قصة قصيرة
حين شاعت أخبار النعجة دولّي ، وصعقت من الرجال والغلمان والحرائر من صعقت ، واستبشر بها فقراء المشرق العربي وأفريقيا ممن لم يأكلوا اللحم منذ دهر ، وطار لها صواب رجال اللاهوت من كل الأديان اللا وضعية ، وأرغى وأزبد حماة الأخلاق وحراس الفضيلة وسجناء الماضي .
أستبشر بها فيمن استبشر ، رجل ليس له في الخافقين مثيل ، فهو سليل بيت النبوة ووارث علم المرسلين ومحرر البّرين والبحرين ، والناصر بالله والمنتصر ، والعبد المؤمن الذي ما فارق محرابه إلا لغزوة في سبيل الله ، أو مرابطة في التخوم الشرقية دفاعا عن مقدسات المسلمين وأعراضهم . نقول استبشر هذا الملهم بالخبر ، وكاد من فرح يطير ، وسارع لعقد مجلس شوراه ، من النجباء المخضرمين في خدمة الإمارة ، والمعروفين بالصلاح والتقوى ، يتقدمهم شيخهم النحيف ذو اللحية الحمراء والعينين الضئيلتين ، والذي كان صاحب حجة وعلم ومنطق ، وكانت له في الفلسفة والعلم مناظرات وبحوث ، وكان كتابه في يمينه حيث يحل ، وقد كلت من القراءة والدرس عينيه ، حتى كاد أن ينطفئ منه البصر ، لولا رحمة ربي ودعوات الأمة له بطول العمر ، وبعد النظر . كان أول الداخلين واسبقهم لتقبيل الأيادي ، والجلوس عند الأقدام مهابة واحتراما لسليل النبوة ، يتبعه الرهط الصالح من النجباء، بناة الوطن عند السلم ، ومقاتليه الأشاوس عند الحرب ، وقد ابتلي هذا الوطن بحروب لا تنتهي ، حتى ليكاد المرء أن لا يذكر زمن سلم منذ تولى العرش سليل النبوة هذا .
ولمن لا يعلم حقائق الأحوال عن هذا البلد المبتلى بالحروب ، نقول ..أن هذه الحروب التي خاضها أمير المؤمنين
جميعا ، كانت حروب عادلة ، مفروضة أما دفاعا عن التخوم ضد أعداء الدين من الأقوام الأخرى ، أو هي ضد خوارج شقوا عصا الطاعة ومرقوا عن الدين ، وأبدعوا فيه ما لم ينزل الله من بدع ، أو هم أخوان استأثروا بالغنائم من أراضي الولايات ولم يردوها لبيت مال المسلمين ، ولم يدفعوا بها غائلة جياع المسلمين في الأندلس وما حولها . أفلا ينبغي لأمير المؤمنين أن يرد مال الله لشياهه الجائعة ؟.
وإذ اجتمع جمعهم ، نظر لهم الأمير المؤمن وكان وجهه مشرقا من جذل وحبور ، حاول قدر الإمكان إخفائه وإظهار وجه المتفكر المهموم محله . ولأنه غارق في التفكير فلا بد أن ينهض ليتمشى جيئة وذهابا . وكان لنهوضه كما لجلوسه ثمن لا ينبغي إلا أن يدفع ، وهذا من سوء حظ أحد النجباء ، الذي ما إن ركع مع الراكعين ، حتى تشبثت جبهته بالأرض الطاهرة تحت أقدام الأمير فلم تنهض . وقد قيل من بعض المغرضين لاحقا انه توهم إن الركوع لا نهوض بعده إلا بأمر شفوي من الأمير ، ولان الأمير لا ينهض الناس إلا بإشارة من يده ، وتلك الإشارة مرئية لكل راكع من أولئك المخضرمين الذين يتركون نصف عين لمتابعة أمر النهوض . وكان صاحبنا لما يزل فتى غريرا لا خبرة له بمجالسة الملوك ، ( وقد جاءت به إلى المجلس سيدة دار الإمارة ، وأم ولي العهد ، تقديرا لخدماته المتميزة في انتقاء الجواري والغلمان لخدمتها وخدمة ولي العهد وأخاه الملهم نقيب علماء الإمارة ) . نقول ما كانت له في مجالسة الملوك خبرة ، ولهذا فاته إن يترك نصف عين أو ربعها ، وكان في ذلك مقتله . وقد نسي لسوء حظه أيضا من قبل رفاقه الذين انشغلوا بمتابعة حركة أصابع الأمير وهم جالسين بأدب واستحياء في حضرته . وأذ نهض الأمير متفكرا فقد داس على راس المسكين وكاد يسقط ، لولا رحمة الله إذ اسنده بجند منه لا يرون ، قتلوا المتآمر في الحال ، وسحلوا الجثة بعيدا عن خطى الأمير . أو ربما هو حسن حظ الأمير ، وهذا ما اتفق به مع شيوخي من الرواة الثقاة الذين أعلنوا للملأ بعيد الحادث بأيام ، وعن مصادر لهم في دار الإمارة وثيقة موثقة ، على إن القتيل كان متآمرا، وكان الأمير واعيا لتآمره ، وقد عمد على أن يدوس على رأسه ،لإخماد حركة متوقعة منه وللإشارة للجند أن اقتلوه .
وما هي إلا هنيهة وإذ بخطى الأمير تنتظم ، بعد أن أزيلت بقعة من الدم والمخ من ساق بنطاله الحربي وبعد أن استبدلت العمامة التي سقطت في بحيرة الدم بأخرى .
تمشى هنيهة وقد عقد كفيه خلف ظهره ، وكان يتوقف بين الفينة والأخرى لينظر اتباعه ، سابرا أغوار نفوسهم بنظرات تخترق اللحم والعظم وتترك في القلب نغزة رعب ، لا تفارق صاحبها حتى يأخذه الله إلى جواره .
ثم نطق مستهلا الحديث بتعريف الحدث فقال لا فض فاه :
لقد سمعتهم أخبار ما اقدم عليه النفر الضال من علماء الغرب الكفرة ، من استنساخ لنعجة ضالة مضللة من نعاجهم فما رأيكم …
بهت الحاضرين واعجبوا بنباهة الأمير وسرعة متابعته للإحداث العلمية ، وهب شيخهم ذو اللحية الحمراء مسرعا بالقول :
الرأي رأيك سيدي
أبتسم الأمير بلطف ، فصار وجهه إذ ابتسم ، كأنه فلقة القمر ، ومسد على شاربيه بلطف ، ثم نطق بلهجة بشوشة..
هو ذاك يا شيخ ، ولكني أريد رأيك وصحبك فيما فيه صالح عباد الله من أبناء إمارتنا النجباء..فماذا تقولون ..؟
نبعث لهم من بعض رجال دركنا العاملون في سفارات سمو مولانا في ارض الصليبيين ، فيخطفونهم ويأتون بهم لسموكم ، فترى فيهم رأيك …" قالها صاحب الشرطة وهو يبتلع ريقه حتى كاد يغص به "
……." ونظر إلى آخر مشجعا على الحديث "
نبعث لهم بسموم من فضل الله علينا فتقتلهم وهم على الاسّرة راقدين في أحضان جواريهم ….
…… " وأشار بطرف عين إلى آخر فنهض وهو يتجشأ ويسعل ، وقد بح صوته حتى كاد أن لا يسمع "
ننتفع يا سيدي بعد إذنك بعلمهم في تعزيز مكانة مولانا في بلاد المسلمين …، أما سؤ هم فعلى أنفسهم وأما
خيرهم فلنا ولأحبابنا المؤمنين الجائعين في بلاد المسلمين الأخرى …
ظهر بعض الاهتمام على الأمير المؤمن ، فهتف مستحسنا وقد أزداد صوته رقة :
أحسنت … أحسنت ولكن كيف ننتفع ، حسب رأيك …
ننتج يا سيدي من البقر والاباعر والنعاج الملايين ، نرسلها إلى إخواننا في الله من مسلمي بلاد الزنج ، وأهل السند وبحر القلزم والأندلس ، فيشبعون ويدعون لسموكم بطول العمر ، ودوام النصر و…
جميل ما تقول يا وزيري ، ولكن من قال انهم إذا ما شبعوا سيدعون لنا ، ويتبعون مشورتنا ، ويحكمون ولايتنا التي ورثناها من أجدادنا المنتجبون ، والتي هي خير في الدنيا ونعيم مقيم في الآخرة ، ماذا لو انهم طغوا وبغوا وتجبروا ، فكيف نردعهم آنئذ أن شبعوا …!!
لله در مولانا على ثاقب الفكر " همس ذو اللحية الحمراء متهللا ، فأسكته الأمير المهموم بخزرة من عينه اليسرى " .
أما المقترح " وكان للمعلومية وزير الإسطبلات السلطانية ، وخبير المواشي الذي لا يشق له غبار " ، فقد ألجمه السؤال ، وحار في الرد ، فضاقت الدنيا عليه بما وسعت ، وكادت العبرات الكسيرة في صدره أن تخنقه لولا رحمة الأمير ، إذ أمره بالجلوس ، فتنفس الصعداء … بحذر .
هل لدى البقية منكم ما يمكن أن يغنون به حوارنا أيها النجباء " وطالعهم باحتقار ، وهم يلاحقون بعيونهم المرعوبة ، أذيال بنطاله الحربي الموشى بالحرير "
إذا سمح مولاي فان لدي اقتراحا أضنه " ولكم وحدكم صادق الضن " .
هات ما عندك..
ما رأي مولانا باستنساخ جيش من النسوة الماجدات يحملن الإيدز، والطاعون ، والهيظة ، نبعثهن إلى أعدائنا وأعداء الدين ، فيفتكن بهم فتك الجراد والضفادع بقوم فرعون ، فتضيق الدنيا عليهم بما وسعت ، ولن يتهمنا أحد ، ولن يثبت علينا شيء ، ولن نبقي من أمم الشر بقية ، ونرث الأرض وما عليها .
وبالتالي فسنقضي على دولة الصهاينة ، والأمريكان والإنكليز ، وسيعود الحق السليب لأهله الصابرين المرابطين …" هتف شيخ عتيق من دعاة القومية ، ويتولى في الإمارة منصب خطير ".
بلا … سنبطش بالصليبيين ، والملحدين ، واليهود ، و…. " هتف شيخ من شيوخ الطريقة ، ممن كان مقربا للأمير ، لكثرة ما كان يدعو له بطول العمر وروقان الخاطر، وكان في لسانه حلاوة ولصوته و جمال عبارته وقع كبير في نفوس أهل الإمارة " .
والمنافقين .." أضاف آخر من المحافظين من شيوخ الوزارة "
أعداء القومية العربية.." علق أحد الوزراء وكان ذميا ، تاب وارتد عن دينه فرفعت عنه الجزية "
والرجعيون… " هتف آخر .."
والمارقات والمارقون من النساء والولدان ، والخوارج ، وأهل الردة ، والمترددون، و…" هتفوا جميعا بصوت واحد ….، إلا واحد …"
وفي النهاية يستتب الملك لأميرنا ويرث الأرض وما عليها ، ويكون الدين كله…
أحسنتم … أحسنتم … جميعا.. هذا ما عهدته وحق أجدادي فيكم ..
عودوا إلى بيوتكم مصحوبين بالسلامة ، فعوائكم لا شك في انتظاركم ..
قبل الجميع الأرض في حضرة الأمير وتزاحموا على بوابة الخروج وقد تنفسوا الصعداء .
كان الأمير المبارك ، لماحا … سريع الخاطر … بصيرا بسرائر النفوس ، فما إن خرج الوزراء حتى أشار إلى حاجبه الواقف وراءه ، إن اقترب وامنحني أذنك..
جميعهم يا سيدي ..
كلا … ابقي لي على ذو اللحية الحمراء ، فقد شهد مواقف عديدة مثل هذه ، وكان على الدوام يحافظ على لسانه مطويا في زاوية الفم ..
هو ذاك يا مولاي ..
في اليوم التالي ، أعلن الحداد ونكست الأعلام في سماوات الإمارة ، بعد استشهاد كوكبة من أبنائها النجباء البررة في حادث إجرامي مدبر من قبل أعداء الدين والحاقدين المأجورين .
الحقيقة أني اتبع مذهب أشياخي في تفسيرهم لهذا الحادث وهو انه لولا عناية الله وإلهامه للأمير في استشارة وزراءه بهذا الشان العلمي الذي جاء من بلاد الكفر والضلالة ، ولولا إصغائه الصبور لآرائهم ، لما كشف أسرارهم واتجاه تفكيرهم الخبيث والذي كان يحمل شرا مستطيرا بالإمارة وأميره وأهلها ، إذ انه أما أن يستجيب لاقتراحاتهم وبالتالي يضع عنقه في أياديهم ، فمن أدراه انهم لن يستغلوا هذا الكشف العلمي للضغط عليه أو الإضرار به وبالأمة ، وأما انه لن يتبع أهوائهم وبالتالي قد يبيعون ثمار عقولهم لخدمة أعداءه من الجيران .
وقد احسن الأمير أيضا ، إذ كتم حقيقة الأمر على الأمة ، فلا ضرورة لأشغال فكر الناس بصراعات الداخل مما لا نفع فيه لخدمة الدين والقومية ، وعوضا عن ذلك الترحم على الضحايا المارقين واكسائهم ثوب الشهادة وإلصاق التهمة بالأعداء المتربصين في الخارج ، عند تخوم الأمارة ،وهذا ينفع أيضا في تعميق وعي الناس
وزيادة جاهزيتهم القتالية .
*******
بعد أسبوع من الحزن الذي عم الإمارة ، خرج الأمير من قصره ذاهبا في موكب مهيب إلى مسقط رأسه .
كانت الخراف تنحر على طول الطريق الممتد لقرابة مائتي فرسخ من عاصمة ملكه المسماة " المبروكة " لغاية
ارض ميلاده المبارك .
يقال انه زار أمه أولا ، وبكى في حجرها من قسوة خاله ونذالة ابن خاله ، وخيانة إحدى أزواجه ، وهذا الصداع
المرير الذي لا يكف عن ملازمته ليل نهار ، واسته بقلب ألام ، وذكرته بلطف بان هؤلاء الذين يشكوهم قد ماتوا جميعا ولا ضرورة للذكرى . ثم هتفت به …
أخاك … أخاك … اجمع اخوتك حولك ، وشاورهم في هذا الذي أتى بك لي في هذه الساعة..
هو ذاك يا أماه ..
واجتمعوا … واجمعوا على رأي واحد … وحيد …
أخانا الحبيب .. أطال الله بقائك وأدام عزك ، سنستنسخ منك عشرة أو مائة أو جيشا عرمرما ، يحمل وجهك واسمك وخلقك وعلمك وذكائك وتقواك ، جيشا يغزو بلاد العرب والعجم ، ويجعلك السيد الوحيد الخالد المسود حتى قيام الساعة …
تهلل وجه الأمير وكاد من فرط فرحه أن يطير ، وكانت أمه آنئذ مضطجعة على السرير ، تتابع بود ملائكي مشهد الاخوة غير الأشقاء وهم يظهرون لوليدها الأثير الملهم كل هذا الود والتقدير .
هتف وجسمه ينتفض من فرط السرور ، وقد هب لتقبيل ما بين العيون :
- أحسنتم يا أبناء أمي … هذا هو والله الرأي السديد …
******