|
موسمُ الهجرة من بغداد .. إلى الحبَشَة
عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث
(Imad A.salim)
الحوار المتمدن-العدد: 4257 - 2013 / 10 / 26 - 16:14
المحور:
الادب والفن
موسمُ الهجرة من بغداد .. إلى الحبَشَة
لولا بغداد المُنفتحةُ .. الضاحكةُ .. البسيطة ودعوات أمّي .. المرسلةُ خارج التغطية وقلبي الذي يشبهُ الماء و .. لولاها " لأقترنَتْ ضفدعةٌ بي " .
*** هيَ عذبةٌ مثل ماءٍ قديم كان يغفو في تلكَ الساقية هناك .. في " المهديّة " .. في " الدورة " حيثُ يلعبُ الفتى الحالمُ .. بتفاصيلِ مصيرهِ القادم قرب الضريح الزائف لـ " السيد حليم " . هناك .. فوق العرباتِ الحزينةِ ، لقطار بغداد .. النازلِ للبصرة تحتَ شجرة السِدْرِ تلك حيثُ لا توجدُ نحلةٌ واحدةٌ تحترف البغاء مقابل قطرةٍ واحدةٍ .. من العسلِ المغشوش .
*** هذي بلادُ الجُذام السفيه الجُذام الذي لا يخجل الجُذام الصفيق حيثُ اللاقبولُ الشاملُ الكامل وحيثُ يهرِشُ المستوطنونَ .. المُرتابونَ أبداً .. جلودَهُم دون رحمة . ولأنّ جميع المرايا .. لا تحظى بثِقَةِ يأسنا الأخير ولا تعكسُ لنا شيئاً .. من خرابِ ملامحنا السابقة فإنّنا على خصامٍ دائمٍ مع الرضا . هذه ِ بُقعَةُ اللاتصالحِ الداكنةِ العظيمة عندما يسري فيها مفعولُ السُخط لا ينفعُ فيها الأمل .
*** لماذا توجدُ سياراتٌ مُفَخَخّةٌ.. وعبواتٌ ناسفةٌ .. ولا يوجدُ قَصفْ ؟ السياراتُ والعبواتُ تُفَرّقُ المُحبّين .. والقصفُ يجمعَهُم . لذا .. أشعرُ بالغبطةِ تحت القصف . أعرفُ أنّنا غيرُ قادرينَ على الردِّ وإنهم لن يأخذونني بعيدا عنكِ .. مثل ذلكَ الجنديّ الأبلَهِ القديم . أعرفُ إنّكِ حينَ تخافينَ كثيراً .. ستجلسينَ على بُعدِ مَسامَةٍ واحدةٍ .. من أصابعي الباردة . وستكونينَ أكثرُ قُرباً من رَجُلٍ .. إعتادَ جَسَدُكِ عليه . وحين سيشتّدُّ القصفُ .. ستقتربينَ .. وتقتربينَ وسأتظاهرُ بأنّني لا أشُمُّ دفئكِ الحُلو وأنّ ما يهمنّي في تلكَ اللحظة .. هو هدنةً ألتمسُ فيها القليل من السلام ، والكثير من الحنين . سأتظاهرُ بأنّكِ بعيدةٌ جدّاً وأنّ الرائحةَ تُضيء وأنّ الجسدَ ينطفيء .
*** عندما يأتي أيلول .. نشتاقُ إلى آب .. لأنّهُ كانَ أكثر بُرودة . لا أحدَ يبكي ، لأنّ الجميعَ موتى . ولا أحدَ يضحكُ ، لذاتِ السبب . العُشّاقُ مُصابونَ بالتوَحُد . عصفورٌ سكران .. يتَحرّشُ بقطيعٍ ضخمٍ من القطط الجائعة . الكاردينيا تُزهِرُ في تموز . الشَبّوي ينطفيءُ في تشرين . رجلُ دينٍ لطيف ، يقولُ في التلفزيون : أنّ هذه الأشياءُ تحدثُ فقط .. عندما تقومُ القيامة .
*** أنت َ تنظر ُ إلى الثلج ِ من النافذة ْ . وذاك يبحلق ُ بكثبان الرمل ..بعين ٍ مسمولة ٍ بالرمل ِ ..وقلب ٍ وحيد ْ . وهذا يرى " كنغرا ً " في الحديقة . ومن كان يلعب ُ " الدُعبل َ " في أزّقة ِ الكرخ ِ ..يتسكع ُ الآن في الغابات المطيرة . وهاربٌ من بطش ِ العشيرة ِ ، في الوطن الجنوبيّ ..يستجيرُ الآن َ بشيخ مشايخ " الزولو " . وعمال ُ " المساطر ِ " .. يجولون في قوارب تائهة في المحيطات . وآخر أخبرني قبل قليل .. أنهُ دفَنَ " العِلويّة " على سفوح جبال الألب " الدينارية " .. بدلا من مقبرة السلام . هل هذا وطن ٌ .. أم طاعون ؟ *** عندما أشعرُ أنني سعيدٌ جداً ، على غير العادة ِ ، وأبدأُ بالدورانِ عكس مدار الحوت ، مثلُ عصفورٍ فقد صوته . فأنّ عليَ البحث عن سببٍ وجيهٍ .. يجعلُ فرحي مُمكناً . ربما كنتُ مصاباً بسرطان ٍ أليف . ربما لم يعُدْ الليلُ صالحاً للبهجةِ كما كان .. وأصبح النهارُ هنا دائماً . ربما سنطرقُ البابَ معاً .. ونفتحُ لأنفسنا بيتها القديم .. وندخلُ دون استئذان .. حاملينَ فوق أكتافنا المنتهيةِ المفعول .. جبالاً من الضَجَرْ . ربما لم يعُدْ بأمكانِ هذا الرتل الطويلِ من شاحنات الهموم ..أن يدوسُ على روحي . ربما لم يَعدْ العراقُ عراقاً . ربما . *** أحتاجُ إلى دعاءٍ واطيء الكلفة لترسو عليّ مناقصةُ ترميم روحي . روحي التي خرّبها يقيني الأبله بأنني لستُ وحدي .. وان العملة الرديئة لن تتمكن أبداً من طرد العملة الجيدة من السوق . *** إستيقظتُ مابعد منتصف الليل بكثير .. سعيداً على غير العادة .. وتناولتُ وجبةً من الخوف الخفيف ِ .. مُنْتظِراً منتصف النهار القادم . أحلامي الموجهة عن بُعد ، لم تكن معروضة على شاشة الوقت بعد . إنها نشرةُ الأنواء النفسيّة تُلقيها على مسامعي مُذيعةٌ خارقة الخلقةِ في تلفزيون الجيران . يحدثُ هذا دائماً عندما أصحو مُبلّلاً بخوفٍ مبهم من شيءٍ ما ، في وقتٍ ما ، من هذا الليل ، سعيداً على غير العادة ، بينما تواصلُ المذيعةُ الخارقة الخلقة هديلها الليليّ ، مستطردةً بثقة : " وسينهمرُ المطرُ الغزيرُ ، على غير العادة ، في العراق .. من منتصف حزيران ،إلى منتصف آب. صوما ً مقبولاً ياقوم ْ .. وإفطاراً شهيا " . *** غادرتُ مقهى الفيسبوك .. عائداً إلى البيت . لم أتعَرَفْ على الدروبِ التي كنتُ أمشي عليها طويلاً . كان هناكَ الكثيرُ من الشرطة ، والكثيرُ من الجيش ، والكثيرُ من المتاريس .. والقليلُ من الوجوه المُتجَهِّمَة . رأيتُ أيضاً خيولاً وراياتً وسيوفاً وقوافلَ إبلٍ ورُماةَ نِبالٍ .. وسوقَ رقيقٍ مُكتّظٍ بالزبائن . عُدتُ إلى مقهى الفيسبوك .. حيثُ المَشاهِدَ ذاتها .. فيها القليلُ من السخام ، وأحتمالاتُ أن تدوسكَ الخيلُ .. قليلةٌ جدّاً . *** ليس شرطاً أن تكونَ موجوداً ظُهراً .. لتتناولَ طعام الغداء مع العائلة . لقد تناولتَ معهم طعام الفطور صباحاً . ماذا كنتَ لتتمنى .. أكثر من ذلك ؟ إنّ وجهكَ المهمومَ وأنتَ تُغادر البيت سيبقى عالقاً في ذاكرة الأطفال .. إلى الأبد . *** في يومٍ ما .. قبلَ سنين وفي اللحظةِ ذاتها التي رَكَلْتِ فيها جُثّةَ العراق العظيم .. بفَرْدَةٍ واحدةٍ من حذائكِ الأصفر الصغير ، ذو الكعب العالي ، ومَضَيْتِ بعيداً عنْهُ .. وعَنّي .. كنتُ أحبّكِ جداً . الجيرانُ الذين لايتذكرونَ وجهكِ جيداً .. كانوا يُحبونكِ أيضاً . النملةُ التي دُسْتُ عليها في الطريقِ اليكِ ، فماتَتْ ، كانت تُحبكِ جداً . سائق التاكسي ، الذي كنتُ أحثُّهُ على الوصولِ اليكِ في الوقتِ المُحدّدِ ، قالَ لي : لابأس عليكَ ياصديقي .. إنها غيرُ موجودةٍ في المكانِ المُحدّدِ .. ولكنها تُحبّكَ جداً . كلّهُم .. كانوا يكذبونَ جداً : الجيرانُ المُغَفّلونَ ، والنملةُ التي ماتَتْ عُنْوَةً ، والأبلَهُ الذي داسَ عليها .. وسائقُ التاكسي . أنتِ وَحدَكِ .. من بين جميع الحمقى هؤلاء كُنتِ صادِقَةً جداً
*** في اعلانٍ غير عاديّ عن الحُب سأذهبُ صباحَ الثلاثاءِ إلى ساحة الأندلس وسأحرصُ على اقناعكِ بأن نأكل " الكبّة " عند الرصيف المقابل . هذه التي تقولين أنّ رائحتها " المُقرِفَة " ، ستبقى عالقة بأصابعكِ الطويلة شهرين كاملين . بعدها سنمضي معاً لكنيسة " السبتيين " .. باتجاه شارع النضال .. ثم نعودُ .. لنخْتَلِسَ شيئاً من المصرف الذي قام بتوظيفكِ قبل خمسة أيام فقط . كل هذا سيحدث .. وعيناكِ البنّيتانِ تَبرُقانِ .. وهما لاتُصدّقانِ مايحدثُ .. من فرط الدهشة . *** ماهذا الذي يحدثُ في بلدي ؟ بحثتُ في غرفةِ المُهمَلاتِ ، عن مكانٍ أحشِرُ فيهِ نفسي . اليأسُ مريرٌ ، والبيتُ ضَيِّقْ . *** هذه المدينةُ العذبةُ ، التي كانت في يوم ما ، صالحة للعيش لمْ تعُدْ صالحة الآن .. لجنازة لائقة .. وقبرٍ آمن ْ . أيّها " البغادّة " .. هذا هو التوقيتُ المناسب للهجرة إلى الحَبشَةْ .
#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)
Imad_A.salim#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مايشتهيهِ رَجُلٌ حالِمٌ .. في الرُبع الرابعِ من العُمْر
-
عيونُ الجنود الكليلَة
-
تَواصُلْ
-
عندما لا يشتري العراقيون بعض الأشياء .. ب فلسين
-
الدوقة ُ .. تَلِدْ
-
العراقيّون .. ودجاج - يونيف -
-
من جهنم .. إلى جهنم
-
قصّة عراقيّة .. قصيرةٌ جداً .. بحجم المقبرة
-
في الصّفِ الخامسِ .. من هذا العُمرِ القصيرِ الأجلْ
-
حديقة الحيوان
-
ليلى والذئب
-
المشكلة .. والحل
-
العراق : ديموقراطية طائر البطريق
-
الدكتور فيسبوك .. الذي يكشف عوراتنا .. ويعرضها على الملأ
-
امرأةٌ واحدة .. رجلٌ وحيد
-
كتابُ الوجوه .. التي لا تراني
-
الأسئلة الصعبة .. حول الأنسان - البسيط - .. نلسون مانديلا
-
مقاطعُ من قاموسِ السوادِ العظيم
-
الموازنة العامة في العراق : مأزق العلاقة بين مدخلات العبث ال
...
-
تَذكّرْ الكثيرَ ممّا نسيتْ .. لعلّكَ تَنسى
المزيد.....
-
مسجد إيفري كوركورون الكبير.. أحد معالم التراث الثقافي الوطني
...
-
من دون زي مدرسي ولا كتب.. طلاب غزة يعودون لمدارسهم المدمرة
-
فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
-
مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم
...
-
هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير
...
-
ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا
...
-
بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات
...
-
تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض
...
-
“معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر
...
-
ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|