|
الحرب والتلاعب بالعقل
حمودة إسماعيلي
الحوار المتمدن-العدد: 4259 - 2013 / 10 / 29 - 21:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يحس المرء الآن بإحساس فظيع وهو أن الحرب ليس بإمكانها حسم شيء، وأن الانتصار في حرب مشؤوم مثله مثل خسارتها ¤ أجاثا كريستي
في الصور نرى أسيرا من الجبهة الوطنية لتحرير فيتنام، يقتاده جنود فيتناميين : http://imageshack.us/a/img13/3465/gbqh.jpg
ثم بعدها سيتوقف الجنود، ليظهر الجنرال الذي سيسحب مسدسه ويصوبه نحو رأس الأسير دون أن يتررد في إطلاق رصاصة، ويمكن مشاهدة الحدث كما حصل إما من خلال الموقع :
http://killinginthenameof.tumblr.com/post/15818468216/onepaz-the-saigon-execution-1-de-febrero-de أو http://www.youtube.com/watch?v=0iuku5cBFJY
ليُترك بعدها الأسير ملقى كجثة في الشارع مضرجا بدمائه، كما يتضح في الصور :http://imageshack.us/a/img716/3756/tkiv.jpg
إن الإحساس الذي سينتاب أي شخص الآن، هو كرهه وحقده على الجنرال الذي أبدى قسوة ووحشية تجاه ذلك الأسير الأعزل. وهذا كان إحساس كل من عرفوا بالقصة بجميع أنحاء العالم، لدى انتشار الصورة التي التقطها المصور الأمريكي ادوارد ادامز الذي كان يتابع الحدث بآلة تصويره إثر المهمة التي كان في فييتنام بصددها، وهي تغطية الحرب هناك لصالح وكالة انباء أمريكية. وتلك الصورة التي سيفوز بسببها بجائزة البوليترز التي تقدمها سنويا جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات الخدمة العامة والصحافة والآداب والموسيقى، ستحدث جدلا واسعا .. http://imageshack.us/a/img841/5953/g9ru.jpg
الصورة ستسبب صدمة واستياء وغضب العامة الذين سيطالبون بمحاكمة الجنرال الذي حرق معاهدة جنيف حول معاملة أسرى الحرب. وكل من شاهد الصور والفيديو سيجد أنه طلب معقول، بل قد تذهب الرغبة بالبعض لو أنه يقوم هو بالانتقام من ذلك الجنرال، فالاحساس الذي سيتملك الآن أي شخص هو انعدام الشفقة أو الرحمة اتجاه منفذ الجريمة البشعة.
لكن.. ماذا لو أخبرناك أن الأسير "كان هو الآخر جلادا يرأس خلية القتل والثأر في الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، وأنه قبل أن يُقتل قام رفقة خليته بتصفية 34 مدنيا، بينهم نساء وأطفال، وكان من بين الضحايا أعز أصدقاء الجنرال، الذي طُعن هو وأسرته بالسكين"(1). وهذا ماكان يجهله الجميع بمن فيهم من التقط الصورة ! . فما هو إحساسك الآن ؟ لو عدت وشاهدت الصور والفيديو هل ستراها بنفس الطريقة السابقة ونفس الإحساس السابق ؟ أم بطريقة مغايرة ؟ هل ما عاد الجنرال يبدو كشيطان؟ هل ماعاد الأسير يبدو كبريء لا ذنب له ؟
في ظل الحرب يصعب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، فكل طرف له قصة، له تفسير، ليبرر ما يقوم به في حق الآخرين .. “فلا تظن أبدا أن الحرب ، مهما كانت ضرورية أو مبررة ، ليست جريمة” بتعبير إرنست همنغواي. فقد يقنعك طرف فتتعاطف معه لكن لا تنسى أبدا أن الطرف الآخر يراك ضمن المجرمين والمعتدين. رغم أننا نرى أن قتل شخصٌ لشخص آخر، مهما كان المبرر أنه يُعتبر جريمة (بحسب القانون). أما حين تقتل جماعة جماعة اخرى، فهذا(يدخل ضمن) دفاع عن المقدسات ! ـ فمن خلال المثال الذي أوردناه بالصور، نستطيع أن ندفع أي شخص (من المتحمسين) إلى الانتقام من الجنرال اعتمادا على قصة الحدث والصور، ونستطيع كذلك من جانب آخر أن ندفع شخصا آخر (أو هو نفسه) لتنفيد ما قام به الجنرال إذا اخبرناه عما قام به الأسير في حق أناس أبرياء (وخاصة لو ذكرنا له اصدقاء ضمنهم أو أفراد عائلته).. هذا هو ما يعرف بالتلاعب العقلي، والذي يعتمده الإعلام بأوضح صوره لدى تلاعبه بعقول المشاهدين للانحياز لطرف معين ضد آخر وذلك بسرد أحداث ووقائع مبتورة تخدم مصالحه.
الأمر الذي يكشف عن سهولة خداع عقول البشر والتلاعب بمشاعرهم، نظرا لأن عاطفتهم تسبق رؤيتهم الموضوعية وكما قال هاملت لصديقه هوراشيو في مسرحية شكسبير الشهيرة : “أين هو هذا الإنسان الذي ليس عبدا لعاطفته ؟! فليسكن مهجتي، والعين وسويداء القلب كما تسكن أنت..”، فالموضوعية هي الابتعاد قدر المستطاع عن العاطفة عند اصدار الحكم بعد تكوين صورة شاملة للأمر وليس مقتطفات، هذا ما يُصعّب عملية التلاعب بعقل الإنسان. رغم ذلك تظل “الحروب من أعراض فشل الإنسان في التفكير مثل الحيوان” كما يقول جون شتاينبك. فصراعات البشر الخارجية ليست إلا صراع الإنسان الداخلي، صراعه مع نفسه يسقطه على الواقع ليتخلص منه ـ نجد في تعبير سيقربنا من هذه النقطة (بوضوح) لدى الكوميدي جورج كارليل يقول فيه : “نحن نحب أن نعلن الحرب على أي شيء.. إذا لم يكن هناك بلد في الخارج نحاربها فإننا نقرر اعلان الحرب على شيء داخل بلدنا.. اعلان الحرب هو الاستعارة الوحيدة في خطابنا الشعبي لحل المشاكل..” ـ . فيُستغل هذا الأمر في الإنسان أو بتعبير أوضح يُستغل المضطهون والمراهقون وبسطاء الفكر والمضطربون ـ وكل من يبحثون عمن يصارعون حتى لا يتصارعوا مع انفسهم لعجزهم عن ايجاد منفذ لتفريغ مشاكلهم التي تمزقهم (فيلقون بأسبابها على الآخر بإخلاء المسؤولية عنهم) ـ كقرابين وأحصنة طراودية بأيد أصحاب أهداف ومخططات (مضطربين ربما هم كذلك) يأكلون أدمغتهم، كما يشرح الشاعر الفرنسي بول فاليري ذلك بقوله “الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض”. بين “مغفلين” لحساب “ماكرين” بتعبير أدق.
بالعودة لقصة الصورة، ظل الجنرال يعيش جحيم المطاردة والخوف إلى أن مات بالسرطان، و"حين علم آدامز(ملتقط الصورة) بوفاته أحس بالندم وكره أن يرحل بتلك الطريقة المذلة دون أن يعرف أحد حقيقته” فكتب عنه مقالا أوضح فيه أن الجنرال قام بقتل الأسير، لكنه (آدامز) قتل الجنرال بتلك الصورة، قتله بآلة تصوير، وأضاف فيه أن “الصورة هي السلاح الأكثر قوة في العالم، والناس يصدقونها. لكنها تكذب، حتى دون أن تتلاعب، فهي لا تقول سوى نصف الحقيقة.. هذه الصورة دمرت فعلا حياته(الجنرال) لكنه لم يعاتبني أبدا. قال لي إذا لم أكن قد التقطت تلك الصورة، فإن شخصا آخر سيفعل ذلك. لكني شعرت بالذنب تجاهه وتجاه عائلته، وظللت أتواصل معه. آخر مرة تحدثنا فيها كانت قبل ستة أشهر. كان مريضا جدا. وحين سمعت بوفاته بعثت بالورود لتعزيته وكتبت : أنا آسف. هناك دموع تملأ عيني"(2).
____________________________ هوامش :
1 - 2 : الصورة التي قتلت الجنرال مقال عبد الله عرقوب ـ جريدة المساء المغربية 22/30/213، عدد2156
#حمودة_إسماعيلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقدة الأميرة النائمة
-
إشكالية السعادة بالمغرب
-
أن تكون وغداً !
-
الأصول الحيوانية لنظرية المؤامرة
-
الوجه الخفي لدُور النشر والتوزيع
-
هداية الملحدين وتنوير المتدينين
-
الإهمال ولفت الانتباه
-
اليمين واليسار وحرية التعبير
-
رسالة مراهقة لأبيها
-
المغرب والانفصام الاجتماعي، كمغرِبَيْن
-
السلطة بين الخاضع والمُخضِع
-
استقطاب جِهادي
-
هل نفى المسيح نبوة محمد ؟
-
تربية الأنثى أو إنتاج شخصيات عُصابية
-
10 أسئلة محيّرة
-
عندما تُفهم النظرات بشكل خاطئ - تحايل لغة الجسد
-
عندما تتناقل الجرائد أغلاطا صُحفية
-
اختبار كشف نوع الشخصية
-
الإنسان بين الدين والإلحاد والولاء القبلي
-
10 تصرفات تكشف عن نفسيات أصحابها
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|