وأنه سوف يحرر الجزيرة العربية والعالم كله من الظالمين .....وهنا بدأت أطراف المعادلة تكتمل في ذهن جهيمان ... وباقتراب حلول القرن الهجري الجديد ... وبصهره المسمّى "محمد بن عبدالله" .... لم يكن ينقص المعادلة ألاّ بيت الله الحرام ليلوذ اليه "المهدي المنتظر" .... وهذا ما تمّ فيما بعد وعرف بحادثة الحرم المكي !!... حيث بدأت أحداثها فجر يوم 1 محرم 1400 الموافق 20 نوفمبر 1979، حين استولى 200 مسلح (مصادر أخرى تقول 500) على الحرم المكي الشريف أقدس بقاع العالم بالنسبة للمسلمين، في محاولة لقلب نظام الحكم في المملكة العربية السعودية إبان عهد الملك خالد بن عبد العزيز....هذه العملية هزت العالم الإسلامي برمته، فمن حيث موعدها فقد وقعت مع فجر أول يوم في القرن الهجري الجديد، ومن حيث عنفها فقد تسببت بسفك للدماء في ساحة الحرم المكي وأودت بحياة الكثير من رجال الأمن السعوديين والمسلحين المتحصنين داخل الحرم.... حركت الحادثة بسرعة مشاعر الكثير من المسلمين بعضهم شجبها وأنكرها ووقف ضدها وآخرون تضامنوا معها...وقد برر جهيمان العتيبي قائد العملية هجومه باعتباره محاولة لتصحيح الوضع الذي تسبب به آل سعود، الفاقدين للشرعية، حسب زعمه،إضافة إلى دعوته إلى اقامة دولة اسلامية .... لاحظوا ان الخوان يقولون ذلك ايضا ويتحدثون عن الشرعية !!!...فالكفر ملة واحدة وكذلك الارهاب !!...
مع بزوغ فجر غرّة محرّم من العام 1400 هجري، الموافق 20 نوفمبر 1979.. دخل جهيمان وجماعته المسجد الحرام في مكة المكرمة لأداء صلاة الفجر .... يحملون نعوشاً وأوهموا حراس المسجد الحرام أنها نعوشاً لموتى .... وسيصلون عليها صلاة الميت بعد صلاة الفجر .... والحقيقة أن هذه النعوش لم تكن ألاّ مخازن للأسلحة النارية والذخائر .... وما أن انفضّت صلاة الفجر حتى قام جهيمان وصهره أمام المصلين في المسجد الحرام ليعلنوا للناس نبأ المهدي المنتظر وفراره من "أعداء الله" واعتصامه في المسجد الحرام .... قدّم جهيمان صهره محمد بن عبدالله القحطاني بأنه المهدي المنتظر، ومجدد هذا الدين، في ذاك اليوم من بداية القرن الهجري الجديد!!!..قام جهيمان واتباعه بمبايعة "المهدي المنتظر"، وطلب من جموع المصلين مبايعته، وأوصد أبواب المسجد الحرام، ووجد المصلّون أنفسهم محاصرين داخل المسجد الحرام .... في نفس الوقت كانت هناك مجموعات أخرى من جماعة جهيمان تقوم بتوزيع منشورات ورسائل وكتيبات كان جهيمان قد كتبها في السعودية وفي بعض دول الخليج .... احتجز جهيمان وجماعته كل من كان داخل الحرم بما فيهم النساء والأطفال 3أيام من بعدها أخلى جهيمان سبيل النساء والأطفال ....وبقى كمّ لابأس به من المحتجزين في داخل المسجد...حاولت السعودية منذ اللحظات الأولى حل هذه المشكلة ودياً مع جهيمان بالإستسلام والخروج من الحرم وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين إلاّ أنه رفض !!.. عطلت الصلاة والمناسك في البيت الحرام وتبادل الطرفان إطلاق النيران الكثيفة وأصاب المسجد الحرام ضرر بالغ جرّاء هذه الاحداث .....
مشهد أخر يجب أن نركز عليه بعد صلاة الفجر يوم 1 محرم 1400 الموافق 20 نوفمر 1979، وقف جهيمان العتيبي أيضا و جماعته يطالب بتطبيق الشريعه بالمملكة و معاداة الكفار ... واستغل جهيمان كثرة وجود مصلين بالمسجد الحرام حيث كان بعد موسم الحج مباشرة و امسك بالدائرة الصوتية بالحرم يطالب بتطبيق الشريعة .... و بالفعل ايده كثير من المتواجدين بالمسجد من جميع الجنسيات و كان يخبئ السلاح فقط للدفاع عن نفسه و اصحابه فى حال تعرضوا لسوء وفي هذه الأثناء، قامت مجموعة من الرجال التابعين له باستخراج أسلحة خفيفة من توابيت أدخلت قبل الصلاة باعتبارها تحوي جثامين لموتى للصلاة عليهم في المسجد، لكنها كانت معبأة بالأسلحة والذخيرة بدل ذلك، وهذه الاسلحة كانت من مخزن الحرس الوطنى الذى يعمل به جهيمان وبعض اتباعه الذين انضموا معه .... وتمكنوا ة من إغلاق الأبواب وسد منافذ الحرم والتحصن داخله، وعلى الرغم من التخطيط المحكم للعملية، إلا أنها استهلت بمقتل أحد رجال الحرس على يد أحد المنفعلين، حيث ان من بدء باطلاق النار هم رجال الطاغوت على حد وصفهم وما كان من اتباعه الا الدفاع عن انفسهم .... من المؤكد ان جهيمان العتيبى كان يريد اسقاط الحكم سلمياً بدليل انه ذهب الى المسجد الحرام حيث يحرم سفك الدماء....و من المذكور أن جهيمان ألقى خطبة عبر مآذن الحرم أثناء الحصار، بثتها الإذاعات العربية والعالمية وكانت تحوي على الكثير من الخطب والاتهامات للأسرة الحاكمة السعودية وبعض الإعتراضات على نمط الحياة العامة للناس وكيف إستشرى الفساد وكان صداها يتردد بين جبال مكة وأحياءها في أوقات متفرقة، كما تم توجيه دعوات إلى أهل مكة والقوات السعودية الخاصة التي تحاصر الحرم للتوبة والانضمام تحت راية لا اله الا الله كما زعم الجهيمان ....
على صعيد أخر كان لا بد قبل الشروع في أي عمل عسكري من استصدار فتوى تبيح التدخل بالقوة وإدخال الأسلحة إلى داخل الحرم المكي لإنهاء الحصار، وتمكنت السلطات السعودية من الحصول "على أصوات 32 من كبار العلماء لاستخدام القوة ضد حركة جهيمان ...و بعد إصدار فتوى تبيح اقتحام المسجد الحرام بالأسلحة برزت مشكلة أكبر، وهي فشل قوات الحرس الوطني السعودي في إنجاز المهمة، وتسببت محاولاتهم ـ المرتجلة على ما يبدو ـ في مقتل 1500 من افراد الحرس السعودى ، دون النجاح في تحقيق الهدف !!!...فالقوات لم تكن تتعامل مع الحادثة بتخطيط أو دراسة للعملية، ومع مرور الأيام أخذت تصدر عن جثث القتلى المتفرقة في مختلف أركان المكان روائح منفرة زادت من تأزم الأمر...في خضم أزمة احتلال الحرم المكي من قبل مجموعة جهيمان، ورغم اعتماد المملكة تقليدياً على الخبرات والمساعدات الأمريكية في المجال العسكري والأمني، أصدر فهد بن عبد العزيز أمراً بالتوجه إلى الحكومة الفرنسية لطلب المساعدة منها لفك الحصار عن الحرم في عملية فريدة من نوعها شكلت صفعة مؤلمة ترنح لها عرش آل سعود لعدة آيام !!...ويقال إن سبب لجوء السعوديين إلى فرنسا؛ هو إعجاب أحد أفراد العائلة المالكة خلال زيارة قام بها وقتها لفرنسا بأداء وتدريبات قوات مكافحة الإرهاب الفرنسية، مما حدا بذلك الأمير لأن يشير على فهد بطلب مساعدة الفرنسيين، بعد أن فشل المستشارون الأمريكان في تقديم خطة شافية لاستيعاب المأزق الذي كان قد تسبب خلال الأيام الأولى في مقتل أكثر من 1500 من أفراد الحرس الوطني....وبدأت روائح الجثث المتعفنة تتصاعد وأوشكت المعركة تتحول إلى ما يشبه الحرب الأهلية، وكادت معنويات القوات السعودية تنهار بشكل تام لما أبداه المدافعون من داخل الحرم من مقاومة وبلاء منقطع النظير....
وكان أكثر ما يخشاه السعوديون أن تؤدي النداءات المنبعثة من مآذن الحرم، والتي كانت تحث الجنود على الانضمام إلى الجماعة الثائرة بحجة فساد وفسق آل سعود إلى شق صف القوات المهاجمة وإحداث بلبلة لا قبل للسعوديين بالتعامل معها...في 28 نوفمبر 1979 استدعى وزير الدفاع الفرنسي "إيفون بورجي"؛ الكابتن "بول باريل" أحد أبرز ضباط وحدة مكافحة الإرهاب، والذي كان مكلفاً بتقديم شرح للأمير السعودي أثناء زيارته المذكورة أعلاه إلى مقر الوحدة حول القدرات التي تتمتع بها الوحدة....أمر وزير الدفاع؛ الكابتن "باريل" باختيار مجموعة من زملائه لترافقه فورا في رحلة على متن طائرة خاصة إلى عاصمة المملكة السعودية – الرياض - وقال له: (لقد تعرضت حكومة السعودية لأزمة رهائن، وهي بحاجة إلى مساعدتنا)...عند وصوله إلى الرياض، وجد الكابتن "باريل" أن الوضع أسوأ بكثير مما كان يتصور، بل وجد المسؤولين السعوديين في حالة ارتباك شديدة لدرجة لم تمكن رئيس أركان الحرس الوطني الجنرال عثمان من تقديم تقرير واضح لضيوفه الفرنسيين عما كان يجري، وكل ما حصل عليه "باريل" هو اقتراح بأن يستقل الطائرة هو ومرافقوه ويتوجهوا في الحال إلى مدينة الطائف القريبة من مكة، حيث تتفاقم الأزمة ساعة بعد ساعة.....و أدرك "باريل" قبل أن يطير إلى الطائف؛ أن النظام السعودي يتعامل مع حادثة الحرم على أنها محاولة انقلابية تستهدف الإطاحة بالنظام السعودي بأسره، وهذا ما خلق جواً عاماً من الريبة في كل أنحاء المملكة!!!...
وفي الطائف تبين للفريق الفرنسي أن اللجوء إلى فرنسا إنما جاء بعد أن يأس السعوديون من الأمريكان الذين كانوا يديرون عملية الاقتحام الفاشلة، وذلك أن الضباط المشرفين على العملية لم يكونوا من القوات الخاصة وإنما من القوات النظامية التي لم تتدرب لمثل هذه العمليات.....اصطحب السعوديون الكابتن "باريل" في جولة حول الساحة المحيطة بالمسجد بعد أن ألبسوه ثوباً عربياً حتى لا يعرفه أحد، فاكتشف أن القوات المهاجمة للحرم من الخارج كانت تتصرف كل مجموعة من مجموعاتها بشكل مستقل، فلا تنسيق ولا اتصالات ولا خطط محكمة، مما كبدها خسائر فادحة في الأرواح....كان أثناء تجواله يسمع الصوت الهادر المنبعث من مآذن الحرم ينادي على الناس بأن يخرجوا على الظلم والانحراف والفساد ليقيموا دولة الإسلام من جديد!!...نصبت للخبراء الفرنسيين الثلاثة خيمة، وزودوا بسيارة "بيك آب شفرليه"، ولم يكن معهم من السلاح سوى مسدسات "ماغنم 537"...سمع "باريل" بعض الضباط السعوديين يتحدثون عن خطة لإغراق أقبية الحرم بالمياه ثم توصيلها بالكهرباء لصعق كل من فيها....على الرغم من أن الفكرة جنونية، ومع أن ما يزيد على 3000 رهينة يمكن أن تتعرض حياتها للخطر، إلا أن "باريل" اعتبر المشروع معقولاً من حيث المبدأ، ولكن بعد حوار مع زملائه، توصل إلى قرار بتطبيق نفس المبدأ ولكن باستخدام الغاز !!!....واعتماداً على معلومات مكثفة جمعها الحرس الوطني من شهود كانوا داخل الحرم وتمكنوا من الفرار؛ أمكن رسم خريطة تقريبية تحدد المداخل والمخارج إلى الأقبية التي تبلغ مساحتها الإجمالية 65 ألف متر مربع، وقد تبين في ذلك الوقت عدم وجود أي خرائط أو مخططات لمبنى الحرم من الداخل....
استطاع "باريل" وزميلاه بناءا على المعلومات التي زودهم بها الحرس الوطني إعداد خطة شاملة لاقتحام الحرم المكي وتطهيره من الجهيمان واتباعه....وفي لقاء له بالقادة العسكريين في الحرس الوطني شرح لهم الخطة، ولما كانوا هم أنفسهم قد استنفذوا كل ما لديهم من أفكار ولم يبق أمامهم خيار، فقد وكلوا أمرهم للخبراء الفرنسيين وأعلموهم بموافقتهم على كل ما ينوون عمله....كانت خطة "باريل" تقتضي تدريب قوة سعودية لمكافحة الإرهاب في زمن قياسي لا يزيد عن 24 ساعة، ولذلك فقد طلب من قادة الحرس الوطني تزويده بثلاثين من خيرة ضباطهم الصغار وستين من أفضل ما لديهم من الجنود المنتسبين لقوات الحرس الوطني ليوزعهم على فرق صغيرة يدربها فيما هو متاح له من الوقت على استخدام المتفجرات وإطلاق غازات تسبب الشلل، وطلب من القادة تزويده بكل ما يقع تحت أيديهم من أجهزة إرسال لاسلكي ميدانى ....وبينما انهمك القادة السعوديون في توفير ما طلبه "باريل"، توجه هو برسالة عاجلة إلى وزارة الدفاع في باريس يطلب تزويده بثلاثة أطنان - وهي كل ما كان بحوزة الجيش الفرنسي في ذلك الوقت - من غاز خانق يعرف باسم "دايكلورو بينزو مالمونيتريل"، و50 مرش غاز، و500 رطل من المتفجرات، وكمية من الصواعق والفتائل و3000 قناع واقي من الغازات وغير ذلك من المعدات.....لم يصدق مسؤولو وزارة الدفاع ما كانوا يقرأون في رسالة "باريل"، حتى أثير الأمر مع رئيس الدولة "فاليري جيسكار ديستا"، الذي أجاز الطلب بعد تشاور مع كبار مسؤوليه....
كل ما اشترطه الفرنسيون هو أن يبقى دورهم في العملية طي الكتمان، وأصدرت وزارة الدفاع تعليماتها إلى فريق الخبراء في الطائف بأن يجري محاولة واحدة فقط لا غير ثم ينسحبوا مباشرة من السعودية عائدين إلى فرنسا، وأُمر "باريل" بالذات ألا يسمح لنفسه تحت أي ظرف من الظروف بالدخول إلى المسجد، وذلك أنه كان قد اقترح في خطته التي قدمها لرؤسائه في باريس أن يدخله ليقود العملية بنفسه....بل إن مسؤولاً كبيراً في وزارة الدفاع كان قد خول أحد أفراد الطاقم الفرنسي دون علم "باريل" صلاحية أن يلقي القبض على الكابتن ويعيده إلى باريس إذا لم يتقيد بالتعليمات...وفي أقل من 48 ساعة وصلت المواد التي طلبها "باريل" على متن طائرة "كارافيل" رئاسية استخدمت للتمويه....حُمّلت الطائرة إلى طاقتها القصوى، وأحيط أمر الشحنة بالسرية التامة حتى عن طاقم الطائرة....وبدأت عملية تدريب التسعين عنصراً من عناصر الحرس الوطني الذين انضم إليهم عدد من عناصر وحدة المظليين، وما جمع بين هؤلاء هو ولاؤهم المطلق لآل سعود، حيث تم تقسيمهم إلى مجموعات منفصلة تتكون كل منها من ثلاثة عناصر؛ جنديين وضابط، يكلف أحد الجنود بمتابعة الاتصالات بينما يقوم الآخر بمهمة إطلاق الغاز، في الوقت الذي ينفذ فيه الضابط عملية التفجير....وعلى صعيد أخر تقاسم الفريق الفرنسي مهمة التدريب، بحيث يدرب "باريل" الضباط على تنفيذ التفجيرات للإطاحة ببوابات الأقبية، بينما يقوم زميلاه بتدريب الجنود على الاتصالات وعلى رش الغاز.....وببرود منقطع النظير، وبتصميم المحترف؛ يتناول "باريل" رطلاً من المادة المتفجرة يكوره في يده ككرة التنس، ثم يعلم الضباط السعوديين كيف يقسمونها إلى أربع قطع تلصق كل قطعة بزاوية من زوايا البوابة المراد تفجيرها، ثم يغرس في كل قطعة صاعق متصل بفتيل طويل، تلتقي الفتائل الأربع لتنتهي في مفتاح تشغيل... وهكذا، سيتم تفجير البوابات الواحدة تلو الأخرى لاقتحام كل الأماكن التي يشك بوجود ثوار وراءها، وإذا ما ووجهت المجموعة المقتحمة بإطلاق نيران، فإن على الضابط أن يرد بنيران من مدفعه الرشاش بينما يتولى أحد الجنود رش الثوار ومن معهم بالغاز المسبب للشلل...
ولذلك توجب على الجنود والضباط أن يعتادوا على العمل وهم يرتدون الأقنعة الواقية من الغاز، التي لم يستخدموها من قبل، والتي قد تزيد ظلمة الأقبية من صعوبة الرؤية من خلالها....كان على الجنود المكلفين برش الغاز أن يحمل كل واحد منهم على ظهره أنابيب تحتوي على عشر كيلوجرامات من بودرة "دايكلورايد" وتتصل ببربيج ضغط تنطلق منها البودرة - كما هو الحال في طفايات الحريق - وفي تلك الأثناء يتولى أصحاب اللاسلكي الاتصال والتنسيق مع المجموعات الأخرى باستخدام رموز متفق عليها....وقسمت المجموعات بحيث يتولى نصف العدد الإجمالي اقتحام خمس عشرة نقطة خارجية من مجموع اثنتين وعشرين تم اكتشافها، ثم تتبعها فرق مساندة من خلفها ومن خلف هؤلاء تتقدم مدرعات محملة بمزيد من المتفجرات وإسطوانات الغاز والذخيرة لاستخدامها حين الحاجة إليها....وحددت ساعة الصفر بالساعة العاشرة صباحاً من يوم 4 ديسمبر 1979، ونصبت مدافع رشاشة في كل المواقع الاستراتيجية المحيطة بالمسجد....وحينما حانت ساعة التنفيذ أصدر الكولونيل المتزعم لقوات الحرس الوطني الأمر بإطلاق النار بكثافة من هذه الرشاشات تجاه مواقع القناصة على رؤوس المآذن....وفي ظل هذه التغطية الكثيفة بدأت المجموعة المكلفة بالاقتحام بالزحف نحو الحرم، وما أن صارت بداخله حتى توزعت حسب الخطة وبدأت كل مجموعة في تدمير البوابات المؤدية إلى الأقبية البوابة تلو الأخرى....وطوال فترة ما بعد الظهيرة والمساء، اهتزت الأرض في مكة بفعل الانفجارات المتعاقبة في أقبية الحرم المكي، وخلال ساعات قليلة نفذ طن الغاز الذي كان يحمله الجنود على ظهورهم، فأدخل الطن الثاني إليهم لينفذ هو بدوره، ثم أدخل الطن الثالث دون أن تلوح مؤشرات على قرب انتهاء العملية... مما أقلق "باريل" وجعله يتساءل إن كان سيحتاج إلى كمية أخرى من الغاز؟!...
ولكن ما أن أوشك الليل أن ينقضي حتى هدأت أصوات الانفجارات، وبدأت فرق الاقتحام تلتقي في الأقبية بعد أن شلت قدرات الجهيمان واتباعه على المقاومة....بعد ذلك، لجأ "باريل" إلى خيمته و آوى إلى فراشه ليعوض بعض ما افتقده من نوم خلال الساعات الماضية....وفي الصباح، نهض من نومه على صوت شاحنات الحرس الوطني وهي محملة بأكوام من الجثث التي كانت تستخرج من الأقبية، وما هي إلا لحظات حتى جاء من يخبره بأن كافة اتباع الجهيمان ومن معهم من رهائن قد اختنقوا حتى الموت بمفعول البودرة التي أتى بها من فرنسا والتي حولت أقبية الحرم إلى مقبرة جماعية....وقد قدر عدد القتلى بما لا يقل عن 5000 قتيل !!...واستسلم الجهيمان و من تبقى على قيد الحياة في حين كان محمد بن عبد الله القحطاني الذى ادعى رجال ومشايخ ال سعود ان جهيمان يقول عليه المهدى المنتظر كان بين القتلى..... و بعد فترة وجيزة جداً صدر حكم المحكمة بقطع رؤوس 61 من أفراد الجماعة، وكان جهيمان من ضمن قائمة المحكومين بالإعدام في 9 يناير 1980 بعد أن قسموا إلى أربع مجموعات أعدم أفرادها في ساحات أربع مدن رئيسة في البلاد.....
وصرح آية الله الخميني من إيران بأن الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء هذه الحادثة، وقد تسببت تلك المزاعم في سريان حالة من الغليان في المنطقة..... الجموع الغاضبة اقتحمت مبنى السفارة الأمريكية في العاصمة الباكستانية إسلام آباد في اليوم التالي لبدء العملية وحطمته تماماً ثم أحرقته، بعد نحو أسبوع من ذلك اقتحمت جموع مشابهة في العاصمة الليبية طرابلس وأحرقت السفارة الأمريكية في 2 ديسمبر 1979!!....وبدأت الحرب السوفيتية في أفغانستان بعد اقتحام الحرم وانتهاء الحادثة بعشرين يوماً تقريباً، أمر قد يجد البعض له ارتباطاً بالحادثة وعلاقة ما بها.... لكن المؤكد أن السياسة استغلت الحدث لتفريغ طاقات التيارات الإسلامية في مواجهة عدو خارجي بعيد، فالتقت مصلحة أمريكا في منع السوفييت من الوصول إلى المياه الدافئة مع مصالح الحكومات العربية في تفريغ التيارات المتشددة في دول الخليج ومصر وغيرها حيث تم دعمهم وتوفير تذاكر طائرة مخفضة، والسماح للجان التطوع بالعمل وجمع المجاهدين.... فتم تصدير الأزمة بطريقة أو بأخرى نحو أفغانستان التي عادت لتصدرها ثانية من خلال تنظيم القاعدة بعد 20 سنة مع هجمات الحادي عشر من سبتمر 2001، ولتمتد فيما بعد نحو العراق وغيرها من دول المنطقة !!...
هذه الحادثة تظهر وبكل وضوح وجلاء مدى تداخل المفاهيم السياسية لدى المتأسلمين وعدم فهمهم للتعريفات السياسية الى جانب خلط الاوراق !!...الامر يتوقف على تعريف كلمة سياسة لديهم ... فكلمة سياسة مكعناها مصلحة الأمة أو الشعب !!!.. ومصلحة الامة أو الشعب فوق كل الاعتبارات !!! لأن السياسة متغيرة بطبيعة الحال !!...أما الدين فخطوطة ثابتة وواضحة !!...لذلك فمصلحة الدولة من وجهة نظرهم تحتاج الى حكم شرعى او فتوى ... وهذه نقطة غاية فى الدقة !!! لان مصلحة الدولة لاتحتاج الى حكم شرعى ,انما تحتاج الى فتوى !!!..وهنا يجب ان نوضح الفرق بين الحكم الشرعى والفتوى كى تستقيم الامور : عندما يسأل شخص ما عن حكم شرب الخمر ؟!!..يكون الجواب : حرام !!!... لكن لو كان هذا الشخص فى الصحراء وسيموت من العطش ولايوجد ماء ووجد زجاجة خمر فى الصحراء !!! لو قلنا له حرام ... هنا نكون قد قتلناه !!... فى هذه الحالى لابد من فتوى !!.. والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص والظرف الآنى ( اجتماعى _ سياسى _ ثقافى _ فكرى_ فنى _ عقلى _ ...الخ )... لذلك عندما يوضع الحكم موضع الفتوى ينشأ التطرف والتزمت والارهاب والانغلاق الفكرى لدى المتأسلمين !!... وعندما توضع الفتوى موضع الحكم ينشأ التفسخ والتمييع !!!..
الجهيمان ومن على شاكلته من خوارج العصر والزمان لايعلمون الفرق بين فقه الأفراد وفقه الامة !!... ففقه الافراد يميل الى المواجهة بينما فقه الأمة يميل الى المهادنة !!!... لأن الامة اذا دخلت معركة سنجد ملايين القتلى والجرحى !! أما اذا دخل الفرد فى معركة مع جار أو صديق مثلا فالخسائر محدودة !!! لذلك قيل أن فقه الأفراد يميل الى الأخذ بالعزائم ... أما فقه الأمة فيميل للأخذ بالرخص والتيسير !!...فمثلا نجد المفتى يفتى بأن زكاة الفطر هذا العام مقدارها 5 جنيهات !!!هنا هو يفتى ويتحدث بفقة الأمة الذى يميل للتيسير والرخص !!! لكن لو اراد أحد افراد هذه الأمة اخراج مليون جنية فهو حر !!!..لذلك اقول ان قضية الجهاد هى فقه أمة وليست فقه أفراد !!..واتحدى لو وجدت آية فى القرآن تقول (وجاهد) لغير النبى فقط !!..لذلك لايجوز لأفراد من الأمة اعلان الجهاد كما فعل الجهيمان لانه فقه أمة وليس أفراد !!... وفى الختام أقول : لولا إستنارة المذهب الحنفى لكنا مازلنا نستعمل الكوز ... وسلملى على غباء المتمسكين بما كان عليه السلف !!! ....
حمدى السعيد سالم
#حمدى_السعيد_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاخوان المجرمون وتنظيمهم السرى قتلوا مرشدهم الارهابى حسن ال
...
-
الاحزاب الدينية حجرعثرة فى طريق دولتنا السيكولارية
-
الحلم النووى المصرى بين الواقع والمأمول
-
يا باسم يوسف انت والاخوان خذوا المناصب والمكاسب واتركوا لنا
...
-
الخرافة فى التاريخ الاسلامى
-
حماس هى الحل السحرى لمشكلات إسرائيل
-
سنوات الكور الضائعة
-
إعلاء قيمة الحياة لا يكون بمصالحة الاخوان أعداء الحياة
-
الحب يحتاج الى الحب
-
المؤامرة الكبرى
-
الإخوان صدقوا ما عاهدوا اليهود عليه
-
لقد فوضناك من أجل لا للاخوان ولا للمصالحة معهم
-
الدين جاء لكى نعبد الله وليس البشر
-
الثورات العربية فجرت الحلم الكوردى من جديد
-
عنان مرشح أمريكا للرئاسة و النسخة العسكرية للبرادعي ولعبة ام
...
-
فى امارة همجستان الاخوانية عودة تشافيز الى الحكم هى الحلم
-
هو وهى والزمان
-
تحليل جيوبوليتيكي استراتيجي للأزمة السورية
-
ارحلى ..
-
كشف المستور عن مؤامرة الربيع العربى
المزيد.....
-
وزارة العدل الأمريكية تتهم إيران بالتورط في خطة اغتيال مأجور
...
-
-لحظة إصابتها وسقوطها-..الحوثيون يعرضون مشاهد لإسقاطهم مسيّر
...
-
نيبينزيا: مؤسسات الرعاية الصحية الروسية تتعرض بانتظام لهجمات
...
-
ضجة في إسرائيل عقب أحداث أمستردام
-
إيران: امتداد المواجهة مع إسرائيل دولي
-
فوز ترامب يخيم على قمة بودابست
-
كيف سيتعامل ترامب مع إيران وبرنامجها النووي؟
-
وزارة العدل الأمريكية تتهم إيرانيا بالتخطيط لاغتيال دونالد ت
...
-
إشكال دبلوماسي قديم جديد بين فرنسا واسرائيل ..ما الرسائل؟
-
ما جدوى مقترح -تقدم- بإنشاء مناطق آمنة لحماية المدنيين بالسو
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|